دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

إلى قدر من النّور في القلب ، يعصمها من الوقوع في ظلمات الحواس بسهولة.

هذه الطّريقة في معالجة نفس المبتدئين في الطّريق بقسوة لا تبدو لنا مع ذلك إبداعا ، أو ابتكارا ، حين نضعها في مجموع النّظم الإنسانيّة المناظرة لها. فلقد اتبع النّاس في كلّ عصر نفس المنهج كلّما أرادوا أن يحدثوا تغييرا ذا طابع عميق ، وهكذا تصنع الأمّ لتفطم ولدها ، كما يفعل المروض ليستأنس الوحوش ، ويدرب جوارح الصّيد (١).

أمّا فيما يتعلق بالنساك أنفسهم ، فلما كان سعيهم إلى اكتساب التّطهر بالجهد والجهاد ، فليس من المستبعد أنّهم قد فرضوا على أنفسهم هذه القساوة في بداية مضمارهم (٢). لكنهم إذا تخطوا هذه المرحلة التّعليمية يتعبون بصفة عامة المسيرة

__________________

(١) انظر ، كتاب الرّعاية للمحاسبي : ٧٩ ـ ٨٠ ، وأيضا كتاب الرّياضة للحكيم التّرمذي : ٣٧٥ من المجموع ـ قال : فكذلك النّفس إنّما تجيب ربها عزوجل فيما أمرها بعد فطامها عن عادات الأمور الّتي اشتهت ولذت ، فإذا فطمتها ألزمتها الدّعاء ، وثناء الرّب ، ومدائحه ، ونجوه ؛ حتّى يأنس بذلك ، ويألف الذّكر ، حتّى ينكشف الغطاء بعد ذلك فيألف ربّه عزوجل ، وكذلك تجد الصّبي قد ألف ثدي أمّه ، حتّى لا يكاد يصبر عنه ساعة ، فإذا فطمته اشتد على الصّبي ، وبكى ، وقلق ، فإذا دام الفطم نسيه ، وأقبل على الطّعام ، والشّراب ، فكلما وجد حلاوة الأطعمة ، والأشربة هجر الثّدي ، وعاف ذلك اللّبن ، وكذلك الدّابة .. إلخ ..». وضرب التّرمذي قبل هذا النّص مثلا بالبازي يربى ، ويدرب حتّى يأنس بصاحبه ، ويألفه إذا دعاه. (المعرب).

(٢) وذلك كأن نجد سهل بن عليّ المروزي وقد تعود حينا ألا يمر بالسوق إلّا مغضيا بصره ، وسادا أذنيه بقطع من القطن ، وفي نفس هذه المرحلة من الزّمن كان يأمر أخت زوجته أن تستتر دونه ، ولكنه بعد ذلك هجر كلّ هذه الاحتياطات. وهناك شخصية أخرى ، لم يذكر اسمها ، من جيل التّابعين ، فرضت على نفسها الصّمت المطلق لسنوات عديدة ، وقد وضع الرّجل في فيه دائما حصاة ، لم يكن يخرجها إلّا لحظة الصّلاة ، والطّعام. (المؤلف). انظر ، كتاب الرّياضة للحكيم التّرمذي : ٣٧٥ ـ ٣٧٦ من المجموع. (المعرب).

٧٠١

العادية ، ولا يلجأون من بعد إلى هذا التّكلف.

وإذا كنّا أحيانا نراهم في أثناء مرحلتهم النّهائية يمتنعون عن عمل مباح فلا ينبغي أن نرى بالضرورة في هذا الإمتناع حرمانا مفروضا ، أو تحريما إراديا لما يجيزه الشّرع ؛ وذلك لأنّ لدينا تفسيرين لتزكية سلوكهم : فإمّا أنّهم لم يشعروا بحاجتهم إلى استعماله ، فهم يختارون أحد النّقيضين المباحين على سواء ، وإمّا أنّهم لانشغالهم بمراقبة حركة القلب ، وتوجيهها إلى خير نيّة ممكنة ـ يسقطون العمل الّذي تحركهم إليه نيّة مبتذلة ، مؤثرين عليه عملا آخر ، لا يرتابون في قيمته الأخلاقية ، على ما ذكره الغزالي : «من حضرت له نيّة في مباح ولم تحضر في فضيلة فالمباح أولى ، وانتقلت الفضيلة إليه ، وصارت الفضيلة في حقّه نقيض ، لأنّ الأعمال بالنّيّات ، وذلك مثل العفو ، فإنّه أفضل من الإنتصار في الظّلم ، وربما تحضره نيّة في الإنتصار دون العفو فيكون ذلك أفضل» (١) ، أي أنّ إختيارهم قد يختلف من حالة إلى أخرى ، تبعا للجهة الّتي تملي عليهم بالفعل دافعا أرقى ، وهو موقف شريف ، ومعقول تماما ، حينما تكون هنالك فرصة العمل ، ولكنه لا يكون كذلك حين تقتضي الظّروف عملا سريعا ، لأنّه حينئذ يجب أن نميز بين واجبين أداء : أن نعمل ، وأن نكون على نيّة حسنة ، فإذا لم يبلغ المرء أن يحقق الثّانية ، فهل من سبب يدعوه إلى إهمال كلّ شيء؟ .. (٢).

__________________

(١) انظر ، إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٣٦٤.

