من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

المظاهرة التشريعية للشرك

هدى من الآيات :

لان الله حكيم عليم (بالاضافة الى انه غني رحيم) فهو لم يحرم الطيبات. بينما المشركون حرموا على أنفسهم كثيرا من الطيبات افتراء على الله ، وفي البدء ذكر الله : ان الشرك في حكم الكفر بالله العظيم ، لان من ينذر لله ولغير الله ، فان نذره لغير الله سيحبط نذره لله ، وسيجعله في نصيب الآلهة الشريكة.

والشرك هو الذي دفع بالمشركين الى قتل أولادهم افتراء على الله ، وهدف الطغاة والجبابرة الذين يشركون بهم من تشجيع الناس على قتل الأولاد يتلخص في إهلاك الشعب ماديا ومعنويا.

والله سبحانه ترك المشركين في هذا الوادي بسبب أنهم افتروا على الله سبحانه بالرغم من قدرته على ردهم بالقهر والجبر ، ومنعهم من التسلط على مقدرات الشعب.

وهناك تشريعات باطلة أخرى كانت نتيجتها عليهم ان حرموا الطيبات على

٢٠١

أنفسهم ، ودفعهم الى ذلك افتراؤهم على ربهم الذي سيجزون عليه ، وكذلك تشريع المشركين الباطل الذي يميّز بين الذكور والإناث في الانتفاع من الطيبات ، أو قتل الأولاد ، أو يحرموا ما رزقهم الله كذبا عليه.

بينات من الآيات :

متى يكون الإنفاق لله شركا؟

[١٣٦] الشرك والكفر توأمان ، بيد ان الشرك كفر مغلف ، يستهدف إرضاء كل الأطراف ، وهو ناتج عن ضعف الارادة ، وسوء الحكم والتقدير ، والشرك حالة نفسية تحاول خداع فطرة الايمان بالله ، وإشباع شهوات النفس في عملية تلفيقية مفضوحة.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا)

قالوا : هذا لله لارضاء حسّ التدين الطبيعي في النفس ، ولخداع المتدينين ، ولان ما لله لا يعارض ما لشركائهم ، فاذا كان يعارضهم فإنهم يسلبون حتى ما لله لشركائهم.

انهم يبنون الجوامع الفخمة لله بزعمهم ، انهم يطبعون نسخا من القرآن الكريم ، انهم يقيمون صلوات الجمعة والأعياد ، حتى انهم يحجون لربهم.

ولكنهم في ذات الوقت ، يجعلون للشركاء نصيبا ، فهم يبنون القصور من أموال المحرومين ، ويبنون الدول على حساب المستضعفين ، ويكنزون الذهب والفضة ، ويدعمون الطاغوت ، ويشيعون الإرهاب في البلاد ، وبالتالي يعطون للشركاء كل ما في الحياة من لباب ، ويدعون القشور لربهم ، والله لا يرضى بالقشور.

(فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ)

٢٠٢

الحكم الذي جعلوه للطاغوت ، لا يمكن ان يكون حكما إلهيّا يسكت عنه ربنا أو يرضى به ، والمال الذي جعلوه دولة بين الأغنياء منهم لا يمكن أن يكون برضا الله سبحانه ، بل انه تعالى يمقته ويرفضه.

(وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ)

الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والزكاة التي تعمق الهوة بين الفقراء والأغنياء ، وتدعم سلطة الطاغوت لأنها تعطى له ، والحج الذي يتحول الى سفرة سياحية ، أو مورد ما لي للجاهلية الجديدة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذان أصبحا سوطا على رقاب المستضعفين دون المستكبرين ، انها جميعا من طقوس الطاغوت ، وليست من شعائر الله تعالى.

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ)

موقف الشريعة من تحديد النسل :

[١٣٧] وهنا يطرح السؤال التالي : ما هدف الطاغوت ومن حوله من ملأ المستكبرين ، وحاشية السلاطين وجلاوزة الأنظمة المفسدين؟

ان هدفهم أولا : استضعاف الجماهير ، وثانيا : تضليلهم ، ومن الطبيعي ان التضليل يأتي بهدف إبقاء واقع استثمارهم واستعبادهم ، وكمثل بارز لهذين الهدفين أنّ الشركاء الذين يتقاسمون السلطة مع الله ـ في زعم هؤلاء ـ انهم يشيعون بين الجماهير نوعا من الثقافة الجاهلية تشجعهم على قتل أولادهم ، فمن ناحية يضللونهم عن فطرتهم النقية في حب الأولاد ، وضرورة الإبقاء عليهم ومن ناحية ثانية يهلكونهم بذلك ، إذ أن الجيل الذي ينقطع نسله جيل أبتر ، وبالتالي أصلح للاستثمار.

