من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)

____________________

١٥٧ [غرروه] : وقروه وعظموه.

٤٦١

وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ

وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ

هدى من الآيات :

في سياق قصة موسى (عليه السلام) يذكر القرآن الحكيم برسالة محمد (صلى الله عليه وآله) ليربط الحاضر بالماضي ، وليعطي درسا حكيما منتزعا من حقائق تاريخية ، وليشجع اليهود على اتباع الرسالة الجديدة ، ومنهج القرآن في الاستدلال منهج فطري يستفيد من أقرب جهة الى القلب والوجدان ، وهنا يبيّن أن الرسالة الجديدة تدعو الى ذات القيم التي كانت في رسالة موسى (عليه السلام) بالاضافة الى انها مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل ، فلما ذا الكفر بها؟!

ان هذه الرسالة ـ كما تلك الرسالات ـ تأمر بالمعروف الذي يتوافق مع فطرة البشر ، وتنهى عن المنكر ، وتحل لهم الطيبات وتحرم عليهم الخبائث ، والهدف منها دفع ثقل الشرك والاستبعاد ، وفكّ أغلال المجتمع الفاسد ، والسلطة الفاسدة ، والفلاح إنما هو من نصيب أولئك الذين آمنوا بهذا الرسول وقوّوا جبهته ، ونصروه واتبعوا رسالته ، وجعلوها نورا يهتدون بها في الحياة.

٤٦٢

والرسالة هذه إنما هي من الله سبحانه الذي له ملك السماوات والأرض الذي لا إله إلّا هو. وهو يحي ويميت ، وعلى الناس اتباع هذه الرسالة التي هي ملك لهم جميعا ، وبذلك يضمنون لأنفسهم الهداية بإذن الله ، وليس قوم موسى كلّهم على ضلالة ، بل إن فريقا منهم يأمرون بالحق ويهدون اليه ، ويجعلونه مقياسا لتقييمهم.

بينات من الآيات :

من خصائص الرسول (ص)

[١٥٧] رسالات الله تتميز بأنها للناس جميعا بعيدا عن أي تمييز قومي أو اقليمي أو عنصري أو ما أشبه ، وهي تدعو الى بناء أمة واحدة ذات رسالة سماوية ، ورسول واحد ، والرسول في هذه الرسالة ينتمي إلى تلك الأمة التي تتمحور حول الرسالة ، ولذلك يكون من أبرز صفاته أنه أمّي ، وأنه نبي يوحى إليه ، وأنه رسول يحمل لهم رسالة فيها مناهج لحياتهم.

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ)

وكلمة ـ الأمي ـ كما يبدو لي منتزعة من الأمة ، التي يقول عنها ربنا في آية أخرى (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) وهناك من قال بأن الكلمة منتزعة من الأمّ باعتبار أن الرسول لم يكن قارئا أو كاتبا ، أو الى أم القرى.

(الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ)

مكتوب بصفاته وأسمائه ، كما هو مكتوب بالقيم التي يدعو إليها.

(يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ)

وكلّ رسالة سماوية تثير دفائن العقول ، وتنطلق بصميم الفطرة ، وتنسجم مع

٤٦٣

حقائق الكون التي يشهدها أكثر الناس ، ويبدو لي أن المعروف هنا هو ما يعرفه قلب البشر السليم ، والمنكر ما ينكره.

(وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ)

والطيبات والخبائث هما أيضا مما يبينه الوحي ، ويصدقه العقل.

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)

الإصر هو : الثقل ، والبشر يعيش في ذاته ثقل المادة ، حيث يحن الى ما في الحياة من زينة ، وينهار أمام شهوات النساء والثروات والمناصب ويضغط عليه واقع اليوم دون حقيقة المستقبل ، وهكذا يصبح البشر ان لم يقصمه الله جزءا من الطبيعة ، يتحرك حسب عواملها وتغيراتها.

ورسالات الله تنقذ الإنسان من أصله ، وترفع عنه هذا الثقل المادي بتوجيهه الى العالم الأعلى ، عالم الروحيات ، وعالم المستقبل القريب في الدنيا ، والمستقبل البعيد في الآخرة.

وكما ترفع الرسالة إصر البشر ترفع الأغلال الآتية من الإصر ، مثل الأغلال الاجتماعية التي يفرضها النظام السياسي ، أو الاقتصادي الحاكم على المجتمع ، والقوانين المعيقة للتقدم ، والكبت والديكتاتورية والإرهاب الفكري الذي يمنع تفجير النشاط ، وتفتق المواهب.