(٢) انظر ، المحاسبي ـ كتاب الرّعاية : ١٦٩ ، قال : إنّ إبليس «يدعوك إلى الحذر من الرّياء بترك العمل ، ولما لم تطعه في ترك العمل دعاك إلى الرّياء ليحبط عملك ، فلما لم تطعه ، ولم تجبه إلى ذلك حذرك الرّياء ـ

٧٠٢

وإذن فإنّ حكماءنا ، في انتظارهم ، وبحثهم عن القيمة العليا ، لم يذهبوا مطلقا إلى حدّ اللامعقول. أليس من التّناقض الأخلاقي في الواقع أن نترك الشّر يستشري ، في انتظار المثل الأعلى؟ ..

لا شك أنّ من الشّجاعة ، والشّهامة ، والرّجولة ، أن نتحمل ـ كما ينبغي ـ ضراوة الجوع عند ما تفرضها علينا ضرورة أخلاقية ، أو طبيعية ، ومن الجميل ، والجليل أن يعاني المرء تجربة العزوبة العفة ؛ فذلك أحرى من أن يوقعه الزّواج في سوء أخلاقي.

وإنّ القرآن ليدعونا إلى هذا الجلد ، والتّحمل ، والمصابرة ، حتّى في الآيات الّتي يمنحنا فيها الرّخص. ولكن للإمتناع حدودا ـ يصبح التّصلب ، والمكابرة من ورائها ، لا أقول : نكالا يرفضه الشّرع فحسب ، بل أمرا ضد إرادة الله ، ورضاه.

ومن المفيد أن نرى كيف تتعاقب هذه الأفكار الثّلاثة في نفس الفقرة القرآنية : (١) الإباحة (٢) النّصيحة بالصبر ، والجلد (٣) استبقاء الرّفق ، وذلك في قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ

__________________

ـ بترك العمل ، فقال : إنك مراء ، فدع العمل ، فردك إلى ما أرادك عليه ، من ترك العمل أوّلا ، فلما لم تجبه إلى تحذيره ورثك أمنه ، فأمنته ، إذ لم تفطن أنّه إنّما أراد أن يحرمك ثواب العمل إذ عرض لك بتحذير الضّرر ، وأنك تريد بذلك الإخلاص ، فلم تخلص لله عزوجل شيئا حين تركت العمل ، لأنّ الأخلاص ، أن تعمل ، وتحذر الرّياء ، وتنفيه عن عملك ، فيخلص لك عند ربك عزوجل ، وليس الأخلاص أن تترك العمل ، فلا يخلص لك عزوجل عملك.

فعلى المريد الأخلاص في عمله ، فإن ترك العمل إرادة الأخلاص فلم يخلص لله عزوجل عمله ولكن تركه». (المعرب).

٧٠٣

فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١) وقوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (٢).

والحكيم المسلم لا يستطيع أن ينكر هذه الدّرجات ، وإذن ، فهو عند ما ينظر إلى درجة من الأخلاقية أرفع ، على أنّها واجب حتم ، يعلم على اليقين أنّ دونها مكانا يجوز له أن ينزل إليه ، ويجب عليه أن يلجه عند الضّرورة ، لأنّ التّصلب العنيد الّذي يقف عند الفطرة حتّى النّهاية هو بلا ريب جريمة ، ولذلك قال مسروق : «ومن اضطرّ إلى شيء ممّا حرم الله عليه ، فلم يأكل ، ولم يشرب حتّى مات دخل النّار» (٣).

إننا لا نملك مطلقا أنفسنا ؛ لا نملك أن ننفقها ، ولا نملك أن ندخرها ، وحينما يطلب الشّرع الأخلاقي منا تضحية معينة يجب علينا قبولها عن طواعية ورضا ، فلما ذا نكون ملكيين أكثر من الملك حين يعفينا منها؟. إنّ الإمتثال لأمر الفطرة بوساطة أمر الشّرع الأخلاقي هو الّذي يؤدي قطعا إلى النّيّة الباسلة ، ولكن لا

__________________

(١) البقرة : ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٢) النّساء : ٢٥ ـ ٢٨.

(٣) انظر ، الموافقات : ١ / ٢٠٦ ، وقد عالج الشّاطبي في الصّفحات : ٢٠٥ ـ ٢١١ ، مسألة (لا يطلب من المكلف ترك الأسباب المباحة). «المعرب».

٧٠٤

حرج علينا أن نمتثل لهذا الأمر بموجب الرّحمة لذاتها ، حين يبيح لنا الشّرع ذلك. وكلّ ما يمكن أن يؤخذ على هذا السّعي إلى غايات ذاتية مشروعة هو أنّه ليس فيه من الأخلاقية سوى طابعها السّلبي.

ولكن ، قد يقال لنا : إنّك قسمت غايات الإرادة إلى مجموعتين : موضوعية ، وذاتية ، وبعد أن قصرت القيمة الأخلاقية على الإرادة الّتي يكون هدفها غاية موضوعية ، قسمت الغايات الذاتية إلى مشروعة ، وغير مشروعة ، ومن ثمّ ينتج أنّ أفضل ما ترتضيه لنيّة ذاتية هو أن تكون بريئة ، أو جائزة. أفلا توجد إذن غايات تتصف بكونها ذاتية ، وهي إلى جانب ذلك ذات قيمة بإعتبارها ذاتية؟. وأ لا يقلل هذا دائما من قيمة كلّ منفعة شخصية ، فينحط بها إلى أدنى درجات الأخلاقية ، إن لم يجعلها موضع الإتهام العقيم ، وبحيث لا تستطيع على كلّ حال أن تنشىء دافعا صالحا؟.

