دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

ممارستنا نحن ، لأنّها تمت بإرادتنا. وقد كان من المحتمل أن نغفل الإستفادة من هذه الإمكانية ، ولكن النّتائج الّتي كسبناها بجهدنا المنفذ ، والّتي جعلت حقيقتنا أكثر امتلاء ، وغنى مما كانت عليه من قبل ـ هذه النّتائج هي إبداعنا ، ومن ثمّ يجب أن تضاف إلى رصيدنا.

فكيف بنا إذن نضع الحالتين على قدم المساواة؟ ..

ومع ذلك ، إذا أخذنا أقوال الأخلاقيين المسلمين على حرفيتها لكان الأمر هكذا ، إذ يبدو أنّ رأيهم لا يقوم في أساسه على اعتبارات عقلية ، ولكن على نصوص كثيرة مروية عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلنقف إذن على هذه الأرض ، ولنذكر أوّلا أقوى هذه النّصوص الّتي استندوا إليها ، فمن ذلك ما رواه الأحنف بن قيس عن أبي بكرة ، أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا إلتقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل ، والمقتول في النّار». فقلت : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : «إنّه كان حريصا على قتل صاحبه» (١). وفي حديث آخر يشبّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحاب الأعذار القاهرة بالمجاهدين معه : «إنّ بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا ، إلّا كانوا معكم ... حبسهم العذر» (٢).

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٢٠ ح ٣١ و : ٦ / ٢٥٢٠ ح ٦٤٨١ ، صحيح مسلم : ٤ / ٢٢١٣ ح ٢٨٨٨ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ١٩٠ ، سنن أبي داود : ٤ / ١٠٣ ح ٤٢٦٨ ، سنن النّسائي : ٧ / ١٢٤ ح ٤١١٨ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٧ / ٤٦٠ ح ٣٧٢٢٠ ، مسند أحمد : ٤ / ٤٠١ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١٨ / ١١.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ٤ / ١٦١٠ ح ٤١٦١ ، تفسير القرطبي : ٥ / ٣٤٢ ، صحيح ابن حبّان : ١١ / ٣٣ ـ

٦٢١

وخير من ذلك! .. «أنّ الفقراء الّذين يغبطون (١) المتصدقين سوف ينالون نفس الثّواب عند الله ، في مقابل أولئك الّذين يفتن أبصارهم ما عليه شرار الأغنياء من ترف ، وسرف ، فيتمنون أن يحوزوا مال الدّنيا حقّ ينعموا مثلهم ، فهؤلاء لهم نفس العقاب» (٢).

هذه النّصوص الّتي لا شك في صحتها لدى نقاد الحديث ، لا تتمثل لأعيننا في شكل مجموعة منسجمة ، بل يبدو لنا على العكس ، أنّ كلا منها يجيب عن طائفة مختلفة ، ولذلك نستطيع أن نضعها في ثلاث مجموعات :

١ ـ نيّة مع محاولة التّنفيذ.

٢ ـ نيّة منعت محاولتها منعا طارئا عرضيا.

٣ ـ نيّة فرضية.

وعلى ذلك ، فإنّ الطّائفة الأولى الّتي مثل لها برجلين يقتتلان ، لا تدخل مطلقا في موضوعنا ، الّذي هو نيّة بلا عمل ، وليس من الصّعب أن نتصور في هذا المثال أن يعامل المنهزم بنفس القسوة الّتي يعامل بها المنتصر ، لا لأنّه كان يتحرك بروح الحقد ، والعدوان ذاتها فحسب ، بل لأنّه غارق إلى أذنيه في الصّراع ، مسخر كلّ

__________________

ـ ح ٤٧٣١ ، موارد الظّمآن : ١ / ٣٩١ ح ١٦٢٣ ، سنن البيهقي الكبرى : ٩ / ٢٤ ، سنن أبي داود : ٣ / ١٢ ح ٢٥٠٨ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ٩٢٣ ح ٢٧٦٤ و ٢٧٦٥ ، مسند أحمد : ٣ / ١٠٣ ح ١٢٠٨.

(١) الغبطة أن يتمنى المرء أن يكون له مثل ما لغيره حتّى يفعل الخير مثله. انظر ، مختار الصّحاح : ١ / ١٩٦.

(٢) انظر في ذلك : التّرمذي : ٤ / ٥٦٢ ح ٢٣٢٥ ، طبعة الحلبي ، وجاء فيه : «وعبد لم يرزقه الله مالا ، ولا علما ، فهو يقول : لو أنّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان ، فهو نيّته فوزرهما سواء» قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. انظر ، فتح الباري : ١١ / ٣٢٦ ، فيض القدير : ٣ / ٢٩٩ ، تهذيب الكمال : ١٤ / ١٩٣ ، مسند أحمد : ٤ / ٢٣١ ، المعجم الكبير : ٢٢ / ٣٤٥ ح ٨٦٨.

٦٢٢

قواه أيضا في خدمة نيّته الشّريرة ، ولا فرق بينهما إلّا في نتيجة جهودهما.

وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الطّائفتين الأخريين ، حيث كانت النّيّة متهمة ببقائها في حيز الأفكار ، مع وجود بعض الحالات الّتي تجعلها تتفاوت بعدا ، أو قربا من العمل.