٢٠٣

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)

وكمثل لهذا الواقع المشين ثقافة الجاهلية الحديثة التي تشجع على تحديد النسل ، وعلى الإجهاض في الوقت الذي تزداد الهوة الطبقية في تلك المجتمعات التي تأخذ بهذه الفكرة ، وتصرف البلايين في الحاجات الكمالية التافهة دون ان يفكروا في أن جزء بسيطا من هذه الأموال يكفي لاعاشة الأولاد الذين منع من ولادتهم ، ومن بركاتهم في الحياة.

علما بأن التفجّر السكاني وسيلة طبيعية للقضاء على الطبقات المستكبرة ، لان كل فم يحتاج الى خبز سينفتح بالاحتجاج على الطبقيّة المقيتة.

لذلك يكون الهدف من قتل الأولاد هلاك الناس وتضليلهم.

(لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ)

ذلك ان الدين الصحيح سلاح فعال ضد الطغاة ، فتضليل الناس عنه هدف أساس للطغيان.

والله قادر على أن يحطم عرش الطغاة ، بقدرته الغيبية ، ولكنه لا يفعل ذلك ما دام الناس غير واعين ، ولا يفكرون في نجاة أنفسهم من الطغيان ، وذلك بالكف عن الثقافة المشركة التي تفتري على الله سبحانه.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)

الخرافات إفراز للشرك :

[١٣٨] حين يتمثل المنهج الشركي في نظام اجتماعي يتبين ضلالته وانحرافه أكثر فأكثر ، وفي الجاهلية كانوا يحرمون طائفة من الطيبات على الناس ، الا من

٢٠٤

يشاءون حسب أفكارهم ومزاعمهم.

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ)

اي موقوف لا يمكن الانتفاع بهما.

(لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ)

اي الا لمن تشاؤه أهواؤهم وخرافاتهم.

(وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها)

لا لشيء الا بسبب منهجهم الفكري الفاسد وأهم إفراز لهذا المنهج انهم لا يذكرون اسم الله على بعض الانعام.

(وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ)

فيتقربون بتلك الذبائح الى الأصنام ، أو الى الجن أو الملائكة أو بعض أبناء الناس ، وذلك حين كانوا يزعمون ان كل تلك آلهة يتقرب بها الإنسان الى ربه سبحانه. حيث قالوا : «نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى» (١)

(سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ)

على الله ، ويزعمون : ان بعض الأشياء أو الأشخاص أبواب الله دون أن يكونوا كذلك.

ويبقى سؤال : ما هي علاقة الشرك بهذه الخرافات؟

__________________

(١). ٣ / الزمر

٢٠٥

والجواب : اولا : ان الشرك بالله يحوّر القلب ، ويحجب العقل ، ويعمي البصيرة ، فيرى البشر الأشياء مقلوبة ، وقد يصل به الأمر الى اعتبار الخير شرا ، والنافع ضارا.

ثانيا : ان كثيرا من المحرمات الاعتباطية نابعة من الايمان بالشركاء ، إذ ان خشية الشركاء تحرم المشركون من كثير من الطيبات.

ثالثا : ان الواقع الاجتماعي الذي يفرزه نظام الشرك يحرم على الشعب كثيرا من الطيبات بسبب الطبقية المقيتة ، بل العنصرية التي تسوده.

[١٣٩] وكان من مظاهر أحكامهم الباطلة ، وتشريعاتهم السخيفة ، التفرقة بين الرجال والنساء مما تأباه الفطرة السليمة.

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا)

وفي الوقت الذي كانوا يعترفون بعلاقة الزوجية التي هي في واقعها التكامل بين الذكر والأنثى ذلك التكامل الذي يدعو الى المشاركة الكاملة في الحقوق والخيرات كما في المسؤوليات والواجبات ، في ذات الوقت كانوا لا يكفون عن خرافة التفرقة بين الذكور والأزواج.

(وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ)

أي ان كان الجنين ولدا ميتا فسوف يتقاسمه الذكور والإناث معا.