أمّا فيما يتعلق بالنفع الحسي ، الّذي لا يتصل بوصفه كذلك بالأخلاقية إلّا من بعيد فإنّي أوافق على أن يوصم بهذا النّقص ، ولكن هنالك أيضا نفعي الأخلاقيّ ، بالمعنى الصّحيح ، فهل ترى أن تحمّله قدر الخير الحسي نفسه ، فتقصيه أيضا من مجال المبادىء المحددة للإرادة على وجه مقبول؟ .. وإذا كنت أهتدي ، حين أقبل على أعمالي الفاضلة ، برغبتي في أن أكتسب الصّفات الرّاسخة لنفسي : طهارة قلبي ، ونور عقلي ، وقوة إرادتي ـ فهل يمكن القول دون تعارض في الحدود بأنّ الإرادة الّتي تسعى إلى خيرها الأخلاقي لا تتحرك بنّيّة أخلاقية حسنة؟.

٧٠٥

ونجيب عن ذلك : بأنّه يجب أن نعلم أنّ الأخلاق العقلية ، كأخلاق قدماء الإغريق ، والرّواقيين منهم بخاصة ، ترى في نيّة كهذه أنّها ليست حسنة ، فحسب ، بل هي أفضل ما يمكن تحقيقه ، وإذا كان جوهر النّفس هو معرفة الحقيقة ، وملازمة الفضيلة ، وإذا كان أكمل الأعمال في كلّ شيء ـ من ناحية أخرى ـ هو العمل الّذي يهدف إلى تحقيق كمال جوهره ـ فيجب أن نستنتج من ذلك أنّ المبدأ الأخير في الأخلاقية لا يمكن أن يكون غير البحث عن هذا الكمال.

ويجب أن نؤكد فضلا عن ذلك أنّ من المستحيل من وجهة نظر الأخلاق القرآنية أن نقابل بين هذين النّوعين من الخير الشّخصي ؛ لأنّه على حين يقدم القرآن لنا مسألة البحث عن الرّفاهية المادية على أنّها مجرد أمر مباح ، فإنّه لا يقتصر على أن يجعل من طهارة القلب شرطا للسلام ، والسّعادة الأبدية فحسب ، ولكن عنوانا ذا قيمة للإكتساب ، والإجتهاد الّذي لا يفتأ يستثير جهدنا إليه ، واقرأ إن شئت قوله تعالى تعبيرا عن المعنى الأوّل : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) (الشّعراء : ٨٨) (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (١) ، وقوله : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (٢) ـ ثمّ اقرأ عن المعنى الثّاني قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (٣) ، وقوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ

__________________

(١) الشّعراء : ٨٩.

(٢) سورة ق : ٣٣.

(٣) التّوبة : ١٠٣.

٧٠٦

الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) ، وقوله : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) (٢).

وإذن ، أليس من الواجب أن نجعل من هذا النّوع من الخير الشّخصي استثناء من القاعدة العامّة؟ ..

ومع ذلك ، فعلى الرّغم من كلّ الإعتبارات الّتي تنتصر لمصلحة هذا الإستنتاج ـ فإنّا نعتقد أنّ في مبدأ (الكمال) غموضا ، ومن ثمّ ، عجزا عن أن يكون في ذاته ، وبمفرده ، الباعث الأخلاقي الأسمى.

والواقع أنّه يحدث غالبا أن ننشد الكمال في صفاتنا العليا ، العقلية والأخلاقية ، لا ننشدها لذاتها ، بل لكي نحصل بكمالها على شيء من المرونة ، وسرعة العمل ، وعلى كفاءة أحسن ، دون أن نتطلب من أجل هذا أن تخضع ممارستها لقاعدة الواجب خضوعا دقيقا ، وفي هذه الحالة لا يعتبر الكمال في نظرنا غاية في الواقع ، بل وسيلة لبلوغ غايات أخرى ، يجب أن ينظر إليها بدورها بعين الإعتبار ، حتّى نحسن الحكم على قيمتها ، تبعا للمقياس الأخلاقي.

وحتّى عند ما نرى في هذا الكمال غاية أخيرة ، بقطع النّظر عن كلّ ما تبقى ، فهل يكون عملنا حينئذ سوى إشباع هذا الميل الفطري الّذي يقضي بأنّ على كلّ كائن أن يحقق كمال جوهره؟ ..

وهذا الجوهر المثالي ، النّقي أكمل ما يكون النّقاء ، والّذي نتخذه نموذجا ، هل يمثل بالنسبة إلينا شيئا آخر سوى أنّه موضوع اهتمام فني؟ .. وليس بخاف أنّه لا

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) الأحزاب : ٥٣.

٧٠٧

الغريزة ، ولا ذوق الفن ، من مبادىء الأخلاق ، ولا يمكن أن تكون كذلك ، وأقصى ما يمكن أن تبلغه هو أن نظل معها في مستوى البراءة. ولن يكون الأمر على هذه الحال لو أننا تصورنا هذا الكمال في النّفس ، والعقل ، لا كتلبية لحاجاتنا ، أو أذواقنا ، بل في علاقته بالقاعدة الأخلاقية ، سواء من حيث هو أداء لواجب ، أو من حيث هو كفاءة كبرى على أدائه.

وهكذا نستطيع أن نستنتج ، برغم التّناقض الّذي نواجهه في إثبات الإستنتاج ـ أنّ جميع الغايات الذاتية المشروعة ، مهما اختلفت في ذاتها ، لا تختلف بوصفها كذلك ، على صعيد النّيّة. ولما كانت قيمتها من هذه النّاحية نسبية ، ومشروطة ، فإنّ المبدأ الأخير للأخلاقية يجب أن يبحث عنه في غاية موضوعية ثابتة ، تخضع لها الإرادة دائما وتخلص.

