دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

والحقّ أنّ القلة الّتي يصف بها القرآن ، والسّنّة متاع هذه الدّنيا تدعونا إلى أن نزهد ، ولو قليلا في هذه المتع الفانية.

بيد أنّ هذه الزّهادة الّتي يمكن أن تفهم عموما بمعنى روحي ـ لا ينبغي أن تفهم ماديا إلّا في ظروف شديدة النّدرة ، كحالة إنسان خليّ ، منقطع ، لا يتطلب نشاطه (ولو على سبيل الصّدّقة) أي تكليف ، من قريب أو من بعيد. فمن الأفضل لهذا الرّجل ـ بلا شك ـ أنّه متى ما أشبع حاجاته الخاصة العاجلة ألا يسعى كثيرا إلى مزيد من الكسب ، بل عليه أن يسخر أعظم جهده لتهذيب قلبه ، وروحه.

هذه الظّروف هي على وجه التّحديد ظروف المتصوفة المسلمين ، الّذين سبقهم على هذا الدّرب عدد من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبخاصة أهل الصّفّة ، لكنه كان واجبا على كلّ المسلمين أن يكون لهم موقف روحي متحفظ حيال المتع الأرضية ، وقدر من التّجرد من هذا الحبّ الزّائد ، الّذي يسخر «الرّوح» «للمادة» ، والّذي يجعل من مجرد «الوسيلة» «غاية» حقيقية.

وليس وراء هذين المعنيين أي موقف متنسك مشروع في الإسلام.

ومن ثمّ لا يمكن أن ننصح إنسانا موسرا بأن يفتقر بإختياره لكي يصير مسلما حقا ، فليس في هذا زهد حقيقي ، إذا ما حكمنا عليه بتحديد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نفسه ، الّذي يقول :

«الزّهادة في الدّنيا ليست بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن الزّهادة

__________________

ـ مسلم : ٢ / ٧٢٨ ح ١٠٥٢ ، المسند المستخرج على صحيح مسلم : ٣ / ١١٧ ح ٢٣٤٦ ، سنن البيهقي الكبرى : ٣ / ١٩٨ ح ٥٥٠١ ، مسند أحمد : ٣ / ٢١ ح ١١١٧٣ ، مسند الطّيالسي : ١ / ٢٩٠ ح ٢١٨٠ ، شرح النّووي : ٧ / ١٤٤.

٨٢١

في الدّنيا ألا تكون بما في يدك أوثق مما في يدي الله» (١).

وكذلك الأمر في حالة العكس ، حالة رجل منقطع ، يتمتع بالضروري قانعا متعففا ، ويتمسك بصورة خاصة بالقيم العليا : فلا ينبغي لنا أيضا أن نغريه بالتخلي عن مثله ، من أجل أن يثرى ماديا.

والحقّ أنّ ما ينبغي على المرء أن يفعله ، غير ما تفرضه عليه السّاعة الّتي يحياها ، هو أن ينوي دائما ـ ولو أنّ نيّته في حيز القوة ـ أن يغير موقفه متى ما غير الوضع وجهه ، أي أن يكون دائما مستعد للهجوم ، وللدفاع ، للعطاء ، وللصبر.

وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نرى بين هاتين الفضيلتين علاقة مساواة في القيمة ، متناسبة مع ظروفهما الخاصة ، ولما كان لكلّ وضع مقتضياته الأخلاقية ، فمن الواضح أنّ من يعرف كيف ينهض به يؤدي واجبه الكامل الّذي لا بديل له ، لا أقل ، ولا أكثر. وتلك فيما نعتقد نتيجة تنبع بالضرورة من الفكرة المميزة لهذه الأخلاق ، أعني أنّها لا ترغب إلينا أن نعمل ضد طبيعة الأشياء ، وإنّما هي تريد أن نكيف أنفسنا معها ، بالمعنى السّامي لكلمة «تكيف» الّذي يستلزم مركّبا من «الشّجاعة» ، و«نبل المظهر».

وانطلاقا من هذا المبدأ يمكن أن نثبت أنّ الموقفين يتساويان في القيمة ، من

__________________

(١) انظر ، سنن التّرمذي : ٤ / ٥٧١ ح ٢٣٤٠ ، وقد روى هذا الحديث ابن ماجه عن أبي ذر الغفاري : ٢ / ١٣٧٣ ح ٤١٠٠٠ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الزّهادة بتحريم الحلال ، ولا في إضاعة المال ، ولكن الزّهادة في الدّنيا ألا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يد الله ، وأن تكون في ثواب المصيبة ، إذا أصبت بها ، أرغب منك فيها ، لو أنّها أبقيت لك». «المعرب». وانظر ، نوارد الأصول في أحتديث الرّسول : ٢ / ٤٩ الأصل السّادس والمئة و : ٤ / ٨٥ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٣ / ٤٠٣ ح ٥٢٢٨ ، جامع العلوم والحكم : ١ / ٢٨٩.

٨٢٢

النّاحية العملية ، حتّى ولو لم نملك نصوصا محددة في هذا الموضوع ، فما بالنا وهذه النّصوص موجودة.

وإليك بعضها :

«عن صهيب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عجبا لأمر المؤمن ، إنّ أمره كلّه له خير ، وليس ذاك لأحد إلّا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (١).

وأكثر من هذا وضوحا قوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه عنه أبو هريرة : «الطّاعم الشّاكر بمنزلة الصّائم الصّابر» (٢).

وهكذا ، فإنّ المشكلة الّتي تشغلنا الآن ، مع أنّها لا تحمل أي معنى ذي طابع عملي ، أعني أنّها لا تتطلب بعض التّغيير في واجبنا ـ ينبغي أن تطرح على بساط البحث عن الخير ، وتقديره في ذاته ، مستقلا عن إمكاناتنا الخاصة.

