دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

أمّا مذهب الظّاهرية ، فيرى أنّ المسئولية الّتي تقع على عاتق الإنسان في حالة كهذه ـ هي ذات طابع أخلاقي ـ على وجه الخصوص ، فهي تنحصر أوّلا في تربية من لا عقل له ، وترويضه ، ثم في إجراءات للحماية ، ذات فاعلية أكثر بحيث تمنع عودة الأحداث المسببة للضرر (١).

فهذه المدرسة تستبعد بصورة منهجية كلّ مسئولية قانونية غير مباشرة ، سواء أكانت ناشئة عن فعل تلقائي ، لكائنات غير مسئولة ، (كالأطفال ، والمجانين ، والحيوانات) ، ما دمنا لم نحرضهم على القيام به أم عن فعل الغير ، حتّى لو كنّا رغبنا إليه أن يفعله ، دون أن نكرهه عليه.

ومهما تكن نتيجة هذا النّقاش الثّانوي ، فإنّه يكفي ـ لكي نكشف عن عنصر موضوعي في المسئولية المدنية ، في الشّريعة الإسلامية ـ أن نلاحظ أنّ الإنسان البالغ السّوي (الطّبيب مثلا) مسئول ماليا عن الضّرر الّذي يحدثه مباشرة بوساطة نشاطه الإرادي ، بشرط أن يكون مقصودا ، على أنّه لا يتحمل من أجل هذا ، لا تعزيرا إنسانيا ، ولا عقابا إلهيا. ولا شك أنّ المسئولية الأخلاقية ليست مستبعدة هنا تماما ، فإنّ الأهمال هو فعلا نقص في الأنتباه ، وينبغي أن يعتد خطأ ، أو نصف

__________________

(١) عولجت هذه المسألة في المحلى في موضعين ، أحدهما : عند الحديث عن القتل الخطأ ، والضّمان في : ١٠ / ٤١٦ وما بعدها ، والآخر : في ج : ١١ / ٧ ـ ٨ ، قال ابن حزم ، «والقول عندنا في هذا أنّ الحيوان ، أي حيوان كان ، إذا أضر في إفساد الزّرع ، أو الثّمار فإنّ صاحبه يؤدب بالسوط ، ويسجن إن أهمله ، فإنّ ثقفه فقد أدى ما عليه ، وإن عاد إلى إهماله بيع عليه ولا بد ، أو ذبح وبيع لحمه ، أي ذلك كان أعود عليه ، أنفذ عليه ذلك» ، فقد شملت الإجراءات على هذا النّحو الأطراف الثّلاثة : الإنسان الّذي وقع به الضّرر ، والآخر مالك الحيوان ، والحيوان أخيرا ، ومع ذلك فقد روعني جانب مالك الحيوان من حيث توفير أقصى النّفع عند إتخاذ إجراءات التّأديب والحماية ، بعيدا عن روح الأنتقام. «المعرب».

٣٦١

خطأ.

كيف نفسر من وجه آخر ـ الكفارات الّتي أمر بها القرآن في حالة القتل اللاإرادي ، أعني القتل الخطأ؟ (١).

إنّ المسلم الّذي كان سببا غير متعمد في هلاك أخ له ـ يجب أن يعتق أخا آخر

__________________

(١) لا ريب أننا نستطيع أن نفترض عند هذا الحدّ ، وهذا الحدّ فقط ـ حالات يخطىء فيها القاتل طبيعة هدفه ، على الرّغم من كلّ الأحتياطات ، والجهود الّتي يستخدمها لتمييزه ، وفي هذه الحالات ، الّتي لا يفسر فيها الخطأ بالأهمال ، لا يبقى في وسعنا أن نعتبر الجزاء كفارة خطأ ، جسيم أو ضئيل ، وحينئذ ، نعتقد أنّ من الممكن تفسيره على أنّه إحتياط يستهدف المستقبل بدلا من أن نعطفه نحو الماضي.

والخطأ منبع للشر ، ولا ينبغي للشر أن ينتصر ، والخطأ يولد في المجال الأخلاقي الرّذيلة ، كما يؤدي في المجال العقلي إلى التّزييف ، والرّذيلة ، والتّزييف هما النّقيصتان اللّتان تدنسان النّفس ، وتقللان طاقتها وطهارتها.