من أجل هذا لا نجد في الآيات الّتي يمجد القرآن بها صنائع الإحسان ، يؤديها المتصدقون ، بنّيّة تثبيت أنفسهم ـ لا نجد هذا الهدف المذكور إلّا في المحل الثّاني ، وبوصفه عنوانا فرعيا ؛ إذ كانت النّيّة الأساسية ابتغاء وجه الله ، وكسبا لمرضاته ، ولاحظ ذلك في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) (١).

لقد كان المكي إذن على حقّ في قوله ، وإن كان حديثه عابرا ، ولم يكن فيه ملحا على مضمونه ، قال : «فتكون نيّته في ذلك صلاحا لقلبه ، وإسكان نفسه ،

__________________

(١) البقرة : ٢٦٥.

٧٠٨

واستقامة حاله ، وذلك كلّه لأجل الدّين ، وعدة الآخرة ، وشكرا لرّبه تعالى ، ودخولا فيما أحل له ، واعترافا بما أنعم عليه ، واتباعا لسّنة نبيّه فيه ، ولا يكون واقفا مع طبع ، ولا جاريا على العادة» (١).

فلنتناول الآن دراسة المجموعة الثّالثة.

د ـ النّيّات السّيئة :

كما أنّه لا يمكن أن يكون بين نقطتي المكان الإقليدي (٢) «سوى خط مستقيم واحد» ، فكذلك الحال في علاقة ذات التّكليف بموضوعه ، بوساطة النّيّة ـ لا يمكن أن «توجد سوى طريق واحدة للفضيلة» ، هي الطّريق الّتي تبدو فيها نيّة الذات كاملة ، بمعنى أن تكون متطابقة مع قصد المشرع ، فإن كانت مطابقة لقصد أمره (أي بدافع الواجب) فهي نيّة حسنة ، وإن كانت مطابقة فقط لقصد عفوه (أي بالإفادة من هذه الرّخصة) ـ فهي نيّة مقبولة.

وأي انحراف شعوري ، وإرادي عن الطّريق المرسومة على هذا النّحو ، يفضي بالضرورة إلى نيّة آثمة. ومع ذلك فما أكثر ما نجد خارج هذه الطّريق المستقيمة ، ما لا نهاية له من الإتجاهات ، والمنعطفات ، والغوايات!!

وهكذا تقف وحدة مبدأ الأخلاقية في مواجهة مبادىء مناقضة لها ، لا تحصى كثرتها ، وهو ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً

__________________

(١) انظر ، قوت القلوب ، للمكي : ٢ / ٣٣٦ ، طبعة الحلبي.

(٢) إقليدس رياضي إغريقي كان يعلم في مدرسة الاسكندرية على عهد بطليموس الأوّل ، (في القرن الثّالث قبل الميلاد). «المعرب».

٧٠٩

فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (١).

وإذن فلسوف يكون من المجازفة ، والتّخبط أن نشرع في إحصاء كامل لكلّ الإنحرافات ، أو حتّى أن نجري تصنيفا عاما لمختلف أنواع هذه المجموعة.

ولما كانت طبيعة الموضوع لا تقبل تنظيما دقيقا على هذا النّحو ، فإننا نقتصر على إبراز الحالات الواضحة ، الّتي ركز عليها القرآن ، والحديث تركيزا خاصا ، وهي : نيّة الإضرار ، ونيّة التّهرب من الواجب ، ونيّة الحصول على كسب غير مشروع ، ونيّة إرضاء النّاس (الرّياء).

١ ـ نيّة الاضرار :

من المعروف ، على الصّعيد الإجتماعي ، أنّ الشّريعة الإسلاميّة قد اتخذت مجموعة من الإجراءات ، الّتي لو طبقت تطبيقا أمينا لأدت ـ دون أي تقصير ـ إلى خلق مجتمع قوي ، وسعيد ، متضامن ، ومزدهر ، تحكمه العدالة ، والرّحمة في آن.

ولكنا نعلم من ناحية أخرى أنّ أفضل شرائع العالم تصبح عاجزة ، إذا فقدت الإرادة الطّيبة لدى النّاس ، الّذين تنطبق عليهم ، أو الّذين دعوا إلى تطبيقها.

إنّ أفظع طريقة لتخريب أيّة شريعة لا تتمثل في أن تواجهها مقاومة شرسة ، أو أن يفغل العمل بها : فلقد يكون هذا طريقة أخرى لإحترام قداستها ، بألا تدنس طهارتها النّظرية ، وبحصر العمل بها في أكثر الأيدي نزاهة ، وهو فضلا عن ذلك يتركها للزمن ، ليبرهن على إحكامها ، عند ما يسمح بتطبيقها.

ولكن أسوأ المواقف ، وأضرها بشريعة ما ـ هو أن نتظاهر في مواجهتها بمظهر

__________________

(١) الأنعام : ١٥٣.

٧١٠

الورع ، محترمين حروفها بكلّ عناية ، وإن كنّا نتفق على تغيير هدفها ، فنجعلها ظالمة مقيتة ، بعد أن كانت محسنة ذات فضل على النّاس. فذلك هو ما أطلق عليه القرآن ، بمناسبة بعض المصالحات الزّوجية الّتي يلفها سوء النّيّة ـ أنّه : (اتخاذءايت الله هزوا) (١).

وإليك الحالة : فنحن نعلم كم يحاول القرآن بكلّ الوسائل المعقولة أن يبقي على هذا الرّباط المقدس بين الزّوجين ، وأن يوثقه. فهو أوّلا يوصي الرّجال بأن يعاملوا النّساء معاملة إنسانية متى شعروا نحوهن بالنفرة : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (٢).

