دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

الدّاخلية ، أو الخارجية يستطيع أن يرغم الإرادة الإنسانية على إختيار مسار غير الّذي تختاره بنفسها. وقد يكون النّزوع ، أو الرّغبة ، أو المصلحة ، أو الإيحاء ، قد تكون هذه كلّها عوامل تحرك الإرادة وتدفعها ، ولكنها لا تنتج القرار ، لأنّها ليست سببه المباشر. فالقرار النّهائي ملك للإرادة ، وهي وحدها الّتي تملك حقّ إصداره بعد أن تكون قد استمعت إلى إغراء الحواس ، والبواعث الخارجية من ناحية ، وإلى نداء الضّمير من ناحية أخرى ، وبعد أن تكون قد وازنت بين إتجاهين ورجحت إحدى الكفتين.

لكن هذه الحرية الشّاملة ، وهذا الإستقلال الكامل الّذي تتمتع به الإرادة الإنسانية إزاء «الطّبيعة» ، هل تملك حقّ المطالبة به إزاء «الخالق»؟ أليس من الممكن في آخر لحظة من لحظات المداولة ، والأختيار أن يتدخل «لله» جلّ وعلا ليرجح كفة الميزان في الإتجاه الّذي يريد؟

في الحقيقة إن هذه المسألة عن «حتمية الإرادة العلوية» تستعصي على وسائلنا في الفهم ، والتّعليل ، وهي لا تثار إلا لإرضاء نزعة الجدل العقلي الّذي مهما كانت نتيجته ، لا يؤثر على الأخلاق ، ولا على العقيدة والإيمان. وبالنسبة للأخلاق ـ الّتي هي موضوع البحث ـ لا يهمنا حدوث الفعل بقدر ما تهمنا «الطّريقة» الّتي يتصور بها الإنسان سلوكه ، و«المبدأ» الّذي يتصرف بمقتضاه. وهذا كلّه يتلخص في كلمة واحدة هي «النّيّة».

وحينئذ فإنّ السّؤال الهام الّذي يجب أن يثار هو : ما هي نيّة الإنسان في الوقت الّذي يقرر فيه إختيار سلوك معين؟ وهل يشعر أدنى شعور بأنّه مدفوع لإتخاذ قراره «بأمر إلهي» لم يسعه إلا الخضوع إليه؟ وهل كانت نيته أنّه يجعل من نفسه ، وسيلة أو «أداة» لتنفيذ «الإرادة المقدسة»؟ كيف يمكن حدوث ذلك إذا كان الإنسان لا يعرف الإرادة الإلهية سلفا؟ إنّ الإنسان حين يعمل هذا ويترك ذاك يختار ما يراه الأنسب ، وتنعقد نيته

٤١

على تنفيذ القرار الّذي تصدره إرادته الذاتية. وحتّى لو كانت هناك قوة تتدخل في سلوكه ، فإنّ قبوله لها يعني موافقة الإرادة عليها. وهكذا يصبح الإنسان مسئولا بمجرد سلوكه ، وذلك مثلما يصبح دائنا بتوقيعه لصك الدّين.

ويترتب على الإلزام ، والمسئولية بالضرورة مبدأ «الجزاء» ، وهو موضوع الفصل الثّالث. فالقانون الأخلاقي الّذي يلزمنا ، ويضعنا أمام مسئوليتنا يجب أن ينطوي ، في الوقت نفسه ، على نظام لتقدير مواقفنا. وإذا كان بعض الحكماء قد أنكروا وجود «جزاء أخلاقي» بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة ، فإنّ وجود هذا الجزاء بالفعل يدحض هذا الرّأي. ويزودنا القرآن الكريم بنوعين من هذا الجزاء : فهناك أوّلا الجزاء ذو الطّابع «الإصلاحي» ، ومعناه أنّ الإنسان الّذي يسلك سلوكا سيئا يتحتم عليه إصلاح ما ترتب على هذا السّلوك من فساد ، أو إهدار لحقوق الآخرين. وإهمال الواجب يقابله القانون بفرض واجب آخر ، هو واجب «التّعويض». ثم كيف لا نثير الشّعور بتأنيب الضّمير ، وهو شعور داخلي يفتح أمامنا طريق الإصلاح ، وييسر لنا إصلاح أنفسنا ، وإصلاح أخطائنا؟ غير أنّ هذا الشّعور لا يكفي وحده لإعادة النّظام ، بل لا بد أن يدعمه موقف جديد من مواقف الإرادة ، موقف يفترض بذل الجهد. هذا الموقف هو بالتحديد موقف «التّوبة» ، وهو في طبيعته المركبة يشمل الماضي ، والحاضر ، والمستقبل : إذ تقتضي التّوبة إيقاف السّلوك السّيىء ، والعزم على عدم العودة إليه ، والإستمساك من جديد بالواجب المهمل ، وإصلاح الأخطاء المقترفة ، وإتخاذ طريق جديد للسلوك. هذا التّحول الأخلاقي في مجموعه تفرضه علينا الأخلاق كوسيلة إصلاحية.