وإذن فإذا ما انتقلت إلى هذا المجال فإنّ الحلّ الّذي وضعه لها الإسلام يتجه ـ فيما يبدو لنا ـ إلى منح الأولوية إلى فضيلة تعميم الخير الإيجابي المشترك ، أعني

__________________

(١) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / ٣٢٩٥ ح ٢٩٩٩ ، مستدرك الوسائل : ٢ / ٤٢٦ ، صحيح ابن حبّان : ٧ / ١٥٥ ح ٢٨٩٦ ، مسند أحمد : ٤ / ٣٣٢ و : ٦ / ١٥ ح ٢٣٩٦٩ ، مسكن الفؤاد : ٥٠ ، المعجم الكبير : ٨ / ٤٠ ح ٧٣١٦ ، جامع العلوم والحكم : ١ / ١٩٤ ، شعب الإيمان : ٤ / ١١٦ ح ٤٤٨٧ ، التّرغيب والتّرهيب : ٤ / ١٤٠ ح ١٥٤٩ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٣ / ٣٩ ح ٤٠٩٤ ، بحار الأنوار : ٧٩ / ١٣٩.

(٢) انظر ، سنن ابن ماجه : ١ / ٥٦١ ح ١٧٦٤ ـ ١٧٦٥ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٨٣ ، مسند أبي يعلى : ١١ / ٤٥٩ ح ٦٥٨٢ ، سنن البيهقي الكبرى : ٤ / ٣٠٦ ح ٨٠٣١ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٦٥٣ ح ٢٤٨٦ ، سنن الدّارمي : ٢ / ١٣٠ ح ٢٠٢٤ ، صحى البخاري : ٥ / ٢٠٧٩ ح ٥١٤٤ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ١٦ ح ٣١٥ ، موارد الظّمآن : ١ / ٢٣٦ ح ٩٥٢.

٨٢٣

الفضيلة الّتي تفترض درجة عالية من الرّخاء ، والرّفاهية الطّبيعية ، لا تلك الّتي تقصر خيراتها على مالكها ، والّتي تستتبع الحرمان ، والألم.

وذلك ـ على الأقل ـ هو ما يدل عليه الحوار الّذي وقع بين النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعض صحابته ، وإليك النّص الّذي رواه مسلم عن أبي هريرة : (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ذهب أهل الدّثور (١) بالدرجات العلى ، والنّعيم المقيم ، فقال : وما ذاك؟ قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم ، إلّا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا : بلى يا رسول الله! قال : «تسبحون ، وتكبرون ، وتحمدون دبر كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين مرة». قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ، ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) (٢).

٢ ـ عزلة ، واختلاط :

والمشكلة الثّانية هي مشكلة التّناقض بين حياة العزلة ، والحياة الإجتماعية.

__________________

(١) الدّثور : الدّروس ، يقال : دثر الرّبع ، إذا عفا ، كما جاء في الغريب لابن قتيبة : ٢ / ٢٧٨ ، لسان العرب : ٤ / ٢٧٦.

(٢) المائدة : ٥٤.

انظر ، صحيح مسلم : ١ / ٤١٦ ح ٥٩٥ و : ٢ / ٦٩٧ ح ١٠٠٦ ، منته المطلب : ١ / ٣٠٢ ، صحيح البخاري : ١ / ٢٨٩ ح ٨٠٧ و : ٥ / ٢٣٣١ ، تذكرة الفقهاء : ٣ / ٢٦٤ ، صحيح ابن حبّان : ٣ / ١١٩ ح ٨٣٨ ، بحار الأنوار : ٣١ / ٤٥٢ ، المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم : ٢ / ١٩٣ ح ١٣٢٠ ، نهاية الإحكام : ١ / ٥١٠ ، سنن البيهقي الكبرى : ٢ / ١٨٦ ح ٢٨٤٦ ، مسند أحمد : ٥ / ١٦٧ ح ٢١٥١٢ ، مسند أبي يعلى : ١١ / ٤٦٦ ح ٦٥٨٧.

٨٢٤

وهنا نجد أيضا نفس التّفضيل ، بالنسبة إلى الخير الإيجابي المشترك ، بيد أنّ هذه القيمة الإيجابية موجودة هنا من ناحية أكبر قدر من الجهد ، وأعظم قدر من التّضحية.

ولا مرية أنّه لا يوجد في هذا الموضوع أي أمر قاطع مؤكد ، لأنّ كلّ شيء يصدر عن الأشخاص ، والحالات ، على ما بينه الغزالي (١).

وليس أدنى من ذلك تأكيدا أنّ العزب الّذي يعتزل المجتمع ، ظانا أنّه قادر بهذه الطّريقة أن يحل بعض الصّعوبات الأخلاقية ـ لا يفعل في الواقع سوى أن يهرب من هذه الصّعوبات. فهو لكي يجعل من نفسه إنسانا طاهرا عفيفا يخلق لنفسه عالما مصطنعا ، يستطيع أن يهرب فيه من الخطيئة ، لا بوساطة قواه الذاتية ، بل بقوة الأشياء.

وإذن ، فما كان له أن يحوز ما حاز غيره من بطولة ، واستحقاق ، غيره الّذي يواجه الحياة بشجاعة ، على ما هي عليه ، وبكل ما تتضمن من مسئولية ، ومغامرة ، وتضحية ، والّذي يبذل كلّ طاقته من أجل أن يتغلب على العقبات.

وهكذا نجد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد استلهم القرآن في قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) (٢). وقوله : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٣) ـ فإذا به يستهل نداءه للشباب بأن يوصيهم بالزواج ، بشرط واحد ، هو أن يكونوا قادرين على النّهوض بواجباته الزّوجية ،

__________________

(١) انظر ، إحياء علوم الدّين : ٢ / ٢٢٢ وما بعدها ، طبعة الحلبي.

(٢) النّور : ٣٢.

(٣) النّور : ٣٣.

٨٢٥

فإذا عدمت هذه المسئولية فإنّه يوصي الشّباب باللّجوء إلى الصّوم ، كوسيلة للدفاع ضد الدّوافع الغرزية (١) : «يا معشر الشّباب ؛ من استطاع الباءة فليتزوج ، فإنه أغضّ للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء» (٢).

وهناك أحاديث أخرى تعبر تعبيرا أدق عن هذا التّدرج ، فقد جاء أعرابي إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله! أي النّاس خير؟ قال : رجل جاهد بنفسه ، وماله ، ورجل في شعب من الشّعّاب يعبد ربه ، ويدع النّاس من شره» (٣).