ولا ريب أنّ الخطأ حين يحدث لا يوجد شيء يمكن أن يفعل ضده ، وعند ما لا يكون قد حدث بعد فلا شىء يمكن أن يفعل لاستباقه ، وخاصة حين نفترض أننا فعلنا كلّ ممكن إنسانيا لتفاديه ، وإذن ، فليس إقتدارنا على الصّراع ضد الخطأ من حيث كونه حدثا قد تم فعلا ، أو واقعا تأريخيا عرضيا ، ولكنا إذا ظللنا ساكتين في مواجهة الشّر الّذي يحدثه الخطأ ، فإنّ الشّر سوف يعيد نفسه ، ويتمادى ، ثمّ هو بفضل العادة قد يوقظ فينا ميولا سيئة ، كانت حتّى ذلك الحين نائمة. وهكذا يمكن أن يتحول العمل الّذي تم من قبل على أساس من الغفلة ، ليصبح عملا حرا وإراديا. وإذن ، فإذا كان للخطأ واقعه ، فإنّ له كذلك غايته ، فلم يوجد الخطأ من أجل أن يفرض نفسه علينا فرضا إستبداديا ، ثم يحملنا نتائجه المقدورة ، وإنّما وجد كيما يحرك فضولنا العقلي ، وطاقتنا الأخلاقية ، حتّى نتجنب آثاره السّيئة. وإذا كنّا لا نستطيع أن ننفي الخطأ في ذاته ، فإنّ لدينا مع ذلك الوسائل الّتي نحتاط بها من الإتجاهات الشّريرة الّتي يعمل على خلقها ، وكذلك من تكرار الغلطة على نحو كثير ، وهو أمر قد يحدث في غيبة أي فعل مضاد.

إنّ رد فعلنا سوف يكون مؤثرا بقدر ما يتمثل في أفعال إرادية قادرة على أن تلمس حساسيتنا ، وأن تثبت في ذاكرتنا ، وأن تحرك من جديد همنا الأخلاقي ، وليس فيما يبدو من ندم عابر ، أو إتهام رفيق بأنفسنا. وتلكم هي الحسنات الّتي ننتظرها من تضحية نرتضيها بحرية على إثر غلطة لم نتعمدها ، في الحالات المحددة.

٣٦٢

رقيقا ، فضلا عن التّعويض المستحق لأولياء الدّم. فإذا كان أحد النّاس قد مات موتا طبيعيا ، فإنّه سوف يأتي بمن يعوضه حين يدخل شخصا آخر في الحياة الأخلاقية. فإنّ عدم لزمه أن يصوم شهرين متتابعين ، والله سبحانه وتعالى يقول في هذا :

(وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١).

بيد أنّ هذه الغلطة السّلبية ، في الأنتباه لا تؤدي إلى التّجريم الإيجابي ، والعقابي للعمل الخارجي ، الّذي تكفي صفته الموضوعية الغالبة لفرض الجزاء المدني.

وهذه حالة أخرى للخروج على المبادىء المقررة ، وهو خروج ينهي التّباين بين المسئولية المدنية ، والأنواع الأخرى من المسئولية :

فعلى حين تحتفظ هذه الأنواع دائما بصفتها الفردية الدّقيقة ، نلمح فجأة عنصرا يظهر في تعويض الأضرار النّاجمة عن الخطأ وهو عنصر جماعي شديد القوة ، يعمل على إمتصاص الجانب الفردي .. فهذا المسكين الّذي تسبب في موت آخر ، أو بتر عضو من أعضائه ، أو جرحه ، دون أن يريد ذلك ، هذا المسكين لا يفلت فقط من كلّ أنواع القود ، بل إنّ التّعويضات الّتي تقتضيها منه

__________________

(١) النّساء ٩٢.

٣٦٣

الضّحايا لا يتحمل هو منها سوى جزء جد ضئيل ، لأنّ هذه التّعويضات سوف توزع ـ في الواقع ـ على مجموعة كبيرة من النّاس ، البالغين الأسوياء (١) ، الّذي يرتبطون معه عادة برباط من التّعاون الطّبيعي ، أو الأتفاقي ، والذين يشترك معهم كواحد منهم. فإذا عدمت هذه المجموعة الّتي تؤمن له راحة حقيقية من هذا الثّقل ، وجب على الدّولة أن تفي بدلا منه بهذه التّعويضات.

ولقد نظن ، من أوّل وهلة ، أننا نشهد في هذا النّوع من المسئولية مخالفات متكدسة ، لكنا لو تأملناها من قريب للمحنا أنّ الجانب الجماعي لا يتدخل هنا إلّا لكي يقلل إلى أدنى حدّ مساوىء ، موضوعية واقعية ، ولو كان ذلك بتحديدها أو تخفيفها.