وبالإضافة إلى ذلك ، نجد في القرآن نوعا آخر من الجزاء ذي الطّابع «الإستحقاقي». وهو رد فعل للقانون الأخلاقي يمارسه مباشرة ، وتلقائيا ، ولا يسع الإنسان إلا أنّ يتحمله رضي أم لم يرض. فبحسب موقفنا «الخاضع» أو «المتمرد» بالنسبة لما يمليه

٤٢

علينا الواجب ، نجد أنّ ملكاتنا العليا تتأثر سموا ، أو إنحطاطا. ولا يعني ذلك فحسب أنّ ممارسة الخير تصفي القلب ، وتشحذ الإرادة وتقوي العزيمة ، بل إنّ صداها ينعكس أيضا على الملكة الذهنية نفسها. وعلى العكس من ذلك نجد أنّ فوضى الإنقياد للنزوات تعتم الضّمير ، وتحوّل العقل عن تصور الحقيقة. ومجمل القول ، إنّ الجزاء الأخلاقي الإستحقاقي ينتهي إلى نوع من «التّقدير للذات» ، ويؤدي إما إلى أرتفاع في القيمة الإنسانية ، وإما إلى هبوط بها.

وإذا كان الإنسان يتصرف بحرية فمعنى ذلك أنّ عمله إنبعاث لكيانه الكامل «جسما» و«روحا». ولا يخفي ما بين هذين العنصرين من صلة وثيقة ، وتفاعل متبادل ؛ ولذا كان من العدل أن يلقى الإنسان جزاءه ، أو عقابه في حسه ، وروحه. ونحن نرى أنّ قانون الطّبيعة نفسه يوزع الجزاء على الفضيلة ، أو الرّذيلة توزيعا مناسبا : فالكفاح جزاؤه النّصر ، والإعتدال جزاؤه الصّحة ، والإدمان ، والرّذيلة جزاؤهما النّتائج الضّارة للجسم ، والعقل. غير أنّ هذه الجزاءات الطّبيعية ، في الحياة الدّنيا ، ليست كاملة ، ولا شاملة. ولذا فإنّ العدالة الإلهية قد تكفلت بإكمال هذا النّقص عن طريق الحساب في الآخرة.

ولننظر الآن في موقف القرآن الكريم من عمل الإنسان ، ومقياس الحكم عليه. إنّ موقفه في هذا المجال واضح ، ومحدد كلّ التّحديد. فما يهتم به ليس هو التّنفيذ المادي للأمر ، وإنما «النّيّة» الكامنة وراء الفعل. ويعالج المؤلف موضوع «النّيّة والبواعث» في الفصل الرّابع. فإلى جانب إختيار الموضوع المباشر للعمل ، هناك إختيار الهدف البعيد. وفي حسن إختيار هذا الهدف تكون النّيّة الطّيبة بمعناها الأخلاقي الصّرف.

ما هو المبدأ الأسمى الّذي يضعه القرآن كشرط للحكم على قيمة أعمالنا؟ إنّه «التّنزه المطلق» بحيث يكون الهدف الوحيد للعمل هو إبتغاء وجه الله. إننا لا نجد فيه

٤٣

تعبيرا يقترح لنشاطنا غايات نفعية حتّى ولو كانت مشروعة. فالتصرفات الحكيمة إذا كانت غايتها الذات ، والإخلاص للآخرين ليست إلا إضافات لا تقوم بذاتها ، وإنّما بالإستناد إلى المبدأ الأوّل وهو العمل من أجل إرضاء الله.

وكانت آخر مسألة عالجها المؤلف في الفصل الخامس من الكتاب هي تحليل طبيعة «الجهد» الإنساني الّذي يأمر به القرآن الكريم ، ودرجة هذا الجهد وقيمته في إكتساب الثّواب.

وقد عالج المؤلف العلاقة بين الجهد ، والأنبعاث التّلقائي من ناحية ، وبين الجهد وروح التّيسير من ناحية أخرى. ووضح أنّ القرآن الكريم قد وازن بين كلّ من الطّرفين المتعارضين ، ودمج بينهما في تركيب يجمع بين الكمال ، والحكمة. وناقش فكرة المتشددين الذين يرفضون التّلقائية في الفعل الأخلاقي ، ولا يمنحون السّلوك أية قيمة إلا إذا كان نتيجة لجهد ، أو معاناة كبيرين. فإذا صحّ ما يدّعي هؤلاء فإنّ النّفس المتحررة من شهواتها لا تكتسب ثوابا على ما تقوم به من أفعال خيّرة ، ولا تستحق هذا الثّواب إلا إذا كانت فريسة لأنفعالات متسلطة عليها ، وتكافح من أجل التّغلب عليها. أو بمعنى آخر كلما أقتربنا من المثال الأعلى في الأنبعاث التّلقائي لفعل الخير ، فقد العمل جزءا من قيمته. وواضح ما في هذا الرّأي من منافاة لكلّ منطق ، إذ بمقتضاه يكون الشّرير الّذي يحاول جاهدا التّخلص من نزعاته الشّريرة أعلى درجة في السّلّم الأخلاقي من القديس الّذي يمارس الفضيلة في يسر وبدون جهد يذكر. إنّ الوقوع في هذا التّناقض قد نجم عن الإعتقاد الخاطىء بأنّ الحياة الأخلاقية يجب أن تكون حربا لا هوادة فيها ضد نزعات كامنة في الإنسان ، هذا الإنسان الّذي يرى بعضهم أنّه شرير بطبعه ، وأنّه لا يستطيع أن يتحرر من طبيعته الشّريرة ، وأنّ القداسة فكرة وهمية ليس لها مكان على الأرض.