(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)

انهم سينالون عقابهم بسبب وصفهم الباطل ، وحكمهم غير العادل ، حيث فرقوا بين الإناث والذكور في الانتفاع بالطيبات ، والله حكيم يحكم بالعدل ، وعليم يعلم

٢٠٦

من يخالف العدل الالهي.

اعدام الطفولة البريئة :

[١٤٠] وأسوء من التفرقة الطبقية والعنصرية وحتى التفرقة بين الرجل والمرأة ، أسوء منها قتل الأولاد ، تلك العادة الجاهلية العريقة والمتجددة مع كل جاهلية ، وسببها النظرة الشاذة الى الحياة ، والجهل والافتراء على الله ، والضلالة عن الحق.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ)

واي سفه أكبر وأخطر من أن يقوم الفرد بإلحاق الضرر والخسران بنفسه ، وأن يقتل أولاده ، وهذا السفه الذي يدل على قلة الشعور ، وعدم معرفة ما يضر وما ينفع البشر ، انه مدعوم بالجهل أيضا إذ أن العلم يزيد الشعور ، ويوقظ العقل في البشر.

(وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ)

لان هؤلاء افتروا على الله وما اهتدوا بالمنهج الالهي الذي يوضح للبشر كيف يستفيد من نعم الله عليه ، وبالتالي لأنهم لم يجعلوا الحق محورا لهم ، ومقياسا لأعمالهم ، وبصيرة لفهم الحياة.

لذلك حرموا على أنفسهم هذه الفرصة الطيبة ، ولكن هل ان من يقتل أولاده هو الوحيد الذي يضيّع على نفسه فرصة الانتفاع بالحياة ، والاستفادة مما فيها. كلا .. فكل من لا ينتهج نهج الله انه يخسر ما رزقه من الطيبات ، فالذي لا يربي أبناءه حسب المنهج الالهي القويم أفلا يحرّم ما رزقه الله ، والذي يسرف في الاكل فيعرض صحته للخطر ، أو يأكل المحرمات ، أو يشرب المسكرات ، أو يتعاطى القمار والزنا ، أو يظلم الناس ، أو يكذب ويغتاب وما أشبه. انه هو الآخر يضيع على نفسه نعم الله عليه ، فهو الآخر مثل الذي يقتل أولاده سفها بغير علم.

(قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)

٢٠٧

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ

____________________

١٤١ [معروشات] : العرش أصله الرفع ، ومنه سمي السرير عرشا لارتفاعه ، والعرش السقف والملك ، وعرش الكرم (العنب) رفع بعض أغصانها على بعض ، والعرش شبه الهودج يتخذ للمرأة.

٢٠٨

عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)

٢٠٩

كيف يحرم الشرك طيبات الحياة؟

هدى من الآيات :

الله سبحانه هو الذي أنعم على البشر ، نعما لا تحصى ، فهو أعلم بسبل الانتفاع بها ، وما يضر وما ينفع منها ، بينما الجاهلية تحرم وتحلل حسب أهوائها دون أن تعرف طبيعة الأشياء.

فالله هو الذي أنشأ البساتين والحدائق ، وجعل فيها مختلف أنواع الشجر والثمر ، ولذلك فهو سبحانه عليم بأحكامها التي منها أن يأكل البشر من ثمراتها دون انتظار ، وأن يعطي الفقراء منها يوم الحصاد ، والا يسرف في الاكل أو في العطاء ، بل يعتدل في كافة التصرفات في الثمرات.

كما أن ربنا الكريم الحكيم هو الذي أنعم على البشر بالأنعام ليتخذ منها الإنسان ما يحمله في مسيره ، وما يجلس عليه في بيته ، وحكم هذه الانعام هو الانتفاع بها بما رزقه الله منها ، ولكن دون ان تصبح هذه الانعام وسائل لتحقيق مطامح شيطانية كالاعتداء والبطش.

٢١٠

والله سبحانه رزقنا بازواج الضأن والمعز والبقر والإبل ، والبشر أخذ يحرم هذا ويحلل ذاك ، بينما الجميع رزق الله ، والله لم يوص بهذا ، انما المفترون هم الذين يضلون الناس بغير علم ، وانما يضلون الناس بسبب أنهم ظالمون ، فالظلم هو المانع عن هداية الله.