شروط الفلاح

وعاقبة هذه الرسالة الفلاح والسعادة ، ولكن بشرط أن يؤمن البشر بها ، وأن يعظّمها ويوقرها ، وأن ينصرها عمليا باتباع كل مناهجها ، وأن يتخذ قيمها

٤٦٤

ومعاييرها ميزانا لتقييم أحداث الحياة ، وتفسير متغيراتها ، ومعرفة الناس.

(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ)

إيمانا واقعيا بأن سلموا له أنفسهم ، ولم يتكبروا أو يتعالوا عليه.

(وَعَزَّرُوهُ)

أي جعلوه كبيرا في أنفسهم ، أكبر من شهواتهم ومن ضغوط الجياة.

(وَنَصَرُوهُ)

أيّ قدموا له امكاناتهم ، وجعلوها في خدمة رسالته.

(وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ)

وهو القرآن ، وكما يستضيء البشر بنور المصباح في الليل ، كذلك استضاؤوا بنور القرآن في ليل الحياة ، فرأوا به ومن خلاله ما في الحياة من خير وشر ، وحق وباطل ، وهدى وضلالة.

(أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

أيّ السعداء في الدنيا والآخرة.

كيف نعرف الله؟

[١٥٨] معرفة الله سبحانه تسبق سائر المعارف الدينية ، وهي تتم بطريقة فطرية ، وبالتذكرة بما في الكون من آيات ، وبما في النفس من بحث ووله ، وحين يتذكر البشر ويعرف ربه يسهل عليه أن يعرف رسالة ربه لما فيها من تناسب

٤٦٥

وتناغم ، فرسالة الله شاملة واسعة الرحمة ، لطيفة المناهج ، متينة الأركان كأيّ اسم آخر من أسمائه الحسنى ، فهي كما الشمس والقمر ، ومثل السماوات في سعتها وقدرتها ، ومثل الأرض في متانتها واستقرارها ، ومثل ظاهرة الحياة فيما تعطيها للنفوس من حرارة الحياة ، لذلك كان من أقرب الطرق الى معرفة الرسالة والرسول هو معرفة الله ، والتذكر بعظمته وقدرته ولطفه ورحمته ، ولذلك أيضا كان يستشهد الرسل بالله على صدق رسالاتهم.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)

وكما أن رحمة الله وسعت كلّ شيء ، كذلك رسالته فهو.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ)

ومثلما يحيي الخلق ماديا فهو يهديهم بالرسالة التي هي حياة معنوية ، ومثلما يميتهم ماديا فهو يضلهم حين يكفرون بالرسالة فيموتون وهم أحياء.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ)

وإنما يدعوكم الى الله لا الى نفسه ، وهو أسبق الناس الى الايمان بالله وبرسالاته التي أوحيت اليه.

(وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

إنّ إتباع الرسول سوف ينتهي بالبشر الى الارتفاع الى مستوى معرفة الحقائق بأنفسهم.

[١٥٩] ليست رسالات الأنبياء مبعث خلاف ونزاع ، ولا هي أنزلت لتكون أداة للعنصرية والطائفية ، لذلك فهي تؤكد أبدا على وحدة الرسالات ، وأهمية القيم ،

٤٦٦

وأن من يتبع القيم الرسالية فهو على صراط مستقيم حتى ولو لم يلتزم بخط معين في هذا الاتباع ، لذلك أكّد القرآن الحكيم هنا أيضا على أن الحكم الكاسح بكفر بني إسرائيل جميعا خطأ ، بل أن بعضهم على صواب ما دام يلتف حول رسالة السماء ، ويشكل أمة واحدة ، وما داموا يرشدون الى الحياة الفاضلة عن طريق الحق ، ويحكّمون الحق في علاقاتهم الاجتماعية ، وفي مواقفهم من الناس أو من الظواهر الحياتية.

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)

٤٦٧

وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ

____________________

١٦٠ [فانبجست] : الانبجاس خروج الماء الجاري بقلة ، والانفجار خروجه بكثرة وكان يبتدئ الماء من الحجر بقلة ثم يتسع حتى يصير الى الكثرة.

[الغمام] : السحاب الأبيض الرقيق.

٤٦٨

السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)

____________________

١٦٣ [يعدون] : يعتدون بالصيد المحرّم.

١٦٦ [عتوّا] : العتو الخروج إلى أفحش الذنوب ، والعاتي المبالغ في المعاصي ، والليل العاتي الشديد الظلمة.

[خاسئين] : المطرود المبعد عن الخير ، من خسأت الكلب إذا أقصيته فخسأ أي بعد.

