من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

إنهم كانوا يتوسلون بموسى كلما يقع عليهم الرجز ، ويصيبهم العذاب ، ويتعهدون له بالايمان لو كشف الله عنهم الرجز ، ولكنهم كانوا ينكثون كلما كشف الله عنهم العذاب لأجل محدّد.

وكانت تلك المصاعب والمصائب تستهدف هدايتهم ، ولكن حيث كفروا واستكبروا حان وقت الانتقام والعذاب ، فأغرقهم الله في البحر بسبب تكذيبهم وغفلتهم عن آيات الله ، وعواقب التكذيب بها.

بينات من الآيات :

الغرور سبب الكفر :

[١٣٠] سبب كفر الإنسان وتكذيبه بآيات الله هو استكباره وغروره ، وكلما كانت حضارة الإنسان ومدنيته وغناه أكثر كلما كان غروره أكبر.

ولكي يكسر الله غرور البشر ، فيرتفع عنهم هذا الحجاب الكثيف فيرون الحقيقة ، فانه يبعث إليهم رسولا ينذرهم ويحذرهم ، ويعمل بكل طاقته في سبيل إثارة فطرتهم ، وتنوير قلوبهم ، وإيقاظهم من السبات ، ولكن إذا ظل أولئك كافرين ومستكبرين عن الحقيقة فهنا يتخذ ربنا سبيلا أخر لهدايتهم هو : ابتلاؤهم في أموالهم أو في نفوسهم ببعض البلاء العام ، فاذا لم ينتفعوا بها أيضا أخذهم الله بالعذاب الشديد ، لذلك أخبر الله عن آل فرعون وقال :

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ)

ايّ بالقحط والجدب ، وكانوا قبل ذلك مغرورين بالأنهار التي تجري من تحتهم ، وبالنيل الذي فجر الله به خيرات الأرض لهم.

٤٢١

(وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ)

كان المطر يملأ مراعيهم خضرة ، ويملأ نيلهم ماء فيسقي البساتين فتزداد الثمرات ، ولكن حين قلّ المطر أصبحت الصحاري جفافا والبساتين يابسة.

(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)

فيعرفون أن هذه المدنية ليست من ذاتهم بل من الله سبحانه.

[١٣١] البشر قد يغفل وقد ينام وقد يغمى عليه ، ولكنه بالمعالجة يتذكر ويستيقظ ويحس ، أمّا الذي فسدت رؤيته وانحرفت ثقافته فانه لا تنفع معه المعالجة ، فمثلا : البشر العادي حين تراه قد استغنى ولا يحتاج الى أحد يستبد به الغرور والاستكبار ، ولكن إذا فقد سبب غروره وافتقر عادت نفسه الى حالته الأولية وتقبّل الهداية.

أما البشر المعقد الذي تحضّر واستبدت به ثقافة خاطئة ، وفقد فطرته الأولية ، فان تلك الثقافة تبقى معه حتى بعد رحيل النعم عنه ، وعودته الى الحالة الطبيعية ، فلا يزال مغرورا بذاته وبمنجزات آبائه وبمكاسبهم ، لذلك لا يصدق نفسه حتى أن نزل عليه البلاء ، بل ويزعم ان هذا البلاء انما سببه بعض الطوارئ الخارجة عن إرادته ، وانه استثناء ، إذ يزعم أن الحضارة جزء من ذاته ، ومعلولة عن عنصره ، وعن بلده وعن أفكاره ، لذلك ترى قوم فرعون ينسبون الحسنة الى أنفسهم والسيئة الى موسى (عليه السلام).

(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)

يقولون ان السيئة انما هي بسبب موسى ، كما تنسب الأنظمة الفاسدة اليوم المشاكل كلها الى الحركات الثورية ، حيث تزعم انها ـ دون فساد أنظمتهم ـ

٤٢٢

سبب التخلف الاقتصادي والتبعية والإرهاب وما أشبه.

(أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

المشاكل ليست بسبب هذه الحركة أو تلك الفكرة ، وإنما بسبب النظام ذاته وبسبب فساد الأعمال ، والله هو الذي يقدر الخير والشر ، والحسنة والسيئة حسب قوانين دقيقة وثابتة عند الله سبحانه ، يجريها ربنا بحكمته البالغة وبعلمه النافذ ، ومعرفة هذه الحقيقة تعطي البشر قدرة على التحكم في الحياة.

التطرّف في الكفر :

[١٣٢] وبلغ الكفر والجحود بآل فرعون حدّا بنوا بينهم وبين الحقيقة سدّا منيعا من الجحود ، وتشبثوا بسلسلة من الأفكار المخدرة التي تفسر كلّ آيات الحقيقة ومعالمها ببعض التفسيرات الباطلة.

(وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)

فموسى (عليه السلام) لا يزال عندهم ذلك الساحر العليم الذي يعرف كل وسائل السحر ، وهدفه ليس هداية البشر بل تسخير الناس لأهدافه الخاصّة ، لذلك فهم مصرّون على الكفر به ، وبآياته أنى كانت واضحة.

وهذه المرحلة السحيقة من الكفر هي أخطر دركات السقوط ، حيث يصنع الفرد لنفسه تابوتا من المسلمات الفكرية ويصمم على الاحتفاظ بها أنّى كان الثمن ، إنه عين الضلالة وقمة التعصب الأحمق.

على الإنسان أن يبقى أبدا مفتوح العين ، يقظ الضمير ، نابه الروح ، ولا يقتل وجدانه تحت مطرقة شهواته ، ولا يعمي عينه بمسامير بغضه وحقده ، ولا يميت ضميره

٤٢٣

بحب أو بغض.

إن كثيرا منا يزعم انه إذا فتح عينه مرة واحدة ، واتّخذ طريقا لنفسه يستطيع أن يبقى على ذات الطريق الى الأبد ، ويستغني عن عينه ، ولكن كلا .. إن عقل الفرد يتكامل ، وروحه تكبر حتى تتسع لمزيد من الحقائق ، وفكره ينمو ، والعالم يتغير ، وآيات الحقيقة تترى .. ولذلك فعلى الإنسان أن يبقى أبدا على يقظة وانتباه ، ويستغل كلما لديه من وسائل اكتشاف الحقيقة من عقل وضمير.

[١٣٣] ولأن آل فرعون افقدوا أنفسهم نعمة البصيرة ، واختاروا التفسير الخاطئ لكل الحوادث ، فان الآيات المختلفة التي توالت عليهم لم تزدهم إلّا رسوخا في الكفر ، وتوغلا في الجحود ، لذلك أرسل الله عليهم الطوفان ففاضت أوديتهم حتى دخل الماء بيوتهم ، فنصبوا الخيام في الصحراء ، ثم أرسل الله عليهم الجراد فأكلت محاصيلهم الزراعية ، وانتشر فيهم القمّل ، والحشرات ، والضفادع التي توالدت بسرعة في برك الماء المكونة من الفيضانات ، وابتلوا بالدم ربما بسبب الرعاف أو بعض الأمراض الآتية بسبب بعض الجراثيم (كما قال بعض المفسرين) ولكن كل ذلك لم ينفعهم علما وهدى.

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا)

وتعالوا عن الحقيقة ، وزعموا أن ذواتهم هي أعلى من الحقيقة ، وأرادوا تغيير قوانين الكون حسب أهوائهم ، لا تزكية ذواتهم حسب أنظمة الكون.

(وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ)

حيث انهم ظلموا أنفسهم باستكبارهم عن الحقيقة ، إن تقدم البشر في أي حقل

٤٢٤

من حقول الحياة انما هو رهن بمعرفة أنظمة الكون ، واستغلال هذه المعرفة من أجل تسخير الحياة ، وتبدأ مسيرة البشر القهقرى حين يستهين بهذه الأنظمة ، ويتعالى عنها فيظلم نفسه بذلك.

