دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

وقد ثار خلاف كهذا حول الوقوف على جبل عرفات ، أثناء أداء الحجّ بمكّة (١).

__________________

ـ الوضوء ، وأنّ محلها حين المباشرة في العمل. النّاصريات : ١٠٨ ، المجموع : ١ / ٣١٢ ، المبسوط للسرخسي : ١ / ٧٢ ، مغني المحتاج : ١ / ٤٧ ، بداية المجتهد : ١ / ٨ ، بدائع الصّنائع : ١ / ١٩ ، المغني : ١ / ١٢١ ، الام : ١ / ٢٩ ، الوجيز : ١ / ١١ ، التّذكرة : ١ / ١٤٣.

وقال الحنفية : المبسوط : ١ / ١٠ ، المجموع : ١ / ٣٢٥ ، الوجيز : ١ / ١٢ ، السّراج الوهّاج : ١٥ ، فتح العزيز : ١ / ٣٢٧ ، الام : ١ / ٢٩. : إنّ صحة الصّلاة لا تتوقف على الوضوء مع النّيّة ، فلو أنّ إنسانا اغتسل بقصد التّبريد أو النّظافة ، وعمّ الغسل أعضاء الوضوء ، وصلّى تصح صلاته ؛ لأنّ المقصود من الوضوء هو الطّهارة ، وقد حصلت ، واستثنوا ما مزج بسؤر حمار أو نبيذ تمر ، حيث قالوا بلزوم النّيّة في هذه الحال. انظر ، حاشية ابن عابدين : ١ / ٧٦ ، بدائع الصّنائع : ١ / ١٧ ، تلخيص الحبير : ١ / ٣١٤ ، الموطأ : ١ / ٢٨٨. انظر ، مبحث النّيّة للوضوء ، والغسل في كتب الإمامية : المبسوط للطوسي : ١ / ١٩ ، الكافي في الفقه للحلبي : ١٣٢ ، السّرائر لابن إدريس : ١٧ ، منته المطلب للعلّامة : ١ / ٢٥٥ ، جامع المقاصد للكركي : ١ / ٢٠٣ ، كشف اللثام : ١ / ٥٠٢ ، التّهذيب : ١ / ٥٤ ، الخلاف : ١ / ٧٥ ، الإستبصار : ١ / ٦٧.

(١) اتفقوا على أنّ وقت الوقوف بعرفة هو اليوم التّاسع من ذي الحجّة ، واختلفوا في ابتداء الوقوف ، ومنتهاه من هذا اليوم. انظر ، الرّوضه البهية : ٢ / ٢٦٩ ، الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٦٦١ ـ ٦٦٤ ، المبسوط للسرخسي : ٤ / ١١٤.

قال الحنفية ، والشّافعة ، والمكالكية : يبتدىء من زوال اليوم التّاسع إلى فجر اليوم العاشر. كما جاء في المبسوط للسرخسي : ٤ / ٥٥ ، شرح السّنّة للبغوي : ٤ / ٣١٩ و ٤٠٩ ، المهذب للشيرازي : ١ / ٢٣٣ ، الحاوى الكبير : ٤ / ١٧٢ ، حلية العلماء : ٣ / ٣٣٧ ، فتح العزيز : ٧ / ٣٦٣ ، المجموع : ٨ / ١١١ ، المدونة الكبرى : ١ / ٤١٥ ، حلية العلماء : ٣ / ٣٣٧ ، بداية المجتهد : ١ / ٣٤٨.

وقال الحنابلة : بل من فجر التّاسع إلى فجر العاشر ، كما جاء في المغني : ٣ / ٤٣٣ ، الإقناع : ١ / ٣٨٧ ، الفتح الرّباني : ١٢ / ١٢١ ، عمدة القاري : ١٠ / ٥.

وقال الإماميّة : من زوال التّاسع إلى غروب شمسه للمختار ، أمّا المضطر فإلى طلوع الفجر. ويستحب الغسل للوقوف بعرفة ، تماما كغسل الجمعة ، ولا شيء من الأعمال في عرفة سوى الحضور والوجود في أي جزء منها ، ولو كان نائما ، أو مستيقظا ، أو راكبا ، أو قاعدا ، أو ماشيا. انظر ، التّذكرة : ٨ / ١٨٦ ، ـ

٥٨١

فكيف إذن نفسر هذه الإستثناءات الّتي تؤدي إلى تقويض المبدأ العام ، مبدأ النّيّة ، الّذي أعلن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه لازم لا ينفصل عن كلّ نشاط أخلاقي؟ ..

حاول أتباع الفقه العراقي لذلك تفسيرين ، فبدأوا بتبني التّأويل الشّائع للحديث عن النّيّة ، وأنّ بطلان العمل غير المصحوب بالنّيّة هو وجه من وجوه الكلام فحسب ، فالنّيّة شرط ضروري ، لا لوجود العمل الأخلاقي في ذاته ، أي صحته ، بل لكماله ، واستيفائه قيمته الكاملة. وهكذا يقررون مع خصومهم في الرّأي أنّ الواجب الّذي لا يؤدّى بحضور القلب ، بل بإعتباره أمرا ـ لن تكون له قيمة إيجابية ، ولن يستوجب أية مكافأة ، ولكنهم لا يرونه باطلا مطلقا ، أو ذنبا ، وحسبه أنّه يكفي لإبراء صاحبه من التّكليف بإعادته مع النّيّة.

فإذا أتى هؤلاء الشّراح إلى افتراض أنّ الحديث ينص على الإبطال الكلي للعمل غير المصحوب بالنّيّة ، إلتزموا بتقييده ، حيث يطبقونه فقط على الواجبات الأساسية ، الّتي يؤمر بها لذاتها ، لا لغيرها من الواجبات الأخرى.

ومن ثمّ تفيد أشكال الطّهارة من هذا التّجاوز ، لأنّها لم يؤمر بها إلّا كمقدمات للصلاة ، الّتي تعتبر هنا الواجب الأوّل.

هذا التّفسير المزدوج لا يبدو لأعيننا كافيا ، لأنّه في جزئه الأوّل يهمل المعنى الحقيقي للكلمات دون ضرورة ظاهرة ، وهو في جانبه الثّاني يستبعد جميع الواجبات المساعدة بصورة منهجية ، على حين أنّ من بينها واجبات ينبغي أن تؤدى صراحة ـ تبعا لنفس المذاهب ـ بإعتبارها واجبات : (ومن ذلك الطّهارة

__________________

ـ الرّوضة البهية : ٢ / ٢٦٩ ، التهذيب : ٥ / ٢٨٩ ، الخلاف : ٢ / ٣٣٧ ، الإستبصار : ٢ / ٣٠١ ، المغني : ٣ / ٤٣٦ ، المجموع : ٨ / ١١٠ ، الحاوي الكبير : ٤ / ١٧٣.

