من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

دور الرسل في مسيرة التوحيد

هدى من الآيات :

لكي لا يحجب التنافس الشخصي طائفة من الناس عن الايمان بالله ، أوضح الدرس السابق ، ان استقبال الرسول للمؤمنين المبادرين لا يجب ان يكون متأثرا بانتماء آتهم السابقة أو طبقتهم أو ما أشبه ، إنما بسبب الايمان وحده ، ولذلك فلا داعي للقلق ، وفي هذه الآيات بيّن في القرآن الحكيم : إن الدعوة إلى الرسالة ليست دعوة إلى شخص الرسول. إذ أن القيمة إنما هي للمبدء وحتى شخص الرسول شملته الدعوة كأي فرد آخر ، فهو قد نهي عن عبادة الشركاء ، وأنه لو اتبع أهواء الناس لأصبح ضالا ، وما عند الرسول إنما هو من عند الله ، والعقوبة التي يهدد بها الرسول أعداء الدين قادمة من عند الله ، والحاكم فيها هو الله الذي يوضح الحق ، ويفصل أهله عن أهل الباطل ، وذلك بحكمه الحاسم ، أما الرسول ذاته فهو أن كان مالكا للعقوبة ملكا ذاتيا وكان بشرا متفوقا على سائر البشر. إذا لأنزل العقوبة بأعدائه. كلا أنّ الله هو الذي يحكم وهو أعلم بالظالمين من سائر البشر.

٨١

بينات من الآيات :

من هو الرسول :

[٥٦] كأي بشر آخر نهاه الله عن عبادة الشركاء من دونه.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)

والنهي عن عبادة هؤلاء يعني التمرد على سلطات الطاغوت المتمثلة في السلطان الجائر ، أو شيخ العشيرة الفاسد ، أو رئيس الحزب المتجبر ، وهكذا.

(قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ)

اي لا اتبع الجبت أيضا.

(قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً)

حين أعبد الطاغوت أو أتبع الجبت.

(وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)

آنئذ ، ذلك أن هداية الله للرسول ليست ذاتية ، بل قائمة بالله ، وهي تزول إذا انحرف الرسول ـ حاشا لله ـ عن الخط المستقيم.

اطار التحرك الرسالي :

[٥٧] ويتميز الرسول عن الكفار ، بأنه على بينة واضحة من ربه ، انه يعرف الطريق جيدا بينما أولئك ليس فقط لا يعرفون الطريق بل ويكذبون بذلك تكذيبا.

(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ)

٨٢

اما العقوبة فهي عند الله وأنتم تستعجلونها ، والله هو الذي يحكم بها لأنه يقصّ سبحانه الحق ، ويعلم لمن هو.

(ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ)

ان الله يقص الحق ربما معناه : ان الله سبحانه يقسّم الحق الكلي العام على أقسام الحياة ، أو الموضوعات الخاصة المنفصلة عن بعضها ، والله سبحانه (خير الفاصلين) ربما معناه أن الله خير من يقضي لتطبيق الحق على الشخص المعين.

ولنضرب مثلا يقرب الى أذهاننا معنى الآية فالحق الكلي مثلا هو أن العدالة قيمة صحيحة ولكننا بحاجة الى قصّ هذا الحق ، وذلك بتقسيمه الى مختلف الموضوعات. مثل أن العدالة تقتضي إنزال العقوبة على من يظلم صاحبه ، ولكن من الذي ظلم صاحبه؟ هذا الأمر بحاجة الى فصل (يسمى بالقضاء) والله هو الذي يفصل ويحدد بالضبط من الذي ظلم ، ومن الذي وقع عليه الظلم.

[٥٨] إذا فالله هو الذي يملك العقوبة ، ويعلم الحكم ، وهو خير من يقضي ، أما الرسول فهو بشر لو لم يكن رسولا من الله ، وكان يملك العقوبات التي يهدد بها الأعداء. إذا كان يستخدمها عمليا في دحر الأعداء.