إنّ الطّبيعة المركبة للعمل الخاطىء غير المتعمد تضعه ـ كما رأينا ـ وسطا بين حالتين متطرفتين ، هما : العمل المقصود ، والحادث الّذي يقع بطريق الصّدفة المحضة ، فإذا كان يشبه كلا منهما من جانب ، فإنّه يختلف عنه من جانب آخر. وإذن ، فهو لا يحمل على جانب واحد ، أو آخر ، ولا يمكن أن يعامل بنفس الطّريقة ، ونتيجة لهذا لا يصح أن يظفر بلا مسئولية كاملة ، ولا أن يكون موضوع مسئولية كلّية. فواقع الأمر أنّ النّيّة السّيئة معدومة ، ومن العدالة أن يعفى من العقوبة. ومع ذلك ، فإنّ وجود خطأ معين يميزه كثيرا عن الحادث الأتفاقي (الّذي وقع عرضا ، وبطريق الصّدفة) ، (حيث لا مجال في الوقع إلّا لمؤاخذة الطّبيعة) ، وهو ما يؤكد ضرورة نوع من الإصلاح الإنساني.

__________________

(١) يطلق الفقهاء على من يتحمل الدّية في هذه الحال اسم (العاقلة). «المعرب».

٣٦٤

ولكن ، ممن نقتضي هذا الأصلاح؟ .. أنفرضه كلّيا على الفرد؟.

أليس معنى هذا أننا نوقع عقوبة مقصودة على خطأ غير مقصود ، وبذلك توسع المسافة بين المسئولية الإجتماعية ، والمبدأ الأخلاقي؟ .. لقد كانت مشاركة الجماعة جدا ملائمة حتّى تهدأ ثورة الضّمير.

وليس هذا في الواقع نوعا من بعثرة مسئولية وحيدة ، فإنّ المجتمع لا يمكن أن يوصف حقا بأنّه متعاون ، على أساس عمل تم بدون علمه ، بل أنّ نسبته إلى الفرد أمر عسير ، وهو (أي المجتمع) على أيّة حال لم يشارك فيه بوصفه مجتمعا.

ولكن نصف المسئولية الّذي يقع على كاهل الفرد ، يتولد عنه بالنسبة إليه موقف تعيس لا يستحقه. ولما كان المجتمع مسئولا عن الرّفاهية النّسبية لأعضائه ، فما كان له أن يدع هؤلاء الأعضاء عرضة لبؤس غير متوقع ، وهم الّذين لم يكونوا صناعا مريدين لبؤسهم الخاص. ولهذا يخصص باب من نفقات الدّولة الإسلامية لأداء ديون الأفراد ، حيث جعل هؤلاء المدينون من مصارف الزّكاة ، فقال تعالى : (وَالْغارِمِينَ) (١).

وإذن فالتضامن الّذي نراه هنا هو نوع من التّعاون الخير ، الّذي يجب أن يتم في مواجهة الصّعوبات ، على سبيل التّبادل بين النّاس في المجتمع الواحد. ثمّ إنّ توزيع التّعويضات ، أو الغرامات المذكورة لا يحدث بصورة ميكانيكية ، على أساس التّساوي العددي بين أنصباء المسهمين ، بل يجب على العكس من ذلك أن نأخذ في إعتبارنا إمكانات كلّ فرد ، لنفرض عليه نتيجة لذلك نصيبا من شأنه ألّا يرهقه (٢).

__________________

(١) التّوبة : ٦٠.

(٢) انظر ، المجموع للأمير : ٢ / ٣٧٢.

٣٦٥
٣٦٦

خاتمة

حين ندنّي مختلف العناصر الّتي استخلصناها أثناء هذا التّحليل ، بعضها من بعض ، يصبح من السّهل كثيرا أن نعيد بناء الفكرة القرآنية عن المسئولية.

لقد تولى القرآن بصفة جوهرية وجهة النّظر الأخلاقية ، وراح يقر في هذا الصّدد الشّروط الّتي تتفق تماما مع المقتضيات المشروعة لأعظم الضّمائر إستنارة ، واهتماما بالعدالة. دون أن ينتظر النّضج البطىء ، المتردد ، عبر الأفكار القديمة ، والحديثة لكي ينتهي إلى هذا الوضع الواضح القويم.

فالمسئولية ترتبط ارتباطا وظيفيا بالشخصية ، ولذلك لا يطيقها غير الإنسان البالغ العاقل ، الواعي بتكاليفها ، وبحيث يتمثلها أمام ناظره في لحظة العمل. فإذا ما تحددت صفات الشّخص تعيّن ، بعد ذلك ، أن يكون مسئولا عن الأفعال الّتي يأتيها بإرادته الحرة. وإذن ، فالإرادة ، والحرية هما من النّاحية العملية مترادفان. وليس لأية قوة في الطّبيعة ، باطنة ، أو ظاهرة ، سلطة كافية لكي تحرك ، أو توقف النّشاط الجواني لإرادتنا.