والواقع أننا قد نفترض أنّه في إحدى الحالات يطرأ التّعويق بعد عقد النّيّة ، وبعد شيء من الإستعداد في طريق تنفيذها ، أو حتّى بعد عدد من التّجارب الّتي صادفت نجاحا من قبل ، ولكن ربما تنقطع السّلسلة بحادث غير متوقع ؛ على حين أنّه في الحالة الأخرى تكون العقبة موجودة فعلا ، لتجعل من المستحيل أن يوجد أي عزم ، ولتحيل النّيّة إلى مجرد رغبة شرطية ، كأن يقول الإنسان : لو كنت غنيا لتصدقت ، أو لإستمتعت بكلّ مباهج الحياة على أكمل وجه.

وهكذا توجد حالتان متطرفتان ، وحالة وسيطة. فبين النّيّة الفاعلة ، والنّيّة الفرضية ، العاجزة توجد النّيّة المعطلة ، الممنوعة منعا عارضا. وإذا كان العقل يميل إلى أن يحكم على الأوليين حكما مختلفا ، فإنّ الثّالثة تعتبر بالنسبة إلى الحكم العقلي حالة ملتبسة ، من حيث كانت تجمع بين صفات الحالتين المتعارضتين.

ومع ذلك فإنّ النّصوص فيما يبدو لا تفرق بين هذه الطّوائف المختلفة. فهل يجب أن نتناولها على أنّها ذات تماثل مطلق ..؟ ..

ليس ذلك رأينا ، فنحن نعتقد أنّ الّتماثل هو في الطّبيعة ، لا في الدّرجة. وأيا ما كان الأمر فإنّ للنّيّة دائما أجرها ، ولكنها كلّما اقتربت من العمل غنيت بالقيم ،

٦٢٣

بحيث لا تبلغ قيمتها إلّا في العمل التّام.

هذا التّدرج مقبول من النّاحية العقلية ، ولكنه عند ما يصبح متعلقا بجزاء إلهي فربما نجد من الجرأة أن نريد تحديد فضل الله ، وأن نجعله خاضعا لمقاييسنا ، الّتي تثبت أنّها معيبة غالبا.

إنّ من المستبعد أن نحكم على هذه الأمور الإلهية بأنوارنا الفطرية وحدها ، فنحن نعلم أنّه في مجال الحقائق المنزلة يجب أن نطبق منهجا مناسبا ، بأن نلجأ إلى النّصوص الّتي أوحت إلينا هذه الحقائق ، وكلّ ما نملك هو أن نحسن الإختيار من بين هذه النّصوص.

وإذن ، فإنّ لدينا ـ أوّلا ـ أصلا من المبدأ القرآني ، ينبغي أن يؤدي دوره في تفسير جميع النّصوص الخاصة ، فالعدالة الإلهية ، الّتي يعبر عنها القرآن لا تحكم على الأشياء جملة ، أو بصفة تقريبية ، وإنّما هي تزن ميزانا دقيقا كلّ درجة من درجات الجهد : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) (١) ، حتّى لو كان في وزن الذّرة : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٢). (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٣) فإذا كان الجهد الباطن يستغرق الأجر كلّه فكم من الذرات يضيع!! وإنّه لجدير بنا أن نقول : إنّ لفضل الله مطلق الحقّ في أن يتقبل هذا العمل ، أو ذاك بإحسان أكثر ، وأن يخصه بأجر أكرم مما يستحق في ذاته ، ومن ثمّ يرتقي بالنّيّة إلى مستوى العمل ، وذلك كلّه بعد أن

__________________

(١) الأحقاف : ١٩.

(٢) يونس : ٦١.

(٣) الزّلزلة : ٧ ـ ٨.

٦٢٤

يكون قد أعطى كلا بحسب أعماله ـ نعم ، ولكن شريطة ألا تستتبع هذه التّرقية اضطرابا في السّلم كلّه ، وهو ما سوف يحدث لا محالة ، فإنّ جميع الدّرجات العلى يجب حينئذ أن تتطلع إلى ارتقاء آخر ، يجعلها أكثر علوا مما كانت. وإذن ، فلن يعدو الأمر أحد احتمالين : إمّا ألا يجاب مطلبها ، ويصطرع الكرم مع العدالة المنزهة ؛ وإمّا أن تمنح كسبا جديدا ، وحينئذ تكون النّسبة مراعاة ، ويستقر التّدرج مرة أخرى.

ولدينا ـ بعد هذا المبدأ العام ـ نصوص محددة ، تؤكد صراحة هذا الفرق في الدّرجة بين النّيّة المتحققة ، والنّيّة المخفقة :

أوّلا ـ الحديث القدسي ، المروي لدى إثنين من أكابر السّلف ، وأوثقهم سندا ، هما : البخاري ، ومسلم ، وهو الحديث الّذي يقرر أنّ النّيّة الحسنة الّتي لم تعقب أثرا تكتب حسنة ، على حين أنّها تحتسب عشر حسنات لو تحققت ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يروي عن ربه عزوجل : قال : إنّ الله كتب الحسنات ، والسّيئات ، ثمّ بين ذلك ، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات ، إلى سبعمئة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ...» (١).

ثانيا : وليس أقل من ذلك دلالة ما أثبته القرآن من فرق بين المجاهدين ، وغير

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٥ / ٢٣٨٠ ح ٦١٢٦ ، صحيح مسلم : ١ / ١١٨ ح ١٣١ ، الإيمان لابن منده : ١ / ٤٩٤ ح ٣٨٠ ، مسند أحمد : ١ / ٣٦٠ ح ٣٤٠٢ ، التّرغيب والتّرهيب : ١ / ٢٧ ح ٢١ ، فتح الباري : ١١ / ٣٢٤ ، المسند المستخرج على صحيح مسلم : ١ / ١٩٩ ح ٣٣٩ ، شعب الإيمان : ١ / ٣٠٠ ح ٣٣٤ ، الإحكام لابن حزم : ٦ / ٣٠٧.