بينات من الآيات :

الطيبات .. ما لك وما عليك :

[١٤١] ملايين الانظمة الطبيعية ، والسنن الاجتماعية تفاعلت حتى أنشأ الله بها الجنات حيث اخضرت الأرض وأثمرت بمختلف أنواع الثمر ، فمن دون وجود دوافع للبشر ركزها الله في غريزة الإنسان ، ومن دون صلاحية التربة ، ووجود مخازن المياه ، وضوء الشمس لم يكن البشر يندفع نحو زراعة الأرض ، أو يقدر عليها ، ولكن الله أوجد تلك الدوافع ، وهيء تلك الوسائل ، فهو إذا دون غيره فرش الأرض بسجادة خضراء من البساتين اليانعة.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ)

فبعض الجنان مرتفعة عن الأرض كجنان النخيل ، وبعضها مفروضة عليها كجنان الزرع.

(مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ)

بعض الثمار تتشابه مع بعضها ، في اللون والطعم والصورة ، وبعضها لا تتشابه ، والتشابه قد يكون من جهة ، وعدم التشابه من جهة اخرى ، فكل الثمار ذات نكهة لذيذة في الطعم ، ومتعة في المنظر والفائدة ، ولكنها تتميز عن بعضها في نوع النكهة والمنظر والفائدة. ان روائع الإبداع تتجلّى في التشابه ، وعدم التشابه ، فلو كانت الثمار

٢١١

من نوع واحد ، أو كانت أنواعا متفاضلة لما تجلت عظمة الخلقة كما تتجلى الآن ، وقد جاءت الثمار أنواعا مختلفة ، ولكنها جميعا ذات مستوي عال من ناحية الطعم والفائدة كل بصورة مختلفة.

وبما ان الله سبحانه ، هو الذي أنعم علينا بالثمار ، فانه يفصل لنا كيفية الانتفاع بها ، وبين الله هنا ثلاثة من أحكامها :

الاول : حين يقول :

(كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ)

فاذا نضجت الثمرة ، يكون أوان الاستفادة منها ، وعلى البشر ألّا يحرم نفسه من طيباتها بأوهام باطلة ، بل بالعكس عليه ان ينتفع من الثمرات والانتفاع البسيط ـ كالأكل حين تثمر الشجرة ـ حق من حقوق كل شخص ، اما الانتفاع الدائم كما إذا أراد تخزين الثمار وبيعها ، أو الاستفادة منها مستقبلا ، فان حق الآخرين يتعلق بها.

وهذا هو الحكم الثاني :

(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ)

ففي ذلك اليوم ينتظر الفقراء حقوقهم من الزكاة أو الصدقة أو غيرهما. كحق الحصاد ، بالرغم من أن حقوقهم تتعلق بها منذ نضوج الثمر ، وربما تدل الآيات على أن الاكل يجوز قبل إخراج الزكاة. إذ أن الزكاة تتعلق بما يخزنه البشر لا بما ينتفع منه ـ والله العالم ـ.

بيد ان الانتفاع بالطيبات يجب أن يكون في حدود الحاجة دون الإسراف ، وهذا

٢١٢

هو الحكم الثالث الذي يبينه القرآن الحكيم هنا :

(وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)

ولأنه لا يحب المسرفين فسوف لا ينصرهم ولا يزيدهم من نعمه.

الأنعام وفوائدها :

[١٤٢] كما في الثمرات التي تنبت من الأرض ، فكذلك في الدواب التي ينتفع بها البشر طعاما وحملا وغير ذلك ، والله هو الذي أنعم على الإنسان بالقدرة على تسخير الدواب والانتفاع بها ، وجعل الانعام قسمين : قسم منها الانعام الكبيرة التي تحمل الأثقال من بلد الى بلد كالإبل ، وقسم منها الانعام الصغيرة كالشاة التي يستفاد عادة منها في الطعام.

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً)

الكبار والصغار.

(كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ)

فلا تحرموا على أنفسكم الحيوانات كما كانت تفعله بعض المذاهب القديمة ، ولكن من جانب آخر لا تسرفوا في الاكل ، ولا تظلموا الانعام باعتبارها مسخرات بأيديكم ، فتقتلونها صبرا ، أو تمنعون عنها الماء والكلاء كسلا وما أشبه ، كما لا تتخذوا هذه النعم وسيلة للبطش والاعتداء على بعضكم البعض.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)

وبالرغم من ان للشيطان خطوات متنوعة تقود البشر الى النار ، وكلها مشمولة

٢١٣

للآية وممنوعة ، الا أن دلالة السياق تدعونا الى افتراض ان اخطر هذه الخطوات هي الامتناع عن الاستفادة من بعض الأنعام افتراء على الله.