وقد تستطيع الطّبيعة أن تحرمنا بعض الظّروف المادية اللازمة لتنفيذ قراراتنا ، وقد تستطيع أن تخلع عنا بعض الصّفات الدّمثة الرّقيقة ، الّتي تجعل قراراتنا

٣٦٧

الخيرة أكثر يسرا ومودة ، ولكنها لا تستطيع أن تمس فينا القدرة على هذه الحمية الجريئة الّتي نقدر على إتيانها رغم كلّ شيء ، مضحين بمسراتنا. وكذلك عند ما يخضع المرء لإكراه خارجي ، أو لضرورة حيوية ، فإنّه يفعل ذلك بحرية ، وهو يوازن بين الأدلة ، والبواعث المتناقضة ، ثمّ يختار ما يبدو له أكثر تناسبا ، وعلى أساس من هذا الإختيار يكون حسابه ، أحسن أو أساء.

وأخيرا ، فإنّ المبدأ القرآني للمسئولية هو مبدأ فردي ، يستبعد كلّ مسئولية موروثة ، أو جماعية بالمعنى الحقيقي للكلمة.

هذه المبادىء الّتي تتبعناها على وجه الدّقة ، والّتي استخرجنا منها أدق النّتائج في الميدان الأخلاقي ، والدّيني ـ قد ورد عليها ـ ولا ريب ـ استثناءات ، في الميدان الفقهي ، ومع ذلك لم نغفل كثيرا من مسائلها الجوهرية. ويبقى العمل الإرادي للفرد الإنساني المزود بالعقل ، الموضوع الدّائم ، والوحيد للمسئولية ، وتبقى أيضا نية فعل الشّر شرطا ضروريا للعقاب.

وعند ما حدثت للمرة الوحيدة (في المسئولية المدنية) مخالفة لهذه القاعدة الأخيرة ، كيما ترضى مطالب أخرى ليست بأقل شرعية ـ لم نقعد عن إلحاقها بمخالفة أخرى من شأنها تخفيف آثار الأولى ، بحيث إنّ الشّارع الإسلامي ـ بعيدا عن المجال الأخلاقي المحض ، ومع تغليب المصالح العاجلة ـ لم يتجاهل المبادىء الأساسية للتجريم الحقيقي.

٣٦٨

النّظرية الأخلاقية

كما يمكن استخلاصها من القرآن

مقارنة بالنظريات الأخرى

قديمها وحديثها

٣٦٩
٣٧٠

الفصل الثّالث :

الجزاء

تتمثل العلاقة بين الإنسان ، والقانون لأعيننا في شكل حركة إقبال ، وإدبار ، مكونة من ثلاثة أزمنة ، ولقد كنا مع فكرة الإلزام ما نزال في نقطة البداية ، ولكنا مع فكرة الجزاء ، نجد أنّ دائرة هذه العلاقة الجدلية سوف تقفل ، فهي الوحدة الأخيرة في ثالوث ، وهي أشبه بالكلمة الأخيرة في حوار.

فالقانون يبدأ بأن يوجه دعوته إلى إرادتنا الطّيبة : فهو «يلزمنا» بأن نستجيب لتلك الدّعوة ، وبعد ذلك ، وبمجرد ما نجيب بكلمة (نعم) أو (لا) ـ نتحمل بذلك «مسئوليتنا» ، وأخيرا ، وعلى إثر هذه الإستجابة يقوّم القانون موقفنا حياله ، فهو يجازيه.

فالجزاء إذن هو رد فعل القانون على موقف الأشخاص الخاضعين لهذا القانون ، وقد رأينا أنّ القانون الأخلاقي ، مطلب لا يقاوم لأنفسنا ، وفرض صارم لضميرنا الجماعي ، وهو في الوقت نفسه أمر مقدس لضمير الفرد في أكمل صورة وأقدسها ، فمن هنا كان هذا الشّكل المثلث للمسئولية ، الّتي فرغنا من بحثها.

٣٧١

ومن هنا أيضا كان للجزاء ثلاثة ميادين ، سوف ندرسها في هذا الفصل : الجزاء الأخلاقي ، والجزاء القانوني ، والجزاء الإلهي.

١ ـ الجزاء الأخلاقي :

كثيرا ما يتساءل المرء عما إذا كان هناك (جزاء أخلاقي) ، أو عن إمكان وجود مثل هذا الجزاء ، أليس هذان اللفظان متنافرين تماما؟ .. أليس إنكارا لطبيعة القانون الأخلاقي المنزهة على الأطلاق ـ أن نفترح للنشاط الإنساني غاية أخرى ، غير أداء الواجب لذاته؟.