كذب واستكبار :

[١٣٤] ولقد أتمّ الله حجّته على آل فرعون بتلك المصائب التي توالت عليهم ، إذ ان البلاء يكشف الحجب الكثيفة التي يجعلها الفرد على عينيه مثل : التعصب ، والحقد ، والحب المفرط ، ولكن إذا انكشف البلاء عادت الحجب ، وعادت مشكلة الجحود.

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ)

وهو العذاب الآتي بسبب الانحراف ، والشذوذ في الطبيعة أو في السلوك.

(قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ)

إن نظرتهم المادية الضيقة لم تزل لاصقة بأذهانهم ، إذ انهم لا يزالون يزعمون أن الهدف من بعثة موسى هو الانتفاع من وجوده في كشف الضر عنهم ، ولم يفقهوا دور المعنويات في حياة البشر ، وأن رسالات الله تنفع البشر في رفع معنوياتهم ، ووضع برامج صائبة لهم ، وليس فقط في دفع البلاء الذي يصيبهم بسوء أعمالهم ، أما آل فرعون فقد كانت نظرتهم الى الدين والى حاملي رسالته كنظرة كثير منا حيث نريد الدين لمصالحنا الذاتية لذلك قالوا :

(لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ)

والرجز يكشفه الله بالتوبة والعمل الصالح ، ولكنهم نسبوا الأمر الى موسى (عليه السلام) لقصر نظرهم.

٤٢٥

(لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ)

[١٣٥] ولكن هل كانوا يصدقون؟ كلا ..

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ)

عهدهم ويعودون الى سابق كفرهم وجحودهم ، وعند ذاك تكتمل حجة الله عليهم ، إذ لا يمكنهم في يوم الانتقام التعلل بأنهم إنما كفروا غفلة أو جهلا ، فقد عرفوا الحقيقة ولجؤوا إليها ، وتعهدوا بالوفاء لها عند ما أحاط بهم البلاء ، والآن ينقضون العهد ، وهذه التجربة يمر بها كل فرد وكل مجتمع ، حيث إن الله سبحانه يأخذ البشر بالبأساء والضراء لكي يرفع عن أنفسهم حجب الغفلة والنسيان ، ولكي يحتج عليهم لو عادوا الى الكفر بعد الايمان في أوقات العسرة.

سوء المصير :

[١٣٦] وحان ميعاد الانتقام ، وأغرق الله آل فرعون في البحر بسبب تكذيبهم بآيات الله ، وبالتالي بالحقائق التي وراءها ، وبسبب غفلتهم عنها وعن دورها في سعادتهم وخلافتهم.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)

[١٣٧] وكما انتقم الله من آل فرعون لتكذيبهم بآيات الله ، أنعم الله على بني إسرائيل لتصديقهم بها ، وأورثهم الأرض المباركة ذات الخيرات الوفيرة.

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ)

ويقهرون من قبل فرعون وقومه ، وهم بنو إسرائيل ، أورثهم الله.

(مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى

٤٢٦

بَنِي إِسْرائِيلَ)

كل ذلك بسبب تصديقهم بالحقيقة تصديقا نظريا وعمليا ، والشاهد على تصديق بني إسرائيل بالحقيقة هو صبرهم واستقامتهم.

(بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ)

من خزف ، وصور ، وأسلحة ، وأدوات ، وأمتعة .. و.. و..

(وَما كانُوا يَعْرِشُونَ)

من بنايات فخمة ، وحدائق ، وحقول ، وتماثيل ، وبالتالي دمّر الله أموالهم المنقولة وغير المنقولة بسبب كفرهم ، وهكذا ينتقم الله للحقيقة.

٤٢٧

وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)

٤٢٨

بنو إسرائيل والردة الجاهلية

هدى من الآيات :

أفضل ساعات البشر وخير أيامه إيمانا وهدى هي ساعة عسرته ، ويوم بؤسه ، لأنه لا يستكبر هنالك على الحقيقة ، ولا يغتر بما لديه من قوة ومنعة ، وكذلك أفضل مراحل الأمة هي مراحل الثورة حيث تتعرض للضغوط وتتحدى الصعاب.