٥٨٢

الرّمزية الّتي يطلق عليها : التّيمم) (١).

__________________

(١) في التّيمم أنّ المذاهب الإسلامية أكثر ما تكون إختلافا في ألفاظ آية التّيمم :

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) النّساء : ٤٣.

اختلف الفقهاء فيمن يجب عليه التّيمم مع فقد الماء : هل هو المريض ، والمسافر فقط ، أو يعمهما ، ويعم الحاضر الصّحيح؟ وهل المراد بالملامسة الجماع ، أو اللّمس باليد؟ وهل المراد بالماء المطلق فقط ، أو ما يعم المضاف؟ وهل المراد بالصعيد خصوص التّراب ، أو وجه الأرض ترابا كان ، أو رملا ، أو صخرا؟

وهل المراد بالوجه جميعه ، أو بعضه؟ وهل المراد باليد الكف فقط ، أو الكف ، والذّراع؟ وإليك ملخص ما قدمناه من الأقوال :

١ ـ قال أبو حنيفة : إنّ الحاضر الصّحيح الّذي (لم) يجد ماء لا يسوغ له التّيمم ، وليس عليه صلاة ؛ لأنّ الآية أوجبت التّيمم مع فقد الماء على خصوص المريض ، والمسافر. الفتاوى الهندية : ١ / ٢٧ ، المبسوط : ١ / ١١٣ ، المنتقى للباجي : ١ / ١١٠.

وقالت بقية المذاهب : إنّ لمسّ المرأة الأجنبية باليد تماما كالمجيء من الغائط ينقض الوضوء. الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٧٩ ، المغني : ١ / ٢٧٠ ، المجموع : ١ / ٢٦٨.

وقال الإماميّة : الجماع هو النّاقض لا اللّمس باليد. الخلاف : ١ / ٢٢ ، مختلف الشّيعة : ٥٠ ، الغنية : ٥٥٢ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ١٦٩.

٢ ـ قال الحنفية : إنّ معنى : إذا لم تجدوا ماء فتيمموا ، أيّ ماء كان مطلقا ، أو مضافا. شرح فتح القدير : ١ / ١٠٦ ، المبسوط للسرخسي : ١ / ١١٣ ، المنتقى للباجي : ١ / ١١٠.

أمّا بقية المذاهب فقالت : إنّ لفظ الماء في الآية ينصرف إلى الماء المطلق دون المضاف. المجموع : ١ / ٢٦٨ ، المغني : ١ / ٢٧٠ ، كفاية الأخيار : ١ / ٣٩ ، فتح العزيز : ٢ / ٢٢٤.

٣ ـ قال الحنفية ، وجماعة من الإماميّة : المراد من الصّعيد بالآية التّراب ، والرّمل ، والصّخر. بلغة السّالك : ١ / ٧٤ ، المبسوط للسرخسي : ١ / ١٠٩ ، الميزان : ١ / ١٢٢ ، الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ١٦٠. الفقيه : ١ / ١٥٥ ، المعتبر : ١٠٢ ، المبسوط للطوسي : ١ / ٣١ ، السّرائر لابن إدريس : ٢٦.

وقال الشّافعية : المراد به التّراب ، والرّمل فقط. المجموع : ٢ / ٢١٢ ، المغني : ١ / ٢٨٢ ، التّفسير الكبير : ١١ / ١٧٢ ، المبسوط للسرخسي : ١ / ١٠٨. ـ

٥٨٣

__________________

ـ وقال الحنابلة : التّراب فقط. المغني : ١ / ٢٩١ ، الشّرح الكبير : ١ / ٢٨٩ ، اللباب : ١ / ٣٣ ، الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ١٦٠.

وقال المالكية : يعم التّراب ، والرّمل ، والصّخر ، والثّلج ، والمعادن. حلية العلماء : ١ / ١٨٣ ، كفاية الأخيار : ٣٥ ، تنوير المقباس : ٧١ ، الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ١٦١.

وقال الأربعة : المراد من الوجه في الآية جميعه. المبسوط للسرخسي : ١ / ١٠٨ ، بداية المجتهد : ١ / ٧١ ، بدائع الصّنائع : ١ / ٥٣ ، أقرب المسالك : ١٠.

وقال الإماميّة : بل بعضه. جامع المقاصد : ١ / ٤٩٠ ، المبسوط للطوسي : ١ / ٣٣ ، المعتبر : ١٠٢ ، المقنعة : ٨ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ١٧٤.

٤ ـ قال الأربعة : المراد من الأيدي الكفان ، والزّندان مع المرفقين. المبسوط للسرخسي : ١ / ١٠٦ ، الهداية للمرغيناني : ١ / ٢٥ ، حلية الأولياء : ١ / ٢٣٠ ، الإستذكار : ٢ / ١٢.

وقال الإماميّة : بل الكفان فقط.

وإذا دل اختلافهم هذا على شيء ، فإنّما يدل على أنّه قشري لا جوهري ، ولفظي لا معنوي ، وأنّه أشبه بإختلاف اللّغويين على معنى كلمة ، والأدباء على تفسير بيت من الشّعر. ومن هنا يختلف فقهاء المذهب الواحد في مسألة واحدة ، تماما كما يختلف كلّ مذهب مع مذهب آخر. النّاصريات : ١٤٩ ، المبسوط للطوسي : ١ / ٣٣ ، التّذكرة : ٢ / ١٩٦ ، النّهاية : ٥٠ ، التّهذيب : ١ / ٢١٠.

واتفقوا على أنّ التّيمم لا يصح من غير نيّة ، حتّى الحنفية قالوا : إنّها شرط في التّيمم ، وليست شرطا في الوضوء ، والتّيمم عندهم رافع للحدث ، كالوضوء ، والغسل ، ولذا أجازوا أن ينوي به رفع الحدث ، كما ينوي إستباحة الصّلاة. انظر ، جامع المقاصد : ١ / ٤٤٨ ، تذكرة الفقهاء : ١ / ١٨٧ ، الوجيز : ١ / ٢١ ، السّراج الوهّاج : ٢٨ ، المغني : ١ / ٢٢١ ، كفاية الأخيار : ١ / ٣٦ ، مغني المحتاج : ١ / ٩٨ ، المجموع : ٢ / ٢٢٠ ، بدائع الصّنائع : ١ / ٥٢.

