دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

وَأَهْلَها) (١) ـ فإننا نسلم أنّها استحقت ذلك فعلا : (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) (٢) ـ حينئذ يثور أمامنا سؤال هو : ما ذا بقي إذن لجزائهم؟ .. وكيف نفسر حقيقة أنّ القرآن لا يدخر مدحا إلّا وجهه إليهم ، ولا وعدا حسنا إلّا أعده لهم؟ ..

هنا تظهر بكل وضوح «المناقضة» بين «الجهد» ، و«الإنبعاث التّلقائي».

فأمّا القائلون بالقيمة الذاتية وغير المشروطة للجهد فربما أرادوا أن يلطفوا من حدة رأيهم ، فيقترحوا علينا صورة من الإحتكام. ويقولون لنا : إنّ غيبة الجهد في مواجهة شهوة مستبعدة لا يضعف الخلق ، بشرط أن يبقى هذا الجهد في حالة تحفز ، وحركة لمجاهدة شهوات أخرى باقية ، ولا يحدث إلّا في الحالة القصوى ، ـ عند ما تقهر جميع الأهواء الفاسدة ـ أن تصبح «الأخلاقية» غير ذات موضوع ، لأنّها سوف تخلي مكانها حينئذ «للقداسة».

هذا الحل لا يبدو لنا مقنعا :

أوّلا : لأنّ النّصوص لا تفرق بين نفس أعفيت من هذا الصّراع إعفاء كليا ، وأخرى أعفيت منه جزئيا ، وليس هذا فحسب ، بل يبدو أنّها تضفي أعلى القيم على النّفس الّتي تبغض الرّذائل كلّها ، وتمقتها : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) (٣).

ومن ناحية أخرى فإنّ الصّيغة ، على الرّغم من تلطيفها ، قد اقتبست كثيرا من المبدأ المتناقض ، الّذي بنيت عليه الصّيغة القديمة ، فهي تنظر دائما إلى الجانب

__________________

(١) الفتح : ٢٦.

(٢) الحجرات : ٨.

(٣) الحجرات : ٧.

٧٨١

«غير المهذب» من النّفس ؛ فلا خلق إلّا بقدر ما يكون هناك من شرور ، يجب مجاهدتها ، فبين الأخلاقية والجهد «الدّفاعي» علاقة وثيقة إن لم يكونا شيئا واحدا.

وأمّا حلّنا فشيء آخر تماما.

ذلك أننا ـ من ناحية ـ نبقي للنصوص هدفها الشّامل ، فنحن نرى أنّ النّصر ، مهما تراحب مداه ، وأية كانت علته ، يمنح النّفس المتحررة من أدرانها أجرا أعلى بالنسبة إلى النّصر الّذي يظل هدفا لإغراءات الشّر المتحفزة.

وبدلا من أن يسير تقديرنا متوازيا مع مشقة المقاومة يجب أن يزيد كلّما نقصت هذه المشقة. فالقول الحقّ في نظرنا هو القول الّذي يقرر علاقة عكسية بين القيمة ، وضرورة الجهد المحارب ، فالقيمة مرتبطة بتقهقر هذه الضّرورة ، لا بتقدمها.

ولكنا ، في مقابل ذلك ، لا نقفل حلقة الأخلاقية بعد هذا الإنتصار ، لأننا ، بدلا من أن نوفق بينها وبين جانب واحد من نشاطنا ، نحدد لها «مجالين» ، ثانيهما ليس أزهدهما قيمة ، فبعد أن نصارع ضد الظّلام ، يواجهنا الصّراع في النّور ، وكلّ شهوة نحكمها هي عقبة نجتازها ، ونير ننزعه ، ودرجة من الحرية والخصوبة نرتقيها.

فمنذ أن تصبح الإرادة الطّيبة لا يناوئها عدوها ، وحين لا تصبح هنا ضرورة للجهد المكافح ، «فإنّ جهدا آخر يطرح نفسه ، ويفرضها». فالوقت ، والقوة اللّذان كانا مخصصين لأعمال «الهدم» وإزالة الأنقاض سوف يدخران منذئذ ، إلى أن يصبحا أعظم قدرا ، وأكثر استجماعا ، لأعمال «الإنتاج ، والبناء».

٧٨٢

لقد عرفت الأخلاقية أحيانا بأنّها : «فن السّيطرة على الأهواء» ، وهذا التّعريف ناقص ، لأنّه لا يعبر إلّا عن الجانب السّلبي ، والوجه الأدنى قيمة من العمل ، بل إنّه في رأينا مرحلة تمهيدية. فالأخلاق بالمعنى الكامل للكلمة هي أيضا ، وبصفة خاصة مشروع لتحقيق القيم الإيجابية ، وصيغة أمرها المبدئي ليست : (كفّ نفسك عن الشّر) ، بل هي : (افعل الخير). وكلّ ما في الأمر أننا نجد أنفسنا أحيانا ، وبشكل ضمني ، مضطرين إلى أن نوجه هجومنا ضد العدو ، الّذي يروم تحويل أنظارنا عن هدفنا الأساسي.

وحسبنا لكي نقتنع بهذا أن نقرأ هذا التّدرج في الوصايا الإسلاميّة :

فعن أبي موسى الأشعري قال : قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على كلّ مسلم صدقة ، قالوا : فإن لم يجد؟ قال : فيعمل بيديه ، فينفع نفسه ويتصدق. قالوا : فإن لم يستطع ، (أو لم يفعل)؟ قال : فيعين ذا الحاجة الملهوف. قالوا : فإن لم يفعل؟ .. قال : فيأمر بالخير (أو قال : بالمعروف). قالوا : فإن لم يفعل؟ قال : فيمسك عن الشّرّ ، فإنّه له صدقة» (١).