٤٤

إنّ موقف القرآن الكريم من هذه المسألة يختلف تماما عن هذا الموقف المتشدد المتشائم ، وينزع إلى نظرة أكثر رحابة ، وأكثر تفاؤلا. لقد كان هناك دائما عدد من عباد الله الذين اصطفاهم لفعل الخير ، وسوف يكون منهم عدد دوما وعلى مر الزّمان. هؤلاء العباد من الصّفوة قد جبلوا بما أودعه الله فيهم من نزعات فطرية ، على معرفة الحقيقة ، وعلى ممارسة الفضيلة. وهم يسارعون دائما إلى عمل الخير بإخلاص ، وعن إنبعاث تلقائي. ولا يصح القول إنّهم لا يبذلون أي جهد يستحقون عليه المثوبة ؛ بل إنّ الجهد الّذي يبذلونه بدلا من أن يتجه نحو مغالبة «الشّر» فإنّه يتجه نحو «البناء» ، أي نحو إضافة لبنات جديدة إلى صرح الفضيلة.

ونحن لا ننكر أنّ هذه الصّفوة الممتازة قلة ؛ غير أنّ هناك قدرا من الشّهامة في كلّ نفس ، وإن إختلفت في شكلها. والإنسان لا يخلق تلك النّزعات الطّيبة في نفسه بل يتلقاها إستعدادا مبدئيا من يد الخالق ، ولا يفتأ ينميها بالكفاح إمّا لمقاومة قوة شريرة ، أو لكسر جمود المادة ، وركود الحياة العادية. وهذا النّوع الأخير من الكفاح هو عمل الشّخصيات الأخلاقية العظيمة. فجهدهم ينصب في جوهره على متابعة النّشاط الخلاق ، ومحاربة التّوقف عند حدّ معين ، والتّصاعد بالعمل الأخلاقي. وهكذا نرى أنّه من الممكن التّوفيق بين «الجهد» والإنبعاث «التّلقائي» ، ومن الممكن أن يسهم كلّ منهما في إحراز الفضيلة ، واستحقاق الثّواب.

أمّا العلاقة التّركيبية بين الجهد ، والتّيسير فنجدها أكثر وضوحا في القرآن الكريم. فلا يتنافى التّيسير العملي في ممارسة الشّعائر مع مفهوم الجهد ، بل إنّه يضفي عليه طابعا إنسانيا. ويهدف هذا الجهد إلى إبعاد روح التّعسف الّذي لا يبرره عقل ، ولا يدعو إليه واجب ؛ كما أنّه يستبعد التّزمت الضّيق في التّدين ، الّذي يستنفد الجهد في الحاضر ، دون أن يترك ذخيرة تمكن من الإستمرار في المستقبل. هذا الجهد الّذي

٤٥

يخضع لحكم العقل ، ويتسم بالنبل ، والإعتدال ، هو نفسه «الوسط العادل» الّذي تكلم عنه الحكماء ، والفلاسفة ، ويزيد عليه القرآن تنظيما في تدرج القيم بحسب الجهد الّذي يبذل. فهناك الحد الأدنى الّذي يفرض على الإنسان العادي ؛ وما زاد على ذلك فهو «كمال» يحث عليه القرآن تزداد عليه درجات الفضل ، والمثوبة.

أمّا فيما يتعلق بالقسم الثّاني من الكتاب ، وهو الخاص بالأخلاق العملية ، فقد اختار المؤلف طريقة للعرض تختلف عن طريقة «الغزالي» ، ومن حذا حذوه من المصنفين لآيات القرآن الكريم. فبدلا من أن يجمع جميع الآيات الّتي لها صلة بالسلوك الإنساني ، اكتفى بذكر عدد من الآيات الّتي تشرح بوضوح كلّ قاعدة من قواعد السّلوك ، وتحاشى التّكرار على قدر الإمكان. وبدلا من التّقيد بتسلسل السّور ، أو التّسلسل الأبجدي للمبادىء الأخلاقية ، فضّل انتهاج نظام منطقي. فجمع النّصوص القرآنية ، كلّ طائفة في فصل خاص ، بحسب نوع العلاقات الّتي تنظمها كلّ قاعدة من قواعد الأخلاق : فينطوي الفصل الأوّل الخاص «بالأخلاق الفردية» على الآيات المتصلة بالتعاليم الخلقية للفرد ، والجهد الأخلاقي ، وصفاء الرّوح ، والإستقامة ، والعفة ، والسّيطرة على الشّهوات ، وكبت الغضب ، والإخلاص ، والوداعة ، والتّواضع ، والتّحفظ في إصدار الأحكام ، والإمتناع عند الشّك ، والمثابرة ، والتّحمل ، والإقتداء بالمثل الطّيب ... إلخ.

ومن حيث التّحريمات نجد الآيات الّتي تمنع الإنتحار ، وبتر الأعضاء ، أو تشويه الجسم ، وتحرم الكذب ، والنّفاق ، والبخل ، والإسراف ، والتّفاخر ، والتّعالي ، والحرص على متاع الدّنيا ، والحسد ، والفسق ... إلخ.

ويهتم الفصل الثّاني بتجميع الآيات الّتي تتصل بالأخلاق العائلية ، ويصنفها تحت أقسام : الواجبات نحو الآباء ، والأبناء ، والواجبات نحو الزّوج ، والواجبات نحو

٤٦

الأقارب ، والميراث. ويندرج تحت كلّ قسم من هذه الأقسام أقسام فرعية.

وفي الفصل الثّالث نجد الآيات المتصلة بالأخلاق الإجتماعية ، ويندرج تحتها : تحريم القتل ، والسّرقة ، والإختلاس ، والقرض بفائدة ، وتبديل مال اليتامى والخيانة ... إلخ.

