دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

فالإمام مالك يوافق على هذه البرهنة القياسية ، لا إستنادا إلى نصّ محدد فحسب ، يضع نفس الحل لمشكلة محددة مماثلة للمشكلة المدروسة ، بل كذلك إستنادا إلى الطّرق العامة الّتي لجأت إليها الشّريعة في مواضع لا تحصى ، أقل شبها ، أو أكثر بما نحن بصدده ، والّتي تستخرج من مجموعها تلك الفكرة الثّابتة الّتي تقول :

إنّ هذا النّوع من الخير هدف جوهري يسعى الشّرع لتحقيقه بكلّ الوسائل الممكنة. فالحالة الجديدة حينئذ لا تقدم لنا سوى وسيلة أخرى يجب أن تستخدم عند ما تفرض بدورها نفسها ، لتحقيق هذا الخير النّوعي الّذي يسميه مالك : المصلحة المرسلة (١).

وبفضل هذا المبدأ ، إستطاع هذا الفقيه أن يحل عددا من مشكلات الأخلاق والشّريعة في اتجاه جدا أصيل ، وإن اصطدم حينا بنصوص الشّريعة (٢).

__________________

(١) كما سبق لنا وقدمنا أعتذارا للقارىء عن تعريف القياس فكذلك هنا أيضا نحيل القارىء إلى المصادر ، كالمنخول للغزالي : ٤٥٥ ، إرشاد الفحول : ٣٥٨ ، الأحكام للآمدي : ٣ / ٢٩٨ ، الأصول العامة للفقه المقارن : ٣٨٢.

(٢) لنأخذ على ذلك المثال التّالي : هل يجوز في حال الحرب أن نضرب في اتجاه جنودنا الذين أسرهم العدو ، واستتر خلفهم ليضربنا ويحتل أرضنا؟ أو أنّ من الواجب ـ على عكس ذلك ـ أن نمسك عن الضّرب رعاية للنصّ الصّريح الّذي يمنعنا أن نستبيح دم بريء؟ .. والله يقول : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام ـ ١٥١).

يجيب الإمام مالك عن هذا السّؤال مرجحا الأخذ بأخف الضّررين ، ويعلل لذلك بأننا لو بقينا دون عمل ، إحتراما لهذا العدد القليل من جنودنا ، الذين جعلهم سوء الحظ درعا للعدو ، فإنّ بقية الجيش وهي الكثرة الكاثرة منه ، قد تتعرض للهلاك ، ثم أن ينجو أيضا أسرانا من نفس المصير بعد ذلك. ولا ريب إذن ـ

١٤١

على أننا مهما تعمقنا في مختلف تيارات الفكر التّشريعي في الإسلام فإنّ

__________________

ـ في أنّ الشّرع الإسلامي يقدم دائما إنقاذ الجماعة ، ومصلحتها المشتركة ، والدّائمة ، على حياة الأفراد ومصالحهم العاجلة. ويختم حديثه بقوله : إننا مع احتياطنا للحفاظ على رجالنا ـ لا ينبغي أن نوقف الحرب ، بل يجب أن نواصلها ولو أصيبوا من جرائها.

وإليك مثالا آخر ذا طابع فقهي : هل للقاضي الحقّ في أن يأمر بحبس متهم في سرقة ، دون أن يجد ضده دليلا ماديا ، أو شهادة ، أو إعترافا ، على حين قد يكون في هذه الظّروف غير مذنب؟ .. إنّ نصّ الشّرع ـ كما نعلم ـ يمنع من الإضرار بالناس في أشخاصهم ، أو أموالهم ، أو أعراضهم ، ما داموا لم يستحلوا حراما. ففي صحيح مسلم : ٤ / ١٩٨٦ ح ٢٥٦٤ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٣٢٥ ح ١٩٢٧ ، سنن البيهقي الكبرى : ٦ / ٩٢ ح ١١٢٧٦ و : ٨ / ٢٤٩ ، تفسير القرطبي : ١٠ / ١٨٧ و : ١٦ / ٣٢٣ ، كشف الخفاء : ٢ / ١٦٥ ح ١٩٩٣ ، مسند الشهاب : ١ / ١٣٦ ح ١٧٥ ، حاشية ابن القيم : ٧ / ٢٠٠ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٧٧ ح ٧٧١٣ ، جامع العلوم والحكم : ١ / ٣٢ و ٣٢٦ ، شعب الإيمان : ٥ / ٢٨١ ح ٦٦٦٠ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٣ / ٢٦٦ ح ٤٧٩٢ ، فتح الباري : ١٠ / ٤٨٣ ، شرح سنن ابن ماجه : ١ / ١٠٥ ح ١٤١٦ ، فيض القدير : ٤ / ٨٤ و : ٥ / ١١ ، سبل السّلام : ٤ / ١٩٤ «كلّ المسلم على المسلم حرام : دمه ، وماله ، وعرضه». وفي البخاري : ١ / ٣٧ ح ٦٧ وص : ٥٢ ح ١٠٥ ، تفسير القرطبي : ٢ / ٣٤١ و : ٤ / ١٨١ و : ١٠ / ١٨٧ ، صحيح مسلم : ٢ / ٨٨٩ و : ٣ / ١٣٠٥ ، صحيح ابن حبّان : ٩ / ٢٥٦ ، المستدرك على الصّحيحين : ١ / ٦٤٧ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٤٦١ ح ٢١٥٩ وص : ٩٣ ح ١٩١٦ ، مجمع الزّوائد : ١ / ١٣٩ و : ٣ / ٢٥٤ «فإنّ دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم عليكم حرام».