هذا ومن الأمور الشّائعة تشبيه الأخلاق بالطب ، فأحدهما للنفس من حيث كان الآخر للبدن.

وإذا كان فن الطّب لا يكتفي بأن يكون موضوعه أن يعالج الحالة المرضية

__________________

(١) هكذا الحديث كما جاء في صحيح البخاري : ٢ / ٥٢٤ ح ١٣٧٦ و : ٥ / ٢٢٤١ ح ٥٦٧٦ ، وفيما ذكره المؤلف في الهامش بعض إختلافات. انظر ، شعب الإيمان : ٣ / ٢٠٣ ح ٣٣٢٦ ، الرّسالة السّعدية للعلّامة الحلي : ١٥٧ ، الأدب المفرد : ١ / ٨٨ ح ٢٢٥ ، مستدرك الوسائل : ٧ / ٢٤٢ ، صحيح مسلم : ٢ / ٦٩٩ ح ١٠٠٨ ، سنن البيهقى الكبرى : ٤ / ١٨٨ ح ٧٦١٠ و : ١٠ / ٩٤ ، السّنن الكبرى : ٢ / ٣٥ ح ٢٣١٨ ، مسند أحمد : ٤ / ٣٩٥ ، سنن النّسائي (المجتبى) : ٥ / ٦٤ ح ٢٥٣٨ ، عوالي اللئالي : ١ / ٣٦٩.

٧٨٣

للجسم ، كيما يوفر لها الصّحة ، بل يهتم أيضا ، وبأوفى قدر ، بالحالة العادية ، من أجل صونها ، وتحسينها ، فإنّ مهمة مماثلة ينبغي أن تناط بطب النّفوس : فمن واجبه أن يصف لكياننا الجواني نظام التّغذية ، وطريقة اتباعه لتحقيق أنسب الظّروف لتنمية هذا الكيان.

وهكذا يأتي (الجهد المبدع) فوق (جهد المدافعة) ، وبعد أن حددنا موقف القرآن حيال جهد المدافعة ، يجب أن نرى الآن موقفه من جهد الإبداع.

ب ـ الجهد المبدع

لنفترض الآن أنّ أحد ميولنا السّيئة ، أو كثيرا منها ، أو كلّها ـ قد انزاح من وجودنا الأخلاقي ، إننا نكون بذلك قد حققنا تقدما. وكلّما تخلص حقل عملنا من أعشابه الضّارة ، أصبح أكثر قابلية للزراعة. ومع ذلك يجب ألا نظن أنّه قد أصبح ـ للحال ـ صالحا ، لأنّ تنحية الإتجاهات الضّارة ليس معناها خلق الإتجاهات النّافعة بالضرورة.

ولذلك يجب ألا نبقى في حالة اللامبالاة ، والحياد ، حيال ما يجب غرسه ، فبعد أن ننزع الأعشاب الضّارة يجب علينا أن نبحث عن البذور الجديدة. فأمّا إذا إلتزمنا موقفا محايدا في هذا الصّدد فإنّ هذا الموقف يكون ضد الأخلاق.

ولنفترض كذلك أنّ بعض الميول الصّالحة الرّاسخة تحتل لدينا الآن المكان الأوّل ، فتلك ولا شك خطوة جديدة ، تجعلنا أكثر تأهلا للأخلاقية ، ولكنا لا نكون بعد في صميم أرضها.

في هذه المرحلة يتمثل الخير لنا على أنّه الأجدر ، أو الأفضل ، ولكنا لم نترك بعد مجال النّزوع. وشتان بين أن «ننزع» إلى شيء ، وأن «نريد» هذا الشّيء ،

٧٨٤

فالعمل الأخلاقي الأوّل هو الإرادة ، على وجه الخصوص. وليس المراد فقط إرادة (الخير) من حيث هو مفهوم عام ، يحوطه الغموض وعدم التّحديد ، مما تحتويه العموميات ، بل هو إرادة هذا الخير ، أو ذاك ، محدّدا معرّفا بكيفه ، وكمه ، وغايته ، ووسائله ، ومكانه ، وزمانه.

ولكن بأي معنى يمكن أن نتحدث هنا عن العمل النّشط؟

ـ نستطيع أن نميز «ثلاثة معان» : فهو يتمثل «أوّلا» في «بحث جاد» مستبعدا كلّ تراخ ، عن ذلك الحل المعيّن الّذي يجب أن نأخذ به ، فما ينبغي أن نكل أمر تحديد موضوع إرادتنا إلى تصاريف الطّبيعة الخارجية ، ولا إلى حركات فطرتنا الدّاخلية. وليس دورنا الأخلاقي أن نقف متفرجين على ما يحدث أمامنا ، أو في داخلنا ، ولا أن ننقاد انقيادا آليا للحواس ، أو العواطف الجامحة. بل ينبغي على العكس أن نسمو فوق جميع الإعتبارات الباطنة ، والظّاهرة ، وأن ننظر من عل إلى كلّ الحلول الممكنة ، لنجري إختيارنا واضحا جليا ، وذلك في الواقع هو الجانب الّذي يختص بشخص الإنسان ، كعامل حرّ ، ومستقل ، نسبيا.