والأمر برد الوديعة ، وكتابة الدّين ، ومراعاة العهود ، وشهادة الصّدق ، وإقرار الوئام بين النّاس ، والتّعاطف مع الآخرين ، والإحسان إلى الضّعفاء ، وتحرير الرّقيق ... إلخ.

كما نجد الآيات الّتي تنظم قواعد التّأدب : كالاستئذان قبل الدّخول ، وخفض الصّوت ، والمبادرة بالتحية ، والرّد على التّحية بأحسن منها ، وحسن الهندام ، وحسن إختيار الحديث.

ويهتم الفصل الرّابع بالأخلاق الخاصة بالدولة ، وفيه نجد الآيات الّتي توضح العلاقة بين الحاكم ، والمحكوم ، والآيات الّتي تنظم العلاقات الخارجية ... إلخ.

وفي الفصل الخامس الأخلاق الدّينية ، وتنطوي من الآيات الّتي تنظم واجبات الإنسان نحو الله.

في ضوء هذا العرض السّريع لفصول الكتاب ، يمكن القول إنّ المسلم يجد في القرآن الكريم كلّ ما يشبع حاجته في مجال الأخلاق سواء من النّاحية النّظرية ، أو العملية. بل يمكن القول إنّ الإنسانية كلّها ، على مر العصور والأجيال ، وعلى ما قد ينتابها من تغيرات عميقة في الوجود ، سوف تجد دائما في القرآن الكريم قاعدة تنظم نشاطها الأخلاقي ، ووسيلة تحفز جهودها ، ومثالا أعلى تهتدي به.

السّيد محمّد بدوي

٢ رجب (١٣٩٣ م) أستاذ الاجتماع بجامعة الاسكندرية.

الموافق ١ أغطس (١٩٧٣ م) ، والجامعة اللّيبية.

٤٧
٤٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

كلمة المعرب

ليس أعجب من نسيج الآيام ، حين تكتمل خيوطه ، وتتمثل صورته ، وأعجب ما في هذا النّسيج أنّه مزيج من الزّمن ، والأحداث ، وأنّ تأليف سدى الزّمن مع لحمة الأحداث شديد التّنوع ، يتفاوت من فكر إلى فكر ، ومن وجدان إلى وجدان ، بحيث يمكن أن تتخلق من نفس السّدى ، واللّحمة أشكال وتصانيف شتى ، هي عند التّحليل آية على قدرة الله المدبر ، وإحكامه المبدع.

فمن ذا الّذي كان يتصور مثلا أن يتم العمل الّذي نقدمه اليوم إلى العالم الإسلامي على نحو ما نرى ، وأن يكون المسهمون فيه بهذه الدّرجة من الإرتباط بالاستاذ الإمام محمّد عبد الله دراز؟!

لقد ذكر الاستاذ الدّكتور السّيد محمّد بدوي ، مراجع الكتاب ، أنّه عايش المؤلف رحمة الله عليه في باريس ، وتلمذ له تلمذة مخلصة ، توجت بأن نال شرف مصاهرته.

وأجدني ، في معرض ذكر العلاقات ، أسترجع أياما خوالي ، كنت فيها أجلس بين يدي الاستاذ المؤلف في قاعة الدّرس ، بكلية دار العلوم ، شتاء عام (١٩٥٤ م) طالبا بالليسانس ، أسمع منه تفسيره لكتاب الله عزوجل ، وأتعلم

٤٩

منهاجه ، فإذا حضرتني خاطرة تتصل بما كنت آنذاك حريصا على تحصيله ، وأيضا على التّظاهر به أمامه ، وهو ثقافتي الفرنسية ـ علوت بصوتي ، أسأل الاستاذ ، وهو يبتسم في سمت وقور ، ثم يجيب ، ويناقش ، مدركا ما كنت أرمي إليه من تعارف أتمنى أن تتوثق عراه ، وليس كالثقافة المشتركة عاملا من عوامل التّقريب بين النّاس.

كنت في ذلك الحين أعرف قدر أستاذي ، وأدرك خطر مكانته ، رغم تواضعه الجم ، وسماحته السّخية ، ورغم أننا أفترقنا منذ ذلك التّأريخ ، فارقته شخصا ، ولم أفارقه فكرا ، ولا روحا ، حيث عشت محنة عام كامل ، ثم لم نلتق حتّى كانت وفاته في السّادس من يناير (١٩٥٨ م).

لم أكن أتصور أنّ هذه العلاقة سوف تستبد بي فيما بعد ، لأعكف ثلاث سنوات ، أو تزيد ، أستخرج خلالها أثمن ما ترك من تراث ، وأخلد ما أبدع من فكر ، رسالته عن (دستور الأخلاق في القرآن) ، وهي الّتي قدمت نسختها الفرنسية إلى المطبعة عام (١٩٤٨ م) ، ثم لم تظهر ترجمتها العربية إلا بعد ربع قرن من ذلك التّأريخ ، وبعد أن لحقّ المؤلف ، رضوان الله عليه ، في الرّفيق الأعلى ، بأكثر من خمسة عشر عاما.

كيف ظلت هذه الرّسالة دون تعريب حتّى الآن ، على جلالها ، والدّنيا كلّها تعرف بوجودها ، والمعربون بحمد الله كثرة كثيرة ، وفيهم من قرأها ودرسها؟!

سؤال لا جواب له إلا بإنّها إرادة الله ، الّتي أدخرت هذا العمل ، لتتصل به علاقة شاء الله لها أن تتنامى بالغيب ، على تنائي طرفيها ، أو أطرافها جميعا.

