من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

فطرتهم.

ثالثا : كان فيها تشريع مفصل للحياة ، ولتلك السبل التي يهتدي إليها العقل والفطرة.

(فَخُذْها بِقُوَّةٍ)

أيّ اتبعها وأنت قوي الارادة ، لتتحدى الضغوط التي تترى عليك من اتباع هذه الرسالة من لدن ذاتك وشهواتك ، أو من جانب المجتمع المحيط بك.

إن أهم ميزة في القيادة هي : الثقة بالرسالة التي تحملها ، والاعتماد عليها ، مما يستقطب ثقة الجماهير بها وبالرسالة.

أما الجماهير فان اتباعها لتلك المناهج لا يكون اتباعا أعمى ، بل سوف يكون اتباعا واعيا بعد دراسة الظروف المحيطة بها ، ليعرفوا أيّ منهج هو الأقوم في هذا الظرف أو ذاك ، وكذلك بعد دراسة الحكم ذاته وهل جاء دائما أو خاصا بظرف معين؟

(وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها)

ان تقييم الأحسن من الحسن إنما هو وظيفة الأمة ، ومن هنا يدخل الوعي والعقل في الساحة.

(سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ)

الذين لا يتبعون الأحكام الشرعية كلها ، فان دارهم ستكون مهدمة على رؤوسهم ، وتلك عبرة كافية لكم بألا تعصوا ربكم في مناهجه.

٤٤١

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)

٤٤٢

كيف يضل المتكبّر؟

هدى من الآيات :

انها آيات الله الكريمة التي أوحى بها الى موسى (عليه السلام) ، إنها كانت وسيلة لاختيار الله موسى (عليه السلام) قائدا وإماما لقومه ، بيد أن الله حذّر قوم موسى من التهاون في الأخذ بدساتير الله ، وحذرهم بأن ذلك سيهدم دار الفاسقين الذين يعصون أوامر الله ، وبيّن في هاتين الآيتين ان الفسق قد يكون شخصيا فيهدم دار الفاسق ، وقد يكون اجتماعيا فانه سوف يسبب في الهلاك وحبط الأعمال ، والفسق الاجتماعي يتمثل في هدف المجتمع ككل ، إذا كان هدفا باطلا نابعا من التكبر بغير حق ، ومحاولة السيطرة على الآخرين ، إذ ان ذلك سوف يسبب في الكفر بالآيات ، وقلب المقاييس الفطرية ، حتى يصبح الرشد غيا عندهم ، والغي رشدا ، كل ذلك بسبب التكذيب بآيات الله والغفلة عنها.

هذا من الناحية الفطرية ، أما من الناحية العملية فان أعمال هؤلاء تحبط ولا تنفع شيئا ، لأنها تسير في الاتجاه الباطل ، حتى ولو كان العمل صحيحا من الناحية

٤٤٣

الجزئية ، إلّا أنه بسبب وقوعه في سلسلة الأعمال الخاطئة والفاسدة ، فان تلك الأعمال سوف تغطي على حسنات هذا العمل الجزئي ، كما أنه لو كانت مجمل أعمال الفرد أو المجتمع صحيحة فان هفواته الجزئية تغفر له ، لأن الحسنات يذهبن السيئات.

بينات من الآيات :

طريق الانحدار :

[١٤٦] كما السيارة إذا وضعت في طريق منحرف تعمل كل أجزائها في ذلك المسير وبصورة منحرفة ، حتى إذا كانت سليمة بحد ذاتها وغير معطبة ، كذلك المجتمع إذا توجه نحو تطلعات خاطئة ، فان كل أعضائه تعمل في ذلك الطريق وبصورة خاطئة.