وخذ كذلك نصا آخر متدرجا ، «فعن أبي هريرة رضى الله عنه قال : مرّ رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة ، فأعجبته لطيبها ، فقال : لو

__________________

(١) نعتقد أنّ في هذا الحديث أصل منهج التّقشف ، وشرطه المسوغ له ، وهو المنهج الّذي امتدحه كثير من الأخلاقيين المسلمين ، وغيرهم ، فهذا الحرمان ، والقهر الّذي يفرضه المتحذلقون ـ في الأخلاق ـ غالبا على أتباعهم ـ يجب ألا نرى فيه في الواقع هدفا ، بل هو وسيلة لجهاد بعض الفطر المتمردة ، الّتي تحكمها الجوارح ، حكما متمكنا. ولا شك أنّ مراحل هذا الصّراع قد تستغرق زمنا يطول ، أو يقصر ، تبعا للحالة ، ولكن ذلك دائما إجراء مؤقت ، وليس هو الحالة العادية ، والدّائمة ، الّتي يوصى بها الرّجال عموما.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٦٧٣ ح ١٨٠٦ و : ٥ / ١٩٥٠ ح ٤٧٧٨ ، المبسوط للطوسي : ٤ / ١٥٢ ، صحيح مسلم : ٢ / ١٠١٨ ح ١٤٠٠ ، السّرائر : ٢ / ٥١٨ ، صحيح ابن حبّان : ٩ / ٣٣٥ ح ٤٠٢٦ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ٥٦٥ ، المسند المستخرج على صحيح مسلم : ٤ / ٦٣ ح ٣٢٣٥ ، المهذب : ٣ / ١٦٥ ، سنن التّرمذي : ٣ / ٣٩٢ ح ١٠٨١ ، سن الدّارمي : ٢ / ١٧٧ ح ٢١٦٥ ، مجمع الزّوائد : ٤ / ٢٥٢ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢١٩ ح ٢٠٤٦.

(٣) انظر ، صحيح البخاري : ٣ / ١٠٢٦ ح ٢٦٣٤ و : ٥ / ٢٣٨١ ح ٦١٢٩ ، شرح اصول الكافي : ١ / ١٥٨ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٥٠٣ ح ١٨٨٨ ، عوالي اللئالي : ١ / ٢٨١ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٣٦٩ ح ٦٠٦ و : ١٠ / ٤٥٩ ح ٤٥٩٩ ، سنن التّرمذي : ٤ / ١٨٦ ح ١٦٦٠ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١٣١٦ ح ٣٩٧٨ ، مسند أحمد : ٣ / ١٦ ح ١١١٤١.

٨٢٦

اعتزلت النّاس فأقمت في هذا الشّعب ، ولن أفعل حتّى أستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : لا تفعل ، فإنّ مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ، ويدخلكم الجنّة؟ اغزوا في سبيل الله ، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنّة» (١).

ولا ريب أنّ هناك حالات يفرض فيها على العاقل الإبتعاد عن النّاس ، سواء أكان ذلك لأسباب عامة ، أم كان لدواع شخصية ، وذلك ما يحدث ـ مثلا ـ في فترات الإضطراب الإجتماعي. والواقع أنّه عند ما يسيطر الغموض ، والبلبلة سيطرة شاملة على العقول ، فإنّ الصّلة بالبيئة تدفع كلّ فرد ، إلى أن ينتحي جانبا ، دون أن يملك لذلك دفعا ، وهذا الإتجاه المحتوم إلى تمزيق الأمّة ينتهي غالبا إلى الحرب الأهلية ، وهو ما أوصانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نتجنب مغامراته ، وأن نلوذ منه بالفرار في أي مكان ، فقال فيما روي عن أبي هريرة : «ستكون فتن ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من السّاعي ، من تشرّف لها تستشرفه ، فمن وجد فيها ملجأ ، أو معاذا فليعذبه» (٢).

وتلك أيضا حالة تناسب شخصا ذا طبع شديد الحساسية ، أو تبلغ به الصّرامة

__________________

(١) انظر ، سنن التّرمذي : ٤ / ١٨١ ح ١٦٥٠ ، المستدرك على الصّحيحين : ٢ / ٧٨ ح ٢٣٨٢ ، مجمع الزّوائد : ٥ / ٢٨١ ، مسند أحمد : ٢ / ٤٤٦ ح ٩٧٦١ و ١٠٧٩٦ ، شعب الإيمان : ٤ / ١٥ ح ٤٢٣٠ ، التّرغيب والتّرهيب : ٢ / ١٨٤ ح ٢٠٣٥ ، نيل الأوطار : ٨ / ٢٥.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ٣ / ١٣١٨ ح ٣٤٠٦ و : ٦ / ٢٥٩٤ ح ٦٦٧٠ ، صحيح مسلم : ٤ / ٢٢١١ ح ٢٨٨٦ و ٢٨٨٧ ، صحيح ابن حبّان : ١٣ / ٣٠٣ ح ٥٩٦٥ ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٤٨٧ ح ٨٣٦١ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ١٩٠ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٨٢ ح ٧٧٨٣ و : ٥ / ٤٨ ، المعجم الكبير : ٤ / ٢١٨ ح ٤١٨٠.

٨٢٧

إلى الحدّ الّذي لا يستطيع معه أن يعيش على وئام مع إخوانه ، وفي مثل هذه الحالة يصبح أفضل ملجأ نلوذ به ـ بداهة ـ أن نتبع تلك الوصية الذهبية الإسلاميّة ، من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليسعك بيتك ، وأمسك عليك لسانك ، وأبك على خطيئتك» (١).

ولكن ، هل يمكن أن نقارن الرّجل الّذي ينطوي على الصّمت ، ويلتزم الجمود ، ليتجنب الصّدمات المحزنة ، بآخر يضحي براحته ، وانفعالاته راضيا مختارا ، من أجل السّلام العام ، ومن أجل سعادة الأمّة؟ ..

إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الّذي يقول لنا : «المسلم إذا كان يخالط النّاس ، ويصبر على أذاهم خير من المسلم الّذي لا يخالط النّاس ، ولا يصبر على أذاهم» (٢).

