من هدى القرآن - ج ٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-06-8
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٣٤

هكذا ترفع المآسي حجب الضلال

هدى من الآيات :

في الدرس السابق ذكّرنا الله بأن النقص ليس في آيات الله ، بل في فهم الآيات والاهتداء عن طريقها الى الحقيقة ، وفي هذا الدرس يبين القرآن : كيف أن البشر قد تتطور حالته ، فيصلح جهاز الاستقبال عنده ، فيهتدي بهذه الآيات التي كان يفكر بها سابقا ، يهتدي بها ذاتها الى الله مما يدل :

أولا : على أن الخلل كان من عند البشر نفسه.

ثانيا : على أن الإنسان كان مخطئا تمام الخطأ حينما كفر بربه. ولكن متى تتطور حالة الإنسان؟

تتطور حالة الإنسان عند ما يواجه الحقيقة عارية ، وبلا غموض في حالات مواجهة شدائد الحياة ، هنالك يدعو الإنسان ربّه وينسى كل أولئك الشركاء المزعومين ، وأساسا الحكمة من بعض الشدائد التي تصيب الناس هي كشف

٦١

الحقائق لهم ، وإعادتهم الى فطرتهم التوحيدية النقيّة ، ولكن كثيرا من الأمم السابقة قست قلوبهم ، فلم تعد تتقبل حتى الصدمات القوية الآتية من الشدائد ، فلا يلبثون بعد انتهاء فترة المصيبة أن يعودوا الى عاداتهم السيئة ، وهناك يستدرجهم الله الجبار ببعض الرخاء حتى يفقدوا كل ما عندهم من وجدان وايمان وهناك يأتيهم العذاب المدمر ، الذي يقطع دابرهم وينهي حياتهم.

بينات من الآيات :

وتنسون ما تشركون :

[٤٠] جاء رجل الى الامام الصادق عليه السلام. يقول : يا ابن رسول الله دلني على ربي. فقال الامام : يا هذا هل ركبت البحر؟ قال : نعم ، وهل انكسرت بك السفينة؟ قال : نعم قال : هل تعلق قلبك بشيء حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال : نعم ، فقال له الامام : ذلك هو الله.

في الحالات العادية ، تتراكم ظلمات الغفلة والتكبر والجهل حول فطرة البشر ، اما حين يجدّ الجد ، ويواجه الخطر الحقيقي ، آنئذ تنحسر الظلمات من حول القلب ، ويتوسل الإنسان بربه (الحق) دون غفلة أو تكبر أو جهل.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

عذاب الله المتمثل في الشدائد ، والساعة المتمثلة في الخطر.

ان كل واحد منا يمر بمثل هذه اللحظات الصعبة التي يكتشف فيها ربه ، ولكن بعضنا فقط يبقى يتذكر تلك اللحظات بعدئذ.

[٤١] نعم هناك يدعو الإنسان ربه ، ويستجيب الله دعاءه ، حينما تقتضي

٦٢

الحكمة ذلك.

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ)

يعني تدعون الله فقط دون غيره من الشركاء.

(فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ)

حين تدعون الله وتتوسلون اليه لبلوغ الهدف.

(إِنْ شاءَ)

الله حسب حكمتة ينقذكم ، مما يدل على ان الله لا يحتمّ عليه الدعاء ، ولا يؤثر فيه ، بل برحمته وحسب حكمته يفعل ما يشاء.

(وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ)

ما تشركون به من أهواء ، وقوى مادية شريرة ، فالإنسان يعبد أهواءه ، يعبد شهوة الراحة في ذاته ، شهوة النزوه ، والجنس والخلود ، ثم يزعم أن قوى الطاغوت توفر له هذه الشهوات ، فيعبد تلك القوى ويصنع لها رموزا مثل الأصنام وما أشبه ، وربما لذلك عبر القرآن الحكيم هنا بكلمة (ما) للدلالة على ان ما تشركون به الله هو من الأشياء التي لا تعقل! وهي تعود بالتالي الى شهوات الإنسان ، تلك الشهوات انما يخضع لها البشر ، ويخضع لمن يملكها لأنها ـ في زعمه ـ تنفعه ، وتحافظ على وجوده وكيانه ، وتحقق تطلعاته ، فإذا جد الجد عرف أن كل تلك الشهوات لا تنفعه شيئا ، وانما خالق البشر ومقدر أموره ومدبر شؤونه هو الذي يكشف ضره ، فينسى كل تلك الشهوات ويتوب الى الله سبحانه.