التطلع السليم للمجتمع هو بناء ذاته ، والتعاون على الخير مع سائر المجتمعات ، أما إذا تكبر في الأرض ، وتطلع نحو استعباد الآخرين واستثمار طاقاتهم ، فانه ليس فقط ينحرف في هذه الجهة ، وفيما يخص علاقاته بالآخرين فحسب ، بل سوف ينحرف بكل أبعاده حتى فيما يتصل بعلاقاته الداخلية ، ذلك لأن الله لم يجعل في جوف الناس قلبين ، إنما هو قلب واحد فاذا كان متكبرا باحثا عن المجد الذاتي ، متخذا نفسه وليس الحق محورا ومعيارا ، فان كل تصرفاته ستكون مصبوغة بصبغة التكبر.

لذلك لا يكون الفرد مؤمنا وعاملا بآيات الله ورسالاته إذا تطلع نحو استعباد الآخرين ، وتكبر في الأرض بغير الحق ، وأراد أن يتعالى بما لا يحق له.

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ)

٤٤٤

يبدو لي : أن كلمة الآيات هنا تعني الآيات التشريعية حسب السياق ، حيث كان الحديث في الآية السابقة حول رسالات الله وكلامه.

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها)

والآية هنا ـ حسبما يبدو لي ـ تعني الآية التكوينية مثل المعاجز ، وعبر التاريخ ، والتطورات التي تبيّن الحقائق وهكذا لان القلب المتكبر لا يبحث عن الحقيقة ، بل عما يخدم ذاته ، ويشبع غروره ، ولذلك فهو لا يلتفت الى الحقائق ولا يهتم أو يؤمن بها حتى إذا رآها رأي العين ، وهو كذلك لا يبحث عن الطريق السديد لأنه قد انحرف بوعي وإصرار.

(وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً)

إنهم منحرفون ولذلك فهم يبحثون عما هو منحرف.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)

إن تكذيبهم الأول بآيات الله جعلهم ينصرفون عن الحقائق ، ويغفلون عن أهمية الآيات التشريعية ، إن البشر ينحرف أول ما ينحرف بسبب اختياره السيء ، ولكنه ينحدر بعدئذ نحو الكفر والجحود بصورة أقرب الى اللااختيار ..

العاقبة في الحقل العملي :

[١٤٧] تلك كانت عاقبة المتكبرين الفكرية : أنهم لا يهتدون الى الحقيقة لا عن طريق رسالات الله التي يصرفون عنها ، ولا عن طريق الحقائق والعبر الواقعية ، أما عاقبة المتكبرين العملية فهي : أن أعمالهم الصالحة تحبط بسبب أعمالهم السيّئة ، والتي تكوّن استراتيجيتهم الأصلية دون تلك.

٤٤٥

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ)

لان الخط العام لحياتهم خط منحرف ، لذلك فان العمل الجزئي لم ينفعهم شيئا ، بل سوف يحبط ولا يؤدي مفعوله ، والواقع أن سبب حبط العمل ليس عدم إيمانهم فقط ، بل لأن عدم الايمان يؤدي بهم الى سلسلة من الانحرافات العملية التي تكون هي السبب لحبط العمل ، لذلك قال ربنا سبحانه :

(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

٤٤٦

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ

____________________

١٤٨ [حليّهم] : الحلي ما اتخذ للزينة من الذهب والفضة.

١٤٩ [سقط في أيديهم] : وقع البلاء في أيديهم أي وجدوه وجدان من يده فيه.

٤٤٧

الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)

٤٤٨

عجل السامري

ورواسب الجاهلية الفرعونية

هدى من الآيات :

وابتلي قوم موسى في غيابه لمناجاة ربه بالعجل ، حيث اتخذوا عجلا مصنوعا من حليهم وذهبهم إلها ، لقد كان جسدا له خوار وزعم السامري انه إلههم ، ولم يعرفوا أن الرب هو الذي يهدي الناس الى سبل السعادة ، وهذا العجل لا يفعل ذلك ، وهكذا ظلموا أنفسهم وحين انكشفت لهم الحقيقة ندموا وعرفوا مدى الضلالة التي وقعوا فيها قالوا : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، وهذا الدعاء يكشف ان قوم موسى تجاوزوا مرحلة الصنمية بعد التوبة.