[١٤٣] يفصّل ربنا أنواع النعم الكبيرة والصغيرة ليبين انها جميعا حلال لوحدة الملاك والفائدة والهدف ، فلما ذا يحرم البعض دون الآخر ، هل لان الله قال ذلك ، أم اتباعا لخطوات الشيطان؟!

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ)

الذكر والأنثى.

(وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ)

ذكر الشاة والصخل وأنثاهما.

(مَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ)

من الجنين ، ان هذا التساؤل يزيد الإنسان اهتماما ويستجلي فطرته حتى يحس بعدم الفرق الحقيقي بين هذه الأنواع من نعم الله ، لذلك قال سبحانه :

(نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

اي لا تفرقوا بين الحقائق بأوهامكم ، بل بعلم تتراهنون عليه.

[١٤٤] وكما في الفرش اي الانعام الصغيرة مثل الضأن والمعز ، فكذلك في الحمولة مثل الإبل والبقر لا يمكن التفريق بين ذكره وأنثاه الا بعلم.

(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)

٢١٤

الذكر والأنثى لكل واحد منها.

(قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ)

كلا .. لم يحرم الله أيّا منهما ، إذ لا أحد يشهد بصدق هذه التحريمات.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا)

وبالطبع لا يستطيع أحد أن يدعي هذه الشهادة.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ)

لان هؤلاء يحفرون خطا منحرفا للناس ، ويجعلونهم يظلمون أنفسهم ، ويظلمون الناس آلاف المرات ، وكل سيئات الظلم تكون على عاتق ذلك الذي افترى على الله. مثلا : الذين يفلسفون الطبقية ، ويجعلونها مشروعا. كم يفترون من الإثم؟! إذ أنهم يتسببون في ألوف بل ملايين الجرائم ، أليس كذلك؟!

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

الذين يفترون على الله كذبا ، ولذلك فهم يضلون السبيل القويم ، وهنا لا بد من التذكر بفكرة هي : أن السبب الذي يدعو فريقا من الناس الى اختراع الشرائع الباطلة هو اتباع الشهوة في ظلم الآخرين ، كما ان السبب الذي يدعو الناس الى الالتفاف حول هذا الفريق هو الظلم أيضا ، والظلم الصغير يولد الظلم الكبير الى أن يضلّ الطريق رأسا.

٢١٥

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)

____________________

١٤٦ [الحوايا] : المباعر ، ومفردها حاوية وهي ما يحوي في البطن ما اجتمع واستدار.

٢١٦

الأفق الايجابي

في تشريعات التوحيد

هدى من الآيات :

في مواجهة الانغلاق الذي أصيب به البعض ، فحرموا على أنفسهم الطيبات الا قليلا ذكر القرآن الحكيم هنا أنه ليس تلك المحرمات الجاهلية موجودة في الكتاب ، إنما هي أشياء معدودة ذكرت في الآية وهي الميتة والدم والخنزير والفسق.

بيد أنه حرم الله على بني إسرائيل أنواعا من الطيبات ، وذلك مثل كل ذي ناب أو مخلب ، وشحوم البقر والغنم ، وذلك لأنهم بغوا على بعضهم البعض ، وكلما زاد بغي البشر ضاقت عليه النعم.

والله سبحانه رحيم ، ورحمته واسعة ، ولكنّه في ذات الوقت شديد العقاب ، لا يستطيع المجرمون الفرار من عقابه.

وتأتي هذه الآيات لتؤكد الفكرة السابقة وهي ضرورة الاستقامة على الخط السليم دون زيادة أو نقصان. لأن الأحكام الشرعية مرتبطة بالمصالح الواقعية التي

٢١٧

لا تتغير.

بينات من الآيات :

دود الحرام :

[١٤٥] يزعم البعض أن الدّين معتقل حصين لطاقات البشر ، لا يدعها تنمو وتتكامل ، وأن كل شيء في الدين حرام الا ما استثناه الله ، والله سبحانه ينفي هذه الفكرة الباطلة مرة بعد اخرى.

وفي هذه الآية يشرح الله سبحانه أصل الحلية التامة الا في أشياء معيّنة ، وبذلك يشجع البشر على التمتع بنعم الله ، الا إذا سبّب ضررا بالغاء عليه.