وحتّى لو أننا إخترنا هذا الحل ، أو ذاك من الحلول المقترحة دون أن نضيف إليه أي تعديل ، فإننا حين نوافق عليه ، وندمغه بطابع شخصيتنا ، أو ـ في كلمة واحدة ـ حين نتبناه ، حينئذ فقط نستحق أن نعتبر أخلاقيا صانعي أعمالنا.

والقرآن الكريم ، فيما خلا النّصوص الّتي تذكرنا بواجباتنا الخاصة ، ما زال يؤكد أهمية هذا الواجب العام الّذي يضم كلّ الواجبات الأخرى ، فهو يستثير همتنا دون تحديد ، مستعملا الفعل (عمل) في حالة اللزوم ، ويصوغ لذلك أوامر

٧٨٥

وعظات يكررها ، فيقول : (اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) (١) (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٢).

إنّ القدرية الإتكالية هي العدو الأوّل للأخلاق الإسلاميّة ، ونحن ندعم رأينا في هذا الموضوع ، بالواقعة التّالية الّتي رواها أكبر إثنين من المحدثين (هما البخاري ، ومسلم) ، فقد روى البخاري عن محمّد بن بشار ، قال : حدثنا غندر ، حدثنا شعبة عن منصور ، والأعمش سمعا سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرّحمن عن عليّ رضى الله عنه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنّه كان في جنازة ، فأخذ عودا ، فجعل ينكت في الأرض ، فقال : ما منكم من أحد إلّا كتب مقعده من النّار ، أو من الجنّة. قالوا : ألا نتّكل؟ قال : اعملوا ، فكل ميسّر» (٣) ، ثمّ تلا قوله تبارك وتعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (٤).

هذه الدّرجة الأولية من الجهد لا بد منها للأخلاقية ، فهي روحها ، وجوهرها ، فمن وضع نفسه في الدّرجة الأدنى من ذلك مباشرة فإنّه يتخلى ويتنازل عن

__________________

(١) التّوبة : ١٠٥.

(٢) آل عمران : ١٣٦.

(٣) انظر ، صحيح البخاري : ٤ / ١٨٩٠ ح ٤٦٦١ و ٤٦٦٦ و : ٥ / ٢٢٩٥ ح ٥٨٦٣ و : ٦ / ٢٤٣٥ ح ٦٢٣١ و ٧١١٣ ، وفي حديث آخر : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» ، وقد خلط المؤلف بين الحديثين على ما في البخاري ، وكذا في مسلم : ٤ / ٢٠٣٩ ح ٢٦٤٧ و ٢٦٤٦ ، بحار الأنوار : ٦٤ / ١١٩ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٤٥ ح ٣٣٤ ، الأحاديث المختارة : ١ / ٣٠٥ ح ١٩٥ ، مسند أبي يعلى : ١ / ٤٥٤ ح ٦١٠ ، توحيد الشّيخ الصّدوق : ٣٥٦ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٤٤٥ ح ٢١٣٦ ، عوالي اللئالي : ٤ / ٢٢ ، السّنن الكبرى : ٦ / ٥١٧ ح ١١٦٧٩ ، مسند أحمد : ١ / ١٣٢ ح ١١١٠ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٣٠ ح ٧٨.

(٤) الليل : ٥ ـ ١٠.

٧٨٦

كرامته كإنسان. ولكي نستعمل تعبيرا من تعبيرات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نقول : إنّ عدم وجود هذه الدّرجة الأولية لا يسمى ضعفا ، بل هو «عجز» حقيقي ، وذلك وارد في قول الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة : «أحرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ، ولا تعجز» (١).

بيد أنّ للجهد المبدع «معنى ثانيا» ، وهو لا ينحصر في إختيار إرادي ، أيّا كان نوعه ، بل في «إختيار صالح». ولا ريب أنّه إذا كان بحثنا ـ على سبيل الإفتراض ـ قد اتجه من قبل نحو الخير ، فإنّ جميع الحلول الّتي نحصل عليها سوف تبدو لنا صالحة. ومع ذلك فليس كلّ ما يستهدف خيرا هو بالضرورة صالح في ذاته ، ومشروعية الغاية لا تعفي من مشروعية وسائلها ، فلكي يكون الحل المتصور مقبولا لا يكفي أن يستهدف الخير ، بل يجب كذلك أن يستهلم الشّرع ، وأن يتطابق مع قواعده ، في بنائه ذاته. ولقد يحدث في الواقع أن يكون أحد الحلول كافيا جدا ليوصف بأنّه صالح ، وأن يكون حل آخر أقل من أن يستحق هذا الوصف.

ولنأخذ على ذلك مثال (الصّدقة) ، فلا شيء أوضح منها ، ولا أكثر اشتراكا بين جميع الضّمائر ، طالما حملت على معناها العام. ولكن متى طلبنا بدقة ما يريد

__________________

(١) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / ٢٠٥٢ ح ٢٦٦٤ ، ونص الحديث : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضّعيف ، وفي كلّ خير ، احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ، ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أنّي فعلت كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله ، وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشّيطان». (المعرب). وانظر ، صحيح ابن حبّان : ١٣ / ٢٨ ح ٥٧٢١ ، سنن البيهقي الكبرى : ١٠ / ٨٩ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٣١ ح ٧٩ ، مسند أحمد : ٢ / ٣٦٦ ح ٨٧٧٧ ، مسند أبي يعلى : ١١ / ١٢٤ ح ٦٢٥١ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٤ / ١٨٧ ح ٦٥٨٠.