حكمة الشدائد :

٦٣

من الشدائد البسيطة وحتى الآلام ، التي تصيب البشر هي توعيته بحقائق الأمور بدءا من الشدائد البسيطة وحتى الآلام وإلى أن يصل إلى العذاب فالساعة ، فمثلا الحكمة من الأحساس بالجوع هو التفتيش عن مصدر الغذاء ، والتحرك إليه ، ومن خلال الأحساس والتفتيش والتحرك تنفتح أمامك أبواب المعرفة ، ولو لم يكن البشر يحس بالجوع إذا لما كان يعرف جزء كبيرا من الحياة ، ولم يكن يعرف الزراعة والرّي والصيد .. إلخ ، وكلما كان حصول البشر على الغذاء أسهل كلما كانت معرفته بالحياة أقل ، والألم يجعلك تحس بالحياة بشكل أعمق من ذي قبل إنك لا تعرف أساسا موقع كبدك أو كليتك أو حتى قلبك إلا بعد أن يتألم هذا العضو أو ذاك ، وعندئذ تتحسس ليس فقط بوجود العضو ، وأنما بأهميته أيضا ، وتتشبث به أكثر.

أن المريض أشد تعلقا بالحياة ، وأرهف إحساسا بأهميتها من غيره ، والشدائد في الحياة تكشف نقاط ضعف الإنسان. سواء الفرد أو الامة ، مثلا. الهزيمة تكشف عيوب الامة أكثر مما يكشفه ألف كتاب وكتاب.

ولذلك يذكرنا القرآن هنا ، بأن الهدف من اصابة الإنسان بالمشاكل ، هو نفس الهدف من بعث الرسالات والرسل ، ان الهدف من الرسالة هي توعية الإنسان بحقيقة العبودية المطلقة التي يعيشها ، والتي هي في الواقع مفتاح صلاح الإنسان وقدرته ورفضه الخضوع للجبت والطاغوت ، وكذلك الهدف من الشدائد.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ)

بالشدائد الآتية من ظلم الناس لبعضهم.

(وَالضَّرَّاءِ)

بالشدائد التي مصدرها غضب الطبيعة. إنما أخذهم الله بذلك بعد بعث الرسل ،

٦٤

وربما بسبب عدم انتفاعهم بالرسالات.

أما الهدف فقد كان :

(لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)

[٤٣] وبالرغم مما أخذهم الله به من العذاب فأن أولئك الذين قست قلوبهم ، ولم تستوعب دروس التجربة المرة ، عادوا بعد النكبة الى سابق أعمالهم وعاداتهم السيئة.

(فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا)

اي لماذا لم تلن قلوبهم ، ولم تعد الى حالتها العادية ، حيث تتأثر بالتجارب بعيدا عن نزوة الغرور ، وظلام التكبر.

(وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)

ولم تتفاعل مع الحياة ، وانغلقت على مفاهيم ثابتة جامدة وصخرية ، والسبب قد يكون هو التمحور حول الذات ، وعدم الالتفات الى الحق ، وحين تكون النقطة المركزية في حياة الإنسان هي ذاته ، تصبح حياته بعيدة عن التطور ذلك لأن كل عمل يقوم به الشخص يصبح حسنا لا بشيء ، وانما لأنه هو الذي عمله ، وحتى لو عمل هذا الشخص عملا من دون وعي ، فانه سوف يقدسه لأنّه صدر منه ، ونسب الى ذاته ، وهذا هو الذي يجعلك تحتفظ بالعادات السيئة ، فإذا بك متعصب لها لأنها من صنع ذاتك.