٦٢٥

المجاهدين ، وفي هؤلاء ـ بين الضّعفاء ، والأصحاء (١) ، والحقّ أنّهم جميعا قد وضعوا تحت عنوان (المؤمنين) ، وأنّهم موعودون أجمعين بالنعيم الأخروي ، ولكنهم ليسوا جميعا في درجة واحدة.

ومن ثمّ لم يقل القرآن جملة : إنّ أولئك الّذين يجاهدون فعلا هم أسمى من الآخرين ، ولكنه يلون هذا السّمو تبعا للحالة : فتارة تكون (درجات كثيرة) [بالنسبة إلى الأصحاء من المؤمنين] ، وتارة هي (درجة واحدة) [يفضلون بها الضّعفاء]. وهنا يكمن برهاننا ، إذ من أين تأتي درجة هذه الرّفعة ، أو درجاتها ما لم تكن من ذلك الفرق بين الجهود المبذولة ، والتّضحيات السّخية ، بين الّذين يجاهدون بنياتهم فحسب ، وأولئك الّذين يبذلون «أموالهم وأنفسهم».؟ ذلكم هو ما يقوله لنا النّص هنا أيضا ، قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) (٢) ، وهو ما يقرره نصّ آخر بقدر من التّحديد أكبر : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣).

__________________

(١) قال المفسرون : يجب أن يقصد بهم فقط أولئك الّذين لا يلزم حضورهم على خط القتال ، من أجل الدّفاع المشترك.

(٢) النّساء : ٩٥ ـ ٩٦.

(٣) التّوبة : ١٢٠ ـ ١٢١.

٦٢٦

إنّ النّيّة خير ، والعمل القائم على نيّة الخير خير أرفع ، لأنّه العمل الأخلاقي الكامل.

دوافع العمل

كان الجزء الأوّل من هذا الفصل مخصصا لدراسة النّيّة ، من حيث هي «علاقة بين الإرادة ، وموضوعها المباشر» ، أعني : العمل نفسه ، بصرف النّظر عن كلّ توقع يمكن أن يستثير هذا النّشاط. ولقد رأينا :

.. أنّ هذه الرّؤيا الدّاخلية ، وهذا الإدراك الشّعوري لما يفعله الإنسان ، وبالوصف الّذي يفعله به ـ يعتبر عنصرا رئيسيا في الأخلاقية (ولكنه ليس كلّ شيء) ، وأنّ غيبة هذا العنصر تفسد أكثر تصرفات الإنسان دقة ، ومطابقة للواجب من الوجهة المادية.

... وأنّ كلّ تحول في النّيّة ، أعني : كلّ خطأ في الوصف الصّادق للعمل ـ إمّا أن يدين سلوكنا ، وإمّا أنّه يكفي فقط ليمنحنا العفو.

... وأنّ من بين العنصرين المكونين للحدث الأخلاقي تظفر النّيّة بالأولوية والتّقدم على العمل.

... وأنّ النّيّة وحدها خير أخلاقي يمكن تقديره ، ويكتفي بنفسه عند الإقتضاء ، ولكنه على أيّة حال لا يتساوى في القيمة مع العمل الأخلاقي الكلّي.

وعلينا الآن أن نستخرج عنصرا آخر ، ترك حتّى الآن دون نظر. «فالجانب الغائي للإرادة» ، وهو الّذي ضربنا عنه صفحا خضوعا لحاجة المنهج ـ ينبغي منذئذ أن يوضع في دائرة الضّوء. فأنا قبل أن أعمل ، أعرف ما ينبغي أن أعمل ،

٦٢٧

وبهذا الإعتبار سوف أمضي إلى فعله. وعند ما أكون بسبيلي إلى أدائه أعرف أنّ ذلك هو واجبي ، فأفعله عن وعي ، وبقصد ، ونيّة.

ولكن ، لما ذا أفعل واجبي ، وفي سبيل أي هدف؟.

هذان السّؤالان : ما ذا؟ ولما ذا؟ لا ينفصلان قط في عمل من أعمال الإرادة يدرك ذاته على سبيل الكمال. ترى ، هل تندمج الإجابة عنهما في شيء واحد فحسب؟ .. إنّهما لا يواجهانا بنفس الدّرجة من الإلحاح فحسب ، ولكن الإجابة الّتي نعطيها للثاني هي الّتي تفرض الإجابة عن الأوّل. أي أنّ الغاية تفرض الوسائل (ولا أقول إنّها تسوغها ، لو كانت ظالمة في ذاتها).

وموضوع دراستنا هذه هو أن نعرف : ما الأهمية الّتي تلصقها الأخلاق القرآنية بهذه الإجابة؟ .. هل تبدو هذه الأخلاق لا مبالية بكلّ الغايات الّتي قد تقصد إليها الإرادة حين تطيع أوامر الأخلاق؟ .. وفي حالة النّفي ـ ما الغايات الّتي تعتبرها هذه الأخلاق غير مسوغة مطلقا؟ وما الغايات الّتي ترتضيها ، أو تسمح بها؟ وما المبدأ الأسمى الّذي ينبغي أن يلهم أعمالنا؟ .. وهل هذا المبدأ المثالي مطلوب أيضا في كلّ الأعمال؟ أو أنّ ذلك يتفاوت كثرة وقلة ، بحسب ما إذا كان يتعلق بواجب ، أو بمجرد طريقة للعيش الفردي ، في الظّروف العادية جدا المتصلة بحياتنا اليومية؟.