في رأينا ، أنّ الإعتراض يقوم على نوع من الخلط المؤسف بين علم الأخلاق ، والنّزعة الأخلاقية ، بين مقتضى العدالة في ذاتها ، والأهداف الّتي تنشدها الإرادة : وهما أمران متمايزان تماما ، دون أن يتوازيا بالضرورة. ولسنا نرى في الواقع أية إحالة في أن يكون لقانون معين جزاء صارم دون أن يدعونا أن نتخذ من جزاءاته حافزا لجهدنا ، والقانون الفيزيولوجي (العضوي) يقدم لنا مثالا على هذه الحقيقة : أليس جزاء الظّروف الصّحية الّتي أعيش فيها ـ موجودا آليا في الصّحة ، والمرض اللذين تسببهما ، حتّى عند ما لا أفكر قط في هذه النّتائج؟ .. فلما ذا يكون الأمر على خلاف ذلك في القانون الأخلاقي؟ .. سوف تقول لي : إنّه يحرّم عليك أن توجه نظرك إلى شيء آخر غير أمره المهيب ـ ليكن!! ولكن ذلك لا يمنع أنّه يستطيع ، بل ويجب ، أن يحفظني من النّتائج المختلفة ، المنوعة التّطبيق ، حسب ما إذا كنت ألتزمه على تقوى ، أو أرفض الخضوع له في نزق ، وطيش.

٣٧٢

نعم ، إنّ جزاء ضروريا ، ومحددا ينبغي أن يطبق في فكرة القانون ذاتها ، وإذا كان القانون الأخلاقي لا يتضمن تنفيذه ، أو إنتهاكه أية نتيجة لصالح الفرد الّذي يفرض عليه ، أو ضده ، فإنّ هذا القانون لا يكون باطل الأثر فحسب ، بل معتسفا وغير معقول ؛ بل إنّه لن يكون ملزما ، أي لن يكون هو ذاته.

فكلّ ما في الأمر هو أن نعرف فيم يتمثل هذا الجزاء ، الّذي نصفه بأنّه أخلاقي؟ ويجب بداهة أن نستبعد كلّ فكرة للثواب ، أو العقاب تؤثر في حواسنا الخارجية ، إذ أنّ مثل هذه الجزاءات ، فضلا عن أنّها لا يمكن أن تسمى «أخلاقية» ، فإنّها كذلك ليست ضرورية ، أللهمّ ، إلّا إذا رجعنا بالفكر إلى عالم آخر ، يصبح فيه السّعادة ، والشّقاء ـ كلّ على حدة ـ على توافق تام مع الخير والشّر. ولكن ما دمنا بعيدين عن مجال الدّين ، فإنّ فكرة عالم كهذا غريبة عن الأخلاق الطّبيعية ، على وجه الإطلاق ، وهي الأخلاق الّتي لا تتجاوز حدودها مجال الضّمير الحالي ، وعليه ، فكم من رذائل في هذه الدّنيا توجت بالنجاح!! وكم من فضائل رازحة تحت ضروب البؤس!! ولدينا من ذلك في كلّ يوم مزيد.

هل يجب أن نستعبد أيضا ، كما قد قيل ـ فكرة اللّذة ، والألم ، الباطنية المحضة؟. وهل ندم الضّمير ورضاه ـ من المشاعر الغريبة أيضا عن الحياة الأخلاقية؟. أليس لهما أي حقّ في الوجود بقوة القانون؟ ..

لقد قيل لنا : إنّ هذه المشاعر ليست ـ إحتمالا ـ سوى بقايا مصفاة لفكرة موضوعية عن المسئولية ، وإذا لم يكن النّدم خوفا مبهما من العقاب ، فإنّه التّوقع ، أو الرّجاء (١).

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Levy Bruhl L\'idee de la responsabilite, d III S I

٣٧٣

وإليك البرهان المقنع الّذي روّجوا له ضد هذه الإحتمالات ، من أجل نفيها نهائيا من الميدان الأخلاقي ، فإنّ هذه الحالات لا تتنوع بصورة ملحوظة من إنسان لآخر فحسب ، بل إنّها قد تختفي إختفاء كاملا في بعض حالات الفسق ، فهي ليست إذن نتائج ضرورية للخضوع للواجب ، أو لمخالفته ، ومن ثمّ استنتجوا إستحالة الجزاء الأخلاقي بالمعنى الصّحيح.

ولكن ، هل نحن متفقون على معنى الكلمات؟. إذا كان المراد بعبارة (القانون الأخلاقي) ـ هو الواجب في ذاته ، القانون الموضوعي الّذي يفرض على جميع النّاس ، مستقلا عن حالات ضميرهم ، فمن الحقّ أنّ قانونا كهذا يمكن أن يوجد ، دون أن يؤدي في جميع الأنفس إلى هذه الحالات من الشّعور بالراحة ، أو الألم ، من الفرح ، أو النّدم. غير أنّ إلغاء هذه الحالات الخاصة لا يؤدي إلى القضاء على جميع الحالات الدّاخلية الّتي يثيرها أداء الواجب ، أو انتهاكه. ولسوف نرى قريبا أنّ كلّ سلوك ، حسنا كان ، أو سيئا ، ينشىء حالة داخلية تتناسب معه ، وتكون عامة ، وضرورية.