وقالت بقية المذاهب : إنّ التّيمم مبيح ، وليس برافع ، فعلى المتيمم أن ينوي الإستباحة لما يشترط به الطّهارة ، ولا ينوي رفع الحدث. انظر ، الخلاف : ١ / ١٤٤ ، المجموع : ٢ / ٢٢٢ ، بلغة السّالك : ١ / ٧٣ ، المغني : ٢ / ٢٢١ ، الأمّ : ١ / ٤٧.

ولكن بعض الإماميّة قال : تجوز نيّة رفع الحدث مع العلم بأنّ التّيمم لا يرفع حدثا ؛ لأنّ نيّة الرّفع عنده ـ

٥٨٤

ولسوف نحاول من جانبنا أن نستخلص السّبب الحقيقي في هذا التّجاوز ، لدى هؤلاء ، وهؤلاء.

وفي رأينا أنّ جميع الحالات المتجاوز عنها لا تمثل تقييدا يرد على مبدأ النّيّة ، وإنّما هو مجرد اختلاف في فهم الموضوع الّذي تستهدفه قاعدة ، أو أخرى من القواعد العملية. وهذا الإختلاف ينحصر في كلمتين : «العمل» ، و«الكينونة» ، والواقع أنّه طالما كان الأمر أمر نشاط تجب ممارسته ، فإنّ هذا النّشاط لا يمكن أن يكون إلّا إراديا ، ولن تكون له الصّفة الأخلاقية إلّا إذا كانت الإرادة قائمة على الطّابع التّكليفي لهذا النّشاط. فالأخلاقية ، والنّيّة صنوان لا ينفصمان.

فأمّا إذا كان الأمر بالعكس ـ مجرد حالة حدوث ، فهنا لا تهم كثيرا الطّريقة الّتي تحدث بها هذه الحالة ، بل لا ينبغي أن يستثنى من ذلك أن تحدث بوساطة الصّدفة ، أو المعجزة. ومن الواضح في هذه الظّروف أنّ النّتيجة الّتي يحصل عليها بأية وسيلة ، سوف تعفينا مطلقا من تكاليفنا ، حيث كان الواجب أن يكون شيء فحسب ، ولقد كان.

وعلى ذلك فإننا نعتقد أنّ هذه الإستثناءات كلّها تقوم على سبب عميق هو أننا ندرك أحيانا من وراء الواجب الإيجابي الفعّال الّذي يقتضي بالإجماع حركية

__________________

ـ تستلزم نيّة الإستباحة. وخير وسيلة تجمع بين جميع الأقوال : أن يقصد المتيمم التّقرب إلى الله بأمثال الأمر المتعلق بهذا التّيمم ، سواء أتعلق الأمر به ابتداء أم تولد من الأمر بالصّلاة ، ونحوها من غايات التّيمم. انظر ، جامع المقاصد : ١ / ٤٤٨ ، الذّكرى : ٢٥٧ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ١٨٨ ، نهاية الإحكام : ١ / ١٨٥

٥٨٥

الإرادة ـ ضرورة أخرى سلبية ، أو منفعلة ، أي واجبا ساكنا (١) (غير حركي) إن صح التّعبير.

ولقد نتصور بعض القوانين على أنّها لا تستوجب فحسب نشاطا من جانبنا ، ولكنها تستوجب كذلك نتيجة ينبغي بلوغها بأي ثمن ، بل وقد لا تستهدف غير هذه النّتيجة. وأمّا مسألة معرفة ما إذا كان هذا القانون ، أو ذاك له فعلا أهداف كهذه ـ فهي مسألة تفاصيل ، تهم أكثر ما تهم حالات التّطبيق ، ونحن لا يعنينا سوى أن نستخرج وجهة النّظر العامّة ، الّتي تحكم كلّ هذه التّرخصات.

وقد ميز علم أصول الشّريعة الإسلاميّة في شرح القانون بين ضربين :

أوّلهما : خطاب تكليف ، وهو الّذي يقوم على فعل شيء ، أو تركه.

وثانيهما : خطاب وضع ، ويراد به وضع الشّروط ، والأسباب ، وبيان حال الصّحة ، وعدمها (٢).

ومن الثّابت في هذا العلم أنّ الأفراد الّذين يعجزون عن أن يكونوا موضع تكليف ليسوا بأقل أهلية لأن تتوجه إليهم الأوامر الوضعية.

ولذلك يفرض في مال الصّبية ، والمجانين ما يفرض في مال الآخرين من أفراد الجماعة ، ومتى ما أديت هذه الفرائض في أوانها أصبحت الشّريعة مستوفاة

__________________

(١) عبارة (حركية الإرادة) هي ترجمة لعبارة [Le dynamisme de la volonte] وعبارة (واجبا ساكنا) ترجمة لعبارة [un devoir statique] وهما متقابلتان. «المعرب».

(٢) انظر في هذا ، الموافقات للشاطبي : ١ / ٢٨٧. (المعرب).

انظر ، نهاية الإحكام للحلي : ٣٨٤ ، مسائل الأفهام للشهيد الثّاني : ١ / ٥١ ، الشّرح الكبير لأبي البركات : ١ / ٦٦ ، مواهب الجليل للحطاب الرّعيني : ١ / ٥٠٥ ، القواعد الفقهية للشيد الأوّل : ١ / ٧٣ ، حاشية الدّسوقي : ١ / ٦٦.

٥٨٦

استيفاء كاملا ، بمعنى أنّ هؤلاء الأفراد القاصرين عند ما يبلغون ، أو يستردون شخصيتهم الأخلاقية لن يلزمهم أن يدفعوا مرة أخرى بالنسبة إلى الماضي ، دفعا مقرونا بالنّيّة.

وها نحن أولاء من خلال التّفرقة الّتي أجريناها بين «واجب العمل» ، و«واجب الكينونة» ـ قد أبرزنا فائدة تلك الفكرة القانونية القديمة ، بل جعلناها أكثر وضوحا ، وأشد بساطة ، وبسطنا امتدادها إلى الأفعال الأخلاقية. أمّا وقد بسّطت ، ووسّعت هذه الفكرة على هذا النّحو ، فإنّها تصبح قادرة على أن تحل مباشرة المجموعتين من الصّعوبات الّتي صادفناها آنفا ، ولن يكون من العسير أن نتحقق من صدقها في جميع الحالات المذكورة من قبل ؛ فردية ، أو إجتماعية ، والّتي كان فيها للفعل الّذي تم عن جهل ، أو بالإكراه ـ نصيب من القبول والموافقة.