بيد أنّ الإمام مالكا يعلل ذلك على الوجه التّالي : بما أنّ من النّادر أن يقر مجرم بجرمه ، أو أن يرتكبه أمام شهود ، أو أن يؤخذ في حال اقترافه للجريمة ، فإنّ أكثر الجرائم سوف تمضي دون عقاب ، إذا ما تمسكنا بهذه الأدلة الكاملة. وعليه ، فمن المعلوم لنا أنّ الشّرع قد عنى عناية كبيرة بإقرار النّظام الإجتماعي والحفاظ عليه ، وأن يعمل بكلّ وسيلة على أن يؤمّن لكلّ فرد مقدرته على أن يمارس حقوقه على ملكيته. فلا بد لنا إذن من أن نلجأ إلى إجراءات أقل تشددا ، يخضع لها المتهم ، لا لكي نغتصب منه مطلقا اعترافا بما لم يفعل ، مجردا من أية صحة ، من حيث كان صادرا عن إكراه ، بل بأمل أن نحمل هذا المتهم على أن يرشدنا إلى دليل واضح .. وجدير بالذكر في هذا المقام أنّ هذه المدرسة ، ترى أيضا أنّ مثل هذه الإجراءات لا تكون شرعية إلا بشرط أن تكون بداية هذا الدّليل قد كشفت من قبل ضد المتهم.

١٤٢

حقيقة معينة تظل ثابتة لا تقبل جدلا ، هي أنّ الغاية النّهائية وراء كلّ جهود الفقهاء ليست إلا التّوصل إلى ذلكم المنبع الوحيد الّذي يجب أن يستقي منه النّاس جميعا ، من قريب ، أو من بعيد : حكم الله ، وهو الحكم الّذي يسجله القرآن في المقام الأوّل مباشرة ، ثم يأتي الحديث ليبينه ، ويحدده.

وإذا لم يرد الحكم في نصّ الكتاب ، أو السّنة فإنّ القياس يحاول أن يكشف عنه في روحهما ، وفي مفهومهما العميق. ويأتي أخيرا دور الإجماع ، محاولا إدراك هذا الحكم في فحوى مجموعهما.

فالله سبحانه وحده هو إذن المشرع ، وليس الآخرون سوى مقررين لأمره ، بطريقة مباشرة ، أو غير مباشرة.

بيد أننا لم نمس بعد أعمق الجذور في الإلزام الأخلاقي في القرآن ، فنحن لم نفعل حتّى الآن سوى أن نرد الشّرع الأخلاقي الفطري إلى نوع من الشّرع الإلهي المتضمن في كيان العقل الإنساني ذاته. ولقد سبق أن أشرنا إلى قصور هذا النّور الجزئي (أي نور العقل) عن أن يقدم شرعا تتوفر فيه ـ في وقت واحد ـ صفات : الحسية ، والكمال ، والشّمول. كما أشرنا إلى ضرورة اللّجوء إلى سلطة أخرى من أجل الحصول على هذه الصّفات الثّلاثة ، وهي سلطة تستطيع أن تنير للناس طريقهم على خير وجه ، بوساطة تعليم إيجابي محدد ، وإن كانت ذات طبيعة علوية.

هذه السّلطة الّتي يجب أن تكون ذات علم مطلق ، ونور أبدي ـ لا يمكن أن تكون شيئا آخر سوى الوجود الكامل [L\'etre parfait].

ولقد انتهينا أخيرا إلى أن رددنا جميع مصادر هذا الشّرع الإيجابي إلى مصدر

١٤٣

وحيد ، وقصرنا جميع الأوامر إلى أمر واحد ، ظاهر أو باطن ، هو أمر الله.

على أنّ القرآن لا يقدم لنا هذا الأمر الإلهي على أنّه سلطة مطلقة ، مكتفية بنفسها لكي تكون في أعيننا أساسا لسلطان الواجب ، بل إنّ مما يثير العبرة في هذا المقام أن نلحظ ـ على العكس ـ العناية الفائقة الّتي التّزمها هذا الكتاب في غالب الأحيان ، حين قرن كلّ حكم في الشّريعة بما يسوغه ، وحين ربط كلّ تعليم من تعاليمه بالقيمة الأخلاقية الّتي تعد أساسه. ومن ذلك أنّه عند ما يدعونا أن نتقبل من أهلينا كلّ تسوية للصلح ، حتّى لو كانت في غير صالحنا يؤيد دعوته بتلك الحكمة : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (١). وعند ما يأمرنا أن نوفي الكيل ، ونزن بالقسطاس المستقيم يعقب على هذا الأمر بقوله : (ذلِكَ خَيْرٌ) (٢).

ولكي يسوغ قاعدة الحياء ، الّتي تطلب من الرّجال أن يغضوا أبصارهم ، ويحفظوا فروجهم ـ نجده يسوق هذا التّفسير : (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) (٣) ، وبعد أن يأمرنا بتبيّن السّبب قبل أن نصدر حكما يقول : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٤).

وكذلك نجد الأمر الّذي يقتضينا أن نكتب ديوننا ، وآجال أدائها ـ مفسّرا بقوله تعالى : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) (٥).

وإنّه ليكفينا عن تعداد أمثلة الأوامر الخاصة ، أن نرى الطّريقة الّتي يدفعنا بها

__________________

(١) النّساء : ١٢٨.

(٢) الإسراء : ٣٥.

(٣) النّور : ٣٠.

(٤) الحجرات : ٦.

(٥) البقرة : ٢٨٢.