٧٨٧

كلّ فرد أن يصنعه بصورة حسية في هذا المجال ، كيما يفي بتكاليفه ـ فإننا نقع في أكثر التّعريفات تضاربا ، ذلك أنّ المساعدة المالية الّتي يريد المتصدقون أن يقدموها للفقراء قد تختلف ، على ما لا يحصى من الدّرجات ، تبعا لكرمهم ، وابتداء من الفلس ، إلى حدّ هبة الثّروة بأكملها.

ولكن الشّرع الأخلاقي ، على الأقل في لغة الإسلام ، لم يدع الأمور تجري في أعنة الفوضى ، بل لقد أقر إجراء ، وثبت حدودا. فهو ـ من ناحية ـ قد أقر حدا أدنى معونة سنوية قدرها (١ ـ ٢٢ خ) من الثّروة النّقدية و(٥ خ أو ١٠ خ) من المحصول (تبعا لطريقة الرّي) وهو من ناحية أخرى قد جعل ثلث الثّروة الكلية حدا أقصى ، من حق الإنسان ، عند الوصية ، أن يمنحه لآخر ، من غير ورثته الشّرعيين.

فواجب المؤمن محدد على هذا النّحو : أن يتحاشى الطّرفين المحرمين ، فلا يقنع بقدر من المال أقل من الحد الأدنى الواجب ، ولا يتجاوز الحد الأقصى المباح.

وإذا كان المجال هنا قد اهتم بالإعتبارات الكمية ، فهناك مجالات أخرى تضع في الإعتبار الأمور الّتي تتصل بالكيفية ، وبالهدف ، وبالزمان ، وبالمكان .. وكلّها شروط بنائية ، أو تحتمها الظّروف ، ويجب أن تتحقق لتنشيء ما قد تعتبره الأخلاق الإسلاميّة إختيارا صالحا. فالعمل الّذي ينعدم فيه أحد هذه العناصر الجوهرية يسقط بنفس الأثر في حمأة الشّذوذ.

ولقد نجد في هذه التّنظيمات بعض الجور على الضّمائر الفردية ، بحيث لا تترك شيئا لإختيارها الحرّ ، ولسوف نرى فيما بعد مدى حرية التّصرف

٧٨٨

المتروكة لهذا الإختيار.

بيد أنّه ليس من الصّعب أن نلاحظ أنّ القاعدة لم تحل كلّ مشكلة ، وهي لا تستطيع مطلقا أن تحل كلّ مشكلة ، وذلك حين لا نتجاوز الإطار المقيد للحد الأدنى المقبول.

ونعود إلى نفس المثال ، لنجد أنّه يبقى علينا أن نختار الأشخاص الّذين لهم الحقّ كلّ الحقّ في مساعدتنا ، والطّريقة الّتي نعطيهم بها (وعلى سبيل المثال : سرا ، أو علانية) ، وأن نراعي كذلك كيفية عطائنا ، وبخاصة حين يكون عينيا.

وبإختصار ، كلّما خضنا في التّجربة الحسية وجدنا أنّ بديلا يفرض نفسه دائما على إختيارنا ، دون أن نخرج ـ مع ذلك ـ عن واجبنا الدّقيق.

وأخيرا فلنتناول «الدّرجة الثّالثة» من الجهد ، فعند ما نريد حل مشكلة أخلاقية يتمثل لأعيننا كثير من الحلول ، كلّها صالحة ، على وجه التّحقيق ، وقد يحدث غالبا ألا يكون صلاحها بدرجة متساوية ، فمنها ما تتوفر فيه الشّروط الأولية للواجب ، توفرا كاملا ، ومنها ما هو أكثر ، أو أقل جدارة. و«البحث عن الأفضل» هو ما ينشده الجهد المبدع في درجته الثّالثة. فهل هذا البحث عن «الأفضل» هو أيضا مما تلح الأخلاق القرآنية في طلبه مثلما تلح في طلب «الخير» دون زيادة؟ ...

من المحال علينا أن نجيب بالنفي ، فالقرآن ما يزال في الواقع يدعو معتنقيه إلى هذا النّوع من الجهد ، ويوصيهم به ، ومن ذلك قول الله تعالى.

(فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ

٧٨٩

وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١) ، وقوله : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (٢) ، وقوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (٣) وقوله : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٤). وهي آيات تريد أن تقول : إنّ الّذين كان لهم التّفوق الأخلاقي على الأرض سوف يكونون أوّل من يلقاهم الله يوم القيامة.

وأخيرا نقرأ في الأحاديث الصّحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه القولة الجميلة : «إنّ الله تعالى يحبّ معالي الأمور وأشرافها ، ويكره سفسافها» (٥).

وعلى هذا النّسق نجد مثالا ملموسا في واقعة تأريخية مشهورة ، فنحن نعلم الظّروف الّتي عزم فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته على أن يثأروا من المشركين في مكّة لأوّل مرة ، أولئك الّذين لم يقتصروا على أن أكرهوا المسلمين على ترك بلدهم ، واستولوا على أموالهم ، وديارهم المهجورة ، بل إنّهم دأبوا على اضطهاد المستضعفين الّذين لم يستطيعوا الهجرة.

__________________

(١) الزّمر : ١٧ ـ ١٨.

(٢) الزّمر : ٥٥.

(٣) المائدة : ٤٨.

(٤) الواقعة : ١٠ ـ ١١.