هل نحن بحاجة إلى القول بأنّ كلّ هذه المحاولات ليس الهدف منها أن نرد إلى الموضوعية في الأخلاق إعتبارها ، وأن نخلع بعض القيمة على العمل غير المصحوب بالنّيّة؟!

من البداهة بمكان أنّ فعلا كهذا لا يمكن أن ينسب إلى أحد من النّاس ، فهو عمل يبدو ، وكأنّه لا يحمل اسما ، ولا يعقب أدنى فضل للفرد. ولقد رأينا كيف أنّ المدرسة العراقية ، وهي أقل المدارس اقتضاء في موضوع النّيّة كشرط «لصحة الفعل» تنضم إلى المدارس الأخرى في حتمية وجود النّيّة كشرط «لقيمة الفعل» ، أي شرط كمال ، وإذن ، فإنّ الإجماع في هذه النّقطة أمر حاصل ، ويتعين ، على العكس ، أن نعثر على هذا الإجماع في النّصف الثّاني من المسألة ، أعني : أن نبين

٥٨٧

أنّه طالما كان الأمر متعلقا «بواجب حقيقي إيجابي» ـ فإنّ أي مذهب إسلامي ـ فيما نعلم ـ لم يسلم بالصحة الأخلاقية لأي عمل موضوعي تنعدم فيه فكرة الواجب من الضّمير. ولقد رأينا فعلا أنّه حيثما توفرت هذه الصّحة للفعل أحيانا أمكن تصور القانون في صورة «عدالة محايدة» ، و«غير شخصية» ، تستهدف الشّيء ، لا الشّخص ، حتّى كأنّ الصّيغة لم تكن في هذا الصّدد : «يجب أن تفعلوا» ... ولكن : «من الضّروري أن يكون هذا» .. ، أي أنّهم بدأوا بإلغاء فكرة التّكليف ، في حالة معينة ، بالمعنى الأخلاقي للكلمة.

وهكذا نجد أنّ الإرتباط العام ، والضّروري الّذي أقره الحديث بين (العمل) و(النّيّة) ـ محترم بالإجماع.

ب ـ النّيّة ، وطبيعة العمل الأخلاقي :

لقد أتاح بحث المسألة الأولى ، الخاصة بغيبة النّيّة ، أن نثبت مبدأ النّيّة ، كشرط صحة أخلاقية في كلّ عمل. فالحدث اللاشعوري ، والحدث اللاإرادي ، بل والعمل الشّعوري الإرادي الّذي لا يتصور على أنّه خضوع (أو إخلال) بتكليف ، وإنّما يؤتى من جانبه الطّبيعي الدّنيوي ـ هذا كلّه عاجز عن الوفاء بواجبنا ، عند ما يجب.

ولنبحث الآن الدّور الإيجابي للنّيّة ، أعني : درجة فاعلية وجودها. وأوّل ما نبحثه هو مسألة معرفة ما إذا كان لها أن تحدث تعديلا عميقا في طبيعة العمل ذاتها ، وبعبارة أخرى : ما إذا كان العمل السّيىء الّذي وقع بحسن نيّة يكتسب بذلك قيمة أخلاقية ، ويصبح على هذا النّحو عملا فاضلا ، وفي الحالة المضادة هل يكون عكس هذه الحالة صحيحا؟.

٥٨٨

وقبل أن نجيب عن هذه المسألة نعتقد أنّ من الواجب أن نتذكر معنى المصلحات الّتي تصاغ بها. فما المراد بعبارة : نيّة حسنة ، أو سيئة؟

إننا ما زلنا نفترض أنّ الإرادة حبيسة في أعمالها ، وكيفيات هذه الأعمال ، بصرف النّظر عن جميع الدّوافع الّتي قد تحملها عليها.

ومن ثمّ ، فإنّ حسن النّيّة لا يمكن أن يتمثل هنا في شرف الغايات الّتي قد تتحرك بها الإرادة. ومع أنّ دراسة هذه الفكرة الغائية يجب أن نستبقيها للقسم الثّاني من هذا الفصل ، فإنّ قيمة النّيّة تنبع هنا فقط من الطّريقة الّتي نحكم بها على مشروعاتنا ، من حيث اتفاقها ، أو اختلافها مع القانون. ولمّا كانت أحكامنا الأخلاقية لا تتوافق بالضرورة مع واقع الأشياء ، فقد يكون بينها ، وبين الإرادة فاصل ، حين تسعى الإرادة إلى بعض الأمور على أنّها مطابقة ، أو مناقضة للواجب ، ولكنها لا تكون كذلك في الواقع.

والمسألة ، في الحقيقة ، هي في محاولة معرفة ما إذا كان يكفي أن نحكم بصدق على عمل ما بأنّه مباح أو ممنوع ، وأن نتابعه بهذا الإعتبار ، لكي يكتسب الصّفة الّتي أسبغناها عليه ، إن لم يكن في ذاته ، فعلى الأقل بالنسبة إلينا.

وتلك مسألة يصعب علينا إلى أقصى حدّ أن نعطي عنها إجابة قاطعة ، بالإيجاب ، أو بالنفي.

ذلك أننا ، من ناحية ، لو إلتزمنا بدقة التّعبير ، وأخذنا بالفكرة القائلة بأنّ النّيّة الحسنة هي في ذاتها الخير الأخلاقي : «الخير المطلق بلا قيود» ، «الخير الوحيد

٥٨٩

في العالم ، بل وفيما وراء العالم» (١) فلسوف يقودنا ذلك منطقيا ، لا إلى تسويغ جميع الأخطاء ، والضّلالات ، الّتي تحدث للضمير ـ فحسب ، بل إلى أن نتخذ منها قيما مطلقة ، ونماذج كاملة من نماذج الفضيلة. ولسوف يكون محاولة مخفقة أن نرجو إبعاد هذه الحالات على أنّها : «أعمال مناقضة للواجب) ـ كما حاول «كانت» بعد ذلك بقليل أن يفعل. لأنّ الحالات المذكورة على وجه التّحديد يفترض صاحبها أنّها مطابقة للقاعدة. ولو عنّ لإنسان أن يتطلب خارج مجال النّيّة مطابقة مادية للقانون ، على ما هو عليه في ذاته فلن يعدو الأمر حينئذ أن يهدم ما هو بسبيل بنائه ، حيث يرجع بهذه الطّريقة عن مبدأ القيمة المطلقة للإرادة الطّيبة ، الّذي يريد اتخاذه كأساس.

هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ، لو أننا اعتبرنا توجيهات الضّمير عاجزة عن تغيير أي شيء في طبيعة العمل ، فإنّ أكثر الطّوايا إثما ، وأشد النّوايا سوادا ينبغي أن تتقبّل في نطاق الأخلاقية كما تتقبل أكثر النّوايا استنادا للمسوغات الطّيبة ، بشرط واحد هو أن تبدو مادة العمل دون أي مأخذ عليها في نظر الشّرعية.

وهكذا نحن عاجزون عن الإجابة بنعم ، أو بلا ، إجابة قاطعة ، فالمشكلة تضعنا أمام مأزق يبدو من الصّعب الوصول إلى مخرج منه. ومع ذلك فإنّ هذه الصّعوبة المزدوجة تتعلق تعلقا واضحا بتطلّب للمطلق ، زائد عن الحدّ ، وهو تطلب لا يجد هنا أدنى صدى في الضّمائر النّزيهة. والواقع أننا لا نستطيع في

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Kant, Fondements .., ١ ere phrase de la ١ ere section.

٥٩٠

تقديراتنا الأخلاقية أن نقرر أنّ آراءنا الباطنة لا تأثير لها في أعمالنا الظّاهرة ، ولكنا لا نذهب في هذه الطّريق إلى حدّ إلغاء قيمة هذه الأعمال. فمهمة الفلسفة الأخلاقية الّتي تريد أن تبقى قريبا من «أحداث الضّمير» الّذي تفسره ـ سوف تنحصر إذن في استخلاص ألوان هذا الشّعور العادل ، وإبرازها ـ بالرغم مما يشوب هذا الشّعور من غموض ـ ثمّ ترسم لها الحدود بقدر ما تستطيع من دقة.

فكيف حاول كبار الأخلاقيين المسلمين أن ينهضوا بهذه المهمة؟ ... وبم يتعلق الأمر أخيرا ..؟ ..

إنّ هناك بالنسبة إلى من يتخذ قرارا أخلاقيا أربع حالات ممكنة : فهل هو يريد أن يعمل طبقا للقانون ، أو على الرّغم منه؟ ... وفي كلتا الحالين ، هل طريقته في العمل ذاتها موافقة لما يأمر به القانون؟ .. أو هي عكس ما يأمر به؟ ..

فلنترك جانبا الحالات الّتي ينفق فيها حكمه مع الواقع ، إذ لا توجد في هذا الفرض أيّة صعوبة تواجه الأخلاقي. ولنقف عند الحالات الّتي يتباين (١) فيها الذاتي من الموضوعي ، فأي الرّأيين يجب أن نتخذ منه مقياسا للتقدير؟ .. أهو طريقتنا في تصور هذا العمل ، أو ذاك ، ووجه حكمنا على اتفاقه ، أو تعارضه مع القاعدة ، الّتي تقرر نهائيا قيمة سلوكنا ، والّتي تطبع عليه طابعها الأخلاقي؟ ..

__________________

(١) سوف نعالج فيما بعد نوعا آخر من الإنحراف الّذي يتمثل ، لا في جهل الصّفة الشّرعية للعمل في ذاتها ، بل على وجه التّحديد في إرادة استعمال هذه الشّرعية حرفيا لإخفاء عملية أخرى يحرمها الشّرع. وتلك هي الحيل الّتي يستعملها بعض رجال الأعمال ، من أجل أن يحللوا الرّبا ، والغش فيما أحلّ الله ، ففي هذه الطّريقة في النّظر نجد أنّ الإختلاف لا ينصب على الموضوع المباشر ، بل على غاياته ، وإنّا لنرجىء دراسته إلى القسم الثّاني من هذا الفصل ، حيث سيكون موضوع بحثنا أن نتناول نيتين ، تتبع إحداهما الأخرى (انظر ، فيما بعد ٢ ، ٥ ، ٣).

٥٩١

تلكم هي المسألة.

وإنّا لنلاحظ في هذا الصّدد أنّ إجابة الأخلاقيين المسلمين لا تتبع دائما خطا متوازيا : فتارة يكون العامل الحاسم في حكمهم باللوم هو النّيّة ، وتارة جرم العمل ، والحالة الأولى هي حالة عمل مطابق للشرع مع نيّة مخالفة ، والحالة الثّانية عكس الحالة الأولى.

١ ـ فعند ما يخطىء من يقوم بعمل ما في حقيقة الطّبيعة الأخلاقية لهذا العمل ، ثمّ ينفذه مع تصوره أنّ مشروعه يسير ضد القاعدة ، وهو ينوي مخالفة الواجب ـ فليس من شك في أنّه يدين نفسه بهذه الطّريقة في السّلوك. هنا نجد أنّ (مادة العمل ليست بشيء ، وأنّ النّيّة هي كلّ شيء) ، وذلك هو الحكم الصّريح لفقهاء المسلمين بإجماع.

والأمثلة التّالية ترينا بصورة كافية كيف أنّهم يمدون هذا الحكم إلى كلّ مجالات الواجب ، ومن ذلك أن يستولي رجل على مال يعتقد أنّه لغيره ، ولكنه في الواقع ماله الخاص. وآخر : يخطىء الحكم على عصير فاكهة قدم له ، فيأخذه على أنّه خمر ، ويشربه بهذه النّيّة ، على حين أنّه غير محرم فعلا. وثالث : يعتقد أنّه سوف يموت في ساعة معينة ، ومن ثمّ يجد نفسه مضطرا إلى أن يصلي مقدما ، دون أن يؤدي هذه الصّلاة في وقتها ، مع أنّ مخاوفه لو تبددت لأداها في أوقاتها العادية. وعلى سبيل الإيجاز : إنّ كلّ من يشرع في عمل خاطىء في نظره ، وإن كان مشروعا في ذاته ، يرتكب بهذه النّيّة الآثمة جريمة في حقّ الشّرع الأخلاقي ، على الرّغم من هذه المطابقة المادية ، الّتي تنجيه قطعا من الجزاء الشّرعي.