١٤٤

إلى الّتماس القيم الرّوحية ، وكيفية توجيهه بصفة عامة. فضلا عن عدد هذه الأوامر. قال تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (١). وقال : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) (٢). وقال : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (٣).

وإنّه ليشهدنا كذلك على المبدأ الأساسي الّذي صدرت عنه الشّريعة الإلهية كلها ، حين صاغه فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (٤). وقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (٥).

وهكذا ، فإنّ ما كنّا نعتقد أنّه الحلقة الأخيرة في سلسلة المراجع ، لم يثبت أنّه الأخير. فالعقل الإلهي ، في هذا المجال ، أكثر تشددا من العقل الإنساني. فهو لا يريد أن يتمسك بشكل حكمه ، ويجعل منه المبدأ الأوّل للإلزام الأخلاقي ، وإنّما هو يلجأ بدروه إلى معيار آخر فيحيلنا إلى جوهر الواجب ذاته ، إلى كيفية العمل ، وإلى قيمته الذاتية.

فالأمر الإلهي يسوغ في نظرنا بتطابقه مع تلك الحقيقة الموضوعية ، وهو بهذا التّطابق يستحوذ على قبولنا ؛ كما أنّه يقيم على هذا القبول سلطانه الأخلاقي.

بيد أنّ هذا الطّابع العميق الّذي يؤلف جوهر العدل ، والخير في ذاته لا يتسنى

__________________

(١) المائدة : ١٠٠.

(٢) الأعراف : ٢٦.

(٣) البقرة : ٢٦٩.

(٤) الأعراف : ٢٨.

(٥) النّحل : ٩٠.

١٤٥

لنا أن نميزه بأنفسنا ، دائما ، وحيثما وجد ؛ فشأنه شأن كلّ جوهر ، لا نراه مباشرة في حال كماله ، وإنّما نلمحه لمحا ، بفضل ذلك الجزء من النّور ، المحدود في امتداده ، وفي قوته ، والّذي نستمده من فطرتنا.

ليس هنالك إذن سوى نور واحد محض ، وغير محدود ، هو الّذي يستطيع أن يضم هذا الجوهر كاملا ، وفي ثقة تامة ؛ ولذا كان من حقّ المؤمنين أن يتخذوا من العقل الإلهي وسيلة الهداية الأخلاقية الكاملة ، وإذن ففي فكرة القيمة يكمن المنبع الحقّ للإلزام ، فهي عقل العقل ، وهي المرجع الأخير للحاسة الخلقية.

٢ ـ خصائص التّكليف الأخلاقي :

كلّ قالون (مادي ، أو إجتماعي ، أو منطقي ، أو غير ذلك) ، يحكم بالضرورة جميع الأفراد الخاضعين له ، على نسق واحد ، كما يحكم الفرد الواحد في مختلف ظروفه. وإلّا فلن يكون القانون قانونا. أعني : قاعدة عامة وثابتة.

وقانون الواجب ، وإن كان ذا طابع جدّ فردي فإنّه لا يتخلى عن هذا الطّابع المشترك : إنّه شامل ، وضروري. ويتجلى طابع الشّمول في القانون الأخلاقي ، في القرآن ، بوضوح لا ريبة معه ، لا لأنّ مجموع أوامره يتوجه في جملته إلى الإنسانية جمعاء فحسب ، وهو ما يقرره قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (١). وقوله : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٢). وقوله : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (٣) ، وهو ما قد يحمل على معنى توزيعي. بل إنّ القاعدة

__________________

(١) الأعراف : ١٥٨.

(٢) الأنعام : ١٩.

(٣) الفرقان : ١.

١٤٦

الواحدة ، ولتكن قاعدة العدالة ، أو الفضيلة بعامة ، يجب على كلّ فرد أن يطبقها على نسق واحد ، سواء أكان تطبيقه لها على نفسه ، أم على الآخرين : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (١). (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) (٢). (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣). وسواء أكان هذا التّطبيق على أقربائه ، أم على البعداء ، على الأغنياء أم على الفقراء : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) (٤). وسواء أكان خارج الجماعة أم داخلها : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٥). على الأصدقاء أم على الأعداء : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٦).

بل إنّه ، حتّى في الحالة الّتي لا يشتمل نصّ التّشريع فيها على لفظ عام ، وحتّى لو كان منزلا بمناسبة ظرف فردي ـ فإنّه يعتبر من حيث المبدأ قابلا للشمول ، أعني أنّ من الممكن أن ينطبق على جميع الحالات المماثلة ، ومن ذلك ما أعلنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «إنّي لا أصافح النّساء ، إنّما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة

__________________

(١) البقرة : ٤٤.

(٢) البقرة : ٢٦٧.

(٣) المطففين : ١ ـ ٣.

(٤) النّساء : ١٣٥.

(٥) آل عمران : ٧٥ ـ ٧٦.

(٦) المائدة : ٢ و ٨.

١٤٧

واحدة» (١).

وقد ذهب الجمهور إلى أنّ الحكم الوارد بشأن فرد واحد ينطبق على جميع النّاس ، ما دام القياس واضحا بدرجة تقترب من التّماثل. أعني : ما دامت الحالتان لا تفترقان إلّا في صفات فردية يمكن التّسامح فيها (بأن تختلفا في الأفراد ، أو في الزّمان ، أو المكان).