وعند ما عاد موسى (عليه السلام) من مناجاة ربه غضب ، وكان آسفا كيف عبد قومه العجل ونادى فيهم ، بئسما خلفتموني من بعدي ، أهكذا ينقلب الناس بعد غياب قادتهم ، وألقى موسى الألواح التي كانت برفقته وفيها رسالات الله ، ألقاها جانبا لأنها لا تنفع قوما تركوا الايمان الى الشرك ، وأخذ برأس أخيه هارون وهو يستفسر منه الوضع ، ويسحبه من ذلك القوم الضال ، ولكن هارون (عليه السلام)

٤٤٩

وضح له الحقيقة وهي : أن قومه استضعفوه ، وأنهم همّوا بقتله ، ولذلك فهو أنقاهم حتى يعود موسى (عليه السلام) وطلب هارون من أخيه بألا يشمت به الأعداء ، ولا يجعلهم يفرحون بمعاملة موسى لأخيه المعارض لهم ، كما طالبه بألا يفسر سكوته الظاهر بأنه نابع من رضاه بالوضع ، كلا .. بل إنه كان سكوتا غاضبا بانتظار الفرج القريب.

بينات من الآيات :

لماذا العجل؟

[١٤٨] لماذا عبد بنو إسرائيل في غياب موسى الى الطور العجل ، واتخذوه إلههم؟

يبدو أن رواسب الجاهلية الفرعونية التي عاش بنو إسرائيل في ظلها قرونا ، والتي كانت تعبد العجل وتتخذ منه رمزا للرخاء الزراعي ، إنها كانت السبب في صناعة العجل ، إلّا أن الحلي من الذهب والفضة كانت مادة لهذه الصناعة ، لأن بني إسرائيل حين رحلوا عن أرض مصر حملوا معهم حليهم ، وكانوا يعتزون بها باعتبارها الرصيد الاقتصادي الوحيد الذي كانوا يملكونه ، فحين ظهرت رواسب الجاهلية الكامنة على السطح ، صنعوا من الحلي عجلا ، فهم في الواقع كانوا يعبدون الذهب والفضة والرخاء باعتبار ان شكل العجل يدل على ذلك الرخاء ، وباعتبار أن العجل صنع من الحلي.

وهكذا دلّت الحادثة على ان التحول السياسي الذي حدث في بني إسرائيل لم ينعكس على ثقافتهم ، وكانوا يحتاجون الى ابتلاء ليظهر واقعهم فيعالجه المصلحون ، وربما لذلك واعد ربنا موسى ثلاثين يوما ثم أضاف إليها عشرا حتى يكون الجو مهيئا للسامري بأن يشيع نبأ كاذبا هو : أن موسى قد مات ، ويظهر واقع السامري وما كان ينتظره من موت موسى ليخرج بدعته ، وهكذا وقع السامري في المصيدة المنصوبة.

٤٥٠

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ)

الخوار : صوت الثور ، وربما كان السامري قد صنع جسد العجل وهيكله بطريقة معينة بحيث كان يخور إذا دخل فيه الريح ، أو كانت القبضة التي أخذها السامري من أثر الرسول هي التي جعلت العجل يخور.

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً)

بينما الله كان يكلم موسى تكليما ، وقد فصّل له ولقومه رسالاته التي تهديهم سبل السلام.

(اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ)

وأيّ ظلم أكبر من الشرك بالله والردّة بعد الايمان ، إن عجل بني إسرائيل كان مثلا للقيادة الباطلة التي كان السامري يسعى من أجلها ، لقد كان العجل يخور ـ كما القيادات الباطلة تنطق بما لا يهدي سبيلا ، وبما لا يوضح علما حقيقيا ـ وكان جسدا هيكلا ولكن بلا روح ، كذلك القيادات الباطلة لا تعطي الأمة روحا معنوية.