فأمّا إذا كان المقصود بكلمة (قانون) : قاعدة يعرفها ويحس بها الإنسان ، قانونا يتصل بمعارفنا ، ومشاعرنا ، فمن الواضح أنّه بعد أن يباشر عمله لا يمكن لفكرة الواجب أن تظهر مرة أخرى على مسرح الضّمير ، دون أن تحدث فيه أصداء ، تختلف في درجة عمقها : تعبر عن الرّضا في حالة النّجاح ، وعن الألم في حالة الفشل. وإذا حدث على سبيل الإفتراض أنّ الإنسان الّذي فسدت أخلاقه لم يستشعر شيئا من هذا ، وإذا كان قد فقد معنى الخير ، والشّر تماما ، فما ذا يمكن أن يقال سوى أنّ القانون لا يوجد بالنسبة إليه؟. وهكذا يمضي اللفظان معا

٣٧٤

دائما ، لأنّهما لا ينفصمان إيجابا وسلبا.

هل معنى ذلك أننا نقف إلى جوار النّظرية العامة ، الّتي ترى في ندم الضّمير ، ورضاه عقوبة ، أو مكافأة كافية للقانون الأخلاقي؟.

هيهات ، فإذا كان كلّ ما ننتظره من القانون كجزاء على موقفنا نحوه هو أن يمتعنا ، أو يؤلمنا فيا له من مشروع صبياني!! إنّ المتعة ، والألم اللذين نحس بهما بعد أن نفعل خيرا ، أو شرا ، هما مع ذلك رد فعل لضميرنا على ذاته ، أكثر من أن يكونا رد فعل للقانون علينا ، فهما تعبيران طبيعيان عن هذا اللقاء ، بين شعورين متلاقيين ، في ذوقنا الخاص ، أو متضادين ، أي أننا تبعا لتوافق شعورنا بالواقع أو تضاربه مع شعورنا بالمثل الأعلى ـ إمّا أن نتمتع بحالة من السّلام ، والدّعة ، ناشئة عن هذا التّوازن الدّاخلي ، أي عن إتفاقنا مع ذواتنا ، لا سيما ونحن على وعي بهذه القوة الّتي منحت لنا كيما ندمج أفكارنا في الأحداث ؛ وإمّا أن نتألم لهذا التّناقض ، وذلك الضّعف في قوانا تألمنا من تمزق في كياننا.

هذا التّفسير النّفسي الخالص لإنفعالاتنا الأخلاقية يسير في إنسجام مع النّصوص ، فالواقع أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينظر إلى حالات النّفس هذه على أنّها ثواب يقتضيه سلوكنا ، وإنّما رأى فيها ـ عوضا عن ذلك ـ ترجمة ، وتحديدا للإيمان (الأخلاقي) ، فقد روى أحمد في مسنده أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا ساءتك سيئتك ، وسرتك حسنتك فأنت مؤمن» (١).

__________________

(١) انظر ، مسند أحمد من طريق أبي امامة : ٥ / ٢٥١ ، و ٢٥٢ و ٢٥٦ ح ٢٢٢١٣ ، وهو أيضا في المسند : ١ / ١٨ و ٢٦ من حديث عمر بن الخطاب ، وهو في المسند : ٣ / ٤٤٦ من حديث عامر بن ربيعة. انظر ، ـ

٣٧٥

وفي حديث آخر ـ أنّ درجة شدة هذا اللّوم الباطن تعكس صدق إيماننا ، وتقيس درجته قياسا دقيقا. فنحن نشعر فعلا بجسامة ذنبنا ، وخطورته على نحو متفاوت ، تبعا لدرجة شعورنا الحيّ بالتكليف ، وهو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن يرى ذنبه فوقه كالجبل يخاف أن يقع عليه ، والمنافق يرى ذنبه كذباب مرّ على أنفه فأطاره» (١).

ولكن ، إذا كان النّدم لا ينشىء جزاء ثوابيا ، ألا يمكن أن يعد بمنزلة جزاء إصلاحي؟

لا يحظى هذا الرّأي بأكثر مما حظي به سابقه ، فإنّ ما يعيد تثبيت القانون المنتهك ليس شعورا معينا ، ولكن موقف جديد للإرادة : هو «التّوبة». والنّدم ليس هو التّوبة ، بل هو تمهيد لها ، وإعداد فحسب ، فعند ما تخضع النّفس للشر ، يحدث فيها نوع من الصّدع ، وهي تجد ـ دون ريب ـ في حرارة النّدم المؤلمة وسيلتها لتلتئم ، وتقف من جديد مستجمعة ، وتحمل منذئذ أمانتها ، مع مزيد من الطّاقة ، والحماس. ومن المؤسف أننا لا نستغل دائما هذه الإمكانة المتاحة لنا. فليس من النّادر ، بل كثيرا ما يحدث ، أن تهبط هذه الهزة العابرة فجأة إلى درجة الصّفر ، وأن تخبو النّار الّتي اشتعلت في بعض اللحظات ـ بسرعة ، فتصبح دون

__________________

ـ مجمع الزّوائد : ١ / ١٧٦ ، الإيمان لابن منده : ٢ / ٩٨٤ ح ١٠٨٨ ، الزّهد لابن المبارك : ١ / ٢٨٤ ح ٨٢٥ ، التّرغيب والتّرهيب : ٢ / ٣٥٢ ح ٢٦٨٩.