٥٩٢

٢ ـ أيكون الأمر على هذا النّحو في الحالة المناقضة؟ .. وهل للنّيّة الحسنة هذه القوة المغيرة ، الّتي تجعل الشّر خيرا؟.

وإليك مثالا : فنحن نعلم أنّ كثيرين من النّاس شديد والتّأثر ، والحساسية تجاه مقدساتهم ، لدرجة أنّ أيّة إساءة توجه إلى آلهتهم الزّائفة ، الّتي يعبدونها ـ قد تستدعي من جانبهم أن يجدفوا في حقّ الله المعبود بحقّ ؛ ومن ثمّ نهى القرآن الكريم عن هذه الإثارة فقال : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (١). ولكن ، لو أنّ مؤمنا غيورا دفعته حرارة إيمانه إلى أن يعبر ـ دون تعقل ـ عن إحتقاره للأصنام ، دون أن يفكر في ردود الفعل المحتملة على هذا النّحو ، أفلن يكون معذورا بنزاهة قصده؟ ..

ومثال آخر : إنّ الأخلاق القرآنية تذم المجدفين ، والمغتابين (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) (٢) ، بالقدر الّذي تذم به الّذين يسمعون لهم دون اعتراض ، فيصيرون بذلك شركاءهم : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) (٣) ، ولكن ، إذا لم أرد شرّا قط بشخص المفترى عليه ، وإذا كنت أعتقد فقط في وجوب أن أكون على علاقة طيبة بكلّ النّاس ، فلا أسيء إلى أحد ، أو أظلم أحدا ، أفلا أستطيع مع محافظتي على مشاعري الخاصة ، أن أدع المغتاب ، وشأنه ، وربما كنت أكنّ له بعض

__________________

(١) الأنعام : ١٠٨.

(٢) الحجرات : ١٢.

(٣) النّساء : ١٤٠ ، الأنعام : ٦٨.

٥٩٣

الإحترام؟ .. وأ ليس من حقي أن أقول في نفسي : إنّ التّصرف على هذا النّحو تصرف حميد؟.

وحالة ثالثة : في الحقّ أنّ نشر العلم الحقيقي واجب على كلّ فرد بحسب وسائله ، أي على قدر الإستطاعة. فمن الواجب علينا أن نتقاسم مع الآخرين ما لدينا من حقائق ، وليس أقل من ذلك وجوبا أن يكون عملنا هذا قائما على بصيرة. والعلم سلاح ذو حدين ، يمكن أن يكون في خدمة العدالة ، كما قد يصبح في خدمة الهوى. وإذن ، فهل لأولئك الّذين يحملهم المزاج ، أو المنفعة ، أو العادة على أن يسيئوا استخدام العلم ـ هل لهم حقّ في معارفنا؟ ولكن إذا لم يكن في نيتي أن أساعدهم على الإساءة ، وإذا كنت أريد أن أنورهم ، فقط ، وبكلّ طيبة ، ثمّ أدعهم ، وشأنهم ، يتصرفون على مسئوليتهم الكاملة ـ أليست هذه من جانبي لفتة كريمة ، تستحق الثّناء؟.

كلا ... هكذا يؤكد أخلاقيونا ، فإنّ الشّر لا يمكن أن يصبح خيرا بفضل كيمياء الإرادة ، وبهذا النّوع من سذاجة الضّمير الّذي أخطأ طريقه (١) ، وليس لدى أخطائنا الموهبة السّحرية القادرة على تطهير الدّنس ، بل إنّ هذا الخلط ، والتّلون الّذي نلجأ إليه يعتبر في أقوال الغزالي إثما آخر ، قال : «بل قصده الخير بالشرّ على خلاف مقتضى الشّرع شرّ آخر ، فإن عرفه فهو معاند للشرع ، وإن جهله فهو عاص يجهله (فجهله مزدوج ، لأنّه يجهل الشّرع ، ويجهل أنّه يجهله ، وقد قيل : أشدّ من الجهل الجهل بالجهل) إذ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ، والخيرات

__________________

(١) بهذا نرى أنّ الشّر الأخلاقي لا يأتي هنا من أنّ الإرادة اتجهت إلى عمل مستهدفة عملا آخر ، وإنّما هو يأتي بعكس ذلك تماما نتيجة هذا النّوع من قصور الضّمير ، الّذي لا يرى أبعد من العمل المباشر العاجل.

٥٩٤

إنّما يعرف كونها خيرات بالشرع ، فكيف يمكن أن يكون الخير شرّا؟! .. هيهات ... ثمّ يقول : من قصد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور (١) ، إلّا إذا كان قريب العهد بالإسلام ، ولم يجد بعد مهلة للتعلم» (٢).

ومع ذلك ، فإننا نضيف أنّه إذا كان الجهل عذرا فهل بوسعه أن يرقى بالنّيّة الخاطئة إلى مرتبة مبدأ من مبادىء الأخلاقية؟ .. إذا كان الأمر كذلك فلما ذا كان من الضّروري أن يخرج المرء من هذا الجهل ، وأن يرجع عن أخطائه؟.

إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقصد بقوله : «إنّما الأعمال بالنّيّات» (٣) ـ أنّ الأعمال لا تقوّم ، ولا توجد إلّا بالنّيّات ـ فحسب ، بل قال أيضا عن عائشة رضي الله عنها : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» (٤) ، أليس هذا هو أفضل برهان على أنّ

__________________

(١) إذا كانت النّيّة الحسنة (الّتي عرفت على أنّها خطأ في الشّعور بالصفة الأخلاقية للعمل نفسه) ـ منكرة إلى هذا الحدّ ، فما القول حينئذ في الحالة الأخرى الّتي يطلق عليها بنفس القدر من الإبتذال : نيّة حسنة ، وذلك عند ما يعتقد الفاعل ـ مع أنّه يرى في شغله خطأ جوهريا ـ أنّه يحلله ، ويضفي عليه صفة الشّرعية ، حين يريد به أن يسهم في عمل خير؟ ... وهكذا يفعل المزيفون من الوعاظ ، والدّعاة إلى الإيمان ، فهم بعد أن يخترعوا كلمات وعظية معسولة ، يضعونها على لسان النّبي ، حتّى يحثوا النّاس ـ كما يزعمون ـ على الفضيلة ، ومثلهم المجددون في طقوس العبادة ، بزعم تمجيد الله. ويحشر في زمرة هؤلاء أصحاب المطامع السّياسية ، الّذين يبيدون خصومهم الأبرياء بدعوى خدمة الوطن ـ إنّهم جميعا يذكروننا بالقصة المروية منذ قديم ، قصة المرأة الفاجرة الّتي أرادت أن تتصدق بكسبها الخبيث!! .. كلا ... فإنّ أجمل الغايات ، وأعدلها في ذاتها لا يسوّغ الوسائل الّتي لا يقرها القانون الأخلاقي ، على أنّها وسائل مشروعة.