(٥) ذكر المؤلف هذا الحديث : (إنّ الله ... يحبّ معالي الأخلاق ، ويكره سفساقها) وأحال إلى الجامع الصّغير للسيوطي : ١ / ٧٥ ، الّذي نقلنا عنه النّص كما أثبتناه. (المعرب). انظر ، المعجم الأوسط : ٣ / ٢١٠ ح ٢٩٤٠ و : ٧ / ٧٨ ح ٦٩٠٦ ، وسائل الشّيعة : ١٧ / ٧٣ ، المعجم الكبير : ٣ / ٣ / ١٣١ ح ٢٨٩٤ ، عوالي اللئالي : ١ / ٦٧ ، تأويل مختلف الحديث : ١ / ٢٧٠ ، مستدرك الوسائل : ٤ / ٢٤٣ ، شعب الإيمان : ٢ / ١٥٠ ح ١٠٧٦ ، بحار الأنوار : ٧٢ / ١٣٧ ، فيض القدير : ١ / ١٩٤ ، كتاب النّوادر للراوندي : ٩٨ ، كشف الخفاء : ١ / ٢٨٤ ح ٧٤٣ ، الفصول المهمة للحر العاملي : ٣٨٧ ، المغني : ٧ / ٢١٩ ، والسّفاف : الرّدىء من كلّ شىء ، والأمر الحقير ، وكلّ عمل دون الأحكام. انظر ، لسان العرب ، مادة سفف : ٩ / ١٥٥.

٧٩٠

وقد خطرت للمسلمين المهاجرين إلى المدينة ، وسيلتان لإستنقاذ إخوانهم المحتجزين بمكّة ، ولتحطيم كبرياء المعتدين ، فإمّا أن يتصدوا لقافلة تجاراتهم لدى عودتها من الشّام ، وإمّا أن يأخذوا بزمام المبادرة فيلاقوا جحافلهم الّتي تفوق عدد المسلمين ثلاث مرات ، والّتي توفر لها الكثير من العدة ، والسّلاح ، وكانت قد سارت إليهم فعلا ، واستشار النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، قائلا : «إنّ الله وعدني إحدى الطّائفتين ، العير ، أو النّفير» ، وقد مال الإتجاه العام أوّل الأمر إلى الحل الأقل خطرا ، والأكثر فائدة ، ولكن الله عزوجل كان يريد أكثر الحلول تأثيرا ، وأعظمها شرفا ، وأقدرها على حسم النّزاع بين الحقّ ، والباطل ، وقد كان ، وهو ما سجلته الآية الكريمة : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (١).

وهكذا يدعو القرآن المؤمنين إلى أن يبتغوا في سلم الأعمال أسماها وأقواها تأثيرا.

والسّؤال الّذي يطرح نفسه الآن هو : هو إلى أي مدى يطلب منا هذا الجهد الأرفع؟. وهل هو يطلب بنفس الصّرامة المتمثلة في الدّرجتين السّابقتين؟

نعم ، ولا ريب ، عند ما تكون إحدى القيم الرّفيعة في خطر ، ولا يوجد لصونها والمحافظة عليها من وسيلة أمام الإنسان إلّا أن يجاهد بكل قواه ، ويستنفد كلّ موارده.

__________________

(١) الأنفال : ٧ ـ ٨.

٧٩١

وأعظم دلائل الإيمان ـ كما رأينا ـ هو التّضحية الّتي يقدمها المؤمن عن طواعية ، وحرية ، وهو بذل النّفس ، حتّى النّفس ، من أجل المثل العليا الّتي تعلو عليها.

ولكن ، هل من الممكن في الظّروف العادية أن نجيب بالإيجاب ، بكلّ دقته ، وصرامته؟.

لا نظن ذلك ، لأنّ معناه ، أوّلا ، أننا نلغي فكرة الدّرجة من تقديراتنا الأخلاقية ، وقد يصبح مجال العمل ضيقا شديد الضّيق ، إلى حدّ ألّا يسمح إلّا بعمل واحد لا يختلف مطلقا بالزيادة ، أو النّقصان. ولسوف نجد أنّ الجهد الكريم الّذي قد يقف على بعد خطوات دون الغاية المرجوة ، سوف يوصم بنفس القدر من اللاأخلاقية الّتي يوصم بها أي عميل بليد ، أو متوسط ، أو ضعيف. بل إنّ الفضيلة نفسها سوف تكون مفهوما خياليا ، لا وجود له إلّا في عالم الأساطير. ذلك ، أنّه إذا كان ما ندعوه بالممكن الأفضل يعني هذا الحدّ المحدود للقدرة الإنسانية فلسوف يختلط لا محالة بما هو فوق الإنساني ، أو بالأحرى ، بما هو لا إنساني. فلكي يتأكد الإنسان من أنّه استعمل كلّ قواه يصبح دليله الوحيد أن ينتحر بإستهلاك نفسه. وبهذا نرى إلى أية استحالة يقودنا فرض كهذا.

أمّا موقف القرآن فجدّ مختلف عن هذا. فهو من ناحية يجعل فكرة (الكمال) ما بين الإنهماك غير المعقول ، والجهد المتوسط.

وهو من ناحية أخرى ، مع تشجيعه النّاس على أن يطلبوا الأفضل ، يزكي ، ويستر بلطفه أهل الصّلاح الطّيبين جميعا ، ضعفاء كانوا ، أو أقوياء. ومن أجل

٧٩٢

هذا وجدناه ـ بعد أن يقيس المسافة بين المجاهد ، الّذي يبذل نفسه ، وماله ، والخالف الّذي يبقى في المؤخرة ، وبعد أن يعلن أفضلية المجاهد في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) (١) ، إذا به يستدرك قائلا : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) (٢).