٤٦٩

الرجز عقبى الظلم بعد الايمان

هدى من الآيات :

بنو إسرائيل فريقان : فريق مؤمن وهي الأمة الحقة ، والفريق الثاني : ظالم وأول سماتهم اختلافهم ، واستمرار التقسيمات الطبيعية القبلية بينهم ، وعدم شكرهم لربهم على ما رزقهم من المنّ والسلوى ، وظلّل عليهم السحاب ، وأن ذلك ظلم لأنفسهم.

وحين أمرهم الله أن يسكنوا القرية ليأكلوا منها حيث شاؤوا ، ويستغفروا الله عن ذنوبهم حتى يغفر لهم خطيئاتهم ، وأن يزيد المحسنين الذين يتجاوزون العمل بالواجبات الى الإحسان.

بيد ان هذا الفريق الظالم بدلوا قولا غير ما قيل لهم ، فأرسل الله عليهم رجزا من السماء بسبب ظلمهم.

وهناك تجربة لا تزال ماثلة في ضمير التاريخ من ظلم هؤلاء لأنفسهم ، انهم

٤٧٠

كانوا في قرية حاضرة البحر وقريبة منه ، وكانوا يتجاوزون حدود الله سبحانه في حرمة الصيد في يوم السبت ، ولكي يمتحن الله هؤلاء كانت الحيتان تأتيهم في يوم السبت ظاهرة على البحر ، بينما لا تأتيهم في غير السبت ، واختلف الناس ثلاثا في هذه القرية ، ففريق عملوا الجريمة ، وفريق سكتوا عنها ، وفريق نهوا عنها ، وحينما سألهم البعض : لما ذا تعظون قوما أهلكهم الله بالمعصية؟ أجابوا : لاننا نأمل في هدايتهم ولنتمّ الحجة عليهم ، وكانت العاقبة أن الله عذّب الفريقين الأولين وأنجى الفريق الثالث ، وعذبهم بأن مسخهم قردة خاسئين.

بينات من الآيات :

التكامل الاجتماعي :

[١٦٠] وكانت بنو إسرائيل أمة منقسمة في اثنتي عشرة قبيلة ، كلّ قبيلة أو سبط أمة تتبع قيادة معينة ..

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً)

ويبدو لي إن هذه الفرق المختلفة لم تبلغ مستوى تلك الامة التي تحدثت عنها الآية السابقة ، التي كانت تهدي بالحق وبه تعدل ، بل كانت لا تزال في عهد التقسيمات الطبيعة حيث كانت القبائل تتبع رئاستها ، والله سبحانه الذي خلق الطبيعة قدّر لها سننها وهدى الناس إليها ، بالوحي والعقل كما خلق الاسرة ، وجعل لها سنة التحابب والتعاون.

وهدى الناس بالوحي والعقل إلى أهمية الاسرة في بناء كيان المجتمع ، كذلك خلق القبيلة وشدّ بعضها الى البعض بحبال المحبة ، والوحدة الثقافية ، ووحدة الهدف والمصير ، وهدى الناس الى أهمية إيجاد الترابط البّناء بين أعضاء القبيلة في إطار

٤٧١

التقوى ، والتعاون على البر والإحسان.

ولكن هذه السنن الطبيعية لا تعني ان قمة الكمال هي في التعرف عليها ، والاهتداء الى كيفية الاستفادة منها ، بل قد يكون التكامل في تغيير الطبيعة وتكييفها حسب القيم العليا للحياة ، مثل تحويل الحياة القبلية الى حياة أميّة تستلهم من قيمة التقوى في بناء علاقاتها الاجتماعية ، كما كانت الامة الاسلامية الاولى ، وكما تكون التجمعات الرسالية المكتملة ، حيث يرتفع الفرد فيها على علاقاته الاسرية والقبلية ، ويبني أساس علاقاته على الاخوة المبدئية ، ويكون التجمع هو أبوه وأخوه ورابطته الأولى ، ويرى نفسه ابنا للتجمع قبل أن يكون ابنا لوالديه ، ومنتميا الى حزب الله قبل أن يكون منتميا الى قبيلة كذا أو عنصر كذا.

ومن هنا بدأ الله حديثه عن الأمة الواحدة في بني إسرائيل في الدرس السابق ثم تحدث عن الأمم المتنافسة ، وبيّن أن رسالة موسى (عليه السلام) كانت تهتم أيضا بتلك القبائل والأسباط ، وتستخدم تلك العلاقات الطبيعية في تنظيم المجتمع ، لذلك فجّر الله لموسى اثنتي عشرة عينا ، لكلّ قبيلة مشربا معينا.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ)

ثم بيّن الله النعم التي أسبغها لأولئك الناس الذين لم يذوّبوا أنفسهم بالكامل في بوتقة الايمان ، وقال تعالى :

(وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى)

المنّ هو قسم من الحلوى ، والسلوى هو الطير المشوي.