وأعتى خصوم القياس هجوما عليه ، من أمثال ابن حزم ، يؤيدون شمول الحكم ، ويدافعون عنه بقوة ، بإعتباره نتيجة ضرورية لشمول رسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتساوي الجميع أمام الشّريعة. وإنّما كان مبدأ التّعليل بالقياس موضع خلاف بين فقهاء المسلمين في موقف وأحد ، كما رأينا عند ما تكون الصّفة المشتركة بين الحالتين غير محسوسة ، ويحتاج إستنباطها إلى إعمال العقل بطريقة أقل ، أو أكثر ذكاء ، وهي حالة جزئية لا تحمل أدنى مساس بالمبدأ العام.

بيد أنّ شمول الواجب لا يعني إمتداده إلى جميع الأفراد فحسب ، ولكنه يستتبع كذلك تطبيقه على مختلف الظّروف الّتي يمكن أن يوجد فيها فرد معين ، وهذا النّوع من الشّمول هو ما يطلق عليه إصطلاحا : الضّرورة المطلقة [necessite.absolue] ولسوف نرى فيما بعد أنّ هذا الوصف غير صالح لتطبيقه بدقة على

__________________

(١) موطأ مالك : ٢ / ٩٨٢ ح ١٧٧٥. وفي رواية : (مثل قولي لامرأة واحدة) «المعرب». وانظر ، تفسير القرطبي : ٢٨ / ٧٩ ، رسائل المحقق الكركي : ١ / ١٤٣ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٥٣ ، صحيح ابن حبان : ١٠ / ٤١٧ ح ٤٥٥٣ ، موارد الظّمآن : ١ / ٣٤ ح ١٤ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ٣٩ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ١٤٨ ، سنن الدّارقطني : ٤ / ١٤٦ ح ١٤ و ١٦ ، السّنن الكبرى : ٤ / ٤٢٩ ح ٧٨٠٤ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ٩٥٩ ح ٢٨٧٤ ، المصنّف لعبد الرّزاق : ٦ / ٨ ح ٩٨٣١ ، مسند أحمد : ٦ / ٣٥٧ ح ٢٧٠٥٣ ، المعجم الكبير : ٢٤ / ١٦٣ ح ٤١٧ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ٦٣ ح ١٨١.

١٤٨

فكرة الواجب القرآني ؛ فالواجب ـ على ما قرره القرآن ـ لا يفرض على الإنسان إلّا عند ما يكون ممكنا ، ولكنه ضروري بمعنى أنّه لا ينبغي أن ينحني أمام حالاتنا الذاتية ، ولا أمام مصالحنا الشّخصية.

ومن الأرتياب ، أو مرض القلوب ـ كما حدثنا القرآن ـ ألّا نذعن للقانون إلّا حين نفيد منه ، على حين يخضع له المؤمنون دون قيد أو شرط : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ* وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) (١).

والقرآن لا يعظم فحسب الأنفاق الّذي يحدث على نسق وأحد ، في السّراء والضرّاء : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) (٢) ، ولا يمتدح فقط الشّجاعة الّتي تتحدى الجوع ، والعطش ، والنّصب : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) (٣). ليس ذلك فحسب ، وإنّما هو يندّد في قسوة بأولئك المرضى المنحرفين ، الذين تمنعهم مثل هذه الحالات من أداء الواجب : (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) (٤).

وحين يتكلم الشّرع الإلهي فلا كلام لأحد. يقول الله سبحانه في كلمات

__________________

(١) النّور : ٤٨ ـ ٥١.

(٢) آل عمران : ١٣٤.

(٣) التّوبة : ١٢٠.

(٤) التّوبة : ٨١.

١٤٩

صريحة : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١). أيمكن أن نجد تعبيرا أعظم قوة من هذا ؛ لإثبات الضّرورة الّتي يفرض بها الواجب؟ ..

ومع ذلك فلا ينبغي أن يلتبس هذا التّعبير في أذهاننا بإستعمالين آخرين لكلمة «الضّرورة». فإنّ الضّرورة الأخلاقية تفترق في وقت واحد عن «الضّرورة المادية [La ne cessite physique] ، وعن الضّرورة المنطقية [logique La necessite].

فللقانون المادي على أجسامنا ضغط نتحمله مكرهين ، دون أن نملك تحاشيه ، وأمّا القانون الأخلاقي فهو بعكس ذلك يفترض حرية الأختيار ، فهو يكلفنا ، ولكنه لا يقهرنا قهرا ماديا. إنّه يدع لنا أوّلا إمكان مراعاته ، أو مخالفته (ودعك من مقاومته آخر الأمر) ، وتلك هي القاعدة الأصلية الّتي لا يفتأ القرآن يعلنها ، سواء فيما يتعلق بواجب الإيمان ، أو بواجب الفضيلة العملية ، واقرأ إن شئت هذه الآيات الكريمة : (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٢). (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) (٣). (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٤). (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٥). (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ

__________________

(١) الأحزاب : ٣٦.

(٢) النّساء : ٨٠.

(٣) البقرة : ٢٥٦.

(٤) الغاشية : ٢٢.

(٥) يونس : ٩٩.

١٥٠

وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١).

وهكذا يكون للفرد أمام الواجب الأختيار بحسب الواقع ، ولكنه لا يملك هذا الأختيار شرعا. فالضرورة الأخلاقية ليست إذن ضرورة وجودية ، بل هي ضرورة مثالية. ومع ذلك يجب ألّا نلبسها بالضرورة المنطقية ، فكلّ ما هو ضروري منطقيا يفرض نفسه على العقل مسلمة من المسلمات ، إذ ليس بوسع المرء ألّا يرى ما رآه جليا ، وكلّ ما هو ملزم أخلاقيا يفرض نفسه على الإرادة على أنّه شىء لمّا يكن ، ولكن يجب أن يكون. وهو ينتج من حكم على قيمة ، لا من حكم على واقع.