وبنو إسرائيل حين تعرضهم للاستضعاف من قبل آل فرعون وقومه استقاموا على الطريقة وصبروا ، ولكن بعد أن أنجاهم الله ، وأورثهم الأرض دفعهم ضعفهم السابق وذلتهم الى محاولة تقليد الآخرين في عبادة الأصنام وفي مظاهر الدنيا ، فحين أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، طلبوا من موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم صنما كما لأولئك القوم ، فذكرهم موسى بأنه لا مستقبل لعبدة الأصنام ، وأن عملهم باطل ، وانه كيف يبحث لهم عن إله غير الله وهو فضلهم على العالمين ، بما أنعم عليهم من التوحيد والنصر ، ثم ذكرهم أيامهم السابقة ، حيث كانوا يتعرضون لأنواع العذاب على يد فرعون ، ومنها تقتيل أبنائهم ، واستحياء نسائهم ، وأن ذلك

٤٢٩

كان بلاء عظيما ، وتزكية لنفوسهم ، وحين أنجاهم الله يعودون للكفر.

ويمكننا أن نستلهم من هذه القصة كيف أن الأمم تفسد بعد الإصلاح ، وكيف أن التوجيه ينفعها ، وأنّ السقوط ليس سنة حتمية.

بينات من الآيات :

الكفر بعد الايمان :

[١٣٨] هيّأ الله أسباب النجاة لبني إسرائيل ، تلك الأمة الفتية التي تستعد الآن لبناء حضارتها بعد تخلصها من سلطة الطاغوت ، فتركوا أرض مصر باتجاه فلسطين بعد أن هيأ الله لهم أسباب العبور على البحر ، وقبل أن تجف أقدامهم من آثار العبور أصيبوا بنكسة إيمانية ، حيث مرّوا على قوم يعبدون أصناما لهم فطالبوا موسى (عليه السلام) وهو رسولهم وقائد مسيرتهم باتخاذ إله لهم كما لأولئك القوم.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ)

إن بني إسرائيل كانوا يعيشون تحت سيطرة الطاغوت سياسيا وثقافيا ، وكانت علاقاتهم الاقتصادية ببعضهم منسوجة حسب تلك السيطرة ، وقام موسى (عليه السلام) والمؤمنون من أصحابه بتفجير ثلاث ثورات متتالية لانقاذ قومه من السيطرة ـ السياسية ، فالثقافية ، فالاقتصادية ـ (وقد سبق الحديث عن ذلك في تفسير سورة البقرة) ويبدو أن هذه المرحلة هي مرحلة الثقافة التي تحمل أيضا في طياتها تصفية آثار السيطرة السياسية أيضا.

إن قوم موسى عاشوا ردحا طويلا من الزمن وهم يعانون الذل والخضوع والاستسلام للآخرين ، وكانت السياسة الطاغوتية لفرعون هي التي فرضت عليهم

٤٣٠

هذه الحالة ، ولكنهم على أيّ حال تأثروا بها نفسيا ، فحين أنقذهم الله غيبيا بقيت آثار تلك السيطرة عالقة بنفوسهم ، ولم يقدروا على ممارسة حريتهم والحضور في ساحات الحياة ، واتخاذ القرارات المناسبة فيها اعتمادا على أنفسهم ، لذلك حنّوا الى حالتهم السابقة فطالبوا موسى باله ـ كما لهم آلهة ـ والإله هو السلطان الاجتماعي والسياسي والثقافي ، ورمز هذا الإله هو الصنم ، وبنو إسرائيل في هذه الصفة كانوا تماما مثل الشعوب التي تتحرر من الاستعمار السياسي ، ولكنها تقلد الغرب والشرق في أنظمتها وثقافتها ، وكأنها تخرج من الاستعمار القسري وتعود الى الاستعمار اختياريا ، وذلك لاستمرار قابلية الاستعمار في أنفسهم.

أما موسى (عليه السلام) فقد شرح لقومه أولا العامل الداخلي لهذا الطلب وهو الجهل وقلة الوعي.

(قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)

[١٣٩] وبين لهم ثانيا : ان وضع هؤلاء هالك ولا دوام له ولا استمرار ، إذ أن الوضع الفاسد لا يملك رصيدا واقعيا ، كشجرة مجتثة من فوق الأرض ، ظاهرها شجرة ، وواقعها حطبة.

وبين ثالثا : أن العمل الذي يقوم به الإنسان في اطار النظام الفاسد هو عمل باطل ، وينتهي الى الدمار حتى ولو كان ظاهر العمل حسنا ، مثلا : ظاهر البناء أنه عمل جيد ، ولكن إذا كان المهندسون والبناؤون ومصانع الحديد ومعامل الاسمنت كلها تعمل من أجل بناء معتقل أو قاعدة صاروخية تقذف المستضعفين فان هذا العمل تخريب وليس بناء ، كذلك كل عمل لا يكون ضمن اطار صالح أو هدف مقدس فانه باطل وينتهي ، لذلك قال موسى (عليه السلام) لقومه :

(إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

٤٣١

العبودية لله تحرر الإنسان :

[١٤٠] ثم بعد أن وضح فساد الوضع الذي يدعون اليه ، شرح لهم موسى بأن الرب الذي أنقذهم من سلطان فرعون ، وحررهم من الطاغوت خير لهم مما يدعون اليه.

(قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)

إن الله فضلهم بالحرية والعلم ، وأن يقودوا أنفسهم بعيد عن ضغوط الطاغوت ، وهم يريدون العودة الى العبودية.

إن البشر حين ينفي الوهية أيّ شيء أو أيّ شخص من دون الله سبحانه فسوف يكون محررا ، مسلطا على نفسه بقدر ما يأذن الله له.

[١٤١] والله سبحانه هو الذي أنجاهم من آل فرعون وبطشهم وقهرهم بالتوحيد ، وإن فكرة التوحيد التي أنقذتهم من تلك الورطة ، أولى بالاتباع من تلك الثقافات الجاهلية التي سهلت استعبادهم واستغلالهم.

(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ)

أي يحمّلونكم الإرهاب والعذاب.

(يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)

وهل هناك نعمة أفضل من التحرر من إرهاب الطاغوت وسيطرته ، وكم يكون البشر غبيا لو أراد العودة الى العبودية بعد الحرية ، والتعاسة والبؤس بعد الرفاه والراحة.

٤٣٢

إن استمرار حالة الثورة التي رافقت نجاة الأمة من الطاغوت هو أفضل وسيلة للخلاص من عوامل الانتكاس في الثورة ، وهذا ممكن مع تذكر أيام الطاغوت وكيف تغيرت.

٤٣٣

وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي

____________________

١٤٢ [ميقات] : الفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدّر ليعمل فيه عمل من الأعمال ، والوقت الشيء قدره ولذلك قيل مواقيت الحج وهي المواضع التي قدرت للإحرام فيها.

١٤٣ [تجلى] : التجلي الظهور ، ويكون تارة بالظهور وتارة بالدلالة.

[صعيقا] : مغشيا عليه.

٤٣٤

وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)

____________________

١٤٥ [الألواح] : اللوح صحيفة مهيأة للكتابة فيها.

٤٣٥

تنمية روح الايمان بالله

هدى من الآيات :

وواعد الله موسى ثلاثين ليلة لميقاته ، وذهب موسى الى الميقات بعد أن وصّى أخاه هارون تلك الوصايا المؤكدة ، التي كان الرسل (عليهم السلام) يوصون بها قومهم باتباع سبيل الإصلاح ، وترك سبل المفسدين ، وجاء موسى لميقات ربه وهو يحمل رجاء قومه بالنظر الى الله ، فلما كشف لربه عن هذا الطلب الغريب النابع عن جهل الناس بالله وبصفاته الحسنى ، أمره ربه بالنظر الى الجبل فان استقر مكانه فقد يكون لكلامه وجه ، ولكن الجبل تدكدك وخرّ موسى صعقا ، وأغمي عليه من هول المنظر ، ولما أفاق قال سبحانك أنت منزه عن هذا الطلب وأنا أول المؤمنين بك ، وربما كانت تلك هي البداية الظاهرة للثورة الثقافية التي يقوم به الرسل بعد وقبل السيطرة على السلطة ، حيث إن الله سبحانه أوحى الى موسى (عليه السلام) برسالاته ، وأنه كلّمه من دون الناس تكليما ، وأن عليه أن يأخذها بقوة ، وان يمتلأ قلبه رضا بها وشكرا ، حتى يدافع عنها بكل قوة.