إننا حين نجيب بطريقة واضحة ، ومحددة على مثل هذه الأسئلة ، وحين لا نتوقف عند العموميات ـ يمكننا بذلك أن نقدم النّظرية الأخلاقية للقرآن في هذا الصّدد ، تقديما دقيقا.

٦٢٨

والواقع أنّه لا يكفي أن نلفت النّظر إلى أنّ اللفظ العربي : (الإسلام) يعني : «الإنقياد» ، أي : الخضوع للإرادة الإلهية ، كما يعني ، في الوقت نفسه : «الإخلاص» ، وهو استبعاد أي سلطان آخر على الإرادة الإنسانيّة.

ولا يكفي كذلك أن نقول : كم يؤكد القرآن ضرورة أن يستلهم كلّ فرد في أعماله النّيّة النّقية؟. لأنّه يجب أيضا أن نبين فيم يتمثل هذا النّقاء؟ ومتى يتسنى لمزيج من الدّواعي ، والبواعث أن يقوض أركانه ، ويزيل بنيانه؟.

آ ـ دور النّيّة غير المباشرة ، وطبيعتها :

بيد أننا قبل أن ندخل في هذه التّفاصيل ينبغي أن نقول ابتداء : إلى أي مدى تقاس قيمة عمل ما ـ في الإسلام ـ بأهدافه البعيدة ، ونكتفي الآن بقولة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يلخص بمضمونها الكثيف ، ويعمم بإمتدادها إلى ما لا نهاية ـ ما لا يحصى من النّصوص القرآنية ، وغيرها ، مما سوف نرى منه غير قليل من الّنماذج خلال دراستنا ، وذلكم قوله عليه الصّلاة والسّلام : «إنّما الأعمال بالنّيّات» (١). وهذه القولة ـ الّتي استخدمناها من قبل لإثبات النّيّة المباشرة ، كشرط صحة ، أعني : شرط وجود أخلاقي ـ يمكن أن تساعدنا أيضا في أن نتناول النّيّة بصورة أعمق ، بإعتبارها معيارا للقيمة ، وشرطا أخيرا للثواب ، والعقاب.

هذا الإستخدام المزدوج للنصّ ، والّذي جرى عليه من قبل جميع المفسرين ـ يجد تسويغه أوّلا في اشتقاق الكلمة العربية : نيّة [intention ـ]. فهذا اللّفظ في

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٣ ح ١ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ١١٣ ح ٣٨٨ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٦٢ ح ٢٢٠١ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١٤١٣ ح ٤٢٢٧ ، المعجم الأوسط : ١ / ١٧ ح ٤٠ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ١١٨ ح ٤٠١.

٦٢٩

الواقع مشتق من جذرين امتزجا معا بصورة ما :

أوّلهما : ناء بالحمل ، أي نهض به.

وثانيهما : نأى ، أي ذهب بعيدا (١).

فإذا تذكرنا الأصل المزدوج لهذا المصطلح فإنّه يعني إذن نظرتين للحركة الإرادية ، تقعان في آن واحد على العمل الماثل ، الّذي يكلف به الإنسان ، وعلى غايته البعيدة الّتي يستهدفها.

ومع ذلك ، فلا حاجة بنا إلى أن نتمسك بهذه الإشارة الضّمنية ، ولنفترض أنّ هذه القولة تقصد بخاصة إلى الجزء الأوّل ، ولا سيما في جانبه السّلبي ، ولكن لنقرأ بعد ذلك بقية النّص ، ولسوف نرى فيه المعنى الثّاني ، يستخرج ، ويتحرّك كلّما اطرّد الخطاب ، وأصبح محسوسا شيئا فشيئا ، يقول الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإنّما لكلّ امرىء ما نوى» (٢) (في حال عمله) ، ثمّ يختم الحديث بهذه الجملة الثّالثة والأخيرة : «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن

__________________

(١) يريد المؤلف أنّ مادة الفعلين واحدة ، هي (ن ـ ء ـ ا) ، وإن اختلف التّرتيب في الأوّل عن الثّاني ، وهو ما عرف لدى الإشتقاقيين باسم (الإشتقاق الكبير) ، ويعنون به أنّ بعض المجموعات الثّلاثية ترتبط ببعض المعاني ارتباطا غير مقيد بترتيب أصواتها ، وهي فكرة صادقة في بعض الأصول ، دون أن تصدق في كلّ أصل ، وقد ضرب ابن جني مثلا على ذلك بمجموعة (الجيم ، والباء ، والرّاء) وهي مهما اختلف ترتيبها تعبر عن القوة ، والشّدة ... إلى آخر ما قال ، وشركه في الرّأي أبو منصور الثّعالبي صاحب «فقه اللّغة». انظر ، من أسرار اللّغة : ٤٩ ، وما بعدها للاستاذ الدّكتور إبراهيم أنيس. «المعرب». انظر ، مختار الصّحاح : ١ / ٢٨٤ ، لسان العرب : ٣ / ٤٩٣ ، النّهاية : ٥ / ١٢٢.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٣ ح ١ و : ٢ / ٨٩٤ ح ٢٣٩٠ و : ٦ / ٢٥٥١ ح ٦٥٥٣ ، مجمع الزّوائد : ١٠ / ٢٨١ ، سنن البيهقي الكبرى : ١ / ٢٩٨ ح ١٣٢١ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٦٢ ح ٢٢٠١ ، فتح الباري : ١ / ٨.

٦٣٠

كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (١).

