من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ)

هل أهلكوا لأنهم كانوا ضعفاء؟ كلا بل بالعكس :

(مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ)

أيّ أنهم سيطروا على موارد الأرض ، وسخروها في مصلحتهم بإذن الله ، واستقروا في الأرض ، واطمأنّوا بها حتى ليكاد يحسبهم الناظر انهم خالدون فيها.

(وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ)

لقد استقروا في الأرض وتجاوزوا مرحلة البداوة ، والارتحال من منطقة لأخرى طلبا للرزق ، خوفا من الوحوش ، أو من نكبات الطبيعة ، ثم كانت موارد الرزق عندهم كبيرة وسهلة وهذه هي أسباب قيام الحضارات البشرية.

ولكن هذه الحضارة (التّمكين) لم تشفع لهم. إذ أنهم حين أعرضوا عن آيات الحق ، وكذبوا بها واستهزءوا. آنئذ خالفوا عمليا الحق ، وأكثروا من الذنوب التي هي تعبير ديني عن مخالفة الحق.

إنهم ظلموا أنفسهم ، وطغوا على الآخرين ، ولم يستفيدوا من موارد الطبيعة ، بل أفسدوها ، وفعلوا مثلما فعل قوم عاد أو قوم لوط أو قوم شعيب ، وكانت النتيجة : ان تلك الذنوب تكاثرت حتى أحاطت بهم ، وأنهت حضاراتهم.

(فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)

إن هذه عبرة كافية للبشر إذا أراد أن يعتبر.

[٧] ولكن البشر قد يغلق على نفسه منافذ قلبه. فلا يقبل الحق ولو جاءه

٢١

بطريقة إعجازية.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ)

أي في أوراق ملموسة يرونها تهبط عليهم من السماء كما ينزل المطر إنهم لا يفكّرون أن ذلك إعجاز ، فكيف ينزل من السماء قرطاس فيه هدى ونور ، إذا :

(لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)

وكيف يمكن إقناع من يخلط المعجزة بالسحر؟ هل بمعجزة أقوى وأكبر؟ إنه آنئذ سيزعم أنها سحر أكبر؟!

إن إقناع هذا الشخص أصعب من إقناع من يخلط بين المتناقضات في تفكيره كالبدائي الذي يزعم : ان من الممكن ان يوجد شخص في مكانين في زمان واحد ، ذلك لان هذا يعاني من نقص في تفكيره. يمكن إزالته بالتعليم أما ذاك فهو مصمم على ألّا يقتنع بالحق لأنه لا يرى أهمية لذلك أصلا.

[٨] ان هذه الطائفة تطالب أبدا بمعاجز جديدة. تهرّبا من الاقتناع بالحق ، وليس هدفهم من هذه المطالب بريئا.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ)

من السماء نراه بأعيننا حتى نصدّق به ، ولكن إذا جاء هل يصدقون به أم يعودون ويقولون : إنه سحر مبين؟!

إن لله سننا وأنظمة في الكون يجري عليها أمور الكون ، ولا يخرق هذه السنن بطلب كلّ أحد.

٢٢

ومن تلك السنن : أنه قدّر ألّا ينزل الملائكة إلا في يوم المعاد. حيث يظهر الجزاء فورا وبصورة واضحة. في ذلك اليوم تظهر الملائكة لكي يجازوا الناس بأعمالهم ، وتظهر حقائق الكون للجميع. لذلك قال ربنا :

(وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ)

في ذلك اليوم تنتهي فرصة الاختبار للإنسان ، ويأتي يوم الجزاء العاجل الذي لا يمهل صاحبه ، أما الآن فنحن في يوم المهلة.

[٩] ثم ما الفرق بين ان ينزّل الله ملكا أو ينزّل رجلا ، فما دام الفرد كافرا وجاحدا. لا فرق بين أن يأتيه رجل رسولا ، أو يأتيه ملك رسولا. انه سوف يكفر بهما جميعا.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)

إن الهدف من بعث الرسل ليس إكراه الناس على الالتزام بطريق الحق ، بل إتمام الحجة عليهم وذلك بتوفير فرصة الهداية لهم كي لا يقولوا يوم القيامة : لم نكن نعلم.

