دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

إنّه يريد أن يقول إذن : «لا تخلوا بين أنفسكم وبين الأنزلاق في نتائج الغضب الطّائشة ، وقاوموا الحركات الّتي تسير في اتجاه فاسد بتوجيهها وجهة أخرى» (١).

بل إنّ العقيدة نفسها يمكن أن ينظر إليها على إنّها إلزام منبثق عن أمر واقع ، ما دام الإنسان ـ أمام الوضوح الّذي لا يقاوم ـ لا يملك إلّا أن يذعن ويسلم.

ولذا نجد القرآن حين يريد أن يوجز وصاياه المتعلقة بالإيمان ينتهي بها إلى وصية واحدة هي التّفكر في عزلة ، أو في صحبة شخص آخر : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ

__________________

ـ ١٢ / ٥٠٤ ح ٥٦٩٠ ، المستدرك على الصّحيحين : ٣ / ٧١٣ ح ٦٥٧٨ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٣٧١ ح ٢٠٢٠ ، مجمع الفائدة : ١٢ / ٣٦٩ ، السّنن البيهقي الكبرى : ١٠ / ١٠٥ ، مجمع الزّوائد : ٨ / ٦٩ و ٧٠ ، المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي : ٧ / ٦٧ ح ٣٤٢٤٥.

(١) الواقع أننا نجد لهذا الموضوع علاجا مشارا إليه في الأحاديث ، فقد أوصى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ من يتعرض لهذه العاطفة العنيفة أن ينعش وجهه ، وجوارحه بوضوء : «فإذا غضب أحدكم فليتوضأ».

انظر ، تفسير القرطبي : ٧ / ٢٨٧ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٠٦ ، سنن أبي داود : ٤ / ٢٤٩ ح ٤٧٨٧ ، مسند أحمد : ٤ / ٢٢٦ ح ١٨٠١٧ ، الأحاد والمثاني : ٢ / ٤٦٤ ح ١٢٦٧ ، المعجم الكبير : ١٧ / ١٦٧ ح ٤٤٣ ، جامع العلوم والحكم : ١ / ١٤٦ ، شعب الإيمان : ٦ / ٣١٠ ح ٨٢٩١ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ١٨٠ ح ٦٧٢ و : ٣ / ١١٣ ح ٤٣١٤ ، فيض القدير : ٢ / ٣٧٧ ، تهذيب التّهذيب : ٧ / ١٦٨ ح ٣٥٨ و : ٢٠ / ٣٤. ويعتمد علاج آخر على تغيير الوضع المادي : أن يجلس الغاضب إذا كان قائما : «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب ، وإلّا فليضطجع». انظر ، تفسير القرطبي : ٧ / ٢٨٧ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٠٦ ، صحيح ابن حبان : ١٢ / ٥٠١ ح ٥٦٨٨ ، موارد الظّمآن : ١ / ٤٨٤ ح ١٩٧٣ ، مجمع الزّوائد : ٨ / ٧٠ ، سنن أبي داود : ٤ / ٢٤٩ ح ٤٧٨٢ ، مسند أحمد : ٥ / ١٥٢ ح ٢١٣٨٦ ، مسند الحميدي : ٢ / ٣٣١ ح ٧٥٢ ، شعب الإيمان : ٦ / ٣٠٩ ح ٨٣٨٤ ، تهذيب الكمال : ٣٣ / ٢٣٥ ، سبل السّلام : ٤ / ١٨٣.

وهنا مجال لمقارنة كلّ هذه الأساليب الفنية النّفسية ـ العضوية بنظرية ديكارت ، ومالبرانش ، الّتي قدمها كلّ منهما عن فن السّيطرة على العواطف : [L\'art de maitriser les passions]

١٦١

بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (١) ، أي بعيدا عن تأثير الجماهير.

ومع ذلك فلقد شهد التّأريخ الإسلامي جدالا نشب بين الأشاعرة ، والمعتزلة حول هذه المسألة : هل الله سبحانه قادر على تكليف النّاس بعمل المحال ، فضلا عن أن يكلفهم ما لا يطيقون؟ ..

والغريب أنّه على حين نجد المعتزلة ـ الذين يطلقون أساسا العنان لعقولهم ـ يدافعون هنا عن حرفية النّص ، إذا بالأشاعرة ـ الذين يرفعون غالبا لواء التّشدد في الدّين ـ (دون أن يكونوا خير ممثليه كما يجب أن نعترف) ـ يدافعون عن القضية العكسية ، مقررين أنّ من الممكن عقلا وشرعا لله سبحانه أن يكلفنا ما ليس في وسعنا ، وأن يحقق ما لا يقبل التّحقق ، حتّى لو كان محالا. وعلة هذا الأنقلاب في الموقف يسهل كشفها إذا ما وضعنا نقطة الخلاف في مكانها من مجموع كلّ مذهب.

فالمعتزلة يرون أنّ هذا الموقف مرتبط بنظام عقلي خالص ، يزعم التّوصل بنور العقل وحده إلى ذات الموجود الأسمى ، وإلى الشّرائع الأخلاقية الّتي تحكم أفعاله ، كما يتوصل أيضا إلى الشّرائع الّتي تفرض علينا.

وفضلا عن ذلك فإنّ الشّرائع الإلهية ما إن تعرف حتّى تستنبط منها مجموعة من القواعد المحددة ، الّتي لا يقدر الله سبحانه على نقضها. فالله سبحانه طيب ، وحكيم ، وعدل.