وهكذا يتمثل سلطان الواجب بطابعه الخاص الأصيل ، فهو لا يقهر الجوارح ، ولا يكره المدارك ، ولكن يفرض نفسه بخاصة على الضّمير.

ومع ذلك أعتقد «كانت» أنّه يستطيع أن يرد اللاأخلاقي [L\'immoral] إلى ما ينافي المنطق [L\'absurde] ، وإلى اللاعقلي [L\'irrationnel]. وكان من قوله : «إنّ أي مبدأ خاطىء لا يمكن أن يقوم على هيئة قانون شامل دون أن يؤدي إلى تناقض ، سواء في مفهومه ذاته ، أو في الإرادة الّتي تريد رفعه إلى مرتبة الشّمول» (٢).

لقد نظر برجسون في بعض الأمثلة الّتي رأى الفيلسوف الألماني أن يستشهد بها على نظريته ، ثم أعلن أنّه لا يستطيع أن يوافقه على رأيه إلا بشرط أن يفهم

__________________

(١) النّور : ٥٤.

(٢) انظر ، : ١ ـ Kant : Fondement de la me taphysique des moeurs, p. ٢٤١

١٥١

هذا المعنى أو ذاك ، لا في تعريفه المادي البسيط ، بل بما يشمل طابعه الإلزامي ، وجميع شروط الأخلاقية. وفسر ذلك بأنّه ربما يكون من باب التّناقض أن نجد من أئتمن على وديعة ، مع تعهده بردها صراحة ، أو ضمنا ، يتملكها ، فهو حين يفعل ذلك لا تصح الوديعة وديعة (١).

ولكن ، أليس واضحا أنّ نظرية (كانت) ـ حتّى مع هذا التّقييد ـ تظل دائما غير مثبتة؟ بل نقول : إنّها غير قابلة للإثبات أيضا ، مهما تكن قوة الجدل الّتي يمكن استخدامها ؛ ذلك أنّه حين يسحب اليوم تعهد أخذ بالأمس فإنّ النّاتج عن ذلك يعد تباينا [Contraste] بين موقفين متقابلين ، ولكنه ليس مطلقا تناقضا [Contradiction] بالمعنى الصّحيح. «فهذا التّعهد يجب أن يلتزم». هذه قضية قانون ، «ولكنه لم يلتزم» ـ وتلك قضية واقع. أيّة إستحالة داخلية في هذين التّقريرين؟ .. فما دام وجها التّقابل غير صادرين من نفس المصدر ، ولا يعودان إلى نفس المراجع ، وما دام الإثبات والنّفي لا يقعان معا على نفس الشّيء ، وفي نفس الظّروف ـ فلا يمكن أن يكون هنالك أي تناقض منطقي ، دون أن نخترع مصطلحا جديدا. «فالعقل يتقاضانا أمرا». نعم ، وهو لا يفتأ يفعله ... «والشّعور يقبل أو يرفض» وا أسفا .. لكن ذلك هو قانونه.

ذلكم هو الصّراع الخالد بين المثل الأعلى والواقع ، بين شريعة الأخلاق ، وشريعة الفطرة ، وخير دليل على عدم تناقضهما أنّهما يعملان معا ؛ على حين أنّ المتناقض هو الشّيء المطرود من حظيرة الواقع بداهة.

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Bergson, les deux sources de la Morale et de la religion, p. ٦٨.

١٥٢

فبدلا من القول «بالتناقض» نجد أنّ بعض من يرى تسمية الأشياء بأسمائها يقول فقط : إنّه «تعويق» ، أو «إخفاق». فهو تعويق للمثل الأعلى الّذي ينزع إلى التّدخل في الواقع ، ولكنه يجد نفسه ممنوعا منه ، وهو إخفاق للضمائر الأخلاقية في إنتظارها للقيمة.

لسنا نريد أن نتلعب بالكلمات ، وليطلقوا ما يشاءون على هذا العمل ، الّذي لم تعد به الوديعة وديعة ، فإنّ ما يثبت أنّ الخطأ الأخلاقي لا يمكن في هذا التّبديل البسيط هو أنّه يكفي أن يغير صفته أحد العوامل الأخلاقية (كأن يتنازل المالك عن حقه للمستودع) لكي يصبح غير مستحق للوم.

فلننظر الآن. لا أقول : في واقعة رفض إنسان للتكليف الأخلاقي بإلتزام كلمته بعد قبوله ، ولكن في مبدأ شخص كهذا يسمح لنفسه في حال حاجته ، أن يعطي وعدا كاذبا ، ما الّذي يحدث على وجه الدّقة إذا ما حولنا هذا المبدأ إلى قانون شامل؟

لا شك أنّ الأرتقاء ـ إلى هذا المستوى ـ بالعمل الّذي يسمح الإنسان به لكلّ فرد أن يخدع الآخرين ـ سوف يعرض للضرر من لم يكن يريد له هذا الإنسان أن يخدع به. ومنذئذ يبدو التّعارض ، وقد أنتقل إلى الصّعيد التّشريعي ذاته.