ولذلك لو بعث الله ملكا إذا لجعله الله يشبه الناس حتى في ملابسه حتى يستطيع أن يتفاهم معهم ، ويهديهم.

[١٠] إن مشكلة الكافر هي استخفافه بالحق واستهزائه به. والسبب هو : أنّ الكافر ـ كما قلنا سابقا ـ لا يعرف مدى أهمية الحق في حياته وأن علينا أن نبيّن له تلك الأهمية من خلال تجارب التاريخ.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ

٢٣

يَسْتَهْزِؤُنَ)

ان الحق الذي كفر به هؤلاء واستهزءوا بمن هداهم اليه تحول الى واقع مرّ ، ودمّر حياتهم.

[١١] إن الرسل قالوا لهم : إن الاستسلام للطاغوت حرام ، وعلى البشر أن يثور ضده. فهذا هو الحق الذي حمله الرسل الى الناس ، ولكنهم كفروا بهم ، واستهزءوا بهذه الحقيقة. فما ذا كانت النتيجة؟

إن الحق تحوّل الى واقع فسيطر الطاغوت على البشر ، وأفسد عليهم الحياة ، وجعلها جحيما لا تطاق.

ولكي نفهم هذه التجربة العظيمة فعلينا ان نراجع التاريخ :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)

إن حياتهم انتهت الى جحيم بسبب تكذيبهم للحق ، واستهزائهم بالرسل.

٢٤

قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)

٢٥

آيات الله بشائر رحمة ونذير عذاب

هدى من الآيات :

أبسط فكرة تقفز الى ذهنك حين تلقي نظرة الى السموات والأرض هي أنهما مسيّرتان وليستا مخيّرتان ، فأذن هي مملوكة لله ، ولكن الله ذو المشيئة المطلقة ، المالك للسموات والأرض يعطي عباده من خلال عطاياه ونعمه التي لا تحصى ثقة بأنه لن يقطع الحبل عنهم ، بل كتب على نفسه الرحمة لهم ، فما أفضل الالتجاء اليه ، والتمتع برحمته.

هذه فكرة الآية الاولى من هذا الدرس. الذي يعرفنا بربّنا معرفة تجعلنا نكاد نراه بها سبحانه ، والله هو المالك لكل ما سكن له واطمأن إلى رحمته في مسيرة الليل والنهار رغم تحركهما ، إذ أن رحمة الله تدع الخلق يسيرون وفق نظام يثقون به ، يسكنون إليه رغم تدفق الزمان الهائل القوة ، لأن الكون كله يستند الى القدرة المطلقة التي فطرت السموات والأرض في البدء ، والتي لا تزال تغذّي الوجود دون أن يتغذّى بشيء سبحانه ، وفي هذا الطوفان الهائل التغيير. يسلّم العبد لربه ليتخذ

٢٦

منه ركنا شديدا ، ثم لا تكونن ـ أيها العبد الضعيف من المشركين ـ لأن الشرك ـ وهو أعظم درجة ـ سيجعلك تواجه نهاية مأساوية في يوم أكبر هم كل إنسان فيه هو الخلاص من عذابه (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) (١٨٥ / آل عمران)

وتأتي هذه المجموعة التوحيدية من الآيات في سياق دروس إيمانية متتالية. هدفها التعريف الأعمق بآيات الله في الحياة.

بينات من الآيات :

عالم الخلق دليل رحمة الله :

[١٢] ان للحياة التي نعيشها. لحظة بلحظة ، ودفعة بدفعة ، وموجة بعد موجة ، هذا المهرجان العظيم من النور ، والدّفئ ، والانطلاق من العظمة والروعة والجلال ، لهذه الحياة تنظيم بديع لطيف متين. إذا نظرت إليها ككل راعتك آيات التنسيق بين أجزائها ، وإذا أمعنت النظر في أصغر أجزائها أعجبتك متانة الصنع ، ومدى ما فيها من دقة التنظيم ، وعظمة الحركة ، كل ذلك يزيدك معرفة : بأن للسموات والأرض ربّا يملك ناصيتها ، ويدبر شؤونها ويسيرها ، ولو كانت حرة طليقة من دون مسيّر ، إذا لتحركت وسارت كل جزيئة منها في اتجاه ، ولانهارت وتفتت وتلاشت ، فمن يملك ناصية الحياة غير ربها ، الله الذي خلقها!!.