والكتاب كما هو في الفرنسية [La Morale Du Coran] ، أي : (أخلاق القرآن) ،

٥٠

وقد كنت على أن يصدر بنفس العنوان ، إلتّزاما بحرفية التّرجمة ، لو لا أنّ الاستاذ المؤلف كان قد أختار ترجمة أخرى تتفق مع تقديره لغاية عمله ، فذكر في هامش كتابه (١) : (دستور الأخلاق في القرآن) ، فكان أن أخذت بما أختار دون تغيير.

والحقّ أنّ المؤلف ـ فيما أرى ـ لم يكن يكتب هذا العمل على أنّه مجرد وسيلة إلى هدف ، هو نيل إجازة دكتوراه الدّولة في الفلسفة من السّوربون ، فقد كان بوسعه أن يحقق هدفه بأقل مما بذل من جهد ، ولكنه كان يحمل في ضميره رسالة هذا الدّين ، الدّاعية إلى السّلام ، في فترة كانت أوروبا خلالها ، بل العالم كلّه من حوله ، كتلة ملتهبة من الصّراع ، والدّمار ، وأسوأ ما قاد أوروبا والعالم معها إلى ذلك المصير المحزن هو بلا شك الخراب الأخلاقي الّذي ران على وجوه الحياة السّياسية ، والإجتماعية ، والفردية ، لدرجة لم يستطع معها رباط المسيحية بين الدّول المتحاربة أن يزعها عن التّحارب ، أو التّخارب ، إن صح التّعبير. ولم يكن الحلفاء في مواجهة هتلر ، والنّازية بأحسن حالا من الوجهة الأخلاقية ، فإنهيار فرنسا أمام الزّحف النّازي في يوم وليلة إنّما كان إنهيارا أخلاقيا في جوهره ، كما لاحظ ذلك بحقّ المارشال بيتا [Petain] ، رئيس الجمهورية الفرنسية إبّان الإحتلال ، في رسالته الّتي وجهها إلى ضمير الأمّة الفرنسية صبيحة الهزيمة ، أو عشيتها.

والتّغير العقائدي الّذي سيطر على دول أوروبا باسم العلمانية ، أو المادية ، أو

__________________

(١) انظر ، النّبأ العظيم : ٧ ، طبع سنة ١٩٧٠ م. وهو إحالة إلى هذه الرّسالة ، وأطلق عليها.

٥١

الفاشية ، أو النّازية ، أو الشّيوعية ، هو في الحقيقة خراب أخلاقي ابتليت به الإنسانية ، وإن تقمص أردية شتى.

والنّزعة الاستعمارية المتأصلة في سلوك أمّم أوروبا على اختلاف مشاربها هي أيضا من أبرز ظواهر الخراب الأخلاقي ، بما يصحبها من إستغلال ، وعنصرية ، وتآمر على مصائر الشّعوب ، ونهب لثرواتها ، وفتك بالأبرياء من أبنائها.

وسط هذه الخرائب ، وتحت هدير المدافع ، والقنابل وضعت هذه الرّسالة ، أشبه بصرخة في وادي الدّماء ، والدّموع ، والفساد ، والضّياع ، عسى أن ترتد الإنسانية الأوروبية إلى رشدها ، وتفيد عبرة من تجربتها الأليمة ، وتختار طريقا أخرى من أجل السّلام ، والخلاص.

ولا ريب أنّ الإسلام هو الحل الأمثل لكلّ ما تعاني منه الإنسانية ، أوروبية وغير أوروبية ، من أدواء ، ولكن من ذا الّذي يفتح الأعين على نور الحقيقة؟

لقد خرجت أوروبا من الحرب الثّانية بدمار أكبر ، وتحلل أعمق ، فأخذت تبحث لاهثة عن حلول لمشكلاتها الأخلاقية ، خارج إطار الدّين ، تارة في أفكار الشّيوعية المنتصرة ، وأخرى في ثنايا الوجودية ، كفكرة عن الكون ، والإنسان ، إلى كثير من الملل والنّحل المستحدثة ، ولمّا لم يجد النّاس حلا واحدا ناجعا فيما عرض عليهم من محاولات الفكر ، في الوقت الّذي لم تبلغ فكرة الإسلام ، وفلسفته إلى الجماهير ، نتيجة تقصير المسلمين الشّائن في تبليغ دعوتهم الصّافية ، ونتيجة طمس المؤسسات التّبشيرية ، والصّهيونية لحقائق هذا الدّين ـ ساد الخراب الأخلاقي ، وانطلق الشّباب في موجات يائسة ، يتسكعون

٥٢

في الطّرقات ، ضاربين عرض الحائط بكلّ قيمة أخلاقية تعارف عليها البشر ، أو دعت إليها الأديان. وأقبل الشّباب على تعاطي سموم المخدرات ، وأرتكاب أبشع الجرائم الجنسية ، والعدوانية ، وعرف النّاس من بين ما عرفوا أنّ فيما تنتج الأرض ما هو أغلى من الذهب ، وأثمن من الماس : الماريجوانا ، والهيروين ، ومشتقاتهما ، وأثمن من ذلك كلّه ، وأغلى أنفس النّاس ، وأخلاقهم المحترقة.

ولعل قائلا يقول : كيف ترى أنّ هناك خرابا ، ونحن لا نشهد إلا تقدما ، وعمرانا في كلّ مجالات الحياة الأوروبية ، والأمريكية؟

والواقع أنّ النّشاط الحضاري في هاتين القارتين قد ركز على الجانب المادي ، الّذي يمنح الحياة متعا أفضل ، من الطّعام ، والشّراب ، والمأوى ، والرّعاية الطّبية ، والخدمات ، وسائر الطّيبات ، حتّى أصبح من هذه النّاحية مثلا أعلى لكلّ تخطيط للنهضة في أي وطن.