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

ولكن على البشر أن يعرف : أن الأعمال السيئة ليست جزءا من ذاته ، ولا

٦٥

تصبح كذلك حتى ولو صدرت هذه الأعمال منه ، لان الإنسان قد خلق في أحسن تقويم ، وانما الأعمال السيئة هي من عمل الشيطان ومن وحيه ، ومما يزينه للإنسان.

أشراط العذاب :

[٤٤] لقد أتم الله حجته على هذه الفئة ، أرسل إليهم رسالة ورسولا ، وأخذهم بالبأساء والضراء ليكون ذلك رسالة واقعية وعملية لهم ، ولكنهم لم ينتفعوا بواحدة من الحجتين .. وها هي ساعة العذاب ، فكيف يعذبهم الله؟

إن الله يمهّد للانتقام بفتح أبواب الرزق عليهم من كل صوب ، ثم حين يصلون الى مرحلة الإشباع التام ، ولا تبقى في قلوبهم ذرة من ايمان يأتيهم العذاب فجأة.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ)

مما تصوروا انه خير لهم ، ولم يكن خيرا ، بل هو شر عظيم ، ففتح الله عليهم أبواب الطعام ، والجنس والشهرة ، لأنهم لم يتقيدوا بشيء اسمه دين أو ضمير أو نظام ، بل أخذوا يتمتعون بما في الحياة من دون قيد أو شرط. أسرفوا في كل ما هو لذيذ. طيبا كان أو خبيثا ، وأسرفوا في الجنس مشروعا كان أو شذوذا ، وأسرفوا في التظاهر بالصلاح أو الفساد ، ولكن الى متى تبقى موارد الطعام والجنس والشهرة ، وكم هي قدرة البشر على استيعابها؟! بالطبع أن هناك حدودا تنفذ عندها موارد الطبيعة ، وتنهك قدرة البشر على استيعابها ، وهي التي نسميها مرحلة الإشباع ، والتي تنعكس على النفس في حالة (الفرح) أي الشعور بالكمال والغنى والإشباع ، وعندها يكون السقوط المفاجئ.

(حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ)

ويكون السقوط المفاجئ نتيجة تراكمات الإسراف الدائم ، ولكن لحظة

٦٦

السقوط لا يشعر بها المغرور الفرح الا بعدئذ. لذلك عبر القرآن عن حالتهم : بأنهم كانوا آنئذ مبلسين ، وكانوا في ظلام دامس.

أن مثل الامة مثل الشاب الذي يسرف في ـ الطعام والشراب والجنس والبطش والفساد ـ ويستمر لفترة من الوقت حتى يشعر بأن كل لذائذ الدنيا في متناول يده ، وهو لا يدري أنّ أنواعا من المرض قد أحاطت بجسده ، وأن سحبا داكنة من حقد المظلومين ، وأنصار الحق تقترب منه ، وفي لحظة سوداء ، وربما وهو جالس على مائدة الشراب ، ولذائذ الطعام ، والى جانبه فتيات الحب ، وغلمان الشذوذ ، وهو في غمرة من الفرح والإشباع ، فاذا بالشرطة تداهم بيته ، وإذا به يشعر بأنواع الألم وهو في غياهب السجون ، وأذا به في موقع لعنة الناس جميعا ، وأخيرا يسلّم الى حبل المشنقة غير مأسوف عليه.

كذلك الامة التي تنفلت من قيود الدين والأخلاق ، وتعمل بالظلم والبطش وتسرف في كل شيء ، انها تشعر بالغرور والكبرياء ، ولكن في لحظة واحدة يهجم عليها عدوها فيهزمها شر هزيمة ويذيقها الأمرّين.

[٤٥] وحين تنتهي هذه الحولة ينحسر غبار المعركة عن أمة سادت ثم بادت ، ولم يبق منها سوى الذكر السيء.