ولقد فهم المجربون الثّقات هذا الحديث ، وإليك بعضا من أقوالهم :

قال الجنيد : «مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة» (٣).

وقال ذو النّون المصري : «ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة كمن احتجب عنهم بالله» (٤).

__________________

(١) انظر ، سنن التّرمذي : ٤ / ٦٠٥ ح ٢٤٠٦ ، المحاسن : ١ / ٤ ، مجمع الزّوائد : ١٠ / ٢٢٩ ، الخصال : ٨٥ ، المعجم الكبير : ١٠ / ١٧٠ ح ١٠٣٥٣ ، تحف العقول : ٧ ، حلية الأولياء : ١ / ١٣٥ ، شرح اصول الكافي : ١ / ١٥٨ ، صفوة الصّفوة : ١ / ٤٢٠ ، أمالي الطّوسي : ٧ ، كشف الخفاء : ٢ / ٤٢٨ ح ٢٨٣٠ ، وسائل الشّيعة : ١٢ / ١٩٥ ، الزّهد لهناد : ٢ / ٥٤٥ ح ١١٢٧ ، الزّهد لابن المبارك : ١ / ٤٢ ح ١٣٠.

(٢) انظر ، سنن التّرمذي : ٤ / ٦٦٢ ح ٢٥٠٧ ، مشكاة الأنوار لعلي الطّبرسي : ٣٣٨ ، تفسير القرطبي : ١٠ / ٣٦١ ، مسند الحارث زوائد الهيثمي : ٢ / ٧٩٩ ح ٨٠٩ ، كتاب الزّهد الكبير : ٢ / ١١٠ ح ١٩٠ ، فيض القدير : ٦ / ٢٥٥ ، لمقصد الأرشاد في ذكر أصحاب الإمام أحمد : ١ / ٣٣٣ ح ٣٥٠.

(٣) انظر ، فتح الباري لابن حجر : ١١ / ٢٨٤.

(٤) انظر ، ذيل تأريخ بغداد لابن النّجار البغدادي : ٥ / ١٣٦ ، ولكن نسب هذا القول لأبي بكر الشّبلي.

٨٢٨

وقال أبو علي الدّقاق : «البس مع النّاس ما يلبسون ، وتناول مما يأكلون ، وانفرد عنهم بالسّر» (١).

ولهذا عرفوا «العارف» بأنّه : «كائن بائن» أي أنّه كائن مع الخلق بشواغله العادية ، بائن عنهم بالسّر ، وبفكره المتعلق بالله.

والشّكل الوحيد للعزلة الّتي يمكن ، بل ويجب ، أن يعتبر نافعا ، ومرغوبا فيه بالنسبة إلى كلّ النّاس ، لأنّه يخلق القيم الإيجابية الأساسية هو الإبتعاد الجزئي عن الضّجيج الدّنيوي ، بقدر ما يلزم للإستجماع ، والتّأمل الخصب. ولا أحد يماري في فضل هذا النّوع من الإنطواء ، فهو الوسيلة الوحيدة القادرة على إضاءة أفكارنا ، وإعلاء مشاعرنا ، وشحذ عزائمنا ، ودعم صلاتنا بالقيمة المطلقة.

بيد أنّه ليس بلازم أن يتم هذا الإعتزال خارج المدنية ، وعلى حساب واجباتنا الأسرية ، والإجتماعية ، فبدلا من أن يعتبر انقطاعا ، ينبغي أن يكون بالأحرى اهتماما بإسترداد أنفسنا خلال ساعات فراغنا ، وبخاصة أثناء اللّيل ، وهو ما يقصد إليه القرآن من قوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (٢).

وفضلا عن ذلك فنحن نعلم أنّ هذا النّموذج من العزلة الجزئية ، والمتقطعة كان من شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يختار مبعوثا إلى العالمين ، ومنذ ذلك الحين ، لم يزل الرّسول يفزع إلى هذه العزلة من وقت لآخر ، وبخاصة خلال العشر الأواخر من رمضان ، وإن كان ذلك في بيته ، أو بجوار البيت ، في مسجده.

__________________

(١) انظر ، الرّسالة القشيرية : م ٢ / ١٣٩ ـ ١٤٢.

(٢) المزمل : ٦.

٨٢٩

ولقد اقتدى كثير من صحابته رضوان الله عليهم به في هذا الإعتكاف ، وما زال بعض المسلمين الصّالحين يقتدون به فيه ، حتّى يوم النّاس هذا.

٣ ـ جهد ، وترفق :

أتاح لنا بحث المشكلتين السّابقتين أن نطالع أفق التّشريع القرآني ، فالجهد المادي لا يزيد عن الجهد الأخلاقي ، إذ ليس له في نظر الإسلام سوى قيمة تتناسب مع الخير الّذي يستهدفه الشّرع. وليس هنالك نص يدعونا إلى إلتماس المشقات حين لا يقتضيها الموقف ، أو الواجب. فأمّا حين يكون العكس ، وهو أن يشتمل عبء الحياة العادية على ثقله ، فليس هناك ما يجيز لنا أن نتملص منه. فهما أمران مرفوضان على سواء : «التّعصب» الأعمى ، و«التّنسك» الغبي ، الضّيق الأفق.

فلنتناول الحالة الّتي يقتضي فيها تحقيق الخير الأخلاقي (بالمعنى الواسع للكلمة) تدخل طاقتنا. فعلينا إذن أن نسأل أنفسنا عن أهمية هذا الإقتضاء ، هل هو يتطلب طاقتنا بكمالها ، أو أنّه يعين لها حدّا تقف عنده ، فإذا تجاوزته أصبح جهد الواجب الأساسي ـ واجب كمال ، (على ما بيناه في دراستنا لدرجات الجهد الإبداعي) ، وليس ذلك فحسب ، ولكن الإقتضاء الآمر يخلي مكانه لنوع من الإجازة ، حتّى يبلغ حدّ التّحريم؟ ..

إننا إذا حكمنا على هذه المسألة ببعض النّصوص فإنّ الجهاد يجب أن يستهدف المثل الأعلى ، متناسيا نفسه ، وهكذا نقرأ في الآيات الأخيرة من سورة الحجّ الأوامر الآتية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا

٨٣٠

الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) (١). وفي سورة آل عمران : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (٢).