أمّا الجانب الأخلاقي فقد تخلف كثيرا ، لدرجة أنّ أحدا لم يعد يتصور أنّ من الممكن تحقيق أدنى تقدم في سبيل إصلاحه ، ولا سيما بعد أن وكل أمر الحياة بكلّ أبعادها إلى حكم العقول الألكترونية ، فهي الّتي تأمر وتنهى ، وتعطي وتمنع!!

لقد أصبحت الحياة أرقاما ، وعلاقات حسابية ، خلوا من أية قيمة إنسانية!!

ومن الممكن قطعا أن نسلم بأنّ حجم المشكلة الأخلاقية على محور الحضارة الغربية قد أصبح أكبر من طاقة مصلحيه ، وقدرتهم على مواجهته ، ربما لأنّ طابع الحضارة الغربية مادي في جوهره ، ومن العسير أن تجد الأخلاق لها مكانا في عالم يقيس كلّ شيء بمعيار مادي ؛ فإنّ الآلات صماء لا تفهم ، ولا

٥٣

تنفعل ، تماما كالأرقام الّتي تملأ معدتها.

أمّا نحن هنا ، في أرض الإسلام ، والعروبة ، فما زلنا أقرب إلى تدارك الخطر ، ونحن جادون في البحث عن حلّ لمشكلاتنا الإجتماعية ، والسّياسية من خلال مفهوم أخلاقي يتناسب مع واقعنا ، وتراثنا.

بل أنّ ما حلّ بالأمّة العربية من هزيمة عام (١٩٦٧ م) أمام قوى الصّهيونية العالمية ، قد أثار ضرورة اللّجوء إلى هذا الحلّ الأخلاقي ، قبل البحث عن المهارات ، والفنون التّكنولوجية ، وذلك بعد أن تأكد للجماهير أنّ الهزيمة كانت نتيجة إنحلال ، أو إفلاس في الأخلاق ، مهما تبرقعت بأسباب السّياسة ، أو التّكنولوجيا.

ولسوف تبقى آثار تلك الهزيمة الأخلاقية في ضمير الأمّة ، حتّى لو حققت من بعد أعظم إنتصار على المعتدين ، وما قهرهم بالأمر المحال ، أو المستبعد ، ولا ريبّ أنّ من الهزائم التّأريخية ما يحمل في طياته عناصر التّحول ، والتّغيير ، حين يضغط على ضمير الجماهير فيحركها نحو النّصر ، وتلكم هي الهزائم الخلاقة ، الّتي يستحيل على التّأريخ نسيانها.

وتعالوا بنا نتصور حجم المشكلة الأخلاقية في مجتمعنا الحديث :

لقد كانت هزيمة (١٩٦٧ م) زلزالا تداعت معه قيم كثيرة في وعي النّاس ، على الرّغم من محاولات الّتمويه الّتي تجاهد من أجل التّعفية على آثاره ، وإخلاء السّاحة من أوزاره ، وقد كان الظّن ، بل المفروض ، أن ينظر إليه من الوجهة التّربوية ، والأخلاقية على أنّه سوط من سياط القدر هوى على ظهور اللاهين ، والمخدرين ، والمتمزقين في أرجاء الوطن العربي ، يسوقهم إلى

٥٤

ساحات الجدّ ، ومدارس التّغيير.

ولكن المفروض شيء ، والواقع شيء آخر.

الواقع أنّ اللّصوص قد ازدادوا ضراوة في السّرقة ، والإختلاس.

والمرتشين أمعنوا في فرض ضريبة الرّشوة على الشّعب ، بل أنّ الأمّة تشهد كلّ يوم ميلاد طبقة جديدة تنضم إلى جيش المرتشين ، وتزيده قوة ، ونفوذا.

والمترفين أكبوا على إكتراع الشّهوات ، وأمعنوا في إرتضاع الموبقات.

أي : أنّ (العيار) قد أفلت ، كما يقول المثل الشّعبي!!

وخير ما يعطي القارىء صورة عن الإنحلال الإجتماعي السّائد في المجتمع العربي أن نرجع معه إلى بحوث الجريمة ، الّتي تتابع ظواهرها ، وتناقش إحصاءاتها ، وتحلل نتائجها.

ففي تقرير المنظمة الدّولية العربية للدفاع الإجتماعي ، التّابعة للجامعة العربية : أنّ معدل الجرائم ضد الأموال في إرتفاع ، مع عملية التّنمية الإقتصادية ، إذ تزداد فرص الإعتداء على الأموال عند ما يصبح المجتمع أكثر إنتاجا ، وتعقيدا ، وتحضرا ، وتصنيعا ، ومن ثمّ نجد أنّ نسبة عالية من جرائم الأحداث ، والشّباب ، في غالبية البلاد ذات طابع إقتصادي ، مثل السّرقة ، والإختلاس ، وإقتحام المنازل ، والسّرقة بالإكراه.

وقد صاحب مرحلة التّنمية الإقتصادية السّريعة خلال السّنوات العشر السّابقة ، في مصر ، زيادة في عدد الجرائم ضد الأموال ، وبخاصة الأموال العامة ، وأصبح لهذا الإعتداء صور متعددة ، ومستحدثة ، كجرائم الرّشوة والإختلاس ، وتزييف الأوراق الرّسمية ، وتزييف العملة ، أو المسكوكات ، وتهريب النّقد ،

٥٥

وسرقة الكابلات ، وتهريب المخدرات ، والخطف لطلب الفدية (وهو إعتداء على الأشخاص ، والأموال في آن واحد).