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

وهذا الحمد ، هو حمد الناس حين يشعرون بأن كابوسا عظيما ارتفع عنهم ، وهو حمد الناس حين يعرفون أن رحمة الله هي التي أنقذتهم من هذا الكابوس بفضله العظيم.

ولو لا رحمة الله الذي أجرى هذه السنة الحكيمة أذا لبقيت الجماهير ترزح تحت نير الطغاة.

٦٧

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)

____________________

٤٦ [يصدفون] : صدف عن الشيء صدوفا إذا مال عنه ، والصدف والصدفة الجانب والناحية ، والصدف كل بناء مرتفع.

٦٨

هل يستوي الأعمى والبصير

هدى من الآيات :

ان الله سبحانه خلق الحياة وجعل فيها الظلمات والنور ، والعذاب والمغفرة ، والشقاء والرفاه ، ثم اعطى البشر مصباح العقل ليهتدي به الى سبيل النور والمغفرة ، والرفاه ، وفي وسع ربنا القدير أن يسلب نعمة العقل ، فيتخبط البشر في سبل الحياة ، كما أنه قادر على أن ينزل عليه العذاب جهرة دون أن يملك البشر له ردّا.

ولكن الله برحمته الواسعة لم يكتف بنعمته العقل ، بل بعث أنبياء مبشرين ومنذرين ووعدوه بأنه ان آمن فان مصيبات الحياة لا تصيبه ، وإلا فان عذاب الله سوف يمسه ويشبع أحاسيسه ألما ورعبا.

وعند هذه النقطة تنتهي وظائف الأنبياء ، فأنهم لم يأتوا ليتخذوا قرارات بديلا عن الناس ، أو يكرهوا الناس على اتباع الحق ، أو ليوفّروا لهم الخير ، كلا. بل انما جاؤوا ليساعدوا الإنسان على الرؤية السليمة ، ثم يكون هو المسؤول عن ذاته. وعلاقة هذا الدرس بما مضى هو بيان أن : الضراعة الى الله لا تختص بحين نزول المصيبة ،

٦٩

بل نحن بحاجة الى الضراعة الى الله في كل حال.

بينات من الآيات :

أسباب الهداية :

[٤٦] لكي نصل الى الغاية ـ أية غاية ـ لا بد ان يتوفر لدينا شرطان :

الاول : أن يكون أمامنا سبيل معبد ينتهي الى تلك الغاية.

والثاني : ان نملك الرؤية الكافية التي نكتشف بها ذلك السبيل ، والله هو الذي سنّ السنن ، وعبّد السبل أمام البشر للوصول الى اهدافه النبيلة ، وهو الذي زود الإنسان بالرؤية الكافية ، اما لو سلبه هذه الرؤية فأنه سوف يصطدم بالعقبات أو يقع في واد سحيق ، وليس فقط يضل الطريق.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ)

السمع جاء مفردا في آيات القرآن. ربما لان ما يسمعه الإنسان أقرب الى العقل ، وأنسب الى المجردات والكليات. خصوصا إذا فسرنا السمع ب (الأقوال) التي نسمعها من الآخرين حول الحقائق ، بينما الأبصار جاء جمعا في القرآن ، ربما لان ما يراه الإنسان متنوع ومختلف ، وأقرب الى الواقعيات الخارجية.

وسواء ما يسمعه البشر وينقل اليه من تجارب الآخرين وعلومهم ، أو ما يراه بنفسه ويحصل عليه من علم وخبرة بصورة مباشرة ، فإنهما نافذتان الى القلب أو (الدماغ) فلو ختم الله على قلب البشر ، وأزال عنه مقاييسه العقلية ، ومسبّقاته الفطرية ، فما ذا يبقى عنده؟ انه سوف يفقد القدرة على تعقل الاحاسيس ، ويتجمد على ما يسمعه أو يراه دون أن يستنبط منهما حقائق جديدة ، أو يستدل بهما الى ما