وإذن فهم يقررون أنّ ما لا يتفق في ذاته مع هذه الصّفات ، بل ما نتصوره نحن

__________________

(١) سبأ : ٤٦.

١٦٢

من هذا القبيل ، لا يقدر الله سبحانه على فعله ، ولا يجوز أن يفعله.

ومن هنا جاء ، فيما جاء عنهم ، القواعد الآتية : لا يجوز أن يخلق الله سبحانه شيئا دون أن يقصد إلى غرض نافع بالنسبة إلى المخلوق ، وهو ما يطلقون عليه : (رعاية الصّلاح) ، كما أنّه يجب أن يحقق من بين الخيرين الممكنين أكثرهما نفعا ، وهو عندهم : (رعاية الأصلح). وليس لله سبحانه أن يتدخل في أعمالنا الإرادية ، لا من أجل فرضها ، ولا من أجل منعها ، وفي مقابل ذلك يجب أن يزودنا بقدرة متكافئة لفعل النّقيضين ، ثمّ يتركنا نختار إختيار حرّا فيما بينهما ، فمن أطاع وجب على الله أن يثيبه ، ومن عصا الله دون أن يتوب ، وجب على الله أن يعاقبه ، دون أن يغفر له ، وإلّا أرتكب ظلما.

وسواء أكان الأمر يتعلق بطبيعة واجباتنا نحو الله ، أم نحو أنفسنا .. أم نحو الآخرين .. فإنّ هذه الواجبات تصدر بالضرورة عن طبيعة الخير والشّر. ولدينا عن هذه الطّبيعة معرفة فطرية تقريبا.

وحتّى لو أننا افترضنا أن الله سبحانه لم يكن قد أظهر إرادته في الكتب المنزلة ، ولم يوح أوامره إلى الرّسل ، فمن المؤكد أننا كنّا سنعرفها ، ثمّ نكون ملزمين بإتباعها ، وليس للكتب ولا للرّسل من مهمة سوى إثبات آرائنا العقلية وإيضاحها.

فمن أجل مقاومة هذا الأغترار الشّاطح ، وهذه الثّقة المتضخمة بالعقل الإنساني ، هبّ الأشاعرة يناهضون أفكار المعتزلة ، فكرة فكرة ، حتّى وجدنا أنّ روح المراء قد أدت بهم أحيانا إلى أن ارتكبوا تطرفا مضادا.

١٦٣

فالأشاعرة حين أرادوا أن يقارعوا البراهين بالبراهين ، قصروا أوّلا عن أن تكون لهم أرضية فلسفية ثابتة ، وهي على كلّ حال أقل خطرا ، أعني هذا الموقف السّلبي الّذي يقوم على رفض الإحتكام إلى العقل في مثل هذه المشكلات ، بإعتبار أنّه لا يصح قياس العقل المتناهي بالأشياء اللامتناهية.

أمّا في الجانب الإيجابي فإنّهم قد أخطأوا حلا ليس بأقل حكمة ، وهو حلّ بناء وقرآني بحقّ ، يوفق بين الصّفات المتعارضة ، دون أن يغفل واحدة منها ، أو يغلو في الإعتماد عليها ، والأخذ بها.

فالقرآن يعلمنا من جانب حقيقة هي : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (١) ، فهل من الممكن أن نفهم هذه العبارة على أنّها تحكم واستبداد مطلق؟ .. على حين يؤكد القرآن لنا من جانب آخر : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) (٢)؟ ..

وها هو ذا نفس التّقابل بين الصّفات في صورة أخرى. فهو يقول في نصّ من نصوصه : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) (٣) ، ولكنه يقول في نفس النّص : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (٤). ويقول في آية أخرى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) (٥).

وكذلك الحال حين يعلن أنّ الله قادر على أن يهلك النّاس جميعا ، الطّائعين مع

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) غافر : ٢٠.

(٣) الأعراف : ١٥٦.

(٤) الأعراف : ١٥٦.

(٥) النّساء : ١٤٧.

١٦٤

المذنبين : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (١) ، أو حين يعلن أيضا أنّ شيئا في هذا الكون لا يستطيع أن يعارض ما فرض علينا من التّكاليف الشّاقة ، ولا ما أبتلانا به من تصاريف مغمّة : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) (٢) .. أليس واضحا أنّ هذه الصّورة الشّرطية لم تتغير مطلقا إلى مضارع الحال؟ .. ومن الممكن كذلك أن نؤكد أنّها لن تتغير أبدا من حيث إنّ الله سبحانه قال : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (٣) ..

وإذن ، فبدلا من أن يؤكد الأشاعرة القدرة الإلهية الكاملة ، الّتي غاب عن المعتزلة تأكيدها ، وبدلا من أن يجعلوها في مقابل الحكمة الّتي حاول المعتزلة إبرازها ـ نجدهم بدافع الحمية ، وقلة الحنكة النّظرية ـ قد ألغوا تقريبا الحكمة من أجل القدرة. بحيث لم يحتفظوا منها إلّا بالاسم وحسب.