لكن آيات أخرى كثيرة في القرآن ، وأحاديث كثيرة في السّنّة ، تحتفل فيما يبدو بإمكاناتنا الإنسانيّة ، وقد خطا القرآن الكريم الخطوة الأولى ، في هذا السّبيل ، بالآية الكريمة : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٣) ، وهي الّتي نزلت على ما أخبرتنا السّنّة ، لتلطيف الحدّة الظّاهرة في آية آل عمران : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ.)

والواقع أنّ قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) يضع حدّا للعمل ، لا بالنسبة إلى ما الله حقيق به ، بمقتضى صفاته ، بل بالنسبة إلى ما يمكن أن يبلغه النّاس ، فهو يعفيهم إذن من كلّ ما يتجاوز مقدرتهم ، ولكنه يبدو في الوقت نفسه وهو يلزمهم بأن يسخروا كلّ قواهم في سبيل هذا المثل الأعلى.

__________________

(١) الحجّ : ٧٧ ـ ٧٨ ، يجب ألا ننسى أنّ كلمتي صراع (lutte) ، وجهاد (combat) في العربية ، والفرنسية ، هما من الألفاظ الدّالة على الجنس ، وهما يصدقان على الجهد الأخلاقي ، أو المادي في جميع المجالات ، وفضلا عن أنّ السّياق لا يتضمن هنا أية اشارة إلى الحرب ، فيبدو لنا أنّ هذه الآيات قد نزلت قبل مشروعية هذا النّظام. والواقع أنّ هذه السّورة في مجموعها لا ترجع فقط للمرحلة الأولى من الهجرة ، بل أنّها تشمل بعض الإستثناءات المكية ، وعلى ما قرره ابن حزم في كتابه (النّاسخ ، والمنسوخ) إنّ ما يزيد قليلا على نصفها الثّاني يرجع إلى مكّة ، وإذن فالنص يحمل الصّفة الضّرورية الّتي تجعله يذكر بمناسبة الجهد بمعناه العام ، الّذي نبحثه هنا ، وكما قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المجاهد من جاهد نفسه» ، (انظر ، التّرمذي : ٤ / ١٦٥ ح ١٦٢١ ، تفسير القرطبي : ١٢ / ٩٩ ، مسند الشّهاب : ١ / ١٣٩ ح ١٨٢ ، نوادر الاصول في أحاديث الرّسول : ٢ / ٢٣٤ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٤ / ٢٠٦ ح ٦٦٢٩ ، تحفة الأحوذي : ٥ / ٢٠٦ ، فيض القدير : ٦ / ٢٦٢ ، كشف الخفاء : ٢ / ٢٦١ ح ٢٢٧٢.

(٢) آل عمران : ١٠٢.

(٣) التّغابن : ١٦.

٨٣١

فهل تأمر الأخلاق القرآنية إذن بأن نستهلك حياتنا ، وأن نضحي بها عن طريق الإرهاق؟ ..

إنّ هنالك أمرين آخرين يجلوان هذا الغموض ، واقرأ في ذلك قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (١) ، وقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٢) ، (حقيقة ، ومجازا).

ولو أننا نزلنا إلى بعض الأحكام الخاصة فسنرى اهتماما واضحا بأن يكون تطبيقها أكثر اتفاقا مع الإنسانيّة ، والعقل. فليس توقع الموت ضنكا ، أو إكراها ، هو وحده الّذي يجعل مخالفة الشّرع جائزة ، بل لقد رأينا (٣) أنّ المرض ، والشّيخوخة ، والضّرورات الّتي تفرضها العمليات العسكرية ، ومتاعب السّفر ، كلّ ذلك من الأسباب الّتي يمكن أن تفرض نوعا من التّقليل ، أو التّأجيل ، أو التّعديل في بناء العبادة الدّينية.

وهنا مناسبة أن نبين معنى ، وهدف الإهتمام القرآني بتعديل الواجب تبعا للموقف الّذي يؤدى فيه.

__________________

(١) النّساء : ٢٩.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) انظر ، الفصل الأوّل ـ العنوان الفرعي الثّاني ، الفقرة الثّانية ـ خصائص التّكليف الأخلاقي ـ ويمكن أن نضيف إليها بعض الأمثلة ، كالإعفاء من الحجّ ، أو الواجب العسكري ـ لمن لم يستطع إليهما سبيلا ، كالركوبة ، أو زاد الطّريق ، واقرأ في ذلك قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ـ آل عمران : ٩٧ ، وقوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) التّوبة : ٩١ ـ ٩٢.

٨٣٢

ونلاحظ أوّلا فيما يتعلق بالحالات الّتي يتعرض فيها الواجب لتعديل مفروض ـ أنّها استثناء ، وليست القاعدة. وهي استثنائية من ناحيتين : استثنائية بين الواجبات ، لأنّها تتصل أساسا بالواجبات الدّينية ، ولا علاقة لها بتكاليفنا الإنسانيّة ، فليس لواجب الأمانة ألف شكل ، ولا لواجب الوفاء بالإلتزام ، ولا لواجب احترام حياة البريء من النّاس ، أو احترام ملكيتهم ، وشرفهم ... إلخ ...

وهي استثنائية في تطبيقها ، لأنّها لا تعفي سوى الضّعفاء ، والمعوقين.

ثمّ نذكر بعد ذلك أنّه ـ حتّى في هذا المجال المقيد بالواجب الدّيني ـ لا علاقة لهذه الحالات بالإيمان القلبي ، وهي لا تؤثر إلّا في جانب مادي معين من الواجب ، مع محافظتها تماما على العنصر الجوهري.

إنّ أخطر المشقات لا تعفي المؤمنين من أداء صلاتهم ، ولا تسمح بأي نسىء لتأريخ الحجّ ، فالتعديل ، حتّى في هذا النّطاق ، ليس إبطالا ، ولا إسقاطا.