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ)

إنها ليست الحقيقة التي نحتاج فيها الى إثبات ، بل نحتاج الى معايشتها وملامسة أبعادها لنصبح كلما استطعنا أقرب إليها لأنها الحقيقة الام التي تتفجر الحقائق من خلالها تفجيرا ، ومن خلال معرفة حقيقة المالكية الالهية نعرف أن الله قد كتب على نفسه الرحمة لأنه لو لم يكتب على نفسه الرحمة (ونعترف بعدم دقة

٢٧

التعبير) إذا فمن الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا. علما بان الله يجبّر الكون على المسير وفق الأنظمة ، فمن يجبره سبحانه. إنه هو الذي :

(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)

ولكن لرحمة الله حدود ، وحدود رحمة الله هي حكمته .. فكما أنه رحيم حين يضع السنن العادلة ، إلا أنه شديد على من يخالفها ، فهو حين يحفظك ـ مثلا ـ من أن تسقط عليك حجارة ضخمة من السماء تدمر بيتك على من فيه ، فانه بعدئذ يفرض عليك أن تلتزم بواجب العدالة ، فلا تدمر بيوت الخلق بقنابل عنقودية ، فلو فعلت فان جزاءك سيأتيك عاجلا في الدنيا ، أم آجلا في الاخرة. هنالك لا تحاسب وحدك ، بل سوف تحاكم أمام الناس جميعا ، وسوف يؤتى بمن ظلمته لكي يستوفي كلّ جزائه العادل

(لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ)

أو يشك أحد : أنّ الله هو الذي أمسك كل شيء في حدود معينة عادلة حكيمة ، وذلك برحمته التي كتبها على نفسه ، أو يشك أحد أنه سوف يترك الإنسان حرا في تدمير نفسه ، والعالم من حوله دون جزاء عادل له؟ كلا :

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

لأنهم يتصورون أن الحياة بلا بداية ولا نهاية ، ولا مالك ولا شيء. انهم يخسرون أنفسهم ، ويفقدون ما منّ الله عليهم به من فرصة السعادة الأبدية ، الى الشقاء الأبدي الخالد.

السكون والحركة في الكون :

[١٣] غدا حين تشرق الشمس ، وينتشر الضوء والحرارة. أذهب أنا وأولادي

٢٨

وسائر أبناء القرية جميعا للحصاد .. إذ أننا قبل أشهر كنا قد ملأنا الحقل بذورا ، والآن أصبحت حقلا زاهرا وفي العام القادم سنزوّج الأولاد ، ونسافر الى الحج ، هذه الأفكار التي تراود ذهن فلاح بسيط لدليل على أنّ هناك ثقة بالحياة يسكن إليها البشر ـ بل كلّما في الحياة ـ تلك ثقة نابعة من أنّ سنن الله لا تتغير رغم تطور آياته ، فالشمس تطلع لتغرب ، والليل يلاحق النهار ، والضوء يهزم الظلام ، ثم ينهزم أمام جيوشه ، ولكن كلّ ذلك يجري وفق نظام يطمئن اليه الإنسان وسائر الأحياء لا فرق. من يملك النظام؟ من ينفذه؟ من يشرف عليه الّا تخرقه الأهواء النزقة؟ انه الله الذي يهيمن على السموات والأرض ، وهو يسمع ويعلم فلا يهرب من سوط عدالته وسلطان تدبيره شيء سبحانه :

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

والمقابلة المبدعة بين الليل والنهار من جهة ، وبين السكون من جهة ثانية مقابلة توضح بعدي السكون والحركة في الحياة الواحدة التي يهيمن عليها الرب.