ثمّ هو ينصح الزّوجات بأن يطعن أزواجهن ، حتّى لو اقتضى ذلك بعض التّنازلات : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) (٣). ثمّ هو أخيرا يدعو الطّرفين ـ في حال عجزهما عن إقرار أمرهما فيما بينهما ـ إلى أن يعرضا النّزاع على التّحكيم ، لدى أعضاء من أسرتيهما ، حتّى يحاولا تحقيق مصالحة بين الزّوجين : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) (٤).

وأكثر من ذلك ، أنّه إذا أخفقت كلّ هذه الجهود المصلحة ، وأصبح الطّلاق أمرا مقررا ـ يمنح القرآن الزّوج مهلة ، يعيد خلالها تدبر الأمر : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُ

__________________

(١) من قوله تعالى في سورة البقرة : ٢٣١ (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً ،) وقد نزلت الآية بسبب مضارة الزّوجات بالإرتجاع ألا ترى بعده زوجا آخر. «المعرب».

(٢) النّساء : ١٩.

(٣) النّساء : ١٢٨.

(٤) النّساء : ٣٥.

٧١١

بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) (١) ، فإذا ما نشب نزاع للمرة الثّانية ، ووقع فيها طلاق ثان ، فإن القرآن يمنح الزّوج مرة أخرى فترة مماثلة للأولى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (٢) ، وبحيث لا يصبح الإفتراق نهائيا إلّا في الطّلاق الثّالث.

وينبغي أن نعترف بأنّ روح الحرص على الرّباط الزّوجي لا يمكن أن تكون أكثر تصلبا إلّا إذا ضادت الفطرة ، وناهضتها ، وعليه ، فإنّ كلّ هذه المحاولات لتدارك الرّباط الزّوجي ، ورأب صدعه ، ليس الهدف منها توحيد عنصرين متنافرين بأي ثمن ، على حين أنّهما لا يتقاربان إلّا ليتعارضا. وإنّما هي على العكس ، تفترض إمكان قيام حياة أسرية تأخذ مجراها العادي ، بعد أن انته العارض ، وهدأت الخواطر. والقرآن يشترط صراحة للعودة إلى الإتحاد الزّوجي أن يكون كلّ من الزّوجين آملا أن يؤدي واجباته بأمانة : (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) (٣) ، و (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) (٤).

ومع ذلك فإنّ خبث الرّجال الحاقدين يبغي أن يسيء استخدام هذا الحقّ ، الممنوح لهم ، فيجعلوا منه أداة إعنات ، وظلم لأزواجهم ، فهم بتأخيرهم اختيارهم خلال المدة المخصصة لهم ، وبعدم نطقهم إلّا في اللحظة الأخيرة ، يعودون في نهاية الأمر إلى نسائهم ، لا على أساس نسيان الماضي ، ولا بنّيّة خلق جو صحي ، لحبّ جديد ، بل بقصد تطليقهن من جديد ، ثمّ إمساكهن معلقات على

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) البقرة : ٢٢٩.

(٣) البقرة : ٢٢٨.

(٤) البقرة : ٢٣٠.

٧١٢

هذا النّحو ، لا لشيء إلّا لإطالة قيود سراحهن ، فيمنعونهن بهذا القيد الظّاهر من أن ينشئن زواجا آخر ، قد يجلب لهن قدرا أكبر من السّعادة ، والقرار.

في مواجهة هذه النّيّات الآثمة يحذر القرآن الرّجال ، في مواضع كثيرة ، وأحيانا يستخدم ألفاظا عنيفة ، مثل قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (١).

وقد وجه القرآن إنذارا مماثلا إلى الموصين الّذي يقصدون بمساعدة المنتفعين بوصاياهم ، أن يحرموا وارثيهم الشّرعيين ، فقال : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) (٢).

فمن هذه الآمثلة القرآنية ، الّتي تشركها أمثلة أخرى كثيرة (٣) ، استنبط النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دون ريب ـ هذه القاعدة الشّاملة ، الّتي أثبت بها تكليف كلّ مسلم ، بأنّه : «لا ضرر ولا ضرار» (٤).

٢ ـ «نيّة التّهرب من الواجب» :

بيد أنّ هناك طريقة أخرى للتحايل على الشّرع ، وذلك بأن نضيع شروط تطبيقه ، عند ما نثير مفاجأة يحتمل أن تغير المغزى الشّرعي للظروف ، وهكذا لا

__________________

(١) البقرة : ٢٣١.

(٢) النّساء : ١٢.

(٣) انظر مثلا الآيات : ٢٣٣ و ٢٨٢ من سورة البقرة ، و ٦ من الطّلاق.

(٤) انظر ، موطأ مالك : ٢ / ٧٤٥ ح ١٤٢٩ وص : ٨٠٤ ، مختلف الشّيعة : ٧ / ٣٦٨ ، كتاب الأمّ : ٣ / ٢٤٩ ، السّرائر : ٢ / ٢٨٩ ، مسند أحمد : ٥ / ٣٢٦ ح ٢٢٨٣٠ ، المهذب : ٢ / ٥٧٣ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ٧٨٤ ح ٢٣٤٠ و ٢٣٤١ ، الخلاف : ٣ / ٤٢ ، سنن البيهقي الكبرى : ٦ / ٦٩ ح ١١١٦٠ و ١١٦٥٧ ، من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٤٥ ح ٢ ، مجمع الزّوائد : ٤ / ١١٠ ، المقنع للشيخ الصّدوق : ٥٣٧ ، تفسير القرطبي : ٥ / ٤٨ ، رسائل المرتضى : ١ / ١٧٨.