(٢) انظر ، إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨ ـ طبعة الحلبي.

(٣) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٣ ح ١ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ١١٣ ح ٣٨٨ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٦٢ ح ٢٢٠١ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١٤١٣ ح ٤٢٢٧ ، المعجم الأوسط : ١ / ١٧ ح ٤٠ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ١١٨ ح ٤٠١.

(٤) انظر ، صحيح مسلم : ٣ / ١٣٤٣ ح ١٧١٨ ، تفسير القرطبي : ١ / ٣٥٨ ، صحيح البخاري : ٢ / ٧٥٣ ـ

٥٩٥

المسلك الحسن لا ينحصر في حسن النّيّة وحده ، ولا في دقة العمل وحدها ، بل في مجموع من الشّكل ، والمادة ، بحيث لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر؟.

وإنّا لنجد القولة الكاملة عن الواجب في الحديث المشهور : «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (١) ، وفي الحديث الآخر : «لا يقبل الله قولا إلّا بعمل ، ولا يقبل قولا ولا عملا إلّا بنّيّة» (٢).

ولقد تناول الحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، رضي الله عنهما ، هذا الحديث ، فكان من قولهما : «لا يصلح قول ، وعمل إلّا بنّيّة ، ولا يصلح قول ، وعمل ، ونيّة إلّا بموافقة السّنّة» (٣).

ومع ذلك ، إنّ هذين الشّرطين لا يمضيان دون شرط ثالث يستتبعانه ، فليس يكفي أن يتوافق العمل مع القاعدة ، وهو أمر قلناه دائما ، بل يجب أن يكون هذا التّوافق ، أو التّطابق مرادا ، ومرضيا بكلّ حرية.

__________________

ـ ح ٢٠٣٤ و ٢٢٥٠ ، صحيح ابن حبّان : ١ / ٢٠٧ ح ٢٦ ، سنن الدّارقطني : ٤ / ٢٢٤ ح ٧٨ ، سنن أبي داود : ٤ / ٢٠٠ ح ٤٦٠٦ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٧ ح ١٤ ، مسند أحمد : ٦ / ١٨٠ ح ٢٥٥١١ ، مسند أبي يعلى : ٨ / ٧٠ ح ٤٥٩٤.

(١) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / ١٩٨٧ ح ٢٥٦٤ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١٦ / ١٢١ ، فتح الباري : ٧ / ٢١٤ و : ١٣ / ٣٧٣ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ١١٩ ح ٣٩٤ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٨٤ ح ٧٨١٤ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ١٦٦ ح ٦١٤ ، تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٢٦ ، حلية الأولياء : ٤ / ٩٨ ، نوادر الاصول في أحاديث الرّسول : ٤ / ٩٥.

(٢) انظر ، قوت القلوب لأبي طالب المكي : ٢ / ٣٢٦ ، والحسبة لابن تيمية : ٩٢ ، تفسير القرطبي : ١٤ / ٣٣٠ ، لسان الميزان لابن حجر : ١ / ١٥٠.

(٣) انظر ، الحسبة لابن تيمية : ٩٢ ، وهذه رواية الحسن ، ورواية سعيد (لا يقبل) مكان (يصلح). «المعرب».

٥٩٦

وإذن ، فلكي يمكن أن تكون قاعدة معينة ملتزمة عن إرادة يجب أن تكون معلومة من قبل ، ولذلك قسم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القضاة إلى ثلاث طوائف : واحدة منها هي النّاجية ، فقال : «قاضيان في النّار ، وقاض في الجنّة ، فالذي في الجنّة رجل عرف الحقّ فقضى به ، والّذي في النّار رجل قضى للناس على جهل ، ورجل عرف الحقّ فقضى بخلافه» (١).

ويجب أن نعترف بأنّ هذه الأقوال توقظ فينا أعمق ألوان القلق على أنفسنا ، وإذا كان التّحديد السّليم للأخلاقية ينحصر في هذه المطالب الثّلاثة ، فما الّذي يضمن لنا أننا سنسير طبقا له ..؟ ... وما الّذي يضمن لنا أننا ـ في حالة معينة سوف نعرف ، ونتبع الشّرع الموضوعي الّذي يحكم هذه الحالة في الواقع؟ وإذا كان من واجب النّيّة القلقة أن تجرّم ، وتتهم النّفس الأمارة المتمردة ، فبأي حقّ يستطيع الإنحراف اللإرادي أن يبطل أعمالنا ، على حين أنّه ليس بيدنا أن نتجنب الخطأ؟ ..

وإذا كنّا ـ من ناحية أخرى ـ نريد الخير ، ونقع بجهلنا في الشّر ، ثمّ لا تكفي نيتنا الحسنة لتبرئتنا ، ولا تبلغ على وجه الدّقة سوى عفو متسامح ، فهل تكون جهودنا الّتي نبذلها في البحث عن الحقيقة ـ إذن ـ باطلة ، بلا قيمة ، وبلا جزاء ، بحكم إخفاقها؟ ..

__________________

(١) انظر ، صحيح التّرمذي : ٣ / ٦١٣ ح ١٣٢٢ ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٩٠ ، كشف القناع : ٦ / ٣٦٣ ، المعجم الأوسط : ٧ / ٣٩ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٣ / ٢٣٥ ح ٤٦٩٥ ، مسند زيد : ٢٩٥ ، شرح الأزهار : ٤ / ٣٠٩ ، المجموع : ٢٠ / ١٢٧ ، السّنن الكبرى : ١٠ / ١١٧ ، فيض القدير : ٤ / ٥٣٨ ، كشف الخفاء : ٢ / ١٢٦ ح ١٨٧٨.

٥٩٧

إننا لكي نبدد هذا القلق ينبغي أن نذكر القانون العلوي للأخلاق القرآنية : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١). فإنّ ما يجب علينا ليس هو عدم الوقوع في خطأ ، وليس هو أن نبلغ في جميع الظّروف الصّيغة الدّقيقة للواجب في ذاته ، وإنّما هو أن نبذل جهدا دائبا ، حتّى نزداد معرفة بهذا القانون الموضوعي ، ونهتدي بنوره.