وهو حين لا يفعل فان ذلك يدل على أنه رسول متصل بالله ، وأنه لا يقول ولا يعمل شيئا إلّا بأذنه ، بل هو لا يملك شيئا من دون الله سبحانه.

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)

فهو الذي يقضي بين العباد ويعاقب المتجاوزين على القانون ولست انا.

٨٣

وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)

____________________

٦٠ [جرحتم] : الجرح بالجارحة ، والاجتراح الاكتساب.

٨٤

مفتاح الغيب بين العلم والقدرة

هدى من الآيات :

المستقبل عند الله ، وما ينفتح اليه عنده ، فهو الذي يخلقه حسب ما يشاء ، ويجري عليه سننه ولذلك فهو يعلم ماذا سيكون ، فاذا تحقق علم بأصوله وقواعده العامة والحكيمة ، كما علم بجزئياته الصغيرة ، فمن الورقة التي تذبل وتسقط ، الى الحبة التي تدفن في باطن الأرض يعلمها الله سبحانه ، بل كل شيء حيّ أو ميت. مسجل في كتاب مبين.

وعلم الله محيط بالحياة ، فهو الذي يسترد في الليالي روح الإنسان ، ويراقبه على أعماله في النهار حيث يبعثه ليستمر الى فترة محدودة ، فاذا انتهت يعود البشر الى الله حيث يخبره بما فعل.

وكما علم الله فكذلك قدرته محيطة بالعباد. انك من دون هذه القدرة التي تحيط بك وتحفظك من المهالك تتعرض لألف مشكلة ومشكلة. اما الموت فهو لا يحدث بعيدا عن قدرة الله بل عبرها ، فرسل الله هم الذين يتوفونك دون أن يخرجوا.

٨٥

عن حدود الطاعة لله ، وتعود الى الله حيث يحاسبك على أعمالك وهو أسرع الحاسبين.

بينات من الآيات :

مظاهر علم الله :

[٥٩] للغيب (وهو المستقبل) مفاتح. أي سبل تؤدي اليه ، أو أسباب تحققه ، وكلها عند الله في قبضته وتحت هيمنته ، ولأن الله هو الذي يفتح الغيب يحققه ويخلقه فانه عالم به دون الخلائق لأنهم دون مستوى الخلق.

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ)

وإذا كانت مفاتح الغيب عند الله فكيف بحقائق الشهود ، أي التي تجري الآن في الواقع ، ان ربنا محيط بها علما.

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)

علما شهوديّا محيطا ، وربما نستطيع القول : أنّ الاحاطة بعلم الشهود هو أحد مفاتح الغيب الاساسية ، والمفتاح الثاني هو : القدرة على قهر الواقع كما يأتي في الآية التالية ، ولكن كيف العلم بالشهود مقدمة لفتح غيبه؟

الجواب : العلم بالجرثومة ـ مثلا ـ في جسد الإنسان طريق لمعرفة المرض ، والعلم بالفيتامين أو المضاد الحيوي طريق لمعرفة الدواء ، والعلم بالمرض وبالدواء طريق للسيطرة عليها ، ولصنع المستقبل وهو الغيب.

(وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها)

أنها ورقة انتهى أجلها وسقطت ، ولكن علم الله محيط حتى بتلك اللحظة. لحظة

٨٦

الموت والسقوط بالنسبة الى الورقة التافهة التي لا أهمية لها أبدا.

(وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ)

إنها الحبة الصغيرة المستورة في الأرض التي لا يأبه بها أحد ، ولكن الله محيط بها علما.

(وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ)

الرطب كالحبة النشيطة التي تنمو ، واليابس كالورقة التي سقطت. إن احاطة علم الله بالحبة وبالورقة الميتة أنما يعني علمه بابتداء كلّ شيء وانتهائه ، بيد ان علم الله ثابت ، ومسجل في كتاب واضح ومفصل.

(إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)

آيات قدرة الله :

[٦٠] ما هو النوم؟ وكيف يحدث؟

لا تزال معلوماتنا ناقصة في هذا الحقل ، الا ان المعلوم أنّ جزء من قدرتنا وحيويتنا نفقدها عند المنام ، والسؤال : هل نفقد ذلك أم أن قدرة عليا هي التي تنتزعها منا؟

بالطبع ان الله هو الذي يتوفى الأنفس ، أو بتعبير آخر يستعيد جزء مما وهبه للإنسان عند النوم ، وكلما وهبه له عند الموت. لأنه صاحب تلك القدرة العليا المهيمنة على كل جزء ، بل كل جزء من الحياة.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)

٨٧

فسبحان من يملك ناصية الطبيعة ، يوجهها كيف يشاء.

(وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)

كل أثر يخلقه الإنسان بعمله يعلمه الله ، بالرغم من أن الإنسان نفسه ، قد لا يعلمه ، وكما أن الليل سكون ووفاة ، فان النهار تحرك وتعب. حيث يشعر الفرد بأن قواه تجددت واستعدت لتحقيق الاهداف.

(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى)

ستبقى دورة الليل والنهار مستمرة الى أجل مسمى يبلغه الفرد شاء أم أبى ، وهذا الأجل ينتهي الى الله.

(ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ)

وعند ما يعود الناس الى ربهم يستيقظون وكأنّهم كانوا في سبات ، بيد أن الشريط الرقيب قد سجل كل أحداث حياتك ، فيعاد عليك.

(ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

[٦١] سبق القول : ان للغيب مفتاحين ، أحدهما العلم والثاني القدرة أو القهر ، والله عالم وقاهر.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ)

وقهر الله ليس كقهر العباد بعضهم لبعض مؤقتا ومحدودا ، إنما قهره دائم وشامل ومطلق ، وربما لذلك عبر الله عنه (فوق عباده) كما أن قهره انما هو (بالقوة) ولا يجب بالضرورة أن يكون (بالفعل) فالله بالرغم من أنه قاهر فهو رحيم ، ولذلك فهو لا

٨٨

يستخدم قهره أحيانا كثيرة ، ومن هنا فلربما لو عبر القرآن ب (وهو القاهر عباده) كان المعنى مختلفا وناقصا. ان قهر الله ليس قهرا فعليّا ، بل قد يكون بالقوة فقط ، والدليل يكمن في أن الله سبحانه يحيط البشر بالحراس الذين يحفظونه.

(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً)

الغلاف الواقي الذي يحيط بالفضاء لكي لا تسقط نيازك السماء على رؤسنا ، والجبال الراسية التي تحفظ الأرض من أن تميد بأهلها ، والمحيطات الواسعة التي تمتص الغازات. كلها رسل الله الحفظة لعباده ، والغدد المنتشرة في جسم البشر التي تسبب توازنه ، وطريقة توزيع المواد ، ونظام مقاومة الميكروبات التي يقوم بها جنود الجسم ، والكريات البيض و.. و. ومئات الأنظمة الدقيقة التي تحرص على سلامة الجسم ـ كلها حفظة.

ولكن لا ينتهي حفظ الله للبشر على هذه الأمور. بل هناك آلاف الحوادث التي يتعرض لها الإنسان في حياته مما يحتمل ان تكون الواحدة منها كافية للقضاء عليه ، فقد يقع الإنسان من علوّ ، أو حتى يعثر في الطريق فيرتطم بالأرض ولو صادف واصطدم به حجرا اذن لقتل. وقد تنحرف سيارته بسبب الطبقة الثلجية يمينا أو يسارا لتصطدم بالسيارة الاخرى ، ولو زاد انحرافها لارتطمت بالجبل ، ولو كان انحرافها بعد كيلومتر لوقعت في الوادي لضيق الشارع ، ترى كم احتمالا للهلاك كان قائما انجاك الله منه بلطفه. إن حفظة الله هم الذين يحيطون بك ويدفعون عنك المهالك ، ولكن الى متى؟

الى حين موعدك ، حيث يصبح الحفظة أنفسهم قابضين لروحك.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا)

٨٩

والسؤال الذي يقفز الى الذهن. أفلا يخطأ الحفظة ، فيقصرون أو يعجزون عن الحفظ حينا ، أو يتوفون الفرد قبل موعده؟

يجيب القرآن : كلا.

(وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)

فالله هو الذي يرسل حفظته ، ويحولهم الى قابضي أرواح ، فمن هو المولى الحق للإنسان؟ ومن هو القائد والمعين؟ أليس الله؟!

[٦٢] اننا سنعود اليه ليحاسبنا على هذه الفترة البسيطة التي أمهلنا فيها دون أن يهملنا.

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ)

الحكم هو استعمال حق الولاية.

(وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ)

أي القضاة الذين يقضون بالحق.

٩٠

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)

____________________

٦٣ [تضرعا] : معلنين الضراعة والتذلل.

[خفية] : مسرّين بالدعاء.

٦٥ [يلبسكم] : لبست عليهم الأمر ألبسه إذا لم أبينه ، وخلطت بعضه ببعض ، ولبست الثوب ألبسه ، واللبس اختلاط الأمر واختلاط الكلام ، ولابست الأمر خالطته.

[شيعا] : الشيع الفرق ، وكل فرقة شيعة على حدة ، وشيعت فلانا اتبعته ، والتشيع هو الاتباع.

٩١

عند لحظات الخطر حجة الله

هدى من الآيات :

في الدروس السابقة. بين القرآن جوانب من هيمنة الله على الكون ، والبشر بالذات ليزداد الإنسان معرفة بربه ، وحبا له ، وتقربا اليه ، ويستجيب بإرادته الحرة لواقع الولاية الحق التي تنتشر في الحياة وفي أنفسنا آياتها وعلائمها.

وتتابع الآيات في هذا الدرس في ذات الموضوع من زاوية فطرية يعيشها كل منا في حياته ، وذلك عند ما ترتفع غشاوة الكبر والغفلة ، ويتحسس الإنسان بالخطر فيصبح آنئذ أقرب الى الحقيقة.

ولكن متى نشعر بالأمان المطلق. أو لسنا في لحظة الأمان يساورنا الخوف من تجدد ظروف الخطر ، أو ليس الله الذي ندعوه عند ما تحيط بنا ظلمات البر والبحر ، وندعوه تضرعا وخفية ، ودون رياء قادرا على ان ينزل علينا عذابا من السماء أو الأرض ، أو حتى من أفراد البشر إذا لماذا ندعو الله فقط في أوقات الكرب الظاهر ، ولا ندعوه في كل حالة ما دامت كل لحظة تحمل في طياتها مخاوف كروب

٩٢

عظيمة؟!

ولكنّ فهم هذه الحقيقة بحاجة الى فقه ومعرفة عميقة بالحقيقة.

بينات من الآيات :

مع الله :

[٦٣] اصطدمت سيارتنا بأخرى في طريق صحراوي بعيد .. والوقت بعد منتصف الليل والسحب المتراكمة حجبت ومضات النور المنبعثة عن النجوم ، وأخي قطعت ذراعه ، وأخذ الدم يتفجر منه كالميزاب ، بعضنا أخذ يحاول إيقاف الدم النازف ، والبعض الآخر أخذ يتطلع في الظلام لعله يبشر بمرور سيارة. ولكن لا شيء نستطيع فعله ولا ندري هل تأتي سيارة أم لا؟ الكل حبس أنفاسه في صدره ، ويكاد لا يتكلم إلا همسا. القلوب تحلق في فضاء آخر ، اتّصلت بعالم آخر بالله القادر على أن يرسل من عالم الغيب سيارة أو يلهمنا طريقة ما لوقف الدم.