وليس يغض من صدق هذا القول أنّ القرآن ، والسّنّة فيما خلا هذه التّعديلات المحددة الّتي أقرتها النّصوص ، والّتي لا يحقّ لنا تعميمها ـ قد أقرا منهجا عاما هو أنّ «الضّرورة قانون» في قوله تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (١) ، وهما يتصوران هذه الضّرورة في جانبها الرّحب ، والإنساني ، كيما نوفر جهدا قاسيا ، وضارا ، في حياتنا العادية ، ولا سيما الدّينية.

وهنالك نصوص كثيرة تلح على هذا الطّابع الرّحيم في الشّرع القرآني.

أيجب أن نرى في ذلك تشجيعا ما على الإعتدال في الجهد؟ ..

__________________

(١) الأنعام : ١١٩.

٨٣٣

إنّ من المفيد جدا أن نتأمل النّغمة الّتي يعبر بها القرآن عن موضوع الرّخص ، فلقد عالجها بأقصى درجات الحذر ، والمخافتة ، حتّى لا نكاد نسمعها.

والواقع أنّه لا يذهب إلى حدّ أن يقول : (اعملوا تبعا لما يقتضيه الموقف) ، ولا يقول أيضا : (يجوز لكم ، أو يباح أن تعملوا هكذا). بل إننا لو تأملناه من قريب لرأينا أنّ الضّرورة لم تلغ التّكليف ، وإنّما هي ترفع أثر المخالفة فحسب ، فمتى وقعت هذه المخالفة عفا الله عنها : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢).

ولكن ما هو جدير بالملاحظة أنّه في الحالة الّتي يسمح بدرجة دنيا من الجهد يستنهض في الحال شجاعتنا ، لنقاوم إغراء الضّعف ، والفتور ، وهو ينصحنا أن نتحمل الآلام الّتي تنشأ عن هذه المقاومة ، وأن نتمسك في شجاعة بالحل الأمثل : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (٣) ، (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (٤).

هذا التّوجيه إلى نيل الجهد هو في الواقع لازمة لا يفتأ القرآن يعود إليها في كلّ مناسبة : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (٥) (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٦).

__________________

(١) النّور : ٣٣.

(٢) المائدة : ٣.

(٣) النّساء : ٢٥.

(٤) البقرة : ١٨٤.

(٥) الأحقاف : ٣٥.

(٦) الشّورى : ٤٣ ، وآل عمران : ١٨٦.

٨٣٤

فهو بصفة عامة يحثنا على أن نختار من بين درجتي الخير الأخلاقي ـ أكرمهما ، وأشرفهما ، فالكرم أحرى من العدالة المدنية الدّقيقة ، والعفو أولى من القصاص ، والله يقول : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (١) ، ويقول : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢) ، (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (٣).

فالقرآن لا يدعونا إذن إلى بذل أقل الجهد ، وهو لا يرضى لنا أن نرتد أمام المشقات الأولى «بل إنّ شعاره دائما هو : جاهدوا ـ اصبروا ـ صابروا ـ افعلوا الخير».

ومع ذلك إنّ القرآن لا يمضي إلى حدّ الإفراط في هذا التّوجيه ، فهو يضع حدين أمام جهدنا الخادم المتحمس : أحدهما مادي ، والآخر أخلاقي ، فالجسم الّذي يتألم من مرض لا يجب عليه أن يؤدي نفس الجهد الّذي يؤديه الرّجل الصّحيح. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ، ليس بواجب في بعض الحالات الّتي يتعرض لها المرء أن يكب على بعض الشّعائر على حساب شعائر أخرى ، ومن الآيات ذات الدّلالة في هذا قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) (٤). فجهدنا يجب أن يتوزع توزعا عادلا على مجموع واجباتنا. ولمّا كان

__________________

(١) البقرة : ٢٨٠.

(٢) البقرة : ٢٣٧.

(٣) النّحل : ١٢٦.

(٤) المزمل : ٢٠.

٨٣٥

بدننا خادما لأنفسنا ، فما كان له أن يرهق ، أو يستهلك في خدمة مثل أعلى محدود النّطاق ، لدرجة تسلمنا إلى العجز في مجالات الحياة الأخرى ، ولقد علمتنا السّنّة من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قم ، ونم ، وصم ، وأفطر ، فإنّ لجسدك عليك حقّا ، وإنّ لعينك عليك حقّا ، وإنّ لزورك عليك حقّا ، وإن لزوجك عليك حقّا» (١) ، وفي حديث آخر يقول سلمان الفارسي لأبي الدّرداء : «إنّ لرّبك عليك حقّا ، ولنفسك عليك حقّا ، ولأهلك عليك حقّا ، فأعط كلّ ذي حق حقه ـ فأتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدق سلمان» (٢).

وكذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواطن كثيرة ، ينصح ـ تبعا للحالة ـ بالإعراض ، أو يلوم ، أو يذم الإفراط في العبادة ، كقيام اللّيل الطّويل ، وكصوم الدّهر. ومن ذلك أنّه رأى في أحد أسفاره زحاما من النّاس حول رجل يظلونه من الشّمس ـ فسأل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما هذا؟ فقالوا : صائم. فقال : «ليس من البر الصّيام في السّفر» (٣).

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٦٩٦ ح ١٨٧٣ وص : ٦٩٧ ح ١٨٧٤ و : ٥ / ٢٢٧٢ ح ٥٧٨٣ ، صحيح ابن حبان : ٨ / ٣٣٧ ح ٣٥٧١ ، سنن البيهقي الكبرى : ٤ / ٢٩٩ ح ٨٢٥٧ ، السّنن الكبرى : ٢ / ١٧٦ ح ٢٩٢٣ ، مسند أحمد : ٢ / ١٩٨ ، التّرغيب والتّرهيب : ٣ / ٢٥٠ ح ٣٩٠٤ ، فتح الباري : ٣ / ٣٩ و : ٤ / ٢١٧ و : ١٠ / ٥٣١ ح ٥٧٨٣ ، الطّبقات الكبرى : ٤ / ٢٦٣ ، المحلى : ٧ / ١٢.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٦٩٤ ح ١٨٦٧ و : ٥ / ٢٢٧٣ ح ٥٧٨٨ ، تفسير ابن كثير : ٣ / ٤٠٠ ، سير أعلام النّبلاء : ١ / ٥٤٢ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٢٤ ، مسند أبي يعلى : ٢ / ١٩٣ ، تأريخ واسط : ١ / ٢٣٣ ، الإستيعاب : ٢ / ٦٣٧ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٦٠٨ ح ٢٤١٣ ، صفوة الصّفوة : ١ / ٣٥٦ ، نصب الرّاية : ٢ / ٤٦٥ ، نيل الأوطار : ٤ / ٣٤٦.