وهذه المقارنة ذاتها ، بل ونفس التّقدير ، بين منفقين ، أحدهما بادر بالإنفاق في الظّروف الشّاقة ، على حين جاء الآخر من بعد ، عند ما تضاءلت المشقات كثيرا : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣).

ومن هنا ينبع قانون عام ذكره النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «المؤمن القويّ خير ، وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف ، وفي كلّ خير» (٤).

ومن هنا نفهم بسهولة لما ذا تتغير لهجة القرآن ، فهو حين يتحدث عن موقف عدمت فيه الطّاقة كلية ، وسيطر عليه تراخ عظيم التّفريط ، يكون التّحريم صريحا ، واللّوم عنيفا ، فأمّا إذا كان الأمر هنا أمر إهمال ضئيل ، وضعف نسبي

__________________

(١) النّساء : ٩٥.

(٢) النّساء : ٩٥.

(٣) الحديد : ١٠.

(٤) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / ٢٠٥٢ ح ٢٦٦٤ ، وقد تقدم إستخراجه ، وانظر ، مسند الحميدي : ٢ / ٤٧٤ ح ١١٤ ، نوادر الاصول في أحاديث الرّسول : ١ / ٤٠٤ ، فتح الباري : ١٣ / ٢٢٧ ، التّمهيد لابن عبد البر : ٩ / ٢٨٧ ، تحفة الأحوذي : ٥ / ٢٢٦ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ٦ / ٢٢ ، فيض القدير : ١ / ٨٣ ، تهذيب الكمال : ٩ / ١٣٥.

٧٩٣

بسيط فإنّ الرّحمة تبدو هنا مشروعة ، وملائمة.

وهذا المبدأ في التّدرج ، الّذي انطوت عليه نصوص لا تحصى ، قد هدى العلماء ، والفقهاء المسلمين إلى ترتيب معاني الخير ، والشّر متدرجة ، بحيث أدى ذلك إلى تصنيف كلّ منهما في طائفتين رئيسيتين ، وعلى هذا النّحو فإنّ العمل الصّالح يمكن أن يكون : إمّا تكليفيا صارما ، وإمّا تفضيليا جديرا بالإختيار ، وكذلك في حالة العكس أي العمل الخبيث ، إمّا أن يكون محرما صراحة ، وإمّا معيبا فقط ، غير مستحبّ.

وها نحن أولاء الآن نستطيع أن نجيب عن السّؤال المطروح : فنحن بإستعمالنا لهذه المصطلحات الّتي أصبحت مقبولة لدى الجميع نقرر أوّلا أنّ البحث عن الممكن الأفضل ، متى تجاوز منطقة محددة بالنسبة إلى كلّ واجب ، والّتي تعتبر تكليفا مطلقا ـ فإنّه يدخل بذلك في مجموعة الخير النّافلة.

ولعلنا نذكر حالة الأعرابي الّذي جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثائر الرّأس ، فقال : يا رسول الله ، أخبرني ما ذا فرض الله عليّ من الصّلاة؟ فقال : الصّلوات الخمس ، إلّا أن تطوعّ شيئا. فقال : أخبرني بما فرض الله عليّ من الزّكاة؟ قال : فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرائع الإسلام. قال : والّذي أكرمك لا أتطوّع شيئا ، ولا أنقص مما فرضه الله عليّ شيئا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلح إن صدق» (١).

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٢٥ ح ٤٦ و : ٢ / ٦٦٩ ح ١٧٩٢ وص ٩٥١ ح ٢٥٣٢ و : ٦ / ٢٥٥١ ح ٦٥٥٦ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١ / ١٦٧ ، حاشية السّندي : ١ / ٢٢٨ ، كشف الخفاء : ١ / ١٧٨ ح ٤٧٤ ، صحيح مسلم : ١ / ٤٠ ح ١١ ، صحيح ابن حبّان : ٨ / ٥٣ ح ٣٢٦٢ ، المسند المستخرج على ـ

٧٩٤

ثمّ إن كلمة (الأفضل) هنا لا ينبغي من ناحية أخرى أن تؤخذ على أساس أنّها صيغة الحدّ الأعلى ، بل على أساس المقارنة ، فإنّ المستوى الّذي يندب جهد كلّ إنسان إلى أن يبلغه مباشرة ليس هو الدّرجة الحدّية الّتي يتعين الوقوف عندها ، بل كلّ الإمتداد الّذي يقع فوق التّكليف ، بالمعنى الدّقيق للكلمة. وفي هذا الإمتداد المتراحب الّذي يتسع لتنافس كلّ النّاس ، يدعى كلّ واحد منهم إلى أن يرتقي بالتدريج ، من نقطة إلى أخرى ، بحسب قدراته ، ومع مراعاة ما بقي من تكاليفه.

هاتان الملاحظتان تسهمان من جانبهما في إبراز الصّفة الرّحيمة في هذه الأخلاق ، فهما تضيفان إليها جانبا جديدا ، فضلا عن الجانب الّذي تناولناه من قبل (١).

وخلاصة القول أنّ العناصر الثّلاثة الّتي يتكون منها الجهد المبدع بأكمل معاني الكلمة هي : «الإختيار الإرادي» ، و«الإختيار الصّالح» ، و«الإختيار الأفضل».

والعنصر الأوّل هو روح الأخلاق بعامة ، والثّاني يقدّم إلى كلّ من الأخلاق الخاصة نوعيتها المختلفة ، مع مراعاة القواعد الخاصة بكلّ نوع ، وأمّا الثّالث فهو يصل أخيرا لإتمام عمل الإثنين ، وإكماله.