فجأة يعلو صراخ : حبل. حبل. صاحب الجرح النازف يدعو رفاقه بجلب الحبل ، ثم يأمر بشدّه فوق جرحه .. بشدة ، ثم ينقطع الدم الا قليلا ، ومن وراء الأكمة يشع الفضاء بنور خافت ، ثم ينكشف هذا النور عن سيارة ، وسرعان ما نحمل جريحنا الى أقرب مركز للطوارئ ، وتنتهي الأزمة ، ويتبين بعدئذ أن خبرا خاطئا دعا سيارة النجدة التي قدمت ان تسرع الى المنطقة ، ولولاها لما جاءت ، وبالتالي تبيّن أن يدا غيبية هي التي دفعتها الى هذا الطريق. ترى كيف كنا نعيش في تلك اللحظة ، ما الذي كنا نقوله لله في مناجاتنا الخفية؟

كنا نقول لربنا : فرّج كربنا يا ربنا. فسوف تجد ايّ عباد شاكرين سنكون نحن ، سنترك الذنوب مرة واحدة ، ولا نظلم الناس ، ونتصدق بأموالنا في سبيلك. يا رب يا رب يا رب! كنا نشعر آنئذ بأننا عباد ضعفاء لا نملك لأنفسنا شيئا ، والله رب

٩٣

قوي رحيم ، مالك لكل شيء.

ان هذه القصة غير الواقعية هي حقيقة تقع بأشكال مختلفة لكل واحد منا ، ولكنه سرعان ما ينساها ، والله سبحانه يذكرنا بها في هذه الآية قائلا :

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)

حين تكاد الأمواج العاتية ابتلاع قارب الصيد الذي نمتطيه .. ولا أمل الا بالله.

(تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)

بسبب شدة الخوف نقول لربنا آنئذ :

(لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)

[٦٤] (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)

حيث اننا مستعدون بعدئذ لأن ننسب خلاصنا حتى الى الصدفة دون أن نذكر أن الله هو الذي أنقذنا ، وسوف نشكر سيارة النجدة ، ونشكر الطريق المعبد ، ونشكر حتى مبضع الجرّاح دون أن نشكر ربنا الذي كان المنقذ الحقيقي ، والذي توسلنا إليه حين اشتد بنا الكرب.

احتمال عودة الخطر :

[٦٥] ولكن هل انتهى الخطر .. أفلا نعود الى ذات المشكلة ، أو لا يمكن ان يهبط علينا عذاب ، من السماء أو الأرض .. فمثلا هل نأمن ان ينفجر البر كان قريبا من قريتنا فيقذفنا بحمم ، أو يزلزل الأرض بنا فتخسف بنا وبما نملكه.

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)

٩٤

وهناك خطر آخر وأشد هو خطر الناس بعضهم ضد بعض ، حيث يختلفون على بعضهم.

(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)

كم دمرت الحروب البلاد ، وأجرت أنهر الدم. هل كان يستطيع هذا الفريق أو ذاك النجاة من ويلاتها؟! ان الله هو القادر على اقامة الصلح العادل أو إلقاء الرعب المتبادل في نفوس المتخاصمين لئلا يبادر أحدهما بالهجوم على الآخرين حتى يأذن الله بغير ذلك.

(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)

ان الله يوضح آياته حتى لا يكون البشر سطحيا ينظر الى ظواهر الحوادث بل يتعمق الى أغوارها البعيدة ، ويبقى على البشر أن يتذكر بتلك الآيات.

٩٥

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)

٩٦

مواقف الناس من آيات الله

هدى من الآيات :

في الدروس السابقة حدثنا القرآن الحكيم عن مجموعة من الآيات ، وفي هذا الدرس يبين اختلاف الناس في موافقهم من هذه الآيات ، وهو موقف الرفض أو اللامبالاة أو الاستجابة ، فهناك من يكذب بالحق من قوم الرسول ، بيد أن الرسول لن يغني عنهم شيئا بحجة أنهم قومه ، أما الحق فأنه إذا جاء موعد تطبيقه في المستقبل فسوف يعلم الناس ماذا يعني وما هي أهميته.

ومن الناس من يتخذ آيات الله هزوا يتسلى بها دون أن يتخذها ويعمل بها. هؤلاء يجب التباعد عنهم لأنهم قوم ظالمون ، وقد ينخدع الإنسان الساذج بمظهرهم حيث يتظاهرون بأنهم لا يخالفون الحق ، وآنئذ يجب أن يقرر ألّا يعود الى القعود معهم.