٧٠

ورائهما من حقائق وواقعيات. انه آنئذ يرى شعلة النار دون أن يعقل أن الشعلة نذير الحرارة ، والحرارة سبيل الاحتراق والانتشار ، وانها لا تنشأ بلا سبب ، وان الذي أشعل النار كانت له دوافعه وأهدافه. كلا .. إنه يرى الشعلة فقط ، وقد يقع فيها ويحترق. كذلك الذي يختم الله على قلبه. يقف في فهم الحقائق عند حد معيّن دون أن يصل الى الجذور البعيدة لها. يرى الفقر دون أن يعرف ان النظام الاقتصادي هو وراء الفقر. يرى المرض دون أن يعرف أن اللامبالاة في الوقاية هي السبب. يرى العجز الحضاري دون أن يهتدي الى ان الطاغوت هو السبب المباشر أو غير المباشر له ، وهكذا يبقى في العذاب أبدا.

(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ)

ان الله يبيّن الآيات بصورة تفصيليّة وواضحة ومع ذلك :

(ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ)

أي أنهم بعد تصريف الآيات وبيانها تراهم يعرضون عنها كأنها لا تهمّهم.

بينما لو فكروا قليلا لأدركوا أن الإله الذي يتضرعون اليه عند ما تضرب سفينتهم الأمواج العاتية التي تحمل في طياتها الموت ، أو عند ما يلفهم التّيه في الصحراء ويستبد بهم خوف الموت ، ان هذا الإله هو الذي وفر لهم هذه الحياة الآمنة ، وأنه لو شاء لسلب الامان من حياتهم ، بل أن كلّ لحظة تمر بهم هي لحظة رعب ، ولو لا أمان الله القادر لسلب منهم رحمته ، وآنئذ يكون أبسط شيء في الحياة سببا في هلاكهم فلما ذا لا يتضرعون إلى ربهم في هذه الأوقات التي يزعمون إنها عادية؟!

[٤٧] أو تكون للإنسان أوقات عادية ، وأخرى استثنائية ، أو لا يحتمل البشر في

٧١

كل لحظة ـ أن يأتيه الموت ـ أو ينزّل عليه عذاب المرض أو المسكنة؟! ولماذا لا؟ أو ليست الحياة مليئة بهذه المفاجآت ، كم لحظة حملت معها رعبا ودمارا. ونحن لم نكن نحسب لها حسابا ، أو كنا نعرفها ولكن دون ان نستطيع مقاومتها ، فلما ذا الغرور إذا؟

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً)

بغتة اي : مفأجاة ، مما يدل على ان علم الإنسان بالحياة علما محدود اما (جهرة) فتدل على العلن ، مما يدل على ان قدرة الإنسان محدودة حتى ولو كان بالغا وشاملا.

(هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ)

إذا كان عذاب الله لا مرد له ، بقدرتنا المحدودة ، اذن كيف نحصل على الامان؟

يجيب القرآن على هذا السؤال ويقول : ان الله حكيم لا يعذب عباده بلا سبب .. إنما يعذب الظالمين. فإذا أحببت تجنب عذاب الله ، فبإمكانك أن تعدل وتستقيم ، ولا تظلم نفسك ولا الآخرين ، حتى تحصل على الأمان.

مهمات الرسل وواجب الناس :

[٤٨] ثم ان الله لا يعذب الظالم مباشرة ودون أن ينذره مسبقا برسالة ورسول ، بيد أنّ البشر قد يخطأ في فهم دور الرسول ، فيزعم أن الرسول إنما يأتي ليكون مسئولا بدلا عنهم ، أو ليجبرهم على الهدى ، أو حتى ليؤمّن لهم عمليا كل وسائل السعادة ، بيد أن الله سبحانه يفنّد هذا الزعم قائلا :

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)

٧٢

والهدف من بعثهم هو توفير وسيلة الامان في النفوس وفي الواقع.

(فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

لا خوف لهم من المستقبل. مما يدل على وجود حالة السلام في أنفس الذين يملكون الايمان والعمل الصالح ، ولا هم يحزنون من الماضي مما يدل على وجود السلام في الواقع الخارجي ، حيث لا يصيبهم ما يحزنون بسببه.

[٤٩] تعرضنا للبشارة ، أمّا الإنذار فيتلخص في عاقبة الذين يكذبون بآيات الله ، ولا يهتدون الى الحقائق بالرغم من وجود دلائل واضحة تدل عليها ، وهؤلاء مصيرهم العذاب.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

ولم يقل القرآن بما كانوا يكذبون ربما لأن التكذيب قد لا يكون وحده سببا للعذاب ، بل الفسق الذي ينتهي اليه التكذيب هو السبب المباشر للعذاب ، والفسق هو تجاوز احكام الله.

حكمة الرسالات :

[٥٠] الهدف من بعث الرسل ليس سلب المسؤولية عن الناس ، وإلقائها على عاتق الرسل ، كما كان يزعم البعض ، وقد تطرف فريق من الناس فزعموا أن أنبياء الله مكلفون بتوفير السعادة لهم والرفاه ، وأنه لو لم يكن النبي مالكا للذهب والفضة فسوف لا تكتمل نبوته ، بينما القرآن بيّن أن الهدف من بعث الرسل هو توفير الرؤية للإنسان ، وعن طريق الرؤية الواضحة يكون البشر قادرا على معرفة الطريق السليم ، وحين يسير فيه يصل الى الفلاح :

٧٣

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ)

ان خزائن الله موجودة في الأرض وفي الإنسان نفسه.

(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ)

إلّا بقدر ما يعلّمني الله بحكمته ، بل العلم يحصل لكم بالتعلم وتزكية النفس.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ)

حتى أقوم بالخارق للعادة الا في حدود تبليغ الرسالة ، فأنا بدوري محتاج الى الطعام والشراب وسوف أموت.

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ)

فما عندي هو من عند الله ، وذلك عن طريق الوحي ، فلو كنتم أنتم أيضا تستفيدون من ذلك الوحي. إذن لاصبحتم سعداء. ولاني اتبع ما يوحى إليّ فأني أسير في الحياة بصيرا ، فأعرف سنن الحياة وأتبعها ، فأسعد في الحياة.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)

ولأنه لا يستوي الأعمى والبصير ، فان نعمة البصر هي أفضل نعمة ، ومن أراد البصر فليتفكر ، فأن الفكر مرآة صافية.

٧٤

وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)

٧٥

حقيقة الايمان وميزات المؤمنين

هدى من الآيات :

من الذي يتقي ربه فيصبح صالحا؟ إنه الذي يوجه خوفه نحو المصدر الحقيقي للخوف وهو الله. حيث يحشر اليه الإنسان وحيدا ، دون أن ينفعه هنالك ما يتخذه من دونه أولياء ، أو شفعاء.

الا أن هناك رجالا يحجبهم عن الحقيقة التفاف البسطاء والفقراء حولها ، يقولون : إما أن يطرد هؤلاء أو لا نقبل بالحقيقة ، والقرآن نهى عن طرد أهل الحق لان ذلك ظلم ، علما بأن حساب كل واحد على نفسه.

ان الله امتحن الناس في الدنيا بأنواع التنافس ومنها أنه امتحنهم ببعضهم فاذا بالمؤمنين المسارعين الى الحق ينافسهم المستكبرون الذين يعادون الفقراء بصفة دائمة ، وبما أن المؤمنين يبادرون الى الايمان ، فان المستكبرين يتخذون ذلك ذريعة لعدم الايمان بالله ، وعلى الرسول أن يخفض جناح الرحمة للمؤمنين ، ويعدهم بالمغفرة.

٧٦

هذه هي الآيات التي يفصّلها الله سبحانه لكي يتميز طريق المؤمنين عن طريق الكافرين.