(٣) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٦٨٧ ح ١٨٤٤ ، الانتصار : ١٩٢ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٣ / ٣٨٠ ح ٥١٥٦ ، فتح الباري : ٤ / ١٨٣ ، الناصريات : ٢٥٧ ، التّمهيد لابن عبد البر : ٢ / ١٧٢ ، الخلاف : ١ / ٥٧٢ ، ـ

٨٣٦

(يعني في مثل هذا السّفر الشّاق).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكّة ، فصام ، حتّى بلغ عسفان ، ثمّ دعا بماء ، فرفعه إلى يديه ليريه النّاس ، فأفطر حتّى قدم مكّة ، وذلك في رمضان ، فكان ابن عباس يقول : «قد صام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفطر ، فمن شاء صام ، ومن شاء أفطر» (١).

ولهذا أيضا موقف مماثل ، ولكن في مجال آخر ، «فقد حدث أنس رضى الله عنه ، أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى شيخا يتهادى بين ابنيه [يتوكأ عليهما] قال : ما بال هذا؟ قالوا : نذر أن يمشي (٢) ، قال : إنّ الله عن تعذيب هذا نفسه لغنيّ ، وأمره أن يركب» (٣).

ومع ذلك ، فإنّ هذه السّنّة نفسها تروي لنا أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من عادته أن يبذل جهدا كبيرا مماثلا لما نصح الآخرين بالإعراض عنه ، فهو لم ينم ليلة كاملة

__________________

ـ شرح النووي على صحيح مسلم : ٧ / ٢٢٩ ، السرائر : ١ / ٣٩٣ ، شرح سنن ابن ماجه : ١ / ١٢٠ ح ١٦٦١ ، المعتبر : ٢ / ٦٤٥ ، لسان الميزان : ٣ / ٥٠ ح ١٨٧ ، تهذيب التّهذيب : ٨ / ٣٨٩ ح ٧٨٨ ، تهذيب الكمال : ٢٤ / ١٧٧ ح ٤٩٧٣ ، مختلف الشّيعة : ٣ / ٣٧٩.

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٦٨٧ ح ١٨٤٦ و : ٤ / ١٥٥٩ ح ٤٠٢٩ ، صحيح مسلم : ٢ / ٧٨٥ ح ١١١٣ ، صحيح ابن حبّان : ٨ / ٣٣١ ح ٣٥٦٦ ، سنن أبي داود : ٢ / ٣١٦ ح ٢٤٠٤ ، مسند أحمد : ١ / ٢٩١ ح ٢٦٥٢ ، المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم : ٣ / ١٩٣ ح ٢٥٢٣ ، الّتمهيد لابن عبد البر : ٢٢ / ٥٢ ، عون المعبود : ٧ / ٣٠.

(٢) يريد أن يحج إلى الكعبة ماشيا. «المعرب».

(٣) انظر ، صحيح البخاري : ٦ / ٢٤٦٤ ح ٦٣٢٣ ، مسالك الأفهام : ١ / ٣٢٦ ، المنتقى لابن الجارود : ١ / ٢٢٦ ح ٩٣٩ ، مختلف الشّيعة : ٨ / ١٨٩ ، صحيح ابن حبّان : ١٠ / ٢٢٧ ح ٤٣٨٢ ، فتاوى ابن الجنيد : ٣٠٥ ، سنن التّرمذي : ٤ / ١١١ ح ١٥٣٧ ، سنن أبي داود : ٣ / ٢٣٥ ح ٣٣٠١ ، وسائل الشّيعة : ٨ / ٦١ ح ٨ ، سنن النّسائي (المجتبى) : ٧ / ٣٠ ح ٣٨٥٢ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٣ / ٩٢ ح ١٢٤١٣ ، تتمة الحدائق النّاضرة : ٢ / ٢٦٧.

٨٣٧

مطلقا ، وأحيانا كان يقوم في صلاته ، في ناشئة اللّيل ، حتّى تتورّم قدماه. ولقد كان يقضي اللّيل كلّه في العشر الأواخر من رمضان ـ بخاصة ، قائما يصلي ، وكان يأمر أصحابه أن يفعلوا مثل ما يفعل ، فعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان ، فاعتكف عاما ، حتّى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي اللّيلة الّتي يخرج من صبيحتها من اعتكافه ، قال : من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر» (١). وكثيرا ما كان يواصل الصّوم ، ليلا ونهارا ، خلال أيام كثيرة متوالية ، فيقال له في ذلك (إذ كان يفعل ما ينهاهم عن فعله) فيقول : «أفلا أكون عبدا شكورا؟» (٢) ، أو يقول كما في حديث آخر : «لا تواصلوا ، قالوا : إنّك تواصل ، قال : إنّي لست مثلكم ، إنّي أبيت يطعمني ربي ويسقيني» (٣).

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٧١٣ ح ١٩٢٣ ، منته المطلب : ٢ / ٦٣١ ، صحيح ابن حبّان : ٨ / ٤٣٠ ح ٣٦٧٣ ، سنن أبي داود : ٢ / ٥٢ ح ١٣٨٢ ، السّنن الكبرى : ٢ / ٢٦٩ ح ٣٣٨٧ ، الموطأ لمالك : ١ / ٣١٩ ح ٦٩٢ ، المحلى : ٥ / ١٧٩.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٣٨٠ ح ١٠٧٨ و : ٤ / ١٨٣٠ ح ٤٥٥٦ و : ٥ / ٢٣٧٥ ح ٦١٠٦ ، زبدة البيان : ١٣٩ ، مسند أحمد : ٤ / ٢٥٥ ، مفتاح الفلاح : ٩ ، المعجم الأوسط : ٢ / ٣٣٦ ح ٢١٥٤ ، مجمع الزّوائد : ٢ / ٢٧١ ، سنن التّرمذي : ٢ / ٢٦٨ ح ٤١٢ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٩ ح ٣١١ ، صحيح مسلم : ٤ / ٢١٧١ ح ٢٨١٩ و : ٤ / ٢١٧٢ ح ٢٨٢٠ ، تفسير القرطبي : ٤ / ٣١٠ ، سنن البيهقي الكبرى : ٧ / ٣٩ ح ١٣٠٥٢ ، مسند أبي عوانة : ١ / ١٧٤.