وإذا كانت أغلبية المذاهب الأخلاقية تقوم على أساس مبدأ وحيد ، هو

__________________

ـ صحيح الإمام مسلم : ١ / ١٠٥ ح ٨٧ ، مسند الشّافعي : ١ / ٢٣٤ ، سنن أبي داود : ١ / ١٠٦ ، سنن النّسائي (المجتبى) : ١ / ٢٢٧.

(١) انظر الفصل الأوّل : فقرة ٣ ب.

٧٩٥

«الواجب» ، أو «الخير» ، فإنّ الأخلاق القرآنية هي إذن ، وفي نفس الوقت ـ «أخلاق واجب» ، و«أخلاق خير». ولو أننا افترضنا أنّ الجهد بالمعنى الكامل للكلمة في متناول أيدي جميع النّاس فإنّ هذه الأخلاق لا تبدو متشددة إلّا بصدد الدّرجتين الأوليين ، فأمّا الدّرجة العليا فإنّ اقتضاءها يصبح «نصحا» ، و«تشجيعا».

والآن ندرك كيف يصبح من الممكن أن نقيم بين هذه المراحل الثّلاث للجهد المبدع سلّما من القيم الأخلاقية المتصاعدة. والتّوازي (بين قوة الجهد ، والتّصاعد في القيمة) وهو الّذي كنّا نرفضه بالنسبة إلى جهد المدافعة ، نقبله هنا بكلّ رضا فيما يتعلق بالجهد المنتج. ولكن لما كانت زيادة هذا الجهد المنتج مستفيدة طبيعيا من النّقصان المشروع في جهد المدافعة ، فإنّ نتيجتينا تتوافقان ، وتؤكد إحداهما الأخرى. فهما في الواقع ليستا سوى ترجمتين لحقيقة واحدة بذاتها.

وفائدة هذا المفهوم أنّه يعيننا على حل عدد من «المشكلات». فهو يسمح لنا «أوّلا» بأن نرضي الحرص المشروع للنظرية القائلة بأنّ «الجهد هو شرط كلّ قيمة أخلاقية» والواقع أنّ هذه النّظرية تجد تسويغها في هذا الشّعور بالحيرة ، الّذي يصيب الضّمير ، حين يراد له أن يسلّم للصالحين بثواب على أفعال لم يحققوا فيها جهدا ، ولا إنتصارا ، والمبدأ الّذي تدافع عنه تلك النّظرية مبدأ ممتاز ، ولكنها فقط تطبقه تطبيقا سيئا ، ومن ناحية واحدة : إنّها لا ترى أنّ النّقص من

٧٩٦

ناحية معوّض بالزيادة ، وفيض الزّيادة من النّاحية الأخرى (١).

والواقع أنّ هدف جهد القديس ، أو الصّالح ليس : أن يتحاشى الكبائر ، ويتحفظ من السّقوط في «قاع» الأخلاق ، بقدر ما هو : أن يتحاشى التّوقف عند درجة من الكمال أية كانت ، وأن يصعد دائما إلى أعلى ، في الطّوابق العليا.

فالأخلاق عند القديسين ليست حربا ، بل هي بالأحرى حياة ، بكلّ ما تضمه الحياة من صراع في المسيرة ، وفي التّقدم ، ولذلك يشعرون أثناء فترات راحتهم القصيرة بأنّهم منادون إلى أن يبدأوا العمل ، وهذا النّداء الباطن يرتدي في القرآن شكل دعوة صريحة إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٢).

وهكذا يتضح أننا أبعد ما نكون عن القول بأنّ أي مخلوق ، مهما كان ، يمكن أن يعفى نهائيا من الكفاح ؛ بل إننا نرى كيف ينفتح أفق لا حدّ لرحابته أمام الأنفس الطّاهرة المخلصة كيما تبذل جهدها. فحتى لو انتهت مقاومتنا ضد الأهواء المضادة للشرع ، فإنّ علينا أن نقهر خمود المادة ، وأن ننتصر على تثاقل الفطرة ، كيما نحلق في آفاق تزداد على مرّ الزّمن رقيا.

ومن هنا تنبع هذه النّتيجة الّتي لم يسبق إليها أحد ، والّتي تبدو في الظّاهر متناقضة : إنّ «القداسة» ـ بدلا من أن توضع خارج الأخلاق ، سوف تكون ـ بالعكس ـ «الأخلاقية بأجلى معانيها». وتلك على ما نعتقد وجهة نظر القرآن ،

__________________

(١) أدرك القشيري جيدا فكرة هذا التّعويض : (انظر ، الرّسالة ـ فصل الإرادة : ٩٢) ، ويأتي بعده بزمن طويل ابن عباد ليلاحظ ملاحظة مماثلة ، بمناسبة المقارنة بين السّالك المجذوب ، والمجذوب السّالك. (انظر ، الرّسائل : ٤٠ ـ ٤١).

(٢) الإنشراح : ٧ ـ ٨.

٧٩٧

في قوله مخاطبا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١).

و«المشكلة الثّانية» الّتي يمكن أن تحل ، في ضوء المبدأ نفسه ، هي مسألة معرفة ما إذا كانت «القداسة» تنتظم بدورها درجات؟ ..

لا شيء يمنعنا من أن نجيب بالإيجاب ، شريطة أن تكون جميع الدّرجات داخل إطار الكمال ، بأوسع معاني الكلمة.

وموقف القرآن واضح كلّ الوضوح في هذه النّقطة ، وإليك بعضا من أقواله :

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (٢) ، (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٣).