ومن الواضح أنّ هذا الدّور العظيم لمبدأ التّقدير الأخلاقي ما كان له أن يتعين إلّا بنّيّة حقيقية ، أصولية ، منبثقة من المنبع العميق في أنفسنا ، فلم تكن لتعينه بضعة أفكار سطحية ، ناشئة عن تكلف لغة باطنية ، أو منطوقة.

فهذه النّيّة الزّائفة قد تستر إلى حين الإنطلاقة الواقعية لدوافعنا ، ولكنها لا تبلغ قط أن تغيرها.

وعند ما أعمل ، في الحرب ، تحت سلطان الكراهية ، وبروح الثّأر ، لا يفيدني في شيء أن أبعد تفكيري عن هذا الهدف بأن أقول لنفسي : سوف أدافع لا عن مصلحتي ، بل عن حقيقة مقدسة. فنحن لا نلغي وجود العالم بإغلاق أعيننا كيلا نرى شيئا ، وسد آذاننا كيلا نسمع شيئا. وليس بوسعنا أن نتملك الفضيلة بمجرد تفكيرنا فيها ، أو حتّى نطقنا باسمها ، فالرجل العاقل لا يرى في هذه الشّكلية سوى ستار جد رقيق لا تلبث أن تنكشف وراءه الحقيقة.

لسنا ننكر في بعض الحالات صعوبة تبين الدّوافع الخفية لأعمالنا. ولسنا نذهب إلى حدّ تأييد «كانت» فيما ذهب إليه من الإستحالة المطلقة لاستكناهها (٢) ، فهذه الفكرة على ما لاحظه [دلبوس Delbos] (٣) تبدو لدى

__________________

(١) المراجع السّابقة.

(٢) انظر ، ١ ـ Kant.Fondement.Meta ,٢ Section ,٢ alinea.,

(٣) فيكتور دلبوس ـ فيلسوف فرنسي (ولد في فيجاك عام ١٨٦٢ م ، وتوفي في باريس عام ١٩١٦ م) ، كان استاذا في السّوربون ، وقد كتب جملة من المؤلفات ، منها : ١ ـ Le probleme moral dans la philosophie de Spinoza et dans l\'histoire du spinozisme.

٦٣١

«كانت» متصلة بنظريته الّتي تقول بإحتمال وجود إرادة إنسانية علوية ، تجري إختيارها خارج الزّمان ، ومن ثمّ لا تستجيب لأي معرفة تجريبية.

بيد أننا ما دمنا في نطاق ما يقبل المعرفة ـ ندرك أنّ الصّعوبات الّتي تثيرها دوافعنا العميقة كثيرة ، وحتّى لو افترضنا أنّ هذه الدّوافع الحقيقية قد كشفت ، فإنّها ليست سهلة المراس بحيث يمكن إقصاؤها ، وشغل مكانها بمجرد صارف من صوارف الفكر ، كيفما أردنا.

بل قد يجوز لنا أن نتساءل : إذا ما كانت النّيّة بعامة يمكن أن تكون موجهة؟ ..

يرى الإمام الغزالي أنّ الإنسان لا سلطان له مباشرة على هذا التّوجيه ، وفي ذلك يقول : «إنّما النّيّة انبعاث النّفس ، وتوجهها ، وميلها إلى ما ظهر لها أنّ فيه غرضها ، إمّا عاجلا ، وإمّا آجلا ، والميل إذا لم يكن لا يمكن اختراعه ، واكتسابه بمجرد الإرادة ، بل ذلك كقول الشّبعان : نويت أن أشتهي الطّعام ، وأميل إليه ، أو قول الفارغ : نويت أن أعشق فلانا ، وأحبّه ، وأعظمه بقلبي ، فذلك محال ، بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشّيء ، وميله إليه ، وتوجهه نحوه إلّا باكتساب أسبابه ، وذلك مما قد يقدر عليه ، وقد لا يقدر عليه ، وإنّما تنبعث النّفس إلى الفعل إجابة للغرض الباعث ، الموافق للنفس ، الملائم لها ، وما لم يعتقد

__________________

ـ المشّكملة الأخلاقية في فلسفة سبينوزا ، وفي تأريخ الاسبينوزية ـ وكانت رسالته :

 ١ ـ Essai sur la formation de la philosophie pratique de Kant.

دراسة في تكوين الفلسفة العملية عند كانت. وقد ترجم إلى الفرنسية : أسس ميتافيزيقا الأخلاق لكانت .. إلخ .. واختير عضوا في أكاديمية العلوم الأخلاقية ، والسّياسية عام ١٩١١ م (انظر ، grand Larousse T.٣) (المعرب).