ومنهم من يستجيب للحق ، ويتقي الله وهم السعداء الذين سوف يغفر الله لهم.

٩٧

بينات من الآيات :

التكذيب والمسؤولية :

[٦٦] للإنسان امام الحق ثلاثة مواقف. موقف الاستجابة أو الرفض أو اللامبالاة ، وفي هذه الآية يناقش القرآن الموقف الثاني فيقول :

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)

فالإنسان نفسه هو المسؤول المباشر عن قبوله أو رفضه للحق وليس مبلّغ رسالة الحق ، والواقع أن علم الإنسان بمسؤوليته أمام تصرفاته سوف يساعده كثيرا على اتخاذ الموقف السليم ، أما لو زعم أن بإمكانه أن يبرر موقفه ، ويلقي بمسؤوليته على هذا أو ذاك ، فأنه سيكون سببا لعدم الاهتمام بالحق.

[٦٧] والقرآن يهدد المكذبين بما يرونه في المستقبل. حيث يتجلى الحق في شكل واقع قائم ويقول : ان النبأ الذي عبّر عنه الله وهو الحق سيتحقق في الوقت المحدد له سلفا ، وآنئذ يعلم الإنسان كم خسر بتكذيبه بالنبإ. ان الدكتور يخبرك بوجود خلية فاسدة في رجلك ويأمرك بالاسراع في العلاج ، ولكنك قد تكذبه فيتخذ المرض خطّه المتصاعد ، فينتشر السرطان في الجسد في الوقت المحدد له حسب سنة الحياة ، وأنظمة الجسم وآنئذ يعلم الإنسان مدى خطئه عند ما كذب بالنبإ ، كذلك رسالة الله مجموعة أنباء صادقة ، ولها أوقاتها المحددة (مستقرها) التي تتحقق فيها ، وانئذ يعلم المكذب حقيقة الأمر.

(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

تمييع الأحكام :

[٦٨] والموقف الثاني من الحق وهو موقف اللامبالاة ، واستخدام الآيات مادة

٩٨

للحديث اللامسؤول ، أو حتى للتسلية.

وهؤلاء أخطر من المكذبين إذ أنهم يميّعون الحق ، ويفرغون الحديث من محتواه الحقيقي ، ويحولونه الى مادة للجدل ، وقضاء للوقت ، والمباراة وإظهار الوجود ، وبذلك يغيرون نظرة الإنسان الى الكلام من نظرة عبرية هدفها العمل ، الى نظرة ذاتية هدفها التسلية ، ولذلك يجب مقاطعة مجالس هؤلاء وعدم الخوض معهم في جدلياتهم الفارغة ، وتركهم وحدهم يأكل بعضهم بعضا.

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)

ولكن كثيرا ما ينسى الإنسان هذا الحكم بسبب تظاهر هذه الفئة بالعلمانية وأنهم إنما يبحثون عن الحقيقة بهذه الجدليات. لذلك ذكرنا القرآن بخطورة النسيان قال :

(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

لقد سمّى الله هؤلاء بالظالمين بالرغم من تظاهرهم بالبحث عن الحقيقة. لأن من يبحث عن الحق فعلا سيجده من دون تعب ولا حاجة إلى الجدال.

الموقف السليم :

[٦٩] أما الموقف السليم من الحق فهو : الاستجابة له عمليا ، وهي التقوى ، واحترام الحق الذي نبأ به الله ، وحينئذ يكون خط المتقي سليما في اتجاهه العام بالرغم من بعض الانحرافات البسيطة ، أو بعض الاخطاء التكتيكية ، ومع سلامة الخط العام لا يحاسب الشخص بشيء من اخطأ البسيطة.

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)

٩٩

وهدف الوحي من هؤلاء هو إيصالهم الى مستوى التقوى ، وابقاؤهم على هذا المستوى ، وذلك عن طريق تذكرهم المستمر حتى لا يغلبهم نعاس النسيان ، أو سكر الغفلة.

(وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)

١٠٠