ومع ذلك ، فلنحذر أن نخلط هنا فكرتين متميزتين تميزا تاما ، وإن كانتا متصلتين من بعض الجوانب : «الأقل كمالا» ، و«النّاقص» ، فغالبا ما ينزلق الفكر تلقائيا من إحدى هاتين الفكرتين إلى الأخرى ، ويمضي هكذا إلى حدّ أن يسيء تقدير رجل كامل ، كمقارنته برجل أكثر كمالا.

ولقد اعتنى رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتنبيهنا إلى هذا الموقف إزاء رسل الله ، وتحذيرنا منه ، فقال : «لا تخيّروني على موسى ...» (٤) ، وإذا كان القرآن قد حكى

__________________

(١) سورة القلم : ٤.

(٢) البقرة : ٢٥٣.

(٣) الإسراء : ٥٥.

(٤) انظر ، صحيح البخاري : ٤ / ١٧٠٠ ح ٤٣٦٢ و : ٦ / ٢٥٣٤ ح ٦٥١٩ و ٦٩٩١ ، وفي حديث آخر : «لا تخيروا بين الأنبياء ، فإنّ النّاس يصعقون يوم القيامة فأكون أوّل من تنشقّ عنه الأرض ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق ، أم حوسب بصعقته الأولى» ، وهذا ـ

٧٩٨

على لسان المسلمين هذه المقالة الدّالة على الإيمان : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (١) ، فإنّ هذا النّفي ألا يتوجه فقط إلى الفرق المتعلق بحدث الإيمان ، أعني (الإعتقاد ببعضهم ، والإنكار لآخرين منهم) ، كما تدل عليه الآية الكريمة : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (النّساء : ١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (النّساء : ١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (٢) ـ بل ينبغي أن ينصرف أيضا إلى كلّ تفرقة تتجلى في تقدير يضفى على بعضهم ، ويحرم منه آخرون.

ومن هنا ، فيما نعتقد كان موقف القرآن ، في أنّه لم يتبع التّرتيب التّأريخي ، فهو لا يسير على أي نظام محدد في تعداد الأنبياء ، بحيث إنّ نفس الاسم ، المنسوب إلى نفس المجموعة ، لا يظهر دائما في نفس الموضع ، على هذه القائمة.

وفي رأينا أننا حين نقرأ أسماءهم في أنساق متنوعة ، فإنّ الهدف من ذلك إزالة الوهم بأنّ بينهم تدرجا في المقام ثبت لهم جميعا مرّة واحدة ، وقد يعد ذريعة إلى موقف غير مناسب حيال بعض منهم ، أيّا كان.

«ومشكلة أخرى أيضا» ، هي مشكلة معرفة ما إذا كانت «القداسة» يمكن أن

__________________

ـ الحديث أوضح بيانا ، وأقل إلتباسا من سابقه ، في التّعبير عن مناط النّهي عن التّخيير». (المعرب). انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٨٥٠ ح ٢٢٨١ و : ٣ / ١٢٤٥ ح ٣٢١٧ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٥ / ١٩ ح ٧٣١٩ ، مسند أحمد : ٣ / ٣٣ ح ١١٣٠٤ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٦ / ٣٣٢ ح ٣١٨٣٧ ، صحيح ابن حبّان : ١٦ / ٣٠١ ح ٧٣١١ ، تفسير القرطبي : ٧ / ٢٧٩ ، عون المعبود : ١٢ / ٢٧٧.

(١) البقرة : ٢٨٥.

(٢) النّساء : ١٤٩ ـ ١٥١.

٧٩٩

توجد مع «المعصية»؟ .. عن هذا السّؤال يمكن أن نجيب بنعم ، وبلا ، تبعا للتعريفات الّتي تعطى للكلمات.

فإذا كان المقصود بكلمة (معصية) معناها العادي ، الّذي يتمثل في عصيان متعمّد ، فلا مرية في أنّه لا يمكن أن تكون موضوع حديث بالنسبة إلى من كلفتهم السّماء بهدايتنا ، إنّ عصمة هؤلاء الرّجال ، في الواقع ، وفي الشّرع ، يجب ألا تكون موضع شك ، لسبب جدّ بسيط ، هو أننا على سبيل الإفتراض يجب أن نقتدي بهم ، والمعصية الّتي قد يقعون فيها ربما يقر في أذهاننا حينئذ أنّها صارت «واجبا» ، ولم تعد من قبيل «المحرم».

أمّا الأصفياء الّذين لم يكلفوا برسالة إلى النّاس ، فعلى الرّغم من أنّ عصمتهم ليست ثابتة «شرعا» ، فإنّها توجد في «الواقع» بصفة عامة. وإذا كان يحدث لهم أن يذنبوا ، فما ذلك إلّا على سبيل النّدرة ، والشّذوذ ، الّذي يحدث نتيجة نسيان ، أو غفلة ، بحيث منع ذلك مؤقتا ضميرهم من أن يمارس وظيفته العادية ، ولكنهم سرعان ما يرجعون إلى صوابهم ، وفي ذلك يقول الله سبحانه : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (١) (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٢).

فأمّا إذا أخذنا كلمة (المعصية) بطريقة أخرى ، وحملناها على معنى لطيف ، لا يعني سوى تأخير قليل ، وتوقف مؤقت طارىء في استيعاب القيم ، فإنّ المعصية

__________________

(١) آل عمران : ١٣٥.

(٢) النّساء : ١٧.

٨٠٠