دوافع الايمان :

[١٤] قلنا ـ ونكرر ـ إنك حين تعرف حقيقة أنّ لله ملك السموات والأرض ، تعطيك هذه المعرفة آفاقا جديدة من العلم ، وهذا واحد منها : إنك تجلس لتفكر. إذا كان الله هو مالك السموات والأرض. فلما ذا لا نتخذه صديقنا وصاحبنا ، وقائدنا وولينا. نحبه ويحبنا. أو ليس هو الذي يملك ـ فيما يملك ـ رزقنا. وهو بذلك لا يطالبنا بثمن ، فنحن لا نطعمه. بل هو الذي يطعمنا؟! هناك توجّه السّؤال التالي الى نفسك :

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ)

ويأتيك الجواب وبكلّ بساطة :

٢٩

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

تقول نفسك ، وتقول لك كل حقائق الحياة : كلا. ان من الأفضل لك الخضوع لله ، وليس لأحد سواه.

[١٥] وغدا حين يجازي الرب عباده المذنبين ، كيف نهرب من جزائه العادل وهو ذو القوّة التي سخّرت السموات والأرض؟

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

[١٦] إنّ الرحمة التي شملتنا في الدنيا والتي ظهرت آثارها في كل مظاهر الحياة. هذه الرحمة كيف تفوتنا ، وتتحول في الآخرة بسبب أعمالنا الفاسدة الى عذاب .. أو ليس هذا جنون؟

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ)

رحمه لأنّه هداه الى الحق ، وألزمه كلمة التقوى ، ورحمه لأنه غفر له ذنوبه البسيطة ، لأنه أطاع الله في أعظم العبادات :

(وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ)

أن ترسو سفينة الإنسان على شاطئ السعادة الأبدية برحمة الله.

٣٠

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)

٣١

بالله يفلح الإنسان

هدى من الآيات :

إن كنت تبحث عن المصالح الحقيقية لذاتك أو لمجتمعك ، فان بيد الله سبحانه أزمّة الكون كله ، فاذا مسّك الله بضر لا يستطيع الناس ولو اجتمعوا أن ينقذوك منه ـ إلا باذنه ـ وإن أنعم عليك نعمة ، فان الله وحده القادر على إبقاء أو إزالة النعم عنك ..

وإن كنت تخشى طوفان الأحداث ، وتبحث عن ركن شديد تأوي اليه ، فان الله هو القاهر فوق عباده ويدبر شؤونهم بحكمته وخبرته ..

وان كنت تبحث عن الحقيقة ، فان الله هو الحق ، وهو أكبر شهيد ...

بينات من الآيات :

وهو القاهر فوق عباده :

[١٧] انك تحب نفسك وتبحث عن مأمن لها عن الشركاء ، وتبح عن مصدر

٣٢

الخير لها ، فاعلم بأن الله هو الذي يقدّر لك الخير والشر معا ، وانه لو قدر الله لك أمرا فانه لا أحد يملك تغيير أقدار الله ،

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ)

حين يصيبك المرض ويشتد حتى تشعر بمسّه. آنئذ يستيقظ ضميرك ، ويتوجه الى الله القادر على كشف المرض عنك ، بينما قد تكون قبل ذلك غافلا عن ربك.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

وحين تشعر بلذة الخير الذي يهبط عليك من دون جهد كاف ، هنالك لا تطغى. لأن الله الذي قدر لك الخير قادر على أن يسلبه منك ، كما أنه قادر على أن يزيدك خيرا ، أو حتى على أن يحوله الى سوء في النهاية ..

والتعبير القرآني يؤكد على كلمة ، المساس للدلالة على الضر الذي يشعر بألمه الفرد ، والخير الذي يحس بلذته ..

[١٨] والله يقهر عباده ، ويخضعهم لمشيئته شاؤوا أم أبوا. إنه يقدر لهم السّبات فلا أحد منهم يغلب النوم على ذاته الى ما لا نهاية ، ويقدر عليهم الموت وهم كارهون ، ويأخذهم على تطبيق أنظمة معينة في الحياة ، لا يستطيعون الفرار منها :

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ)

ولكن تقدير الله للبشر ليس عبثا ، بل وفق حكمة بالغة ، وخبرة أزلية.