[١٤٩] وجاء موسى (عليه السلام) ، وانفضحت الكذبة الكبرى التي اعتمدتها الردّة الجاهلية وهي موت موسى (عليه السلام) ، وندم الجميع وسقط في أيديهم ، وظهرت الحقيقة المخفيّة وهي : أنهم قد ضلوا ، وآنئذ تابوا الى ربهم.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)

يبدو لي أن رحمة الله هنا متمثلة في هداية الله التي من دونها يبقى البشر في

٤٥١

الضلالة.

امتحان وفرز :

[١٥٠] كانت عبادة العجل امتحانا عسيرا لقوم موسى (عليه السلام) وتصفية للعناصر الضعيفة والخائنة في المجتمع الرسالي الذي ينبغي أن يقود المجتمعات الأخرى ، ويشهد عليها ، لذلك حين عاد موسى الى قومه كان غضبان أسفا.

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً)

يبدو لي ان الغضب هو الرفض الشديد لشيء ما مع القيام بعمل ما من أجل تغييره وإصلاحه وتعويضه ، بينما الأسف هو : ردّ الفعل النفسي تجاه حادثة سابقة قد وقعت خطأ ، وموسى (عليه السلام) كان متأسفا لما وقع عليه قومه سابقا من انحراف وضلالة ، وغاضبا عليهم الآن لما هم فيه من نقص وقلّة فهم ووعي ..

(قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي)

لقد تركت وصيي كقائد لكم وكشاهد عليكم.

(أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ)

وأردتم الوصول اليه قبل ميعاده.

إن قوم موسى كانوا لا يزالون في مرحلة الايمان بالحضور والشهود لا بالمستقبل والغيب ، وهذا كان أحد العوامل لتسارعهم الى عبادة العجل باعتباره إله موسى ، كما كان السبب في طلب فريق منهم رؤية الله بأعينهم.

(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ)

٤٥٢

كان موسى يحمل معه الألواح التي فيها موعظة وهدى ، فاذا به يرى قومه قد شكّوا في أصل الربوبية فلذلك ألقاها جانبا ، وأخذ يعالج هذه المشكلة ، وبدأ بسؤال أخيه وخليفته باعتباره القائد عليهم من بعده ، ولكن هارون (عليه السلام) أوضح له الحقيقة ..

(قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

أي لم أكن أنا بنفسي قادرا على مقاومة الردة ، لأنهم أفقدوني قومي وجعلوني ضعيفا ، وجردوني من أسلحتي ، ولذلك فقد كادوا يقتلونني لو لا إنني أمسكت عنهم بانتظار عودتك ، وافتضاح كذبهم ، لذلك فمن الخطأ أن تحملني مسئولية عملهم أو تجعلني معهم.

[١٥١] وهنا أدرك موسى حقيقة الأمر و..

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)

ومرة اخري أعتقد أن أبرز مظاهر رحمة الله هي هدايته للإنسان ، وان يعصمه من أن يزلّ في الظروف الصعبة.

عاقبة عبّاد العجل :

[١٥٢] وتلك عاقبة الرافضين لعبادة العجل ، أما عاقبة المستسلمين للعجل والراضين بعبادته فإنّه سيلحقهم غضب من الله ، يتمثل في ألوان العذاب الآتية من حكم الطاغوت ، وانحراف المجتمع ، ومن نقص في بركات الله تلك التي تأتي من القيادة السليمة في المجتمع.

كما يصاب هؤلاء بذلة حيث إن انحراف القيادة من قيادة رسالية الى قيادة

٤٥٣

صنمية تسلب كرامة الإنسان ، وتحوله الى أداة ذليلة بيد الأصنام البشرية الحاكمة.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)

أيّ الذين يكذبون على الله افتراء عليه ، والذين يتخذون طريقا خاطئا ويصوّرونه لأنفسهم طريقا سليما سينالهم غضب من ربهم.

[١٥٣] أما إذا تاب هؤلاء الى ربهم ، وآمنوا بالله إيمانا صادقا ، ولم يتركوا سيئة الى سيئة أخرى ، مثل أن يتركوا الرأسمالية بعد معرفة تناقضها وانحرافها الى الشيوعية كلا .. إنما تركوا السيئة الى الصراط المستقيم ، أولئك يرحمهم الله.