٧١٣

تدخل تحت القاعدة.

هنا لا تكون نيّة المثير أساسا عدوانية ، حتّى لو نتج عن هذه الحيلة بعض الأضرار بالنسبة إلى الآخرين ، فهو لم يسع في ضررهم ، بل سعى إلى فائدته الخاصة.

هذه الأنانية الّتي يفرضها على النّاس حبّهم المفرط للأعراض الدّنيوية ـ قد تبدو في صورتين ، إحداهما : يمكن أن تكون «سكونية» (استاتيكية) أو «محافظة» ، والأخرى «حركية» (ديناميكية) أو «محتكرة». وأقل أنواع الأنانية نشاطا هي تلك الّتي تحمل الإنسان على أن ينطوي على نفسه ، فتجعله قليل الإيثار ، قليل الإحسان ، ضنينا بما يملك ؛ على حين أنّ الأنانية الجشعة الجامحة لا تقنع بوضع سلبي ، وإنّما تمعن في جمع المكاسب ، والمنافع بكلّ وسيلة.

والحيل في الصّورة الأولى معروفة جيدا في الشّريعة الإسلامية ، كما عرفت نظمها ، وإنّا لنجدها مستفيضة في باب فريضة الزّكاة ، ومن الوسائل البسيطة للتهرب بالخديعة من هذا الواجب المقدس ، عند اقتراب موعد جباية الأموال ، أن يمزق المالك رأسماله بالمصروفات ، والقروض ، والإتفاقات ، والعقود ، بحيث يجعله أقل من الحدّ الأدنى للنصاب المفروض.

فما ذا يكون ردّ فعل الشّرع في مواجهة مثل هذه العمليات؟ ..

هذا يتوقف على النّيّة الّتي يعمل بها المالك ، فإن كان يصدر في هذه التّصرفات عما تقتضيه الحاجة الواقعية ، أو تحت ضغط ظروف غير مستثارة ـ فلا لوم عليه من النّاحية الأخلاقية ، وليس ذلك فحسب ، بل هو من النّاحية الشّرعية برىء معفو عنه. وأمّا إذا كان يفعل ذلك صراحة ليهرب من التّكليف بدفع زكاته ،

٧١٤

فالناتج عكس ذلك.

وغني عن البيان أنّ الّذي يتحايل على الشّريعة على هذا النّحو ، فيقتل روحها ـ يرتكب دون ريب عملا من الأعمال المنافية للأخلاق ، ولكنه في الوقت نفسه يخطىء الحساب ، حين يظن أنّه يستطيع أن يهرب بهذه الحيلة من التّكليف الشّرعي.

وجميع الفقهاء متفقون في الرّأي حين يظهر سوء النّيّة في أحداث واضحة ، هي عود الظّروف العادية بمجرد مضي الحول.

أمّا في حالة العكس ، أعني : إذا لم تعد الأموال المتصرف فيها إلى ملكيته ، فهل نؤثمه ، أو نبرئه؟ ..

مسألة فيها نظر ، فعلى حين يعفيه «اللّخمي» و«أبو حنيفة» من الزّكاة ، بتفسير حالة الشّك لمصلحته ، وترجيح براءته ابتداء ـ يرى الآخرون في هذا التّوافق بين العملية ، وحول الزّكاة دليلا كافيا على الغش ، والخداع.

وعلى هذا النّسق نجد حيلة أخرى ، تتمثل في تجميع رؤوس أموال كثيرة ، أو قطعان تخص أشخاصا مختلفين ، (وقد تكون الحيلة متمثلة ، وفقا لأفضل المنافع ، في فصل رأس مال مشترك) بقصد تجنيب كلّ منهم إلزاما ثقيلا.

ولقد حرم الحديث الشّريف صراحة هذه الطّريقة في الزّيغ عن القاعدة ، وتنكبها ، فعن أنس رضى الله عنه «أنّ أبا بكر كتب له فريضة الصّدقة الّتي فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يجمع بين متفرّق ، ولا يفرّق بين مجتمع ، خشية الصّدقة» (١).

__________________

(١) انظر صحيح البخاري : ٢ / ٥٢٦ ح ١٣٨٢ و : ٦ / ٢٥٥١ ح ٦٥٥٤ ، فقه الرّضا : ١٩٦ ، المستدرك على ـ

٧١٥

وبقيت بعض المنافذ الّتي يمكن أن يتصورها ، وينجح فيها أولئك الأغنياء قساة القلوب ، حتّى يتهربوا من العدالة الإنسانيّة ، فهل بوسعهم أن يكونوا مطمئنين إلى الهروب بهذه الوسائل من العدالة الأبدية؟ ..

لقد ساق القرآن لنا في هذا الموضوع عبرة : فإنّ أصحاب الجنّة أقسموا عشية الحصاد أن يذهبوا إليها مبكرين ، خفية ، حتّى لا يلفتوا إليهم انتباه المساكين ، وبذلك يطرحون عن كاهلهم عبء اقتطاع جزء محتمل من ثرواتهم ، ويا لها من مفاجأة سيئة طالعتهم حين وصلوا إلى جنتهم ، لقد طاف على ثمراتها جميعا طائف العذاب الرّباني ، فدمرها وهم نائمون (١).

٣ ـ «نيّة الحصول على كسب غير مشروع» :

ويكثر استعمال هذه الوسائل المنحرفة بصورتها الثّانية ، في الحياة اليومية لبعض رجال الأعمال ، المهتمين بإنقاذ مظهر الشّرعية.