٦٣٢

الإنسان أنّ غرضه منوط بفعل من الأفعال فلا يتوجه نحوه قصده ، وذلك مما لا يقدر على اعتقاده في كلّ حين ، وإذا اعتقد فإنّما يتوجه القلب إذا كان فارغا غير مصروف عنه بغرض شاغل أقوى منه ، وذلك لا يمكن في كلّ وقت ، والدّواعي ، والصّوارف لها أسباب كثيرة ، بها تجتمع ، ويختلف ذلك بالأشخاص ، وبالأحوال ، وبالأعمال» ويضرب الغزالي لذلك مثالا فيقول : «فإذا غلبت شهوة النّكاح مثلا ، ولم يعتقد غرضا صحيحا في الولد ، دينا ولا دنيا ، لا يمكن أن يواقع على نيّة الولد ، بل لا يمكن إلّا على نيّة قضاء الشّهوة ، إذ النّيّة هي إجابة الباعث ، ولا باعث إلّا بالشهوة ، فكيف ينوي الولد ، وإذا لم يغلب على قلبه أنّ إقامة سنّة النّكاح اتباعا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعظم فضلها ، لا يمكن أن ينوي بالنكاح اتباع السّنّة ، إلّا أن يقول ذلك بلسانه ، وقلبه ، وهو حديث محض ليس بنّيّة. نعم طريق اكتساب هذه النّيّة مثلا أن يقوي أوّلا إيمانه بالشرع ، ويقوي إيمانه بعظم ثواب من سعى في تكثير أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويدفع عن نفسه جميع المنفرات عن الولد ، من ثقل المؤنة ، وطول التّعب ، وغيره. فإذا فعل ذلك ربما انبعث من قلبه رغبة إلى تحصيل الولد للثواب ، فتحركه تلك الرّغبة ، وتتحرك أعضاؤه لمباشرة العقد ، فإذا انتهضت القدرة المحركة للسان بقبول العقد ، طاعة لهذا الباعث الغالب على القلب كان ناويا ، فإن لم يكن كذلك فما يقدره في نفسه ، ويردده في قلبه من قصد الولد ـ وسواس ، وهذيان» (١).

__________________

(١) انظر ، إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٣٦٢ طبعة الحلبي ، وقد نقلنا هذا النّص بصورة أوفى مما في الأصل.

٦٣٣

وقد نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ، لأننا لو افترضنا أنّ هذا العلاج الأخلاقي قد استمر ، ونجح ، لبقي أنّ الفطرة الحسية لم تنعدم لذلك. فهذا القدر الكبير من الأفكار ، ومن المطامح ، ومن العادات الّتي اكتسبت من جديد ـ يمكنه فعلا أن يحدّ من سلطان ميولنا الغريزية ، أو يخففها ، ومع ذلك فإنّ هذه الميول تظل ماثلة ، ولا يختنق صوتها قط اختناقا كاملا ، بل إنّ الأمر ليصل أحيانا ، عند ما يتزامن أمر العقل مع دافع الأنانية ، أننا لا ندري ـ على وجه القطع ـ لأي الأمرين خضعنا.

ويجب أن نلاحظ جيدا أنّ الّذين قد يتسلط عليهم هذا الشّك ليسوا هم العامّة من النّاس أولئك الّذين يطلقون العنان لأهوائهم ، وليسوا أيضا هم حديثو العهد بالدين ، فهم قلما يتنبهون إليه. فمن الواضح أنّهم لما كانت مبادئهم حتّى الآن متفردة ، لا تزاحمها مبادىء أخرى مضادة ، فلا مجال لأن يخطئوا تبين المبدأ الواقعي الّذي يلهم أعمالهم ، ولن يكونوا بحيث يفسرون نواياهم الخاصة بتشابه الأقوال ، أو الصّور ، عند ما تبدو لهم مظلمة ، أو غامضة.

وإنّما يقع في هذا الصّالحون من النّاس ، أولئك الّذين قد يجدون ، بحقّ ، كلّ عناء في تمييز دوافعهم الحقيقية ، وفي تهدئة وساوسهم في هذا الموضوع.

وبالرغم مما يبدو في هذا من تناقض ، فمن الممكن القول بأنّه على قدر ما يحققون من تقدم أخلاقي يجب أن تزداد مخاوفهم من ألا تسترهم في نظر أنفسهم تلك الطّبقة السّميكة من مكتسباتهم الجديدة ، فتدفعهم إلى الإعتقاد بأنّهم إنّما يعملون دائما حبّا في الفضيلة.

٦٣٤

ألا يحدث في الواقع أن يكتشفوا أحيانا ، وبعد فوات الأوان ، أنّهم كانوا في ذلك مخدوعين ، وأنّهم إنّما كانوا يعملون في هذه المناسبة ، أو تلك لإرضاء النّزعة الخفية من طبيعتهم؟

ولكن هل يمكن لهذه الأسرار العميقة ، الّتي تنزع غالبا إلى أن تختفي عن أكثر الإختبارات دقة ـ أيمكن أن تغيب عن رقابة الله الّذي هو (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ؟) (١) (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟) (٢).

ولهذا نجد في الأخلاق الدّينية ـ أكثر من أية أخلاق أخرى ـ ضرورة تفرض نفسها على كلّ فرد ، هي أن يستعمل الدّقة ، وعمق النّظر في إختبار ضميره ، بقدر ما يمارس من جهد شجاع لتحرير نفسه من كلّ تأثير ، سوى التّأثير الّذي يفرضه الشّرع ، ويرضاه.

والحقّ أنّه لا يوجد شرع عادل يكلفنا بأن نحمل أكثر مما تطيق فطرتنا ، حتّى ندرك ما لا نستطيع إدراكه ، أو نجاهد ما لا نطيق هزيمته. ولكنا عند ما توقفنا قوة هذه الفطرة ، قبل أن نصل إلى نهاية الطّريق ، «فعند نقطة الإيقاف هذه يختلف موقف الضّمير الّذي يخضع لقانون العقل وحده ، عن موقف من يخضع لقانون الجلال ، والفضل الإلهي ، وإليكم نقط الخلاف هذه» :

فمن النّاحية العقلية ، تبعا لوجهة النّظر الّتي نأخذ بها ، وتبعا لمزاجنا أيضا ـ نرى أنّ العجز عن «فعل الأحسن» الّذي نجد أنفسنا فيه لا بد أن يترجم في

__________________

(١) المائدة : ٧.

(٢) الملك : ١٥.