ولكن هل يستتبع هذا التّنازع في الواقع تناقضا : إنّه يريد ، ولا يريد ـ أن يكون مخدوعا؟ .. إننا نعتقد أنّ هذا التّعارض الظّاهر لم ينشأ إلا عن غموض في معنى اللفظ (يريد) ، الّذي يؤدي هنا دورا مزدوجا ، عمليا [actif] ، وعاطفيا [offectif]. فالواقع أنّ (إرادتنا) بالمعنى الحقيقي للكلمة ، وهو أنّها القدرة على أتخاذ قرار ـ

١٥٣

تستطيع تماما ـ كما يفعل المولع بالمخاطرة ـ أن تقر نظاما عاما ، يكون أمتداده قابلا ليؤثر فيما نطلق عليه إصطلاحا كلمة (إرادة) ، وهي ليست سوى حساسيتنا ، أو قدرتنا على الرّغبة. وعلى هذا النّحو فإنّ القاضي (يريد) ، ويرى عقوبة المذنب عدلا ، بصفة شاملة ، وإن كان (لا يحب) أن يكون هو نفسه معاقبا عند الأقتضاء.

وعود إلى مثال الوعد الكاذب لنتساءل : ألّا يتضمن السّماح للآخرين بأن يخدعو النّاس ـ أن يدّعي الكذاب الدّاهية أنّ بوسعه أن يفسد أحابيلهم ، ويفلت من شراكهم ، دون أن يحتاج إلى الخروج على مبدئه؟

ولكن سوف يقال لنا : ألسنا حين ألغينا الثّقة في الكلمة المعطاة قد أتحنا لمبدأ الوعد الكاذب أن يدمر فكرة الوعد ذاتها ، وهي الّتي تفترض إمكان الوثوق بالغير؟ .. إنّ من السّهل أن نكشف عن الحيلة الّتي تسلك بها في الخفاء أفكار كثيرة في فكرة واحدة. وبرغم كلّ ذلك فإنّ فكرة الوعد ليست لأجل هذا متناقضة ، لا في جوهرها ، ولا في وجودها ، ولا في إمكان أن تؤثر على بعض العقول ، ما دام في النّاس مخدوعون. وإنّما يطرأ التّناقض في اليقين بنهايتها ، فنحن على ذلك بعيدون جدا عن أية ضرورة منطقية.

إنّ ما هو ضروري منطقيا يتمثل لنا حقيقة تحليلية ساكنة [Statique] ، وذلك هو أتفاق الفكرة مع ذاتها ، على حين أنّ الضّرورة الأخلاقية هي بالأخرى ذات طابع تركبيي متحرك [Dynamique] ، فهي تصف علاقة بين مجالين مختلفين ، وذلك هو سعي الفكرة نحو كينونتها كما هي الحال. وليس معنى ذلك مطلقا أنّ جوهرها

١٥٤

يكفيها في ذاتها لكي توجد في الواقع في فكرة الموجود الكامل عند «ديكارت». إذ أنّ المفهوم الأخلاقي لا يمكن أن يندمج في الواقع إلّا بوساطة نشاط فاعل مريد وحرّ ، ولكنها (أي الضّرورة الأخلاقية) متصورة بوساطة هذا الفاعل كقيمة جديرة أن تتحقق ، وحافزة لإرادته على أن توجدها. وفي كلمة واحدة : فإنّها الإلحاح على مثال أعلى عملي يطلب حقه في الوجود الفعلي.

بهذه الفكرة عن القيمة العملية نترك مجال الخصائص العامة المشتركة بين جميع القوانين ، لننتقل إلى الخصائص النّوعية للقانون الأخلاقي.

لقد أدرك «كانت» ، بفضل تعمقه الفكري الملحوظ ، الأختلاف الكبير الّذي يفصل أساسا القاعدة الأخلاقية عن جميع القواعد الأخرى العملية. ويكمن هذا الأختلاف في الفكرة الأرسطية عن «الغاية» و«الوسيلة» ، ويعني الأختلاف بين ما ينبغي أن نسعى إليه «لذاته» ، أو «لشيء آخر». وإنّها لفكرة خصبة ، تلك الّتي عرف «كانت» كيف يستخدمها لحسن الحظ ، والّتي نتناولها بدورنا ، حين نستخرجها من مذهب «كانت» الشّكلي. والواقع أنّه على حين أنّ فن الحياة بما أشتمل من قواعد الحذق ، والفطنة لا يتطلب نشاطنا بشكل جاد ، إلّا بناء على هدف محبب ، فإنّ القانون الأخلاقي وحده هو الّذي يفرض النّشاط لذاته ، أعني : بموجب القيمة الذاتية الّتي يتضمنها. فأمر الواجب هو وحده الّذي يمكن أن يسمى «إلزاما» بالمعنى الحقيقي. أمّا الأوامر الأخرى فهي ليست سوى نصائح مجردة ، تدل على الوسائل لمن أراد أن يبلغ الغاية.

ولسوف ندع جانبا ـ مؤقتا ـ مسألة معرفة ما إذا كان الإنسان قادرا دائما على

١٥٥

تصور واجبه في تجرد كهذا.

لسنا نتكلم الآن من وجهة نظر الفاعل ، ولسوف نناقش فيما بعد (١) النّظرية الّتي تجعل من هذا الإخلاص المثالي في نيّة الإنسان ، واجبا صارما. لكنا نؤيد فقط «كانت» فيما ذهب إليه ، من أنّه لما كان كلّ إعتبار للنتيجة غريبا عن فكرة الواجب ، فإنّ القانون الأخلاقي من حيث هو لا حاجة به مطلقا لأية قيمة خارجة عنه ، يسوغ بها أمره. وإنّما ينبغي ، بل ويكفيه لكي يؤكد سلطته ، أن يقدم لنا العمل على أنّه إلزامي ، وحسن في ذاته ، بقطع النّظر عن أية نتيجة مستحسنه ، أو مستهجنة.