فعند ما نجد عملا محكم التّدبير ، كامل التّنظيم ، بحيث يكون لكلّ جزء وظيفته داخل المجموع ، أو عند ما نرى أنّ واقعا قد انته إلى نتائج طيبة ، فإنّ العادة قد جرت على أن نفسر الأمور بعضها ببعض ، وأن نحمل هذه العلاقة في المكان ، أو في الزّمان ، وهذا التّضامن البنائي ، أو هذا التّتابع التّأريخي ، على غاية مقصودة.

قال الأشاعرة : هذا تشبيه!! فإنّ هذا التّفسير الإنساني لا يصدق على الأمر الإلهي ، حيث لا موضع لإفتراض وجود غاية ، بحسب مذهبهم ، والله يفعل ما

__________________

(١) المائدة : ١٧.

(٢) البقرة : ٢٢٠.

(٣) الأنعام : ١٢.

١٦٥

يريد ، دون أن يقصد إلى أية غاية. ومن عباراتهم في ذلك : «إنّ الله لا يفعل شيئا لأجل شيء ، ولا بشيء ، وإنّما أقترن هذا بهذا لإرادته لكليهما ، وهو يفعل أحدهما مع صاحبه ، لا به ، ولا لأجله ، لأنّه خالق كلّ شيء ومليكه» (١).

ونقول نحن : ليكن هذا ، ولكن أليس الأشاعرة مضطرين ـ على الرّغم من هذه الإرادية الّتي لا تتقيد بغاية ، وليس لها ما يقابلها أو يوازيها ـ إلى أن يعترفوا بأنّ مجال الإرادة والوجود أكثر تقييدا من مجال الإمكان ، والقدرة المطلقة؟. لا شيء حينئذ سوف يحول دون أن يتفق ما يبدعه الله ، أو ما يأمر به ، مع مقتضيات العدالة ، والخير ، ولو أنّه لن يكون محدودا بهما (٢).

أمّا فيما يتعلق بهذه الحالة الّتي تشغلنا فلسوف يرضينا لو استطاعوا أن يؤكدوا لنا أنّ الله سبحانه لا يكلف النّاس إلّا وسع قدراتهم ، وهو تكليف ، إن لم يكن بالشرع ، فليكن على الأقل بالواقع ، وتبعا لعرف دائم لا يقبل التّغير.

لقد فهم أكثر الأشاعرة تعقلا هذا المعنى (٣) ، ولكن الآخرين استهواهم المضي في المراء ، فجذبهم إلى بعيد. لقد أجهدوا أنفسهم ليجدوا وسيلة بارعة لإثبات فكرة التّكليف بالمحال في ذاته ، لا من حيث هو حقّ القدرة الإلهية فحسب ، ولكن بإعتباره واقعا قد حدث فعلا. ثمّ نجدهم يدعون في جرأة نموذجية أنّ لديهم على ذلك أمثلة مادية في القرآن نفسه ، وإليك لقطتهم الثّمينة.

__________________

(١) انظر ، منهاج السّنة النّبويّة : ١ / ١٢٧ ، سير أعلام النبلاء : ١٤ / ١٨٤.

(٢) انظر ، رسائل السّيّد المرتضى : ٢ / ٣٠٧ ، أوائل المقالات للشيخ المفيد : ٣٠٣ ، الإعتقادات للشيخ المفيد : ٢٩ ، الفصول المهمة في اصول الأئمة للحر العاملي : ١ / ١٩٥ و ٢٥٧ ، تفسير الميزان للسيد الطّباطبائي : ١٢ / ١٨٩.

(٣) المراجع السّابقة.

١٦٦

لقد ساقوا مثلا على ذلك حال بعض الكفار الذين أعلن القرآن أنّهم سيموتون في الكفر ، من مثل قوله تعالى : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) (١) ، وقوله : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) (٢). ولسوف يكون ذلك مهما بذل في سبيل هدايتهم من جهد : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) (٣).

فهؤلاء النّاس لم يكونوا أقل تكليفا بالإعتقاد في الحقائق المنزلة ، بما في ذلك كفرهم الدّائم ، وهم على ذلك يفعلون المستحيل :

أوّلا : لأنّ أمرا مما علم الله عدم وقوعه ، لا يمكن أن يوجد.

وثانيا : لأنّه ربما كان من المتناقض أن يؤمنوا بهذا الوحي الخاص ، الّذي يقرر أنّهم لن يؤمنوا أبدا ، وبذلك يكونون في حالتي إيمان ، وعدم إيمان.

ويقدم فخر الدّين الرّازي هذا الإستدلال المزدوج ، ويضاعف من حوله الأقوال ، كأنّما هو العقبة الكؤود الّتي لن يستطيع العقليون أن يفلتوا منها أبدا (٤).

بيد أنّه حتّى لو افترضنا أنّ المقدمات صادقة ، فلسنا نرى في هذا الإستدلال المزدوج سوى ضروب من القياس الكاذب.

وأوّل الإستدلالات ، وهو ما يستمدونه من علم الله السّابق ـ يقوم على نوع من الخلط بين «الممكن» و«الواقع» ، بين «الجوهر» و«الوجود» ، فليس معنى كون الشّيء لا يوجد ، أو لن يوجد أبدا ـ أن يكون مستحيلا في ذاته. فالعلم لا

__________________

(١) المسد : ٣.

(٢) المدثر : ٢٦.

(٣) البقرة : ٦.

(٤) التّفسير الكبير ، للفخر الرّازي : ١ / ١٨٥.