٤٣٦

وكتب الله لموسى في تلك الألواح التي أنزلها ما ينفع الناس من كل شيء ، وفي كل حقل ، وذلك بهدف تزكية الناس ، وبيان تشريع مفصل لهم ، وأمره بالدفاع عن هذه الرسالة ، وأن يبلغها قومه حسب الظروف المختلفة ، ففي كل ظرف يعملون بأحسن ما في الرسالة ، وأكثرها تطبيقا على ذلك الظرف ، وحذّره من الفسق وعدم تطبيق بنود الرسالة ، وقال له سأريكم دار الفاسقين.

بينات من الآيات :

حكمة الغيبة :

[١٤٢] مع انتصار بني إسرائيل تلك الفئة المستضعفة التي آمنت بموسى وبرسالته الاجتماعية ، ازداد تعلق الجماهير بقائدهم موسى (عليه السلام) تعلقا شخصيا ، وكان من الضروري تحول هذه العلاقة من شخص موسى (عليه السلام) الى رسالته وقيمه ليستمر خطه من بعده وربما لذلك غاب موسى (عليه السلام) بأمر من ربه عن قومه أربعين ليلة ، وكانت غنية ـ كما سيأتي في الدرس القادم ـ بامتحان عسير لقومه ، كشف ما بهم من نقاط ضعف ثقافية واجتماعية ، وأعطى لموسى (عليه السلام) فرصة كافية لتربيتهم وهدايتهم.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ)

وسيأتي في الدروس القادمة حكمة إتمام الثلاثين بعشر.

(فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)

أما وصية موسى (عليه السلام) لخليفته وأخيه هارون فكانت هي ضرورة المحافظة على الإصلاح.

(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ

٤٣٧

الْمُفْسِدِينَ)

لقد سبق الحديث عن أن الأمم في بداية انطلاقها تهتم بالبناء والانتاج والإصلاح ، أما بعدئذ فانها تقوم بالاستهلاك والهدم والفساد ، وعندها كان الرسل (عليهم السلام) يحذرون الناس من الفساد ، فأوصى موسى أخاه بهذه الوصية عند ما تخلص بنو إسرائيل من الطاغوت ، وخفّ عندهم شعورهم الثوري السابق.

ويتبين من الآية كما من سائر الآيات : أن قوم موسى (عليه السلام) كانوا فريقين ، مصلحين ومفسدين ، وكانت تجربة غياب قائدهم ومنقذهم كافية لفرز هذين الفريقين ، وبالتالي تزكية المجتمع عن طريق تصفية فريق المفسدين.

من أين تبدأ الثورة الثقافية؟

[١٤٣] لا يزال بنو إسرائيل تلك الطائفة التي عاشت فترة طويلة في ظل الطاغوت ، وتعرضت لعمليات غسل الدماغ من قبل السلطة الظالمة ، لا تزال هذه الطائفة تحمل رواسب الماضي بعد تحررها ، ولا بدّ من تفجير ثورة ثقافية فيها ، ولكن من أين تبدأ هذه الثورة؟

الثورة تبدأ من إصلاح جذر مشكلة الثقافة عند البشر ، حيث إن الإنسان يحن نحو الماديات الظاهرة ، وينسى المعنويات ، ويغفل عن الغيب ، يغفل عن غيب القيم ، وعن قدرة الله وحكمته ورحمته ، يغفل عن المستقبل وما فيه من امكانيات ، ويلتجئ الى الظواهر في الحاضر ، الى ما يشاهده من قوة السلطة الجبارة ، وما يراه من امكاناته الحالية ، فيخضع لها ، ويستسلم لاتجاهها.