فإذا ما أحللنا أحد هذه الإعتبارات محل الآخر أنقلب نظام الأمور ، ولم يعد عملنا ذا صلة بعمل الأخلاقيين.

بيد أنّه إذا كان حقا أنّ أي نشاط يمكن أن يكون عادلا ، ونافعا ، ومستحسنا في آن ، فليس محظورا على المشرع أن يضاعف الأسباب المسوغة لنظامه ، ولكنه لن يكون حينئذ قد أقتصر على دور الأخلاقي ؛ وإنّما هو يضيف إلى هذا الدّور أشياء أخرى ليست مع ذلك متعارضة. وأي مرب حاذق يجب أن يلجأ إلى هذه الطّريقة ليضمن فاعلية تعليمه. ولسوف تزداد مبررات هذه الإضافة كلما أتصلت بتربية المبتدئين ، فأمّا إذا ما حققت الحاسة الخلقية بعض التّقدم فإنّها تصبح بالتدريج أكثر نقاء ، لتكتفي في النّهاية بذاتها ، وبهذا المنهج التّدريجي يبدو لنا أنّ القرآن قد سار في تعليمه الأخلاقي (٢).

__________________

(١) انظر ، فيما بعد الفصل الرّابع ـ الفقرة الثّانية ـ ب.

(٢) انظر ، فيما بعد : الفصل الثّالث ـ الخاتمة.

١٥٦

ويجب أن نشير إلى أنّ هذه السّمة المميزة للإلزام الأخلاقي. من ناحية التّشريع ، تصاحبها ، جنبا إلى جنب ، سمه أخرى تتصل بناحية التّطبيق. ذلك أنّ العمل الأخلاقي لا يتمثل أبدا في واقع مادي : لا شعوري ، أو لا إرادي ، أو غير مقصود ، فعلى حين تقنع الشّرعية «بمادة» العمل وحرفيته الجافة ، تتطلب الأخلاقية منه «روحه». بل إننا ـ دون أن نتخذ موقفا في الجدل المشهور الّذي ثار بين فقهاء المسلمين حول الضّرورة المطلقة في أن يؤدي المرء واجبه لمجرد كونه واجبا ـ نجد أنّ هنالك واقعا في الإسلام لا يقبل الشّك ، هو أنّ قداسة الواجب تقتضي أن نتأملها ـ على الأقل ـ في لحظة العمل ، ولا بد أن يتخذ الذهن في تلك اللحظة وضعا ، لا يكون تصوره للعمل خلاله من جانبه المادي وحده ، بل تكون له النّفاقة إلى طابعه الإلزامي بهذا المعنى دون غيره.

وبدون هذا يصبح أكثر الأعمال مطابقة لنصّ القانون جسدا ميتا ، وأمرا دنيويا ليست له قيمة أخلاقية (١).

وهكذا نجد أنّ ما يتميز به قانون الواجب كونه قانون حرية ، وعقل ، وقيمته ذاتية ، ونشاطه ذو طابع روحي في جوهره.

بيد أننا ينبغي أن نعود إلى خصائص القانون الأخلاقي العامة الّتي يشترك فيها مع سائر القوانين والشّرايع ، كيما نقدمه في شكله القرآني الخاص. ولقد رأينا كيف ينظر القرآن إلى هذا القانون على أنّه ضروري وشامل ، ويجب أن نضيف أنّه لا يترتب على هذا كونه غير مشروط إطلاقا ، فما ذا تكون هذه الشّروط؟

__________________

(١) انظر ، فيما بعد الفصل الرّابع ، للفقرة : ١ ـ ١.

١٥٧

لدينا منها أنواع ثلاثة : أحدها ينظر إلى الطّبيعة الإنسانية بعامة ، والآخر ينظر إلى واقع الحياة المادي ، والثّالث ينظر إلى تدرج الأعمال.

آ ـ إمكان العمل :

ولعل من نافلة القول أن نؤكد فكرة الإمكان المادي للعمل كشرط لا معد عنه في الإلزام الأخلاقي. فليس الضّمير العام هو الّذي يعترف وحده بتلك الحقيقة البدهية القائلة بأنّه لا يطلب الطّيران من النّوق ، ولكن ذلك هو بذاته ما ورد في كثير من النّصوص القرآنية. مثل قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) (١). وقوله : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٢). وقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٣).

والظّروف الّتي نزل فيها هذا النّص الأخير تعيننا على تحديد معنى هذه الإستحالة ، الّتي تبدو وكأنّها غير متفقة مع الإلزام. ففي الآية السّابقة عليه يقول الله سبحانه : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (٤). وقد أعتقد صحابة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّها تنطبق على كلّ ما يدور في الضّمير : أفكارا ، أو عزائم ، أو رغبات ، أو هواجس ، أو تخيلات إلخ .. تمسكا منهم بحرفية هذا النّص العام. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِلَّهِ ما فِي

__________________

(١) الطّلاق : ٧.

(٢) الأنعام : ٥٢ ، والمؤمنون : ٦٢.

(٣) البقرة : ٢٨٦.

(٤) البقرة : ٢٨٤.

١٥٨

السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (١). أشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ جثوا على الرّكب فقالوا : يا رسول الله ، كلفنا عن الأعمال ما نطيق : الصّلاة ، والصّوم ، والجهاد ، والصّدقة ، وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم : سمعنا وعصينا؟. بل قولوا (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢). وهنا نزل هذا النّص التّفسيري المذكور آنفا ليقول لهم : «إنّ التّكليف لا يتوجه إلى الإنسان إلّا في حدود وسائله ، وهكذا أدركوا أنّ أحوال النّفس الّتي لا تخضع للإرادة ليست في الواقع ، ولا يمكن أن تكون ـ موضوعا مباشرا للتكليف ، فضلا عن الوساوس ، والغرائز ، والشّهوات ، والميول الفطرية.