(١) انظر ، سنن التّرمذي : ٤ / ٦٥٨ ح ٢٤٩٧ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٥ / ٣٤٢ ح ٨٣٧٧ ، صحيح البخاري : ٥ / ٢٣٢٤ ح ٥٩٤٩ ، المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ٧ / ١٠٤ ح ٣٤٥٣٨ ، نوادر الأصول في أحاديث الرّسول : ١ / ٢٧٩ ، فيض القدير : ٦ / ١٥٢.

٣٧٦

أثر في الإرادة ، ودون غد في السّلوك. وإذن فليست التّوبة ثمرة ضرورية للندم ، وهو لا يستتبعها كنتيجة مبدئية.

إنّ النّدم أثر طبيعي للصراع ، ولكنه ليس جزاء ، أمّا التّوبة فهي على عكس ذلك تماما : إنّها ليست أثرا طبيعيا ، بل هي جزاء ، وجزاء أخلاقي بالمعنى الحقيقي ، يفترض تدخل الجهد ، إنّها واجب جديد يفرضه الشّرع علينا ، على إثر تقصير في الواجب الأولي : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١) ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (٢) ، وهي واجب ملح ، وعاجل ، حتّى إنّه لا يصادف إرجاء إلّا عرضه لخطر زوال فائدته. وأوّل الأخطار يتمثل في أنّ استمرار الإرادة في موقفها الخاطىء ينشىء في كلّ لحظة خطأ جديدا ، والله يقول في صفة المتقين : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) (٣) ، ورغبة الإنسان في أن يغتنم في حاضره كلّ الشّهوات المتاحة ، وأن يؤجل محو كلّ ذنوبه إلى أن يتوب توبة صادقة مع النّزع الأخير ـ ليست سوى وهم باطل ، فإنّ القرآن يؤكد : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (٤).

وبين التّوبة العاجلة ، والتّشبث بالموقف المذنب هنالك الحل البليد ، الّذي يتمثل في أن يأسف الإنسان على الماضي ، ثمّ يؤخر إصلاحه إلى حين ، وهنا

__________________

(١) النّور : ٣١.

(٢) التّحريم : ٨.

(٣) آل عمران : ١٣٥.

(٤) النّساء : ١٨.

٣٧٧

مكمن الخطر ، لأنّ القرآن ينص على أنّ مغفرة الذنب ليست إلّا لمن يتوبون من فورهم ، أو بعد قليل : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (١) و (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (٢). والحقّ أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد فسر هذا النّص بحيث يوافق أجل التّوبة فسحة الحياة ، فقال : «إنّ الله عزوجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (٣).

ولكن إذا كان أجل الحياة مجهولا لنا ، وهو غالبا ما يحين ، على حين غرة ، فمن الحكمة أن نستبق السّاعة ، أعني : أن نكون دائما على أهبة السّفر ، وأن نحسب بإستمرار حسابه ، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي : «فمهما وقع العبد في ذنب ، فصار الذنب نقدا ، والتّوبة نسيئة ، كان هذا من علامات الخذلان» (٤).

ونحن نقول : إنّ التّوبة جزاء إصلاحي ، ولكن ، كيف نتصور أنّ موقفا لا حقا يمكن أن يصلح موقفا في الماضي ..؟.

إنّ كلّ شيء يتوقف على التّحديد الّذي نعطيه للكلمات ، فإذا كانت الكلمة (يتوب) تعني يأسف على الشّر الّذي أقترفه ، ويعزم ألّا يعود إليه ـ فإنّ ذلك

__________________

(١) النّساء : ١٧.

(٢) آل عمران : ١٣٥.

(٣) انظر ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ٢ / ٤٥ ، بحار الأنوار : ٦ / ١٦ و : ٧٨ / ٢٤٠ ، نيل الأوطار : ٧ / ٢١٠ ، كشف الخفاء : ١ / ٢٨٨ ، ميزان الأعتدال : ٤ / ٢٦٥ ، شعب الإيمان : ٥ / ٣٩٦ ، فتح الباري : ١١ / ٣٥٣ ، مجمع الزّوائد : ١٠ / ١٩٧ ، حلية الأولياء : ٥ / ١٩٠ ، تفسير القرطبي : ٤ / ١٣١ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٩١ ، صحيح ابن حبان : ٢ / ٣٩٥ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١٤٢٠ ح ٤٢٥٣ ، مصباح الزّجاجة : ٤ / ٢٤٩ ، موارد الظّمآن : ١ / ٦٠٧ ح ٢٤٤٩.