٦٣٥

ضميرنا بشعورين متناقضين ، ينتهي كلّ منهما إلى نتيجة لا ترضي النّزعة الأخلاقية ؛ إذ أننا من النّاحية القانونية نعتبر أنفسنا قد أدينا ما علينا ، ما دمنا غير ملزمين مطلقا بعمل المستحيل.

بيد أنّ ملاحظة نقصنا الأساسي (الجواني) ، وليكن اضطراريا ، يجب أن تثير فينا شعورا بإحتقار انفسنا ، فلسنا نملك ألا ندين هذه الفطرة العقيمة إدانة لا نقض فيها ، ولا إبرام ، لأنّها غير جديرة بمطامحنا الأخلاقية.

وهكذا نجد أنّ الإعتبار الأوّل ، وهو إعتبار منطقي لا حرارة فيه ، يمنح نشاطنا ، وهمتنا إجازة ، ويدعونا إلى أن نستريح في هدوء على هذا الحدّ ، كأنّه لا يقبل التّجاوز بحال. فإذا ما ارتضينا هذه الوقفة ، واستطالت قليلا فسرعان ما تتحول إلى تقهقر تدريجي.

وإذا كانت ملاحظة هذا البون ما بين واقعنا ، ومثلنا تشعل ـ بالعكس ـ النّار في قلوبنا ، وتجعلنا ثائرين ضد أنفسنا ، فقلما يكون ذلك من أجل إصلاح فطرتنا ، وهو أمر نعتبره ـ على سبيل الفرض ـ مستحيلا ، بل هو من أجل أن ننقم على ظرفنا التّعيس. هذه الكراهية الّتي لا جدوى من ورائها ، والّتي تسمى «اليأس» ، تقود الإنسان حتما إلى نفس الوقفة أوّلا ، ثمّ إلى التّقهقر الّذي أشرنا إليه منذ قليل. وذلكم هو الإنسان ، طالما اعتمد على قواه ، وأنواره الخاصة.

هذا كلّه في مقابل نفس مغذوّة بالإيمان ، مملوءة بالثقة في هذه الحقيقة الحيّة ، والعلوية ، هذه الحقيقة الّتي لا حدود لخيرها ، ولا لقوتها ، والّتي هي موضوع حبّنا واحترامنا ، ونطلق عليها : الله.

٦٣٦

إنّ النّفس الّتي تثق في هذه الحقيقة لا ترتد أبدا إلى ذلك اليأس القاتل ، ولا إلى ذلك التّساهل البليد نحو الذات. ذلك أنّ فكرة لطف الشّرع الإلهي الّذي لا يأمرنا بأن نخرج من فطرتنا ، يقابلها في ضميرنا فكرة العلم الشّامل العلوي لخالق هذا الشّرع. هذا العلم الشّامل وحده ، الّذي يطلع على أعماق قلوبنا ، والّذي يقيس قياسا دقيقا حدود قدرتنا ـ هو الّذي يستطيع أن يحكم بحقّ إن كنّا لا نزال نطيق أن نبذل جهدا ، لكشف نقائصنا المستورة ، نقائص سلوكنا الباطني ، وتصحيها ـ هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ، إنّ فكرة وجود الله ذي الجلال في كلّ مكان ، تلك الفكرة الّتي تملأ نفوسنا اهتماما بالأخلاق ، وبالصرامة نحو أنفسنا ـ هذه الفكرة يخففها بدورها فكرة الرّحمة الّتي تمديدها دائما إلينا ، لا من أجل أن تتلقى أولئك الّذين يرجعون من غفلتهم ، ويحاولون أن ينضهوا من كبوتهم ـ فحسب ، ولكن من أجل أن تساعدهم ، وتمدهم بقوة يتراحب مداها دائما.

في هذا الضّوء يصف لنا القرآن حالة نفس المؤمن ، فهي ليست يائسة من روح الله : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (١) ، ولا هي آمنة من مكره : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٢) وإنّما هي دائما في منتصف طريق ، بين الأمل ، والخوف ، أو بالأحرى ، تغذي كلا الشّعورين في وقت واحد : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) (٣).

__________________

(١) يوسف : ٨٧.

(٢) الأعراف : ٩٩.

(٣) الزّمر : ٩.

٦٣٧

وإذن ، فهو حوار حي ، بين لطف ، وهمة ، وشجاعة ، وأمل ، وهو حوار يتعهد شعلتنا ، دون أن يحرقنا بها ، ويرطب قلوبنا دون أن يسلبها حميتها ، فكلّ شيء متوازن ، ومتناسب ، وهذا هو مجموع الشّروط الضّرورية ، والكافية لبناء عمل دائم ، وخصب. فهل تستطيع النّزعة الأخلاقية أن تجد في غيره بيانا أفضل؟.

والآن ، إذا كنّا قد أثبتنا مبدأ النّيّة العام ، وبعد أن حددنا أنّه لا يمكن أن يعني مطلقا نيّة سطحية ، أو مصطنعة ، بل لا مناص من دوافع حقيقية تتعمق في أنفسنا ، كيما تجد فيها جذورها العميقة ، وتطهرها ـ نستطيع الآن أن نشارف الموضوع الرّئيسي في هذا القسم ، ألا وهو دراسة المجموعات المختلفة لهذه الدّوافع ، وتمحيص نظمها في الأخلاق الإسلاميّة ، كلّ على حدة.