وثمّة صور مستحدثة من الجرائم الإقتصادية ، بزغت مع تطبيق النّظام التّعاوني الزّراعي ، حيث لوحظ تفشي السّرقات من المحاصيل الزّراعية ، الّتي تودع في الجمعيات التّعاونية الزّراعية ، قبل شحنها إلى مناطق التّخزين العامة ، وجرائم الغشّ ، والإختلاس بإغتصاب خامات ، ومحاصيل زراعية جيدة النّوع بأخرى رديئة ، أو التّلاعب في الأوراق الرّسمية بالحصول على توقيعات من المنتفعين ، بإستغلال جهلهم بالقراءة ، والكتابة ، وجرائم الرّشوة (النّقدية أو العينية) لتوريد سلف غير مستحقة للمنتفعين ، أو للتغاضي عن مخالفات أرتكبها الزّراع أثناء ري الأراضي ، أو مقاومة الآفات ، أو لعدم الإلتزام بتطبيق المخطط الزّراعي للدورات الزّراعية ، وجرائم السّوق السّوداء في مجال بيع الأسمدة الكيماوية ، والمبيدات ، وإختلاس جزء منها ، وبيعها مغشوشة (١).

وقد أتضح طبقا لبيانات محددة عن بعض البلدان العربية : (سوريا ، ولبنان ، والعراق ، والأردن ، ومصر) أنّ جرائم السّرقة ، والإعتداء على الأشخاص ، والجرائم الجنسية ، وحالات التّشرد ، وبخاصة في مجالات الأحداث ، تعد من الظّواهر البارزة الّتي تتزايد نسبتها بإستمرار ، من عام لآخر ، مع اختلاف هذه النّسبة من بلد لآخر (٢).

__________________

(١) أعدّ هذا التّقرير الدّكتور محمود عبد القادر ، رئيس وحدة بحوث الأسرة بالمركز القومي للبحوث الإجتماعية ، والجنائية بالقاهرة. انظر ، ص : ٤٣ وما بعدها.

(٢) انظر ، التّغير الإجتماعي في البلاد العربية وعلاقته بالجريمة للدّكتور صلاح الدّين عبد المتعال : ٥٥.

٥٦

ويلاحظ عند قراءة بحوث الجريمة أنّها تؤكد دائما أنّ الإحصاءات الرّسمية ، أو السّجلات الخاصة بالمجرمين لا تمثل حجم المجتمع الأصلي لمرتكبي الجرائم فعلا ، فهناك الجرائم المجهولة ، أو غير المنظورة ، وهي الّتي لا تكشفها جهود رجال الشّرطة ، والضّبط ، أو الّتي لا يبلغ عن وقوعها ضحاياها.

ويقدم الدّكتور صلاح الدّين عبد المتعال في بحثه عن علاقة الجريمة بالتغير الإجتماعي ، مثالا على هذه الحقيقة في جرائم النّشل ، فإنّ نسبة المجني عليهم من الذين تكرر تعرضهم للنّشل قبل الواقعة الأخيرة ، ولم يبلغوا السّلطات عن هذه الحوادث السّابقة ـ بلغت (٧٥ خ) من مجموع من تكرر تعرضهم للنّشل.

وبعض الذين لا يبلغون السّلطات عن الجرائم الّتي ترتكب ضدهم ، يفضلون أن يبلغوا عنها أحد الأولياء ، أو القديسين ، فيرسل الواحد منهم إليه رسالة تتضمن شكواه من جان يعرفه ، أو لا يعرفه ، ويطلب منه في هذه الشّكوى أن يصدر حكمه العادل ، أو يرفع الظّلم ، أو يشترك مع أولياء آخرين في نظر القضية ، أو عقد هيئة المحكمة الباطنية (١).

ولقد نجد لدى بعض الكتاب ميلا إلى محاولة تسويغ إنتشار الجريمة ، أو (تبرير) وقوعها بأنّ هناك درجة من الإنحلال الإجتماعي ضرورية لإمداد المجتمع بالتغييرات الجديدة. ومعنى ذلك ضرورة وجود الجريمة كدافع إلى التّغيير المستمر ، وهي وجهة في النّظر مردودة ، لأنّ التّغيير ليس مرتبطا أرتباطا عضويا بوجود الجريمة ، وإلا لأعتبرنا المجرمين مصلحين إجتماعيين ، وبحسبنا

__________________

(١) انظر ، التّغير الإجتماعي في البلاد العربية وعلاقته بالجريمة للدّكتور صلاح الدّين عبد المتعال : ٢٧.

٥٧

أن نذكر هنا أنّ التّغييرات الإجتماعية ، والحضارية الكبرى ، في التّأريخ ، قد قام بها أناس مؤمنون بالله ، ملتزمون بالفضائل السّماوية ، وخير الأمثلة على ذلك ميلاد مجتمع الحضارة الإسلامية.

وقد يرى آخرون أنّ المشرع لا ينفرد وحده بوضع التّشريعات الّتي يحتاج إليها المجتمع ، بل يشاركه المجرم في سنن هذه التّشريعات ، حين يحاول إخفاء معالم جريمته بإستغلال صمت القانون عن بعض الحالات ، أو إنتهاز الثّغرات الّتي تورط فيها ، نتيجة التّضارب بين القوانين ، أو نتيجة سوء التّفسير ، فيكون إرتكابه الجريمة بمثابة أمر منه للمشرع أن يتدارك نقص ما وضع من قانون.