١٦٧

يغير جوهر الأشياء ، فضلا عن واقعها ، إنّه يسجل هذا الواقع ، ثمّ يحكيه ، ويعبر عنه ، ولو كان كلّ ما علم الله أنّه لا يوجد ـ «مستحيلا» لوجب القول ـ لنفس السّبب ـ بأنّ كلّ ما علم الله أنّه يوجد «ضروري». فما ذا بقي في الكون إذن لتتحقق فيه الإرادة الإلهية؟.

وأمّا الإستدلال الثّاني : فهو يقوم كذلك على خلط منطقي بين نوعين من القضايا ، أحدهما قائم بذاته ، والآخر معلق بغيره ؛ فالإيمان وعدم الإيمان ـ قضيتان متناقضتان ، مفترض أنّهما قد استوفتا كلّ الصّفات المطلوبة. ولكن إيمان الفرد ، بأنّه لن يؤمن أبدا ـ حدث واقعي بالنسبة لمن لا يؤمن ، ما دام أنّه يحسه في نفسه ، ويعرفه بالتجربة المباشرة ، والشّخصية.

وحين أخفقت كلّ محاولات الأشاعرة في هذا المجال القرآني ، وجهوا بحوثهم إلى مجال أكثر رحابة ، وأعظم اعتمادا على العقل الخالص ، وها هم أولاء يريدون أن يبرهنوا لنا على أنّ التّكليف بالمحال هو من جانب معين قاعدة عامة ، أكثر من أن يكون قاعدة خاصة في الشّرع الإلهي.

ويقف خصومهم المعتزلة ليدافعوا عن الحرية الإنسانية مقدمين إياها على العمل ، حين يكون لكلّ امرىء أن يجرب قدرته المزدوجة على أن يعمل ، أو يمتنع عن العمل.

ويعترض الأشاعرة على هذا بأنّ القدرة كانت قبل العمل إحتمالا ، والقدرة الفعلية مصاحبة للعمل (١) ، من حيث إنّه لا يمكن أن تمارس هذه القدرة تأثيرها

__________________

(١) قارن هذا بنظرية برجسون عن الحرية ، القائمة على عدم القدرة على التّنبؤ بالعمل ، وعلى ديناميكية الذات الفاعلة.

١٦٨

على الضّدين إلّا تباعا ، فإذا ما شغلت بأحدهما بقي الآخر محالا ، ما دام الأوّل في طريق التّحقق. فالذي يخالف الأمر ، ويستخدم نشاطه في مناقضته هو حينئذ غير قادر على الطّاعة ، في حين يمارس المعصية ، وهو مع ذلك ، مكلف في اللحظة ذاتها بأن يؤدي واجبه ، وبهذا يكون عدد الحالات الإستثنائية الشّاذة ـ أعني : الّتي يكون موضوع التّكليف فيها أمرا لا يقبل التّحقق ـ مساويا على الأقل لعدد الحالات السّوية.

ولكن من ذا الّذي لا يرى في هذا الكلام سفسطة خالصة؟ ..

الواقع أنّ أحدا لا يمكن أن يفكر في تفسير الأمر الموجه إلى عاص ، بإعتباره تكليفا له بأن يطيع ، في الوقت الّذي يعصي. فقد وضح إذن أنّ الهدف هو إلزامه بأن يكف عن المقاومة ، وأن يتيح لنشاطه بديلا أخلاقيا.

فإذا ما أصروا على أن يخلعوا صفة (المحال) على عمل كهذا فلن تكون هذه سوى مشكلة زائفة ، وإذا لم يكن الخصمان قد أتفقا على تحديد المراد من الكلمة ، فإنّهما متفقان بهذا على الوقائع ذاتها ، وعلى المبدأ الّذي ندافع عنه إتفاقا كاملا (١).

ب ـ اليسر العملي :

ها نحن أولاء قد أقصينا من مجال التّكليف كلّ ما لا يمكن أن يخضع خضوعا مباشرا ، أو غير مباشر ، لقدرتنا. ومع ذلك ، فهذا الإقصاء لا يمكن أن يكون وقفا على الأخلاق الإسلامية ، بل يجب أن نعتبره السّمة المشتركة بين جميع المذاهب

__________________

(١) انظر ، تفسير الميزان للسيد الطّباطبائي : ٦ / ٣٥٢ و ٣٥٥ و : ١٠ / ٣٦٩ ، لتجد بحثا مفصلا عن الحرية.

١٦٩

الأخلاقية العادلة ، والمعقولة ، ولا سيّما الأخلاق الموحاة كلّها ، من حيث كان بدهيا أن عكس هذه الأخلاق غير متوافق مع العدالة ، والحكمة الإلهية. ومضمون النّصوص السّالف ذكرها يؤكد هذه الملاحظة ، إذ هو يقدم لنا في الواقع هذا الشّرط في صورة مؤكدة ، شديدة العموم ، حتّى ليحق لنا أن نفسرها على أنّها تعبير عن قانون إلتّزمت به الذات الإلهية نفسها ، وهو صادق بالنسبة إلى جميع النّاس ، في جميع الأزمان.

وإليك الآن نصوصا أخرى لا تقتصر على نفي كلّ ما هو مستحيل على سبيل الإطلاق ـ من الأخلاق الإسلامية ، وإنّما هي تنفي عنها كذلك كلّ تكليف لا تقر العادة إمكان تحمله ، كما تنفي كلّ مشقة يمكن أن تستنفد قوى الإنسان ، حتّى لو كانت في حدود طاقتها.