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

٤٧٢

لماذا لم يعد الغمام يظلّلهم ، والمن والسلوى لا ينزلان عليهم؟

لأنهم ظلموا أنفسهم كما سبق في آيات سورة البقرة ، حيث إنهم ملّوا حياة البداوة ودعوا ربهم بالعودة الى المدن.

نقاط الضعف الحضارية في المدينة :

[١٦١] وبعد أن هبطوا القرية التي هيأها الله لهم فسدت أخلاقهم ، فبدل أن يشكروا الله على النعم التي وفرها لهم ، وبدل أن يستغفروه سبحانه بخضوع وقنوت حتى يتكاملوا عن طريق التعرف على نقاط ضعفهم وأسباب تخلفهم ، وبدل أن يتخذوا الإحسان أداة لتنمية علاقاتهم الاجتماعية وتزكية نفوسهم ، بدل كلّ ذلك مما أمرهم به الله غيّروا وكفروا بأنعم الله ، واستكثروا من اللذات ولم ينتبهوا لنواقصهم.

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ)

أيّ اللهم حطّ ذنوبنا واغفر لنا.

(وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً)

خاضعين لله حتى لا يستبد بكم طغيان النعم وغرور القوة.

(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)

حيث ان المدينة تصبح آنئذ سببا لتطوركم ورقيّكم ، ذلك لان عوامل الضعف في المدينة هي العوامل التالية التي نهى ربنا عنها :

أولا : القيود الاضافية التي لا فائدة منها والتي تحدد انتفاع البشر بنعم الله ، من العادات الجاهلية ، والآداب الزائدة ، وسائر القيود وقد نهى ربنا عنها بقوله : (وَكُلُوا

٤٧٣

مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) فأمرهم بعدم التقيد بالأغلال الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان ، وقد أوضح القرآن ذلك في آيات أخرى سبقت أو تأتي في سائر السور.

ثانيا : الغرور ، والطغيان ، والشعور بالاستغناء ، حيث يخشى على المتحضرين من هذه الصفة الرذيلة ، وقد أمر الله بالاستغفار تحصنا من الغرور والاعتزاز بالإثم ، والاعتقاد ببلوغ مرحلة الاكتمال التام.

ثالثا : التجبر والطغيان على خلق الله بسبب الغنى والعزة ، والاتحاد الموجود في المدينة ، وأمر الله سبحانه بني إسرائيل بالسجود لله عند دخول المدينة ، لكي يعرفوا أن غناهم وعزتهم ووحدتهم كل ذلك انما هي من الله سبحانه ، لا من عند أنفسهم حتى يتجبروا على الآخرين.

رابعا : البخل والشح عن العطاء مما يسبب التفاخر والمنافسة الحادة ، فأمر الله في نهاية الآية بالإحسان ، وبيّن أنه سوف يسبب زيادة النعم حتى يتجاوز بنو إسرائيل في قريتهم هذه الصفة المهلكة ، وقال سبحانه : (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ).

من هنا نعرف أن المدينة مفيدة وضارة ، مفيدة إذا استطاع المجتمع تجاوز سلبياتها الأربعة ، وإلّا فهي ضارة وتحرق خيرات البشر.

[١٦٢] أما بنو إسرائيل فقد هزهم دخول القرية لان أكثرهم لم يتقيدوا بتعاليم ربهم سبحانه ..

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ)

وانتهت حياتهم المدنية الى العذاب بسبب ذلك الظلم الذاتي.

٤٧٤

ظلم الذات :

[١٦٣] وكمثل على ذلك الظلم الذي انتهى الى العذاب بين الله لنا قصة السبت ، حيث أمرهم بألّا يصيدوا يوم السبت تنظيما لحياتهم الاجتماعية ، وراحة لهم وتفرغا للعبادة ، ولكن الطمع دفع بهم الى تجاوز حد الله في السبت إذ كانت الحيتان تأتيهم ظاهرة في يوم السبت.

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً)

وربما المراد بكلمة حيتانهم هو ان هذه الحيتان كانت لهم بالتالي ، فان لم يصيدوها في يوم السبت وفروها ليوم الأحد ، ولكنهم لم يكونوا يفقهون تشريع هذه الظاهرة.

(وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ)

يبدو أن المراد أنها في غير السبت لم تكن ظاهرة ، وكان ذلك امتحانا لهم وابتلاء من قبل الله حتى يعرفوا مدى ضعفهم.

(كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

إذا فسق الإنسان فسقا خفيا وبطريقة منافقة فان ربنا سبحانه يمتحنه امتحانا صعبا وظاهرا ، حتى لا يقدر على مقاومة الإغراء بسبب فسقه الخفي الذي أضعف إرادته وخوّر عزيمته ، فيضطر إلى إظهار واقعه ، وهذا معنى الابتلاء حيث إنه يظهر الواقع الخفي.

وفي القصص التاريخية بيان لطبيعة نفاق أصحاب هذه التوبة ، حيث إنهم كما

٤٧٥

جاء في تلك القصص يلقون الشباك في يوم السبت ثم يستخرجون السمك في يوم الأحد ، أو أنهم كانوا قد صنعوا أحواضا على البحر يدخلها السمك يوم السبت ثم لا يستطيع أن يخرج منها فيصيدونها يوم الأحد.

مواقف المجتمع تجاه الجريمة :

[١٦٤] وانقسم أهل هذه القرية الساحلية الى ثلاث فرق ، بعضهم المجرمون ، وبعضهم الساكتون على الجريمة ، وبعضهم الناهون عنها ، وينقل الله سبحانه حوارا بين الساكتين والناهين.

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً)

أيّ ما لكم تعظون المجرمين الذين لا فائدة من وعظكم إياهم ، بل سوف يهلكهم الله أو يعذبهم.

(قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ)

لان النهي عن المنكر واجب شرعي حتى ولو كان بهدف تسجيل الحضور ، وبيان انحراف المنحرف ، ولو من أجل الأجيال القادمة ، والله لا يعذر البشر بمجرد الاعتقاد بأن النهي عن المنكر لا ينفع.

(وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)

وهناك أمل بان يتقي جماعة منهم ربهم فيكفي ذلك ثوابا.

[١٦٥] وذكّر الله هؤلاء المجرمين بالمناهج التي يجب إتباعها ، وحذرهم من تجاوز الحدود وذلك عن طريق الناهين عن المنكر من قومهم ، ولكنهم نسوا ما ذكروا

٤٧٦

به فأنجى الله الناهين ، وأخذ الباقين بالعذاب.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

وكان بين المهلكين الساكتين عن المنكر.

[١٦٦] وكان العذاب الشديد هو أن الله سبحانه قال لهم كونوا قردة خاسئين.

(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ)

وتكبّروا عليه.

(قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)

٤٧٧

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ

____________________

١٦٩ [عرض] : العرض ما يعرض ويقل لبثه ، ومنه سمي العرض القائم بالجسم عرضا لأنه يعرض في الوجود ولا يجب له من اللبث ما يجب للأجسام.

[ودرسوا] : الدرس تكرار الشيء ، ويقال درس الكتاب إذا كرر قراءته ، ودرس المنزل إذا تكرر عليه مرور الأمطار والرياح حتى انمحى أثره.

٤٧٨

يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)

٤٧٩

كيف انتكس بنو إسرائيل بالتبرير

هدى من الآيات :

وأعلن ربنا سبحانه حكمه الحاسم الذي جاء نتيجة ذلك السلوك الفاسد لبني إسرائيل حيث عصوا رسالات ربهم ، وكان ذلك الحكم هو سيطرة الطاغوت عليهم الى يوم يبعثون حتى يسومهم سوء العذاب ، ذلك لأن الله سريع العقاب وهو غفور رحيم.

وكان من مآسي بني إسرائيل تشتتهم في البلاد ، كل جماعة منهم سكنوا منطقة ، وكان بينهم الصالحون وغيرهم ، وقد امتحن الله بني إسرائيل بالحسنات لعلهم يشكرون ، وامتحنهم بالسيئات لعلهم يتوبون اليه ويعودون الى شرائعه ومناهجه.

ويبدو أن بني إسرائيل هبطوا بعدئذ الى درك التخلف الثقافي ، حيث انتشرت فيهم الثقافة التبريرية ، فخلف من بعد ذلك الجيل جيل فاسد ثقافيا حيث كانوا يهتمون بمظاهر الدنيا ، ويزعمون بأن الله سيغفر لهم ولكن كيف يغفر الله لهم وهم لم يتوبوا توبة نصوحا ، بدليل أنهم لو وجدوا مثل تلك المظاهر لأخذوا بها أيضا؟!

٤٨٠