وفي أثناء هذه الدّراسة للنّيّة الغائية ، سوف نصادف كلّ نوع منها ، ابتداء من أجدرها بالمدح ، حتّى أحقها بالذم ، مارّين بمنطقة وسيطة ، في مستوى عادي ، يمكن أن توصف باللامبالية ، ولو لم يرق ذلك في نظر بعض الأخلاقيين ، والمتصوفة المسلمين ، إذ كيف نجمع في حكم واحد رفضا لمبدأين متباعدين ، أحدهما عن الآخر ، المبدأ الّذي يقف ضد الشّرع ، والآخر الّذي يمكن برغم كلّ شيء أن يجعل الشّرع أكثر فاعلية؟.

ألم يعلمنا القرآن ، والسّنّة بطريقتهما في تقدير الأمور ـ أنّ بين الطّرفين من (الخير ، والشّر) ـ مكانا للفظ وسط ، وأنّ بين «المأمور به» و«المنهي عنه» يوجد المسموح به ، أو «المباح»؟.

إنّ في القرآن ثلاثة تعبيرات هي : (كتب عليكم ـ حرّم عليكم ـ وأحلّ لكم) ، وهي أكثر التّعبيرات شيوعا ، والقرآن يعين بها المجموعات المختلفة في

٦٣٨

تشريعه ، فلما ذا لا يطبق نفس التّقسيم الثّلاثي على الرّوح (أي الدّوافع) الّتي تحرك أنواع السّلوك المختلفة؟.

وإذن ، فلكي نحكم بأنّ نيّة معينة هي طيبة ، أو خبيثة ، أو جائزة فحسب ـ لا يكفي دائما أن ننظر فيها إلى المفهوم المجرد ، بل يجب في الوقت نفسه أن نحسب حساب عاملين آخرين ، قد يعدل تدخلهما حكمنا تعديلا عميقا :

الأوّل : نوع العمل الّذي نقصد إلى ممارسته ، لتحقيق غاية معينة ، لأنّه إذا كانت الأشياء ذات القيمة المادية ، يمكن أن تستعمل وسيلة للتوصل إلى غايات هذه الدّنيا ، فليس الأمر كذلك بالنسبة إلى واجب مقدس ، ينبغي أن يتصور لذاته ، أو لغايات أسمى.

والثّاني : الدّور الّذي يناط بباعث ، أو آخر ليؤديه في بناء قوتنا المحركة ، تبعا لما إذا كان وحده ، أو مشتركا مع باعث آخر ؛ وفي هذه الحالة الأخيرة حسبما إذا كان يكون في هذه الشّركة عنصرا رئيسيا ، أو ثانويا ؛ لأنّه في أي خليط من الدّوافع المختلفة لا يجب أن ننظر إلى طبيعة كلّ عنصر مضاف ـ فحسب ، بل ننظر كذلك إلى الأهمية النّسبية الّتي نعلقها على كلّ من هذه العناصر في المجموع. وإذا كان الإنسان ذاته خليطا فكيف لا نبالي بالعمل الّذي يدل على طبيعته بصورة أفضل؟.

إنّ من المناسب فقط أن نحكم عليه تبعا للتفضيل الّذي يمنحه لهذه الغاية على تلك الغاية الأخرى ، ومعنى النّسبة يقتضيه ، كما يقتضيه المبدأ القرآني ، الّذي سوف توزن طبقا له أعمالنا ، حتّى لو كانت في وزن الذّرة.

وعلى هذا النّحو نجد أنّ خطة هذه الدّراسة قد تحددت بالفعل ، رغم أنّها

٦٣٩

شديدة التّعقيد ، والتّداخل : ولسوف نعرض على التّوالي نظرية هذه الأشكال الثّلاثة من النّيّة ، على أن نفترض أنّ كلّ واحدة منها هي صاحبة السّيطرة على الضّمير ، ثمّ نشرح في النّهاية مختلف الطّرق الّتي يمكن أن تمتزج بها الدّوافع الكثيرة ، لكي تسهم في تحديد إختيار إرادتنا.

ب ـ النّيّة الحسنة :

من المعلوم ، في الأخلاق العقلانية أنّ أكثر النّظريات تشددا ، وهي نظرية «كانت» ، تجعل المبدأ المحدّد للإرادة الطّيبة في الفكرة المجردة للواجب ، بإعتباره القانون الشّكلي للعقل.

ولقد يجوز لنا أن نعتبر هذه النّظرية مجرد بديل ميتافيزيقي للنظرية القرآنية. ولا ريب أنّ القرآن يقدم الأشياء في ضوء مختلف ، لأنّه يملأ هذا الشّكل الفارغ للواجب بمادة مناسبة ، ويعين لممارسة هذا الأمر السّامي سلطة أكثر ارتفاعا بصورت أخرى. فالمؤمن لا يذعن للواجب «كفكرة» أو «ككائن عقلي» ؛ ولكنه يذعن له بإعتباره متصلا بحقيقة أساسية ، ومن حيث هو صادر عن الموجود الأسمى الّذي زودنا بهذا العقل ، وأودع فيه الحقائق الأولى ؛ بما في ذلك الحقيقة الأخلاقية في المقام الأوّل.

بيد أننا إذا نحينا هذه الفروق النّظرية جانبا ، فسوف نلاحظ تماثل النّظريتين فيما قامتا عليه أساسا من اقتضاء عملي.

فالقرآن يعلمنا أنّ الرّسالة الوحيدة للإسلام ، الرّسالة الّتي من أجلها خلق الإنسان ، بل خلقت جميع الكائنات العاقلة ، مرئية ، وغير مرئية ، (إنسا ، وجنّا) ـ هذه الرّسالة تنحصر في العبادة ، والخضوع للخالق جلّ وعلا : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَ

٦٤٠