ولكن شتان ما بين الرّغبة الحارة في أن نكون على الحقّ ، والإعتقاد التّلقائي بأننا نسير في طريقه ، في الواقع ، وما بين استخدام جميع الوسائل الّتي في قدرتنا لكي نصل إلى الحقّ. فإرتكاب خطأ بسيط ، مقرونا بحسن النّيّة ، لا ينتج سوى العفو ، وهو أمر لا يفتؤ القرآن يردده ، وليس معنى ذلك أنّ الإجتهاد الّذي يصحب هذا الخطأ ، ويسوغه بصورة معينة ـ لا وزن له في الميزان الأخلاقي. فلقد ساق إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا العزاء فيما رواه عمرو بن العاص صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر» (٢).

إنّ في أيدينا الآن العناصر الضّرورية لتفسير التّناقض الّذي ذكرناه في بداية هذه الفقرة. فإذا كنّا قد خصصنا النّيّة السّيئة بدرجة من التّأثير ، والفاعلية لم نخص بها الإرادة الطّيبة ، فقد يعتقد أنّ لنا شأنا في مفهومين مختلفين لقيمة العامل الباطني ، الّذي يبرز أحيانا ، وينزوي أحيانا أمام العنصر المادي ، وإنّا لنعرف الآن

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ٦ / ٢٧٧٦ ح ٦٩١٩ ، تفسير القرطبي : ١١ / ٣١٠ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٣٤٢ ح ١٧١٦ ، المعجم الأوسط : ٣ / ٢٩٢ ح ٣١٩٠ ، مسند أحمد : ٤ / ٢٠٤ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١٢ / ١٣ ، تهذيب الكمال : ٣٤ / ٢٠٥ ، سبل السّلام : ٤ / ١١٧ ، تحفة المحتاج : ٢ / ٥٧٦ ح ١٧٦٠.

٥٩٨

أنّ هذين الحكمين لا يصدران إلّا عن مبدأ أخلاقي واحد ، أعني : إمكان اقتضاء الشّكل ، والمادة معا. فإذا ما نقص أحد هذين العنصرين فإنّه يظهر فاعليته بالفراغ الّذي يتركه خلفه ، في العمل الأخلاقي ، وفي عجز العنصر الآخر المتبقي ، عن أن ينشىء وحده الفضيلة الكاملة.

والواقع أنّ الخير الأخلاقي ، في مجموعه ، لا ينحصر في حالة باطنية محضة ، ولا في حالة ظاهرية محضة ، بل هو ينحصر في الإنتقال من إحداهما إلى الأخرى ، وهو انتقال ، لكي يكون جديرا باسمه ، يجب أن يضم كلا العنصرين على سواء ، ولا حاجة لأن نؤكد عجز العنصر المادي ، ذلك أنّ العمل الظّاهري الخالص ، وهو عمل يليق بإنسان غبي كالآلة ، قد يؤدي خدمات مفيدة للمجتمع ، ولكنه سوف يظل دون علاقة بشخصيتنا. ولقد يستطيع فعلا ـ على حسب تعبير كانت ـ أن يوفر لنفسه الشّرعية ، ولكنه لن يستطيع مطلقا أن يضمن الأخلاقية.

بيد أنّ البرهنة على القضية الأخرى تبدو مهمة عسيرة ، أليس العنصر الرّوحي هو العنصر الجوهري في الواجب ، إن لم يكن هو كلّ الواجب؟ .. إنّ هذه الفكرة مسلمة عموما ، حتّى إنّه يبدو من باب التّطاول أن نشكك فيها ، أو أن نضع لها بعض القيود. ومع ذلك فإنّها تحتاج إلى بعض التّحديدات الضّرورية.

وأوّل هذه التّحديدات : أنّ فكرة «الإرادة» لا تشتمل فحسب على فكرة «القدرة» من حيث المبدأ ، أو الإفتراض (فعمل الإرادة مستحيل في حال اليأس الواقعي ، والكلّي) ؛ ولكن من حيث كون «الإرادة» و«العزم» يتميزان ، كما يتميز الحاضر من المستقبل ، فالإرادة تفترض ـ كنتيجة مباشرة ـ نشاطا خارجيا معينا ،

٥٩٩

لا يلبث أن يتحد معها خلال الزّمن. والواقع أنّ العنصرين متضامنان تضامنا وثيقا في شعورنا كما يتضامن عضوان في كياننا. وكما أنّه في الأحوال العادية ، لا تعمل الخلية مطلقا وحدها ، ولحسابها الخاص ، فكذلك قدرتنا على القرار قلما تدعي أنّها تضع اللّمسة الأخيرة في المشروع العملي ؛ فهي تعترف لنفسها بالنسبة إلى قدرتنا على التّنفيذ ، بمكان الرّائد الّذي يمهد الطّريق للجندي الحقيقي. وهي لا توقف خطة العمل من أجل أن تتوقف فيه لحظة واحدة ، بل من أجل أن تمضيه صراحة إلى مجال التّنفيذ مباشرة ، وهو وحده موجد الخير الموضوعي المقصود.

وثاني التّحديدات : أنّه ما دام العمل الباطني لا يشتمل على بداية للفعل ولو في صورة هزة عضلية ، أو مخية ـ فمن الممكن شرعا أن نسأل أنفسنا عما إذا كان قد تجاوز نهائيا مرحلة تكون الأفكار النّظرية ، ومرحلة التّأمل الجمالي ، ليدخل إلى مجال الممارسة الأخلاقية ، أو حتّى مجال الممارسة وحدها ، أعني : مجال الإرادة ، والله يقول : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) (١) ، ذلك أنّ الإرادة هي ، بالمعنى الحقيقي ، أن نتحرك حركة انتشارية ، تنطلق من الفكرة ، متجهة نحو العمل.

والإرادة هي التّوجه من المثالي إلى الواقعي ، وعلى هذه المسيرة من الباطن إلى الظّاهر ، ومن الشّعور إلى التّجربة ، يوجد الفعل الأخلاقي.

هذا الفعل ليس حالة سكونية (ستاتيكية) ، عبادة في خلوة ، حبيسة في دير القلب ، إنّه وثبة حيّة ، وحركة ذات انتشار ، نقطة انطلاقها في الدّاخل ، ونقطة

__________________

(١) التّوبة : ٤٦.

٦٠٠