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)

فاذا علمت بأن الله القاهر ، فلا تخف! لأن الله حكيم فاذا سلّمت الأمور اليه ، فانه سيبلّغك الى شاطئ الأمان ...

٣٣

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) :

[١٩] تتلاحق الأحداث ، وتترى الظواهر ، وتجري سفينة الحياة في بحر عالي الموج ، عاصف الريح ، ولكن وراء تلك الظواهر أنظمة حكيمة تمسكها ، والله من وراء تلك الأنظمة يمسك زمامها ويوجهها ، فالله هو ضمير الكون ـ الذي لا يخلو منه مكان ـ تجد آثاره في قطرات المطر الزاخر ، فتجد وراء كل قطرة ـ قدرته. حكمته. هيمنته. سلطانه. نعمته. رحمته. وفضله ـ والأرض حين تهش لقطرات المطر تشربها ، وتحتضن حبات القمح تداعبها ، حتى يتفجر الحقل روعة وخضرة ونعيما ، ان هناك يتجلى الله الحق .. في السماء ، والأرض والدواب ..

كل شيء شاهد على ذاته ، الشجر يشهد على ذاته بالمساحة التي يأخذها من الأرض ، ومن الفراغ ، وبالثمر الذي يقدمه لك ، ولكن الله لا يغيب عنه شيء ، لأنه وراء كل شيء. انه الذي يمسك كل شيء بما أعطاه من الحركة والفاعلية والسنن والأقدار ، فالله شاهد على كل شيء ، وحاضر عند كل شيء ، وكل شيء آية له ، لأنه منه ومعه واليه ، فالله إذا أكبر شهادة من أيّ شيء :

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)

انه يدل على ذاته بذاته ، ويدل على كل شيء ، انه يعطيك السمع والبصر والبصيرة ، ويتجلى بآياته في مهرجان الحياة حتى تعيش معه في كل لحظة ومع كل شيء. يبقى أنت الذي قد تغيب عن ربك (دون أن يغيب عنك) انه قريب المسافة ، بينك وبينه لحظة الالتفات والتوجه ، ولكي لا تغيب عنه ، ولكي تتكامل ذاتك الى مستوى العيش مع ربك. أرسل الأنبياء ، وزودهم بالكتاب لينذرك لأن الإنذار أقرب الطرق الى قلب البشر ان البشر غافل بطبعه ، وسلاح الخوف أفضل وسيلة لخرق حجب الغفلة عن قلبه.

٣٤

(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)

إنني لا أرى أثرا يذكر لغير الله سبحانه ، فكيف يمكنني أن أشرك بالله؟ إنني لا أشهد بغير الله ، وإني أحارب بكلّ صراحة ما تشركون.

٣٥

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)

٣٦

القرآن عصمة البشر

هدى من الآيات :

الحق ـ كالركن الشديد ـ تعتمد عليه إذا اعترفت به وصدقته ، أما الباطل فهو سراب ، لا وجود له الا في خيال من يؤمن به ، فهو الذي يعتمد عليك ، ويكلّفك عناءه.

والقرآن حق تعرفه كما تعرف أبناءك ، فكما أن أبناءك امتداد لشخصيتك ، تستعين بهم في حياتك ، كذلك القرآن انه من يكذب بالقرآن ، أو يختلق لذاته كتابا كاذبا يفقد هذه القدرة الهائلة ولا ينال السعادة بتلك الاكذوبة.

وفي الآخرة تتوضح الحقيقة كاملة. إذ يضل عن الكفار الشركاء فلا ترى لهم أثرا ، وآنئذ يتبرأ منهم المؤمنون وهم أيضا يحلفون بالله انهم لم يكونوا يؤمنون بهم ، ولكن هل ينفعهم ذلك اليوم هذا التبري .. كلا.

حول هذه النقاط ـ تتحدث آيات هذا الدرس.