__________________

ـ الصحيحين : ١ / ٥٤٨ ح ١٤٤١ ، الكافي : ٣ / ٥٣٨ ح ٥ ، سنن الدّارمي : ١ / ٤٦٧ ح ١٦٣٠ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٩٨ ح ١٠ ، سنن البيهقي الكبرى : ٤ / ٨٦ ح ٧٠٤٠ ، وسائل الشّيعة : ٩ / ١٣١ ح ٣ ، مسند الشّافعي : ١ / ٨٩ ، سنن أبي داود : ٢ / ٩٧ ، الأستبصار : ٢ / ٢٣ ح ٣ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٥٧٦ ح ١٨٠١ ، بحار الأنوار : ٩٦ / ٥٢ ح ٤ ، موطأ مالك : ١ / ٢٥٨ ، مسند أحمد : ١ / ١١ ح ٧٢.

(١) القصة في سورة القلم : ١٧ ـ ٣٣ (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ،) قال الشّاطبي في الموافقات : ١ / ٢٨٩ «تضمنت الأخبار بعقابهم على قصد التّحيل ، لإسقاط حقّ المساكين ، بتحريهم المانع من إتيانهم ، وهو وقت الصّبح ، الّذي لا يبكر في مثله المساكين عادة».

٧١٦

ولسنا مهتمين هنا بذكر المناهج الخادعة الّتي يستخدمها صناع وتجار دون تحرج ، حتّى يخفوا معايب سلعهم ، ويرفعوها إلى ما ليست به في الواقع. فتلك مفاسد كبيرة ، ذكرت كثيرا في الأحاديث ، ويكفي أن يعارضها الأمر الصّريح في القرآن ، وهو الأمر الّذي يتطلب في كلّ اتفاق توفر الرّضا الكامل لدى الطّرفين. قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) (١).

وهذا التّراضي يفترض ، في الواقع ، أن يكون كلّ شيء في القضايا مستمدا من الشّرع صراحة. وبهذه الشّرعية في كلّ شيء ، وتجاه كلّ شيء ـ يحدد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معنى الإيمان في قوله : «الدّين النّصيحة ، لله ، ولرسوله ، ولائمة المسلمين وعامتهم» (٢).

وأكثر تحايلا من ذلك ، تلك الطّرق الّتي يصطنعها لأنفسهم أولئك المثقفون ثقافة قانونية ، فهم ، على الرّغم من تكلفهم إحترام الشّريعة ، وحرصهم على أن لا يصادموا حروفها ـ يحاولون أن يجدوا فيها مخرجا جانبيا يشبع أنانيتهم ، ولقد أشار الحكيم التّرمذي في كتاب «الأكياس والمغترين» إلى عدد من هذه الحيل :

__________________

(١) النّساء : ٢٩.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٣٠ ح ٥٦ ، وقد ذكر المؤلف في نصّه : (ولخاصة المسلمين ، وعامتهم) ـ وما نقلناه هو المنصوص عليه من حيث أشار المؤلف. (المعرب). وانظر ، صحيح مسلم : ١ / ٧٤ ح ٥٥ ، بحار الأنوار : ٦٤ / ٢٧٣ ، دعائم الإسلام : ١ / ١٣٤ ، الخلاف : ٣ / ١٨٦ ، منته المطلب : ٢ / ١٠١٠ ، بحار الأنوار : ٩ / ٢٣٢ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٣٢٤ ح ١٩٢٦ ، روضة الواعظين : ٤٢٤ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٤٠٢ ح ٢٧٥٥ ، مجمع الزّوائد : ١ / ٨٧ ، مستدرك الوسائل : ١٣ / ٣٢٧ ، مسند الشّافعي : ١ / ٢٣٣ ، سنن أبي داود : ٤ / ٢٨٦ ح ٤٩٤٤ ، المعجم الأوسط : ٢ / ٤٢ ح ١١٨٤ ، السّنن الكبرى : ٥ / ٢٢٩ ح ٨٧٥٤ ، مسند أحمد : ١ / ٥١ ح ٣٢٨١ ، مسند أبي يعلى : ٤ / ٢٥٩ ح ٢٣٧٢ ، جمال الأسبوع لابن طاووس : ١٨٧.

٧١٧

منها : القاضي الّذي يتقبل بعض الأشياء من أطراف النّزاع على أنّها (هدية) على حين لم يؤتها إلّا بوصفه قاضيا ، ولم تقدم إليه إلّا كرشوة.

ومنها : المدين الّذي يرجو دائنه أن يعطيه مخالصة عامة من كلّ ما يمكن أن يحاسبه عليه ، دون تحديد (تاركا الأمر في نطاق الغموض ، ولكن المخالصة الّتي يظفر بها لا صحة لها أبدا عند الله).