يقول الله سبحانه : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١) ، ويقول : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) ، ويقول : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (٣) ، ويقول : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٤).

ففي هذه الكلمات نسمع نغمة جديدة تماما ، إذ أنّه على حين أنّ الشّرط الأوّل ، وهو الإمكان ، كان يساق على أنّه حقيقة أبدية ، مستقلة عن المكان ، وعن الزّمان ـ لا نصادف هنا سوى أقوال مقيدة ، تقدم لنا هذا الطّابع الثّاني : اليسر ، على أنّه واقع تأريخي ، متصل بالأمّة الّتي يتوجه إليها الخطاب ، أعني :

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) الحجّ : ٧٨.

(٣) النّساء : ٢٨.

(٤) الأنبياء : ١٠٧.

١٧٠

أمّة الإسلام.

فإذا لم يكن المراد ضرورة أنّ هذا الطّابع إسلامي النّوع ، فلا أقل من أن يوحي إلينا عدم القصد إلى ذكر قول عام في هذا الصّدد ، فكرة أنّ هذا الجانب ليس مشتركا بين جميع الشّرائع المنزلة.

هذه الفكرة الّتي يمكن أن نستنتجها هنا من مجرد المقابلة الأسلوبية ، جاءت إلينا واضحة تمام الوضوح في آية أخرى هي قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) (١) ، فقد كان هنالك إذن «إصر» مفروض في شريعة سابقة ، ففي أي دين كان؟. وما هو هذا الإصر؟.

فأمّا عن النّقطة الثّانية ، فقد ذكر المفسرون أمثلة كثيرة لا مجال هنا لتحقيق قيمتها التّأريخية.

وأمّا عن النّقطة الأولى ، فإنّ العبارات الّتي إستخدمها بعضهم يفهم منها أنّ ذلك كان في جميع الأديان السّابقة ، الّتي باينتها شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يشبه المزية الخفية. غير أننا إذا ما تمسكنا بإشارات القرآن نعتقد أنّ بوسعنا أن نجيب عن هذين السّؤالين إجابة قاطعة محددة.

ففي الحوار الّذي أورده القرآن بين الله عزوجل ، وبين موسى ، عقب الرّجفة الّتي أخذت السّبعين المختارين من قومه في جبل سيناء (٢) ، نقف أمام آية ، لو وضعناها بإزاء الآية الّتي ذكرناها آنفا لمنحتها قيمة بيانية ، حيث قد استعملت

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) انظر ، تفسير الثّعالبي : ٣ / ٨٢ ، الكامل لابن الأثير : ١٠ / ٣١٠ ، سير أعلام النّبلاء : ١٩ / ٢٩٨ ، سبل الهدى والرّشاد : ٣ / ٣٠٥.

١٧١

نفس ألفاظها. يقول الله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (١) ، فبنو إسرائيل والدّيانة اليهودية يمكن إذن أن يصبحا عبرة لنا ، عبرة توضح النّص المذكور. ولكن ما أهمية هذا التّوضيح؟ .. أيجب أن نأخذ النّصين على أنّ كلا منهما محدد للآخر؟. أو يجب على العكس أن نمضي صعدا في التّأريخ ، وأن نمد فيه العبرة إلى الأديان السّابقة. ثمّ نختم حديثنا بإمتياز الشّريعة المحمدية في هذه النّقطة؟. إننا لا نوافق على الأفتراض الأخير ، لأسباب :

أوّلها : أنّ من العسير أن نصف دينا كدين إبراهيم بهذا الوصف ، وهو الّذي طالما أنتسب إليه الإسلام ، وخصه القرآن بنفس السّمة الرّحيمة : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) (٢).

وثانيها : أنّ المصاعب الّتي ذاقها بنو إسرائيل على ما حكى القرآن (كالسبت ، وتحريم بعض الطّيبات) ـ لا تبرز أصلا في ديانته ، وإنّما هي إجراءات أتخذت فيما بعد عقابا لهم على سوء عملهم ، وهو ما يعبر عنه قوله تعالى : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) (٣) ، وقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ

__________________

(١) الأعراف : ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٢) الحجّ : ٧٨.

(٣) النّحل : ١٢٤.

١٧٢

طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (١). وقد فصلت هذه الطّيبات المحرمة ، الّتي وردت إشارة هنا ـ في موضع آخر من السّورة السّادسة (الأنعام) ، ثمّ ختم التّفصيل بقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) (٢).

فالإسلام لم يفعل إذن سوى أنّ ردّ الأمور إلى نصابها ، ووضعها موضعها. ومع ذلك فتلك هي الرّسالة الّتي كلّف عيسى عليه‌السلام أن يؤدي جانبا منها على ما حدث القرآن : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (٣).

وثالثها : أننا لا نستطيع أن نفهم بسهولة ؛ كيف تريد رحمة الله أن تثبت منذ البداية نظاما يضغط ضغطا شديدا على الإنسان ، ذلك المخلوق الضّعيف ، حتّى لتجعله يئن تحت ثقل نيره ، على ما تدل عليه كلمة «إصر»؟. أمن الممكن أن نتحدث ، إلى حدّ ما ، وتبعا للمعتقدات ، عن مشقة نسبية في بعض الفرائض الواجب أداؤها ، أو أن نتحدث عن قدر معين من المشقة يتفاوت في مبلغ إمتداده ، أمام حرية المبادأة ، أو حرية الإختيار؟ ..