ومع ذلك فإنّ الإنحراف هو الإنحراف ، والفساد هو الفساد ، لا يتغير وصفه تحت أي شعار ، وفي ضوء أية فلسفة (تبريرية) ؛ لأنّه يشير إلى وجود إختلال أخلاقي يحمل في طياته نذير الشّر للأمّة ، ونظمها.

وفي غيبة المنهاج الأخلاقي يمكن أن نتصور حدوث أي شيء.

يمكن مثلا أن تشيع أمثال شعبية تلخص بعض المواقف ، وتصدر حكما بأنّ (حاميها حراميها)!!

ويمكن مثلا أن ترى السّلطة تبعا لبعض وجهات النّظر أنّ وجود المجرمين ظاهرة مرضية ، تحتاج إلى أطباء يمارسون مهمة تدليل الشّواذ ، والمنحرفين ، لا إلى تشريع حازم.

ويمكن أن نجد في كتابنا من ينظر إلى الإستقامة في سلوك على أنّها إنحراف تجب مقاومته ، وقد حدث فعلا أن تصدت إحدى الصّحفيات لبنات المدارس

٥٨

اللاتي تحركت ضمائرهن إحساسا بالأزمة الأخلاقية النّاشئة عن الهزيمة ، فرأينّ ضرورة الإحتشام ، وسترنّ أجسادهن ، وشعورهن في الطّرقات ، فإذا بتلك الصّحفية تقلب القضية ، وتتهم الفتيات الفضليات بالتستر وراء الطّرحة ، وهن على مواعيد مع الشّبان!!

نعم ، وفي غيبة المنهاج الأخلاقي يفلسف اللّص أهدافه من السّرقة ، ويباهي النّشال بما أوقع من ضحايا ، ويفاخر المدين بقدرته على أكل أموال النّاس بالباطل ، ويستعلن أهل الفساد بما أعدوا لطلاب المتعة الحرام من برامج رائعة ، وفنون ممتعة ، ثمّ لا توجد في نفس الفرد غالبا أية بادرة نحو الإلتزام بقانون ، أو أدب عام ، أو واجب وطني.

كلّ قانون منتهك ... كلّ أدب مستباح ... كلّ واجب مضيّع.

ولقد يفسر بعض المتفائلين هذه الحالة بأنّها نتيجة الضّياع الّذي استقر في أعماق الفرد ، جراء النّكسة ، واستمرارها ، وأنّها سرعان ما تختفي عند ما ينجلي كابوس الهزيمة عن النّفسية العربية ، مع أوّل إنتصار تحققه على العدو الصّهيوني.

وليس يمنعنا هذا الإحتمال من أن نقرر أنّ الهزيمة قد تمحوها طلقة رصاص ، أمّا الجريمة في مستواها الإحترافي فأعسر من أن تجلو عن المجتمع بمجرد الإنتصار في الجبهة العسكرية ، إنّها ساكنة في أعماق أصحابها ، تجري في عروقهم مجرى الدّم ، ومحال أن نقتل الشّيطان بغير سلاح الأخلاق.

ولقد أعلنت الدّولة (في مصر) مثلا عن إجراءات لمواجهة ما أطلقت عليه : (حالات التّسيب) ، وكان القصد هو محاربة الإهمال ، والإختلاس ، اللّذين فشا وباؤهما في مؤسسات القطاع العام ، وانتشرت جيفهما.

٥٩

وعلى أي أساس يمكن أن تحارب الدّولة هذا (التّسيب) ...؟

فقط ، على أساس سن تشريعات جديدة تسد ثغرات التّشريعات القائمة!! ولما ذا إذن أفلست هذه التّشريعات القائمة؟؟

هل كان ذلك لنقصها ، والنّقص من صفات البشر؟. إحتمال.

أو لأنّ القائمين على تطبيقها قد لا يعنيهم إنجاحها؟ إحتمال آخر.

وكلا الإحتمالين يشير إلى تخلخل أخلاقي دفين ، فداؤنا في كلّ حال هو داء (التّسيب الأخلاقي) ، ولكن محاولات العلاج ، والإصلاح لا يتولاها عندنا أخلاقيون ، بل رجال شرطة ، يعالجون كلّ جريمة بنفس الوسيلة ، كما يعالج الطّبيب الفاشل كلّ صداع بالأسبيرين :

(اقبض ... اضرب ... اقلب)!! ..

(اقبض على المجرم ووقّفه ... اضربه علقة ، وابسطه ... اقلبه على المحكمة ، والسّجن) وهي إجراءات تتم عادة مع كشف بالسوابق الّتي تصل أحيانا إلى خمسين سابقة ، كلّها تأريخ إفساد إجتماعي ، وترويع للآمنين ، وإستهزاء بالدولة ومؤسساتها الدّستورية ، وإستلاب لحقوق الشّعب ، وهي تزداد مع الأيام كما ، وكيفا. ومع ذلك يدخل هؤلاء المجرمون دور الضّيافة (السّجون) ليتدارسوا ما فاتهم من وسائل الإجرام ، وليخرجوا منها أقدر على الجريمة ، وأكثر تنويعا في أساليبها.

وهكذا يدور الثّور في ساقية شعار (التّسيب).

وهكذا يتمتع المجرمون ، والخونة ، والمرتشون بقدر هائل من الحرية والإنطلاق في ساحة المجتمع على أساس يكفل لهم حرية العمل ، وحرية

٦٠