(٤) انظر ، إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٤٥.

٣٧٨

لا يكفي بداهة لرفع آثار العمل المقترف ، وعليه ، فإنّ التّوبة بهذا المعنى لا تؤدي وظيفتها الإصلاحية ، في الأخلاق الإسلامية ، ففي هذه الأخلاق يقصد (بالتوبة) في الواقع موقف للإرادة أكثر تعقيدا ، موقف ينظر إلى الماضي ، والحاضر ، والمستقبل ، ويتجلى في الأفعال ، لا في إتخاذ خط سلوك جديد فحسب ، ولكن أيضا في إعادة تجديد البناء الّذي تهدم بصورة منهجية. وتعبير القرآن تعبير بناء جدا في هذا الصّدد ، فهو يضيف دائما إلى كلمة (تاب) كلمات أخرى مثل : (وَأَصْلَحَ) ـ أو ـ (وَأَصْلَحُوا) (١) ، أو قوله : (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) (٢) ، فهو مجموع من الشّروط الّتي جعلها ضرورية لكسب الغفران الموعود.

وأوّل دليل على التّوبة النّصوح ، هو الواجب الآنيّ المعجل ، الّذي بدونه تصبح فكرة التّوبة متناقضة. هذا الواجب ينحصر في العدول السّريع عن الذنب ، أعني : إيقاف الشّر الّذي كان المذنب يوشك أن يجترحه.

ثمّ تأتي من بعد ذلك عمليتان إيجابيتان تكملان هذا الدّليل ، هما : إصلاح الماضي ، وتنظيم مستقبل أفضل. وفكرة (الإصلاح) هي وحدها الّتي تبقى غامضة ، لا يستطاع تحديدها كمفهوم له معنى وحيد ، وهي تبدو لنا ـ في الواقع ـ تغير من طبيعتها ، تبعا لنوع الخطأ الواجب إصلاحه.

فإذا كان الخطأ في واجب أهمل ، وما زال الأمر به قائما ، فإنّ الإصلاح ينبغي أن يتمثل في قضاء حقيقي ، ذي طابع أخلاقي ، فكلمة (أصلح) هنا تعني (تدارك) ، فالعمل النّاقص يجب أن يعاد ، ويؤدى بطريقة مناسبة ، آجلا ، أو

__________________

(١) البقرة : ١٦٠ ، والأنعام : ٥٤ ، والنّحل : ١١٩.

(٢) المائدة : ٩٣.

٣٧٩

عاجلا ، والله سبحانه وتعالى يقول : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) (١) ، ويقول : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (٢). ولكن حين تكون الحالة شرا إيجابيا حدث فعلا ، فكيف نصلح ما لا يقبل الإصلاح؟ .. هنا يظهر معنى آخر للكلمة ، فإنّ (أصلح) لن تعني (أعاد) ، بل (عوّض) وإذا كان مستحيلا أن نبطل الخطأ في ذاته ، فمن الممكن على الأقل أن نمحو آثاره ، بأداء أفعال ذات طبيعة مناقضة ، وها هو القرآن يعلمنا أن : (الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٣) ، وأنّ أولئك الّذين قال الله تعالى فيهم : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (٤).

ومع ذلك ، إنّ السّنة قد ميزت هنا نوعين من الخطأ الواجب إزالتّه : الأخطاء الّتي تنتهك واجبا شخصيا ، ويطلق عليه : حقّ الله ، وذلك كأن يعكف المرء على شهواته ، عصيانا لخالقه ؛ والأخطاء الّتي تضر بحقّ الغير ، ويطلق عليه : حقّ العباد ، وفي الحقيقة إنّ حقّ الله يوجد في جميع واجباتنا ، إمّا في حالة خالصة ، وإمّا مختلطا بحقّ آخر إنساني. وعلى ذلك فإنّ جميع أشكال التّوبة ، على ما علمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي المشار إليها حتّى الآن ، ليست قادرة على محو كبائرنا ، إلّا من حيث هي إنتهاك لتلك الشّريعة المقدسة ، فإذا استتبعت الجريمة ـ فضلا عن ذلك ـ أضرار تلحق بإخواننا ، فلن يتم إصلاحها إلّا بإدخال عنصر

__________________

(١) الكهف : ٢٤.

(٢) البقرة : ١٨٥.

(٣) هود : ١١٤.

(٤) التّوبة : ١٠٢ ـ ١٠٣.

٣٨٠