أيّا ما كان الأمر فلا ينبغي أن نتوسع كثيرا في هذا الموضع ، الّذي قد يحتاج إلى دراسة مقارنة أكثر تفصيلا. ولنعد إلى نقطة بدايتنا ، لنرى بما نسوق من أمثلة ـ بعض مظاهر اليسر العملي الّذي خصّ به القرآن أوامره.

والمظهر الأوّل يكمن في أنّ القرآن لا يفرض علينا الغلوّ في تطبيق بعض

__________________

(١) النّساء : ١٦٠.

(٢) الأنعام : ١٤٦.

(٣) آل عمران : ٥٠.

١٧٣

الأعمال التّعبدية ، كقيام اللّيل في الصّلاة ، وإنّما هو ينصحنا بعدم إلتّزام هذا الغلوّ ، ويفصح عن بعض مساوئه.

فمن المعلوم أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في بداية رسالته مأمورا أن يقوم شطرا كبيرا من اللّيل في الصّلاة ، وترتيل القرآن ، وهو قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (١) ، وقد سار على هدي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض صحابته ، حيث اعتادوا أن يفعلوا ما يفعل. وها نحن أولاء نقرأ في نهاية السّورة ذاتها درسا موجها إلى هذه الطّائفة من القائمين بالليل ، يلفت أنظارهم إلى أنّهم لن يستطيعوا أن يداوموا على هذه الشّعيرة في ظروف معينة ، كالمرض ، والسّفر ، والجهاد. ثمّ يأمرهم أن يكون قيامهم بالليل بقدر ما تسمح أحوالهم : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) (٢).

وقد ظهرت هذه الرّوح ـ الّتي ترى الإفراط في التّحنث ـ لدى بعض الصّحابة في المدينة ـ فلم تواجه بأقل مما سبق ، بإعتبارها إنحرافا مناقضا لروح الشّريعة. وينتج من مجموع النّصوص القرآنية والنّبويّة المتعلقة بهذا الموضوع أنّ الإسلام يعلق أهمية كبيرة على بعض الأوامر الّتي لا ينبغي أن يغفل عنها امرؤ تقي ، وربما كان إغفالها هو النّتيجة الطّبيعية لهذا الإفراط.

فقد رأينا أنّ الإنسان ليس عليه فقط أن يتحفظ من إطالة عبادة ، ربما تعوقه في أداء الواجبات الأخرى (كالتجارة ، والجهاد) ، ولكن العمل العبادي نفسه لا ينبغي أن يتحول إلى نوع من الآلية ، الّتي لا يحس المرء معها إحساسا واضحا بما

__________________

(١) المزمل : ٢ ـ ٤.

(٢) المزمل : ٢٠.

١٧٤

يفعل ، أو بما يقول : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) (١).

ولقد يحدث ـ كما يلاحظ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن ينشأ عن طول القيام والسّهر اضطراب في نظام الدّماغ ، يحدث أخطاء فاحشة في الصّلاة ، فقد يريد المرء أن يسأل الله المغفرة ، فيتفوّه بألفاظ من التّجديف ، أو قد يلعن نفسه ، وفي ذلك يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أحدكم إذا صلّى وهو ناعسّ ، لعلّه يذهب يستغفر فيسبّ نفسه» (٢) ، فلكيلا يبلغ الأمر هذا المبلغ رغب الإسلام في نوع من الإسترخاء البدني ، أو الشّبع المادي ، وهو ما يمنح المرء راحة خلال هذه المهمة التّعبدية. واسمع في ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليصلّ أحدكم نشاطه ، فإذا كسل ـ أو فتر ـ قعد» (٣).

فالقيام بأي نشاط تعبدي ينبغي إذن أن يستغرق الزّمن الّذي يحتفظ فيه القلب بنشاطه وسروره فحسب ؛ إذ من الواجب علينا ألّا نحول عبادة الله إلى عمل

__________________

(١) النّساء : ٤٣.

(٢) هكذا ورد الحديث : (إذا نعس أحدكم في الصّلاة فليرقد حتّى يذهب عنه النّوم فإنّه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه). انظر ، صحيح مسلم : ١ / ٥٤٢ ح ٧٨٦ ، المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم : ٢ / ٣٧٧ ح ١٧٨٤ و ١٧٨٥ ، شرح النّووي على مسلم : ٦ / ٧٤ ، تفسير القرطبي : ٥ / ٢٠١ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٥٠٢ ، صحيح البخاري : ١ / ٨٧ ح ٢٠٩ ، صحيح ابن خزيمة : ٢ / ٥٥ ح ٩٠٧ ، صحيح ابن حبان : ٦ / ٣٢٠ ح ٢٥٨٣ ، سنن التّرمذي : ٢ / ١٨٦ ح ٣٥٥ ، سنن الدّارمي : ١ / ٣٧٢ ح ١٣٨٣ ، سنن البيهقي الكبرى : ٣ / ١٦ ح ٤٥٠٤ ، موطأ مالك : ١ / ١١٨ ح ٢٥٧ ، مسند أحمد : ٦ / ٥٦ ح ٢٤٣٣٢ ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد : ١ / ٢٦.