(٣) انظر ، صحيح البخاري : ٦ / ٢٦٦١ ح ٦٨٦٩ ، المبسوط للطوسي : ٤ / ١٥٣ ، صحيح مسلم : ٢ / ٧٧٤ ح ١١٠٣ ، صحيح ابن حبّان : ١٤ / ٣٢٤ ح ٦٤١٣ ، الخرائج والجرائح : ٢ / ٩٠٥ ، سنن الدّارمي : ٢ / ١٤ ح ١٧٠٣ ، السّنن الكبرى : ٢ / ٢٤٢ ح ٣٢٦٤ ، بحار الأنوار : ١٧ / ٣٥٠ ، الموطأ : ١ / ٣٠١ ح ٦٦٨ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٢ / ٣٣٠ ح ٩٥٨٥ ، المصنّف لعبد الرّزاق : ٤ / ٢٦٧ ح ٧٧٥٣ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٣ ح ٤٧٥٢.

٨٣٨

وهنا ندرك الصّفة النّسبية للجهد المحمود ، فليست القوة المادية ، وحدها هي الّتي لا يتساوى نصيب النّاس فيها ، بل إنّ الطّاقة الأخلاقية كذلك ، فما بعد إفراطا ، وتعصبا بالنسبة إلى بعض النّاس ، ليس كذلك بالضرورة بالنسبة إلى آخرين .. وإذا دعم الحبّ ، والخوف ، والأمل النّفس فإنّ سائر الآلام ، والمشقات الّتي يتعرض لها المرء لا يحس بها ، أو تكون على الأقل محتملة ، وهي في كلّ حال أقل إضرارا. إنّها تجلب السّرور إلى القلب ، والسّعادة إلى النّفس المخلصة ، ولذلك أبدى جمهور من المسلمين الأوائل هذه الرّوح في التّضحية الكريمة ، ولم ينكر أحد مآثرهم. وإنّ القرآن ليشير إلى العمل المستبسل الّذي أبداه «صهيب» في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (١) ، وذلك أنّه حين كان المشركون يقتفون آثار النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصحابته الّذين أرادوا الهجرة معه ـ أقبل صهيب مهاجرا نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاتبعه نفر من قريش من المشركين ، فنزل عن راحلته ، ونثر ما في كنانته ، وأخذ قوسه ، ثمّ قال : يا معشر قريش ، لقد علمتم أنّي من أرماكم رجلا ، وأيم الله لا تصلون إليّ حتّى أرمي بما في كنانتي ، ثمّ أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، ثمّ افعلوا ما شئتم.

قالوا : دلنا على بيتك ، ومالك بمكّة ونخلي عنك ، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ، ففعل. ومن الواضح أنّ الواجب لم يكن ليقتضي هذا الّذي فعل ، ولكنها التّضحية الّتي سجلها القرآن في محكم آياته ، وهي تضحية مدحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم عليه صهيب بالمدينة وقال : «أبا يحيى ، ربح البيع ، ربح البيع» (٢).

__________________

(١) البقرة : ٢٠٧.

(٢) انظر ، أسباب النّزول للواحدي : ٣٩ ، طبعة الحلبي ، وورد أيضا في تفسير الدّر المنثور للسيوطي : ـ

٨٣٩

ولعلنا نعرف قصة الأخوين الجريحين في غزوة أحد ، يحكي أحدهما القصة فيقول : شهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنا وأخ لي «أحدا» ، فرجعنا جريحين ، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي ، أو قال لي : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ .. والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلّا جريح ثقيل ، فخرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكنت أيسر جرحا منه ، فكان إذا غلب حملته عقبة ، ومشى عقبة ، حتّى انتهينا إلى ما انته إليه المسلمون (١).

ولمحة أخرى ذات مغزى ، فيما روي عن جندع بن ضمرة ، أنّه كان شيخا كبيرا ، فلما أمروا بالهجرة ، وشدّد عليهما فيها ، مع علمهم بأنّ الدّين لا حرج فيه ، ولا تكليف بما لا يطاق ـ قال لبنيه : إنّي أجد حيلة ، فلا أعذر ، احملوني على سرير ، فحملوه ، فمات بالتنعيم ، وهو يصفق يمينه على شماله ، ويقول : هذا لك ، وهذا لرسولك (٢).

وإذن ، فلم تكن وصية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للضعفاء أن يوفروا جهدهم إلّا رحمة بهم ، فهو يريد أن يتفادوا بعثرة القوة ، والجهد الضّائع الضّارّ. وهو يقصد إلى أن يتدارك لديهم ردود فعل الإفراط : كالنقرة ، والتّراخي ، وتصدع العمل ، وهجره ، وعدم

__________________

ـ ١ / ٢٤٠ ، تفسير القرطبي : ٣ / ٢٠ و : ٨ / ٢٦٧ ، تفسير الطّبري : ٢ / ٣٢١ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٢٤٨ ، المستدرك على الصّحيحين : ٣ / ٤٥٠ ح ٥٧٠٠ ، صفوة الصّفوة : ١ / ٤٣١ ، المعجم الكبير : ٨ / ٣٦ ح ٣٧٠٧ ، السّيرة النّبوية : ٢ / ٢٢٤.

(١) انظر ، تفسير الطّبري : ٤ / ١٧٦ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٣٠ ، تأريخ الطّبري : ٢ / ٧٥ ، السّيرة النّبوية : ٢ / ٥٢.

(٢) ذكر المؤلف مغزى القصتين ، نقلا عن الشّاطبي في الموافقات : ٣ / ٢٥٤ ، ونقلناهما بنصهما عن نفس المرجع. «المعرب».

٨٤٠