٣٧

بينات من الآيات :

علاقة القرآن بالشخصية الانسانية :

[٢٠] الكتاب نعمة من الله على المؤمنين ، والمؤمنون يعرفون قدر الكتاب. إذ أنه بالنسبة إليهم كما أبناءهم ، يعرفونه انه حقيقة كما الأبناء حقيقة ، وأن ـ ملامحه ، بيناته ومتشابهاته ، ناسخه ومنسوخه ، بصائره وأحكامه ـ واضحة لهم ، كما هي ملامح أبنائهم الذين هم أقرب الخلق إليهم ، وأنه يزيدهم قوة وأملا ، كما الأبناء يزيدون الآباء قوة في الحاضر ، وأملا في المستقبل ، وأهم من ذلك كله أن الأبناء هم امتداد لشخصية الأب ، يجد الأب فيهم صورة ثانية من ذاته ، ومرآة لقدراته وقيمه ، وتحقيقا لإرادته ، وكذلك القرآن يبلور شخصية المؤمن ، ويحقق ذاته ، ويصبح إذا عرفه الإنسان صورة عن قيمه وتطلعاته ومستقبله.

من هنا فان الكفر بالقرآن يساوي الكفر بالشخصية الانسانية ، وبالتالي يعني خسران الذات وفقدانها ، انك حين تفقد ـ لا سمح الله ـ ابنك تشعر وكأنك قد خسرت جزءا من ذاتك ، بيد أنك حين تكفر بكتاب الله فأنك تخسر نفسك أيضا.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) :

[٢١] حين يكذب المرء بآيات الله لا يعيش في فراغ ، بل يبحث عن أراجيف يؤمن بها وكأنها آيات من الله ، بل ويبدأ المرء في خلق الأراجيف ، أو تقليد آبائه أو مجتمعة في الايمان بها ، وافترائها على الله ، ثم يكفر بآيات الله الصحيحة ، وبذلك يكون أظلم الناس ، إذ قد يكون مجمل سلوك الشخص صحيحا ، ولكنه ينحرف في جانب من حياته ، أو في بعض الأوقات فحسب ، أما من يتخذ مسيرة منحرفة ويؤمن

٣٨

بنهج خاطئ ، فانه لا يخطو خطوة الا ويبتعد عن الحق بقدرها ، ويظلم نفسه والآخرين ، وإذا كان الظالم لا يسعد بالظلم فكيف بهذا الذي يبني كل حياته على الظلم من بدايتها حتى نهايتها؟!

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)

[٢٢] الحق تعيش عليه ، والباطل يعيش عليك ، فأنت الذي تصنع الباطل ، وتجهد نفسك في الدفاع عنه ، ولكنه يزول دون أن ينفعك في ساعة العسرة ، بينما الحق يبقى ينصرك دون عناء منك.

وعند ما تبلى السرائر في يوم القيامة وتتعرى الحقائق. آنئذ تكتشف ان الباطل يضيع عنك ، فلا تجد له أمرا ـ وكذلك كان في الدنيا ـ إلّا أن أهل الباطل يخلقون الباطل بأساطيرهم وبخيالاتهم ، فيزعمون : انه موجود فعلا ، كما لو أنك ترى سرابا في الصحراء تحسبه ماء ، وانما هو سراب ، لا وجود له إلا في بؤبؤة عينيك.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)

فيلتفت المبطل يمنة ويسرة فلا يجد لهم أثرا ..

[٢٣] انئذ يتراجع عن شركائه ، ويحلف بالله : انه لم يتخذهم بديلا عن الله وعن الحق!

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)

هكذا خدعوا وضلوا وأضلوا. هذه كانت نتيجة ضلالتهم وفتنتهم وخداعهم. إنهم يتبرءون من الشركاء. إذا لماذا لا يتبرءون عنها اليوم. وقبل فوات الوقت؟!

٣٩

[٢٤] وكانت عاقبة هؤلاء أنهم كفروا بالباطل الذي كانوا يؤمنون به ، وحلفوا الايمان المغلّظة أنهم لم يكونوا ـ حتى في السابق ـ يؤمنون به ، أما الباطل فقد ضل عنهم ، ولم يبق له أثر.

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ)

بالأمس كانوا متحمسين للباطل ، والآن ينكرونه ، ويكذبون على أنفسهم بهذه الأفكار.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)

دعنا إذا لا نخلق أصناما نؤمن بها ، ولا نفتري على الله أفكارا باطلة ندان بها

٤٠