(٣) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٣٦٨ ح ١٠٩٩ ، صحيح مسلم : ١ / ٥٤١ ح ٧٨٤ ، المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم : ٢ / ٣٧٥ ح ١٧٨٠ و ١٧٨١ ، صحيح ابن حبّان : ٦ / ٢٣٩ ح ٢٤٩٢ ، سنن النّسائي : ٣ / ٢١٨ ح ١٦٤٣ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٣٤٦ ح ١٣٧١ ، مسند أحمد : ٣ / ١٠٣ ح ١٢٠٠٥ ، وانظر ، كتابنا الموسوم ب (الجذور التّأريخية والنّفسية للغلوّ والغلاة).

١٧٥

بغيض إلى قلوبنا : «ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله» (١).

وملاحظة أخيرة ، ولكنها ليست أقل الملاحظات صدقا ، تلك هي أنّ الّذي يخطىء بالإسراف في عمل معين ، ينتهي غالبا إلى أن يخطىء بالتقتير في نفس العمل ، بل وقد يعرض عنه إعراضا نهائيا ، ومثل هذا الإنسان ، في منطق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كمثل فارس منهمك في مضماره ، فهو لا يلبث أن يرهق فرسه ، حتّى يقتلها ، دون أن يبلغ هدفه : «إنّ المنبتّ لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى» (٢).

وليس الأمر في هذه الأمثلة كلّها أمر إزالة عقبة ماثلة ، وإنّما هو التّهيؤ لمواجهة عقبات محتملة ، وإن كانت تقريبا مؤكدة. والحل لا يتدخل لتغيير بعض الأشياء في بنية العقل ، وإنّما هو يتدخل في مدة الفعل ، ليفرض عليه في اللحظة المناسبة قرارا منسجما مع الإرادة.

__________________

(١) هكذا ورد الحديث : (إنّ هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك فإنّ المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى فأعمل عمل أمرىء تظن أن لم يموت أبدا ، واحذر حذرا تخشى أن تموت غدا). انظر ، مسند أحمد : ٣ / ١٩٨ ح ١٣٠٧٤ ، الكافي : ٢ / ٨٦ ح ١ ، مسند الشّهاب : ٢ / ١٨٤ ح ١١٤٧ ، سنن البيهقي الكبرى : ٣ / ١٨ ح ٤٥٢٠ و ٤٥٢١ ، شعب الإيمان : ٣ / ٤٠٢ ح ٤٨٨٦ ، معرفة علوم الحديث : ١ / ٩٥ ، منية المريد : ٢٠٠ ، الأحاديث المختارة : ٦ / ١٢٠ ح ٢١١٥ ، بحار الأنوار : ٦٨ / ٢١١ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ٢٣٥ ح ٩٠٠ ، فتح الباري : ١١ / ٢٩٧ ، كشف الخفاء : ٢ / ٢٨٤ ح ٢٣٣٩ ، فيض القدير : ٢ / ٥٤٤ و : ٦ / ٢٤٥ ، الجامع الصّغير : ١ / ٣٨٤ ح ٢٥٠٨ و : ٢٥٠٩ ، كنز العمال : ٣ / ٣٦ ح ٥٣٥٠ ، وسائل الشّيعة : ١ / ١٠٩.

(٢) المراجع السّابقة ، وقال الهيثمي : وفي إسناده يحيى بن المتوكل أبو عقيل ، وهو كذاب. «المعرب».

وانظر ، الجرح والتّعديل : ٩ / ١٨٩ ، مجمع الزّوائد : ١ / ٦٢ ، لكن في مجمع الزّوائد : ٨ / ٢٧ قال : وثقه ابن معين. انظر ، الكافي : ٢ / ٨٧ ، المجازات النّبوية للشريف الرّضي : ٢٦٠ ، وسائل الشّيعة : ١ / ١١٠ ، منية المريد : ٢٠٠.

١٧٦

ولنتناول الآن جانبا ثانيا :

وتعنينا هنا قضية واجب ثابت في الظّروف العادية ، أو في ظروف خاصة مناسبة. ولكن ها هي ذي الظّروف تتغير ، فتجعلنا في موقف يصبح فيه أداء الواجب بمعناه الكامل الّذي حدد إبتداء ـ عسرا حقيقيا ـ فهل يجب علينا ، برغم كلّ شيء أن نؤديه كما هو؟ .. وهل يمكن أن تنام عين الله عما نلاقي من مشقة ، فلا تهتم بالموقف الجديد؟.

كلا ... بلا ريب ، ففي هذا الظّروف بالذات يظهر بكلّ وضوح الطّابع الرّحيم للشريعة القرآنية ، فإنّ الحلّ سوف يتمثل ـ في الواقع ـ في تعديل للواجب تبعا لظروف الحياة الجديدة ، أي أنّ العمل سوف يتعرض لنوع من التّصرف ، أقل أو أكثر عمقا ، وسوف يكون ذلك بحسب مقتضيات الظّرف ، سواء أكان تغييرا ، أم تخفيفا ، أم تأجيلا ، أم حتّى إلغاء.

وهذه الإعتبارات ذاتها سوف تنطبق على العمل سواء أكان تغير الموقف نهائيا ، وإلى الأبد ، أم كان نسبيا يخص هذه الحالة ، أو تلك ، هذه الطّائفة من النّاس أو من الأشياء.