بينات من الآيات :

أصحاب الرسالة :

[٥١] ان هناك شريحة خاصة في المجتمع هي التي تستجيب لرسالة السماء ، وهم الذين يخافون من العاقبة ، فعلى الرسول أن يفتش عنهم وينذرهم من عاقبة الضلالة دون النظر الى طبقتهم ، أو لونهم أو مستوى ثقافتهم.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ)

هؤلاء الأولياء الذين يتخذهم البشر في الدنيا قادة ، ويحتمون الى ظلالهم لا ينفعونه في الآخرة شيئا ، كما أنه في الآخرة ليس هناك من يستطيع ان يفرض على الله سبحانه إرادته ، فلا شفيع من دون إذنه ، وما دام الله حكما مطلقا ، فيجب أن يخشاه البشر من بعد أن ينذر ، والهدف من الخوف ليس الجمود والانسحاب بل الهدف هو التقوى.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)

وهو العمل الايجابي في سبيل الخلاص من العاقبة السوء في الآخرة.

[٥٢] والمؤمنون يشكلون حزبا واحدا مقياسه العمل الصالح ، من دون أثر للفوارق المادية فيه ، وعلى الرسول ان يكون علاقات مبدئية مع افراد هذا الحزب ، والّا يطرد واحدا منهم بأي اسم كان.

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)

٧٧

فما داموا متوجهين الى ربهم فان الاخطاء الصغيرة التي يرتكبونها بسبب عدم وضوح الرؤية عندهم ، أو عدم علمهم بالأحكام الشرعية فانها سوف .. تغتفر.

(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)

ان هذه الاخطاء البسيطة لا تسجل في حسابك أنت ، وليس لأحد ان يحاسبك عليها بمجرد أنك تقرّبهم إليك.

(فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)

ان طرد هؤلاء يعتبر ظلما لهم ، ولا يبرر هذا الطرد أن بعض المؤمنين القدماء أو بعض المتكبرين ينتقدونك أو حتى يبتعدون عن الدين بهذا السبب.

حقيقة الانتماء :

[٥٣] والتنافس بين الناس متجذر في فطرتهم حتى في الدين ، حيث يسعى كل فريق أن يكون هو الأقرب الى صاحب الرسالة ، وأن يكون الفريق الثاني الأبعد ، ولذلك فان كثيرا من الناس يبتعدون عن الدين فقط لهذا السبب ، لذلك حذر القرآن الحكيم من هذا الأمر وقال :

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا)

فكانوا هم السابقين الى اعتناق الدين الجديد؟!

ويجيب الله على هذا السؤال الذي يطفح بالاستنكار.

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)

نعم ان الله منّ على هؤلاء بأن وفقهم لقبول الرسالة ، ولكن ليس عبثا ، بل لأنه

٧٨

عرف أنهم أشكر من غيرهم لنعمة الرسالة ، وأي فرد كان شاكرا لله وعارفا بحق الرسالة فسوف يوفقه الله سبحانه أيضا.

[٥٤] ان انتماء البسطاء الى الرسالة لا يعني الغض عن سيئاتهم ، بل الإغماض عن تلك السوابق ، التي ارتكبوها بجهالة ، وقبل أن يصل مستوى وعيهم وايمانهم وتربيتهم حدا كافيا يردعهم عنها ، أما في المستقبل فليس عليهم التوبة فقط ، وانما إصلاح أنفسهم أيضا.

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ)

أي انكم في أمان ، لا خوف عليكم.

(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وهذه هي الرحمة التي كتبها الله على نفسه ، وهذا هو السلام ، فالإسلام يجبّ ما قبله ، ويبدأ الفرد معه حياة جديدة.

[٥٥] ومع العفو العام الذي تقتضيه هذه الرحمة الربانية الشاملة ، يتميز المجرمون المعاندون عن الجاهلين. حيث أن الفرد الذي يستمر في الخيانة والظّلم ، ولا يصلح نفسه بعد العفو العام فليستعد للعقوبة.

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)

الذين يختارون طريقا غير طريق الله بعمد وسبق إصرار.

٧٩

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)

٨٠