(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

ربما يكون معنى كلمة (بعدها) أي إنه بعد انتهاء آثار السيئة الأولى سوف تأتي رحمة الله.

٤٥٤

وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)

٤٥٥

عاقبة التقوى

في الدنيا وفي الآخرة

هدى من الآيات :

وعادت الظروف الطبيعية للأمة بعد ذلك الامتحان العسير ، وعاد الى موسى هدوؤه بعد الغضب ، فاذا به يأخذ الألواح ليقرأ فيها الهدى والرحمة.

حيث كانت تهدي الناس الى السبل السليمة المؤدية الى رحمة الله ، والرحمة والهدى يشترط فيهما الرهبة والتقوى له سبحانه.

وهذه الرهبة لا تدخل قلب البشر لو لم يؤمن ايمانا صادقا بالله ، والايمان الصادق لا يكون الا بعد معرفة الله ـ في الغيب الذي لا تراه الأبصار ـ وكان في قوم موسى نزعة مادية ، لذلك طالب ممثلوهم وهم سبعون رجلا مختارا ، طالبوا موسى برؤية الله جهرة ، فأخذتهم الرجفة الشديدة فصرعتهم ، وتوسل موسى الى ربه أن يعيدهم وقال : ان هذا الطلب انما هو من السفهاء ، وان هذا امتحان منك ، وانك رب الهداية ، وانك تضل من تشاء حين لا تريد هدايته ، وانك ولينا جميعا فاغفر لنا ما سلف من ذنوبنا ، وأنت ارحم الراحمين فانزل علينا رحمتك ونعمك.

٤٥٦

ان الهدى الذي كان في كتاب الله لموسى كان يدعو البشر الى الالتزام بالخط المستقيم بين حاجات الدنيا وتطلعات الآخرة ، لذلك دعا موسى (عليه السلام) بأن يكتب الله لهم الحياة الحسنة في الدنيا والآخرة. وهذا لا يكون الا بالتوجه الى الله ، وربنا الكريم بيّن له أن عذابه انما هو من نصيب من يشاء ، واما رحمته فهي واسعة ، وهي للذين يتقون ويزكون أنفسهم ويؤمنون بآيات الله.

بينات من الآيات :

حكمة الغضب :

[١٥٤] يصور القرآن الحكيم النبي موسى (عليه السلام) عبر آياته العديدة شخصية سريعة الغضب ، مما يطرح هذا السؤال : هل كان موسى فعلا كذلك أم ان ظروفه كانت تستدعي ذلك؟ بحيث لو وضعنا أيوب مثل الصبر والهدوء في مكانه لكان يفعل ذلك أيضا؟

الواقع : ان بني إسرائيل كانت امة مستضعفة اعتادت الذل والهوان ، وكانت بالرغم من ذلك شديدة العلاقة بموسى باعتباره منقذا لها ، لذلك كانت هذه الامة بحاجة ماسة الى التدخل المباشر من قبل موسى في شؤونها اليومية ، والتدخل المباشر لم يكن ممكنا بصورة هادئة ، انما بطريقة تثير دخائل وأعماق هذه الامة التي اعتادت الصياح والزجر.

من هنا نعرف أن غضب موسى (ع) كان يسكت كلّما كانت الظروف العادية ترجع الى الامة ، باعتبار ان غضبه ليس لنفسه وانما لرسالته ولله.

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ)

ويبدو لي أن غضب موسى لم يسكت عنه الا بعد تصفية العناصر الخائنة ، وقتل

٤٥٧

أعداد كبيرة منهم ، وقبول توبة البقية ، بعدئذ أخذ موسى عليه السلام يخطط لبناء مجتمع سليم.

(أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ)

ان التخطيط للحياة الاسلامية في المجتمع انما يكون بعد إرساء قاعدة التوحيد في النفوس ، لذلك أخذ موسى (عليه السلام) يشرح ما في الألواح للجماهير بعد انتهائه من تصفية العناصر الخائنة ، وكانت الألواح تهدي الناس الى طريق رحمة الله ونعمته ، ولكن هذه النعمة ليست الّا للمتقين.

(لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)

كيف نصفيّ الشوائب :

[١٥٥] ولا تزال في نفوس بني إسرائيل بعض الرواسب الجاهلية ، لذلك قام موسى (عليه السلام) بعملية جديدة من أجل ترسيخ دعائم التوحيد في النفوس ، وذلك حين اختار سبعين شخصا من قومه ليرافقوه في مناجاته بطور سيناء ، وكان هؤلاء يمثلون الشعب ، وينقلون طلباته لله سبحانه ، فجاء هؤلاء وطلبوا رؤية الله جهرة ، فاخذتهم الصاعقة فقضت عليهم ، الا أن موسى (عليه السلام) دعا ربه بإعادتهم الى الحياة.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا)

حيث طلبوا من هؤلاء السبعين رؤية الله فنقل هؤلاء طلب السفهاء الى الله ، أجل .. كانت تلك فتنة امتحن الله بها عباده ، فمن اهتدى فانما بفضل الله سبحانه ، ومن ضل فانما بإذن الله.

٤٥٨

(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ)

ان ربنا سبحانه يجري تحولات اجتماعية ، وتغييرات طبيعية من فقر وغنى ، وصحة ومرض ، وعزة وذلة ، وحر وبرد ، ورخاء وقحط ، كل ذلك بهدف امتحان البشر ليستخرج كلما في ذاته من قوة أو ضعف ، وقدرة أو عجز ، ولكي يصلح نفسه ويكمل نواقصه ، فمن اهتدى الى هذه الحقيقة ، وتوكل على الله ، واستغفر من ذنوبه ، وسعى من أجل إصلاح ذاته ، فان الله سيرحمه ويغفر له ، انه يرحمه بتكميل نواقصه ، ويغفر له بإصلاحه لها.

واجب الإنسان :

[١٥٦] والله سبحانه يكتب للناس ويقدر لهم الحسنات والسيئات حسب أعمالهم ، ومدى ايمانهم أو كفرهم ، ويبقى على الإنسان أن يتطلع الى اكتساب الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة ، ويعمل من أجلها حتى يبلغ مناه ، ان التطلع الى الأفضل يخلق في القلب دافعا الى العمل ، وآنئذ يحتاج البشر الى الخطة المتكاملة ليتحرك عبرها نحو الهدف ، وتلك الخطة هي مناهج الله سبحانه ، لذلك قال أصحاب موسى :

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ)

ان هذا التطلع السامي الذي يمكن ضمانة تنفيذه عن طريق التوكل على الله ، والثقة بأنه سوف يكتب ذلك ، انه من أبرز سمات المؤمنين الصادقين ، الا أنه بحاجة الى عمل جاد ، لذلك بين الله سبحانه ذلك و

(قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ)

٤٥٩

ان عذاب الله مهيأ للمذنبين ، بيد أن الأصل هو رحمة الله التي وسعت كل شيء ، فتلك الرحمة هي مهوي تطلع البشر ، ومعتمد ايمانه وتوكله ، ومنطلق تحركه.

بيد أن رحمة الله مشروطة بما يلي :

أولا : التقوى والتعهد بالقيام بالواجبات.

ثانيا : الزكاة وهي العطاء من كلما يملكه الإنسان من مال وعلم وجاه ، وقد جاء في الحديث :

«زكاة الجاه بذله ، وزكاة العلم نشره»

ثالثا : الايمان بكل الآيات سواء كانت في مصلحة الشخص العاجلة أو لم تكن ، وعدم تبعيض الإسلام بقبول الجانب السهل منه ، وترك الجوانب الصعبة ، كأن يصلّي الشخص ولا يزكي ، أو يحج ولا يجاهد كلا .. ان رحمة الله لا تسع قوما يجزءون الدين ويأخذون ببعضه فقط.

٤٦٠