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً)

اي خارجا من الجسم باندفاع ، اما الدم المتبقي في ثنايا اللحم فانه معفو عنه.

(أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ)

بالرغم من ان ظاهره طيب ، ولكن واقعه رجس ، يولد أنواعا من المرض كما يطبع طاعمه ببعض الأخلاق الذميمة.

(أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ)

ان الذبيحة التي تهدي للصنم حرام لأنها جزء من واقع الشرك فلذلك هي فسق وحرام ، ولكن مع كل ذلك فان هذه المحرمات تصبح حلالا في حالة الاضطرار إليها ، والاضطرار يعني : أن يصيب الفرد في حالة تركه لها ضررا كبيرا لا يتحمله ، فليس بضرر ذلك الذي يلحق الظالم حين يترك ظلمه أو يلحق المسرف والمتجاوز

٢١٨

حده حين يعود الى حده ونصابه ، لان الضرر انما يقاس بمعيار الحق القائم على العقل والفطرة ، وتمييز العرف العام ، ولذلك فان معايير الظالمين والبغاة أو المتجاوزين بالسرف والترف لا تعتبر معايير كافية ، ولذلك جاء في تفاسير الصادقين عليهم السلام :

(إن البغاة هم الخارجون على امام الأمة ، والعادون هم : العصاة)

ولا ريب أن هذا واحد من المصاديق لهاتين الكلمتين في حين تشمل الآية كل باغ وعاد ، وبكلمة ان البغي والعدوان في هذه الآية ـ حسب ما يبدو لي ـ مرتبط بالمعيار ، فاذا كان معيار الاضطرار سليما يجوز الاستفادة من هذا القانون والا فلا.

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

مغفرته تتجلى في عدم أخذ من يأكل الميتة اضطرارا بالرغم من حرمته في الواقع ، ورحمته تتجلى في خلقه سائر الطيبات.

ملحقات المحرمات :

[١٤٦] مبدئيا لا يحرم الله الطيبات على البشر ، بل الخبائث ، وهي استثناء وليست أصلا ، وبالتالي فهي معدودة كما عرفنا ، بيد ان ربنا قد حرم وفقا لحكمة معينة طائفة من الطيبات لاسباب خارجية مثل تأديب المجتمعات المائعة والظالمة ، مثلا : حرم الله على اليهود كل ذي ظفر ، وهو الحيوان الذي يستخدم اظافره سلاحا لصيده. مثل السباع ، والطيور ذات المخالب (كالعقاب) وقيل : ان هذه الكلمة تشمل الإبل والأنعام لأنهما وأمثالهما ليست بمنفرج الأصابع.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)

٢١٩

وشمل تحريم ربنا الاستثنائي على بني إسرائيل شحوم البقر والغنم ، الا تلك الشحوم المتراكمة على ظهورها ، أو الموجودة على مقاعدها ، أو تلك الشحوم المختلطة بعظم.

(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)

والسؤال : لماذا حرم الله كل تلك الطيبات عليهم؟

يجيب ربنا : ان بني إسرائيل ظلموا وبغى بعضهم على بعض ، فحرم الله عليهم بعضا من الطيبات ، ويبقى سؤال : لماذا يتسبب البغي في الحرمة؟

والجواب : ان السنن التي نسميها بالانظمة الطبيعية لا تختلف عن الأحكام التشريعة الا في شيء واحد هو أن تلك يجريها ربنا على الكون وعلى البشر قهرا ودون أي تغيير وتبديل ، بينما الأحكام الشرعية. يأمر بها الناس ، ويحذرهم من عاقبة تركها ، لذلك فان هاتين السنّتين الطبيعية والتشريعية تلتقيان في الخطوط العامة ، لأنهما تصدران من منبع واحد ، وبما أن النهاية الطبيعية للبغي في المجتمع هو انحسار النعم عنه وتضييق الخناق عن أبنائه ، فان ذات النهاية يحكم بها الله سبحانه على مجتمع البغي ، وذلك بتحريم طائفة من الطيبات عليه.

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)

ذو الرحمة والبأس :

[١٤٧] ان كل واحد من البشر يتصور الله على شاكلته وحسب مشتهياته ، كما يتخذون ذات الصورة لسائر الحقائق ، والمذنبون من الناس يضخمون في أنفسهم صفة الرحمة والعفو لله دون أن يتذكروا صفات الغضب والبأس والعقاب له سبحانه ،

٢٢٠