ومنها : الزّوج الّذي تتنازل له امرأته عن جزء من مالها ، كيما تتفادى سوء المعاملة من ناحية زوجها ، (فهذا الصّنيع لا يمكن أن يعتبر بالإختيار الكامل ، بل هو أدنى من أن يكون عطية عن طيب نفس ، على ما إختار القرآن أن يعبر به على وجه الإشتراط ، في قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (١)

وينبغي أن نوغل في التّأريخ إلى العصر اليهودي لنجد حالات نموذجية من هذه الحيل الملتوية ، الّتي تذهب ، في سبيل ضمان انتظام السّلوك ، إلى حدّ أن تبدأ بتحريف القاعدة ذاتها ، وتشويهها ، وطيها بطريقة أو بأخرى ، حسب الشّهوات ، ولقد أشار القرآن إلى بعض هذه الألاعيب الّتي حاول بنو إسرائيل أن يعثروا عليها حتّى يستبيحوا الصّيد ، يوم السّبت ، دون أن يرتكبوا إثما ، وهو قوله

__________________

(١) النّساء : ٤ ، وانظر كتاب : الأكياس والمغترين ـ للحكيم التّرمذي : ٥١ من المجموع ، قال : «وقال الله تعالى في تنزيله في شأن المهر : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ـ فهذا يأخذ منها على كره ، ووعيد ، وتعذيب ، وإلحاح ـ (إشارة إلى من يكره امرأته بسوء العشرة على هبته حقها) ـ يقول قد برأتني منه ، ووهبته مني ، فأين شرط الله الّذي شرطه من طيب النّفس ، حيث قال : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) ـ فإنّما أباح له من مهرها ما أخذه بطيب نفسها». وللمؤلف ملاحظة : أنّ الله قال : نفسا ، ولم يقل : قلبا. (المعرب).

٧١٨

تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١).

ويحكي لنا الحديث قصة أخرى ، هي قصة الشّحم الّذي كان محرما عليهم ، فامتنعوا عنه قاعدة ، وباعوه تجارة ، قال عطاء : سمعت جابر بن عبد الله رضى الله عنه يقول : سمعت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قاتل الله اليهود ، لما حرم الله عليهم شحومها ، جملوه ثمّ باعوه ، فأكلوها» (٢).

ولنا أن نستنتج من ذلك أنّه عند ما يحرم الله شيئا فإنّه يحرم في نفس الوقت تملك ثمنه ، ولذلك ذم الإسلام كسب السّحرة ، والكهنة ، والفواجر ، ففي صحيح البخاري : «وكره إبراهيم (٣) أجر النّائحة والمغنية» (٤) وقول الله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) ـ فتياتكم : إماؤكم ـ وعن ابن مسعود الأنصاري رضى الله عنه «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن ثمن الكلب ، ومهر البغيّ ، وحلوان

__________________

(١) الأعراف : ١٦٣.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٧٧٩ ح ٢١٢١ ، السّنن الكبرى : ٣ / ٨٦ ح ٤٥٨٢ ، سنن النّسائي (المجتبى) : ٧ / ١٧٧ ح ٤٢٥٦ ، الّتمهيد لابن عبد البر : ٩ / ٤٢ ، الخلاف : ٣ / ١٨٦ ، منته المطلب : ٢ / ١٠١٠ ، شرح الزّرقاني : ٤ / ٣٩٥ ، سبل السّلام : ٣ / ٥ ، المعجم الأوسط : ١ / ٢٨٠ ، بحار الأنوار : ٩ / ٢٣٢.

(٣) يقصد بذلك إبراهيم النّخعي.

(٤) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٧٩٧ ح ٢١٦١ ، فتح الباري : ٤ / ٤٦٠ ، سنن سعيد بن منصور : ٤ / المقدمة ح ٧٤٥ ، الدّراية في تخريج أحاديث الهداية : ٢ / ١٧٢ ح ٨٣٣ ، تعليق التّعليق : ٣ / ٢٨٦.

(٥) النّور : ٣٣.

٧١٩

الكاهن» (١).

وهناك حالات كثيرة أخرى تعاطاها النّاس على رغم الشّرع ، في المجتمعات الإسلاميّة ، وهي مدروسة في كتب الشّريعة الإسلاميّة ، تبعا لمختلف المذاهب.

وإذا كان من الواجب أن نعترف بأنّه إن كان الفقهاء لم يجمعوا على عدم شرعية هذه الحيل ، فيجب ألا ننسى أيضا أنّ الّذين أقروها لم يكن هدفهم أن يثبتوا لها الطّابع الأخلاقي ، وينفوا بذلك الشّكوك عن فاعليها.

ولنأخذ ـ أو بالحري : لنعد إلى ـ مثال عقد المخاطرة : أو بيع العينة ، وهو تلك الحيلة المعروفة الّتي يحاول بها إخفاء وجه الرّبا القبيح ، والّتي نعى [باسكال Pascal] على اليسوعيين أن يستبيحوها «حتّى حين تكون نيّتهم الأساسية توخي الكسب» (٢).

ونحن نعلم أنّ القرآن يحرم الرّبا تحريما قاطعا مطلقا ، لا بالمعنى الحديث والمقيد فقط ، (وهو الفائدة الّتي تتجاوز سعرا معينا) ، بل بالمعنى الأقدم ، والأوسع للكلمة : وهو كلّ منفعة مادية ، أو غير مادية ، تؤخذ ممن يقرضون. فالإقراض ليس متاجرة ، بل هو معاونة ، والعون يجب أن يكون نزيها نزاهة مطلقة ويقول تعالى في ذلك : (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (٣).

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٧٧٩ ح ٢١٢٢ و ٢١٦٢ و : ٥ / ٢٠٤٥ ح ٥٠٣١ و ٥٤٢٨ ، صحيح ابن حبّان : ١١ / ٥٦٢ ح ٥١٥٧ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٣٣٢ ح ٢٥٦٨ ، سنن التّرمذي : ٣ / ٤٣٩ ح ١١٣٣ و ١٢٧٦ ، و : ٤ / ٤٠٢ ح ٢٠٧١ ، مجمع الزّوائد : ٤ / ٨٧.

(٢) انظر ، ١ ـ Pascal ,Les provinciales.VIII ,lettre ,

(٣) البقرة : ٢٧٩.

٧٢٠