ولذا ، فإنّ جميع الأوامر ذات الأتصال بالحبّ ، أو البغض ، وبالخوف ، أو الأمل ـ قد فسرت عقليا لدى الشّراح على أنّها قد جاءت لتحكم عملا سابقا نشأت عنه هذه الحالات ، أو عملا مصاحبا ، أو لا حقا ، ولكنه لا يمكن أن يكون من قبيل اللإرادي. وهكذا نجد أنّ حبّ الله ، وهو حالة عاطفية ولا إرادية في

__________________

(١) البقرة : ٢٨٤.

(٢) البقرة : ٢٨٥.

وللحديث بقية في المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم : ١ / ١٩٤ ح ٣٢٦ ، معتصر المختصر : ٢ / ١٦٣ ، مسند أحمد : ٢ / ٤١٢ ح ٩٣٣٣ ، والطّبري في تفسيره : ٣ / ٩٧ ، زاد المسير لابن الجوزي : ١ / ٢٩٥ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٣٤٥ ، لباب النّقول للسيوطي : ٣٩ ح ٢٨٤ ، فتح القدير للشوكاني : ١ / ٣٠٥.

١٥٩

ذاتها ، يمكن أن يكتسب بوساطة عمل إرادي ، هو التّأمل في رحمة الله الّتي لا تنتهي ، وتذكّر فضله الّذي لا يفتأ يفيضه علينا ؛ ذلك أنّ النّاس جبلوا على حبّ من يسدي إليهم معروفا ، وبهذا المعنى غير المباشر أصبح حبّ الله أمرا في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمة» (١). وكذلك يمكن أن يكون حبّ الأقربين أمرا محتوما بفضل طرق شبيهة بتلك نسبيا ، أو بفضل تصرفات عملية أخرى أكثر تقبلا ، وهي ما نجد له مثالا طيبا في قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تصافحوا يذهب الغل ، وتهادوا تحابوا ، وتذهب الشّحناء» (٢). وفي مقابل ذلك يبدو لنا الأمر : «لا تغضب» (٣) ، مشيرا إلى آثار هذه العاطفة ، أكثر من أن يكون مشيرا إلى أسبابها ،

__________________

(١) انظر ، سنن التّرمذي : ٥ / ٣٢٩ ح ٣٨٧٨ ، وفي شعب الإيمان : ٢ / ١٣٠ ح ١٣٧٨ ، وذكره السّيوطي في الجامع الصّغير : ١ / ٣٩ ح ٢٢٤ ، سير أعلام النّبلاء : ٩ / ٥٨٢ ، كنز العمال : ١٢ / ٩٥ ح ٣٤١٥٠ ، الدّر المنثور : ٦ / ٧ ، ميزان الإعتدال : ٢ / ٤٣٢ ، المستدرك على الصّحيحين : ٣ / ١٥٠ ، أمالي الطّوسي : ٢٧٨ ح ٥٣١ ، أمالي الصّدوق : ٤٤٦ ، الأربعين البلدانية لابن عساكر : ٧٦ ، بشارة المصطفى : ١٠٦ ، تهذيب الكمال : ١٥ / ٦٤ ، فضائل الصّحابة لأحمد : ٢ / ٩٨٦ ح ١٩٥٢ ، حلية الأولياء : ٣ / ٢١١ ، الطّرائف لابن طاووس : ١٥٩ ، بحار الأنوار : ١٧ / ١٤ ح ٢٨.

(٢) انظر ، الموطأ للإمام مالك : ٢ / ٩٠٨ ح ١٦١٧ ، وزاد المؤلف «الغلّ عنكم» ، يعني الحقد كما جاء في لسان العرب : ١١ / ٦٢٦ ، وقد يكون معنى : «تصافحوا» من الصّفح ، أو من المصافحة. «المعرب».

لابن البراج : ٢ / ٩٨ ، تفسير القرطبي : ٩ / ٢٦٦ و : ١٥ / ٣٦١ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٢ / ٤٧ ح ٢٢٧٣ ، الّتمهيد لابن عبد البر : ٢١ / ١٢ ، فيض القدير : ٣ / ٢٧١ ، كشف الخفاء : ١ / ٣٦٤ ح ٩٨٥ وص : ٣٨٢ ح ١٠٢٣ ، سنن البيهقي الكبرى : ٦ / ١٦٩ ح ١١٧٢٦ ، مسند أبي يعلى : ١١ / ٩ ح ٦١٤٨ ، مسند الشهاب : ١ / ٣٨١ ح ٦٥٧ ، جامع العلوم والحكم : ١ / ٣٣٢ ، الأدب المفرد : ١ / ٢٠٨ ح ٥٩٤ ، مكارم الأخلاق : ١ / ١١٠ ح ٣٦١ ، شرح الزّرقاني : ٤ / ٣٣٤ ، تحفة الأحوذي : ٣ / ٢٥٨ ، تنوير الحوالك : ١ / ٢١٤ ح ١٦١٧ ، شرح سنن ابن ماجه : ١ / ١٤٠ ح ١٩٥٥.

(٣) انظر ، صحيح البخاري : ٥ / ٢٢٦٧ ح ٥٧٦٥ ، فقه الرّضا لابن بابويه : ٣٥٤ ، صحيح ابن حبان : ـ

١٦٠