ورسالات السماء توجه الناس الى الله ، الى غيب الغيوب ، الى ملهم القيم ومالك المستقبل ، الى مبعث الأمل المشرق ، وإذا تعلق الإنسان بالله (الغيب) فانه

٤٣٨

يتخلص من كل رواسب الثقافة المادية ، لذلك بدأ الله في إصلاح قوم موسى (عليه السلام) انطلاقا من هذه النقطة ، حيث كان قوم موسى يلحون عليه بأن يريهم ربهم ومرة قالوا له : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ، ومرة صنعوا لأنفسهم عجلا وزعموا انه هو إله موسى وهكذا ، لذلك راح موسى يدعو الله أن يريه نفسه وهو يعلم ان الله لا يرى.

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً)

هدف المعجزة :

هناك فكرة تقول : بأن كثيرا من طلبات الرسل ، بل وكثيرا من أوامر الله لهم ، تهدف تبليغ الرسالة بطريقة صارخة ، حين أمر الله نبيه إبراهيم (عليه السلام) بذبح ابنه كانت الحكمة من وراء ذلك نسخ عادة جاهلية معروفة آنئذ وهي ذبح الأبناء لله أو للأصنام ، ولكن حين أمر إبراهيم بذبح ابنه ولم تعمل السكين ، كانت تلك المعجزة أبلغ أمرا في النفوس ، وأقدر على نسخ هذه العادة من الموعظة الكلامية ، وكذلك حين طلب موسى (عليه السلام) من ربه بأن ينظر اليه ، كانت دعوته هذه بهدف صنع واقعة عينيّة تذهب مثلا في الآفاق ، وتتناقلها الألسن ، حتى تنتزع من النفوس جذور المادية ، ولذلك طلب موسى (عليه السلام) المستحيل وهو رؤية ربه وتجلى الله للجبل وجعله دكا متهاويا على نفسه ، ووقع موسى مغشيا عليه.

(فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)

ويبقى السؤال : ما هي مناسبة اندكاك الجبل مع استحالة النظر الى الله؟

والجواب : أن قدرة الإنسان محدودة بشكل انه لا يتحمل رؤية جبل يندك ، وهو

٤٣٩

أهون شيء في ميزان قدرات الله سبحانه التي لا تحد فكيف يرى الله؟ وينظر اليه؟ وهو مبعث القدرة والحكمة والرحمة والعظمة و.. و.. وبالتالي الأسماء التي لا تعد ولا تحصى ، فكيف يراه البشر المحدود. الذي يتناهى في ضعفه ومحدوديته؟ (سبحان الله)؟!

[١٤٤] وحين ترسو قاعدة التوحيد الراسخة على أساس الايمان بالغيب ، فان بناء الثقافة الأصيلة والتشريع السليم سيكون قويا ورفيعا ، لذلك فان ربنا أوحى الى موسى (عليه السلام) برسالاته التي تمثل الثقافة والتشريع.

(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي)

وعبر الرسالة اصطفى الله القيادة السليمة المبدئية التي تجسد الولاية الالهية في الأرض ، وميّز هذه القيادة بكلامه سبحانه المباشر لها ، ولكنه أمر موسى (عليه السلام) في المقابل بحراسة رسالاته ، والعمل بها ، والشهادة لها ، وأيضا الاطمئنان إليها والرضا بها ، والاحساس بأنها نعمة كبيرة يجب ألّا يفرط بها أبدا.

(فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)

محتوى رسالات الله :

[١٤٥] ما ذا كان في رسالات الله وكتبه؟

كان فيها أولا : رسالة متكاملة بالنسبة الى كافة شؤون الحياة في الثقافة والسياسة والاقتصاد و.. و..

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ)

ثانيا : كان في الكتب موعظة لتزكية نفوس البشر ، واثارة عقولهم ، واستجلاء

٤٤٠