ولنأخذ على ذلك مثلا خفف فيه الواجب بصورة نهائية. ونتساءل : ما النّسبه العددية الّتي يجب بمقتضاها على أي شعب مسلم محتل أن يواجه عدوه بمقاومة مسلحة؟. النّسبة واحد إلى عشرة ، بموجب قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) ، وذلك

__________________

(١) الأنفال : ٦٥.

١٧٧

هو الحل الأوّل الّذي قدمه القرآن إلى الجيش الإسلامي الأوّل ، حين لم يكن به سوى بضع عشرات من الرّجال.

لكن الغريب أنّ هذا الشّعب ، حين يصبح مع الزّمن أكثر عزّ نفرا ، وبحيث لن يعود أبدا إلى الموقف الأوّل ، هذا الشّعب الفتيّ الممتلىء حماسا ، يبدو أنّه لم تعد لديه نفس الصّفات المتدفقة الّتي كانت لديه من قبل ، وهو أمر يمكن تفسيره بأنّه نوع من الإسترخاء الطّبيعي ، النّاشيء عن كثرة الجماهير الّتي تتساعد فيما بينها ، نوالّتي يبدو حضورها وكأنّما يعفي كلّ فرد من جزء من جهده. فكيف يمكن في مثل هذه الظّروف النّفسية أن نكلف الأمّة بأن تقف الموقف البطولي الّذي سجله الأولون؟.

على أنّ لدى المجاهد المسلم تفوقا روحيا بفضل الإيمان الّذي يحركه ، وهو أمر سوف يمنحه دائما ميزة على خصمه ، وما كان له أن ينزل بمستواه حتّى يكون عدله ، ومن هنا يأتي الحلّ الثّاني والأخير الّذي تصبح النّسبة بموجبه : واحدا ضد إثنين ، وهو قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ) (١).

في هذا المثال نجد التّشريع لا يتدخل لحلّ الحالة الصّعبة إلا في أعقابها. على أنّه في أغلب الأحيان يتدخل في نفس الوقت ، فقد نجد أنفسنا في حالة عادية ، يملك التّشريع فيها ناصية الموقف ، ومع ذلك تلمح القاعدة حالة إستثنائية فتجد لها مخرجا.

__________________

(١) الأنفال : ٦٦.

١٧٨

وهذا المخرج يكون تارة : إعفاء كاملا ، كما يعفى العاجزون من فريضة الجهاد ، والله يقول : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (١).

وكما يجوز للمستضعفين في الأرض ، ممن ينبغي عليهم أن يبحثوا عن ملجأ آمن يمارسون فيه حرية العقيدة ، والعبادة ـ يجوز لهم أن يبقوا حيث هم ، ما داموا لا يملكون وسيلة الهجرة ، وهو قوله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) (٢).

والمسافر الّذي لا يجد ما يتقوّت به مما أحلّ الله ، يمكنه ، بل يجب عليه بنفس القدر ، أن يطعم أي شيء : ولا يترك نفسه يهلك جوعا : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣).

وتارة يكون المخرج إعفاء جزئيا ، ومن ذلك : قصر الصّلاة أثناء السّفر ، فيما قال الله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٤).

ومنه : أنّ الصّلاة أثناء المعركة يمكن أداؤها خلال المشي ، أو ركوب الفرس ،

__________________

(١) الفتح : ١٧.

(٢) النّساء : ٩٨.

(٣) المائدة : ٣.

(٤) النّساء : ١٠١.

١٧٩

وهو قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) (١).

وتارة ثالثة : يكون المخرج مجرد إرجاء ، فالمرضى ، والمسافرون ليسوا ملزمين بالصوم في وقته المحدد ، وبوسعهم قضاؤه في مقبل الأيام : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (٢).

ورابعة : يكون المخرج إستبدال عمل يسير بآخر عسير ، فالمسافر الّذي لا يجد ماء ليتطهر ، والمريض الّذي لا يطيق إستعماله ـ يجب أن يكتفي كلّ منهما بعملية رمزية ، عبارة عن لمس حجر نظيف ، أو رمل نظيف ، ثم يمسح بيده على وجهه ويديه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (٣)

وجدير بالذكر أنّ النّص في أغلب هذه الأمثلة يبرز جانب اليسر العملي الّذي تنطوي عليه ، والّذي يؤكد رحمة الشّرع الإلهي. ففيها إذن الصّفة الضّرورية للدلالة على أنّ الأمر ليس أمر بعض العوارض الطّارئة ، أو حدث ناشىء عن صدفة ، وإنّما هو مبدأ جوهري يعتبر تطبيقه هدف محاولة دائمة.

ولننظر وجها آخر للعلاقة بين الواجب والموقف ، ولقد وجدنا في الجوانب الّتي درسناها حتّى الآن أنّ العقبة الّتي يتنازل أمامها التّكليف بعض تنازل كانت عقبة طبيعية ، ليست من صنع الإنسان ؛ إذ كيف نجعل في الواقع من قبيل الضّرورة حالة ميكانيكية ركّبها الإنسان بنفسه ، ومن ثم فهو قادر على أن يفكها؟.

__________________

(١) البقرة : ٢٣٩.

(٢) البقرة : ١٨٥.

(٣) المائدة : ٦.

١٨٠