دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) (١) ، (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) (٢). وفي تلك البقاع المباركة : (فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ) (٣) ، تدنو منهم لتصبح على أفرعها في متناول أيديهم ، لأنّ (قُطُوفُها دانِيَةٌ) (٤) ، وهي فاكهة (لا مَقْطُوعَةٍ) (٥) (وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٦).

وتصور بعد ذلك أنّ هذا البساط الرّحيب الأخضر ، المحلى بخيوط الفضة قد برزت فيه (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) (٧) ، وفي هذه المساكن (غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) (٨) ، (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) (٩) ، وهي على شاطىء الماء ، أو بعبارة أخرى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (١٠) ، وهي معدة إعدادا رائعا : (فِيها سُرُرٌ

__________________

(١) الإنسان : ٥.

(٢) الإنسان : ٥ و ١٧ ، المطففين : ٢٧ (ـ ٣ آ).

(٣) انظر ، الزّخرف : ٧٣ ، يس : ٥٧ ، محمد : ١٥ ، الرّحمن : ٦٨ ، المرسلات : ٤٢ ، النّباء : ٣٢ ، الرّحمن : ٥٢ ، الواقعة : ٣٢ (ـ ٧ آ و ١ ب).

(٤) الحاقة : ٣٣ ، الرّحمن : ٥٤ ، الإنسان : ١٤ (ـ ٣ آ).

(٥) الواقعة : ٣٣ ، الرّعد : ٣٥ (ـ ٢ آ).

(٦) الواقعة : ٣٣ (ـ ١ آ).

(٧) التّوبة : ٧٢ ، الصّف : ١٢ (ـ ب ٢).

(٨) الزّمر : ٢٠.

(٩) الحاقة : ٢٢ ، الفرقان : ٧٥ ، العنكبوت : ٥٨ ، سبأ : ٣٧ ، الزّمر : ٢٠ ، الغاشية : ١٠ (ـ ٦ آ).

(١٠) البقرة : ٢٥ ، آل عمران : ١٥ و ١٣٦ و ١٩٥ و ١٩٨ ، النّساء : ١٣ و ٥٧ و ١٢٢ ، المائدة : ٨٥ ، الأعراف : ٤٣ ، التّوبة : ٧٢ و ٨٩ ، يونس : ٩ ، إبراهيم : ٢٢ ، النّحل : ٣١ ، الكهف : ٣١ ، الحجّ : ١٤ و ٢٣ ، الزّمر : ٥٨ ، الأحقاف : ١٢ ، الفتح : ٥ و ١٧ ، الحديد : ١٢ ، المجادلة : ٢٢ ، الصّف : ١٢ ، التّغابن : ٩ ، الطّلاق : ١١ ، البروج : ١١ ، البينة : ٨ (ـ ٩ آ ، ٢٠ ب).

٥٢١

مَرْفُوعَةٍ) (١) ، و (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) (٢) نسجها من الذهب ، والأحجار الكريمة ، محلاة بفرش (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) (٣) ، وفيها كذلك : (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (٤).

وتصور أخيرا هذه القصور الفخمة ، الحافلة بنوع من الحياة الملكية ، على مستوى عظيم ، خلال أمسية باهرة :

جماعة ملتئمة من الرّجال ، والنّساء ، والأولاد ، أقارب ، وأحباب ، (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) (٥). ولكلّ منهم زينته وحليته : (وَحُلُّوا أَساوِرَ) (٦). وكسوة الحرير : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) (٧) ، ذو لون مريح : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً) (٨) ، وقد استندوا في مقاعدهم : (مُتَّكِئِينَ) (٩) (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) في مودة وحب ، لأنهم يجلسون : (مُتَقابِلِينَ) (١٠) ، يتحادثون في سرور ، ويستدعون ذكرياتهم البعيدة ، وهم :

__________________

(١) الغاشية : ١٣ ، الواقعة : ٣٤ (ـ ٢ آ).

(٢) الواقعة : ١٥ (ـ ١ آ).

(٣) الرّحمن : ٥٤ (ـ ١ آ).

(٤) الغاشية : ١٤ ـ ١٦ (ـ ١ آ).

(٥) الرّعد : ٢٣ ، سورة يس : ٥٦ ، غافر : ٨ ، الزّخرف : ٧٠ ، الطّور : ٢١ (ـ ٥ آ).

(٦) الإنسان : ٢١ ، الكهف : ٣١ ، الحجّ : ٢٣ ، فاطر : ٣٣ (٣ آ و ١ ب).

(٧) الحجّ : ٢٣ ، الإنسان : ٢١ ، الكهف : ٣١ ، فاطر : ٣٣ ، الدّخان : ٥٣ (٤ آ و ١ ب).

(٨) الكهف : ٣١ ، الإنسان : ٢١ (ـ ٢ آ).

(٩) الكهف : ٣١ ، الحجر : ٤٧ ، سورة يس : ٥٦ ، الصّافات : ٤٤ ، سورة ص : ٥١ ، الطّور : ٢٠ ، الإنسان : ١٣ ، المطففين : ١٢ (ـ ٨ آ).

(١٠) الحجر : ٤٧ ، الصّافات : ٤٤ ، الدّخان : ٥٣ ، الواقعة : ٦ (ـ ٤ آ).

٥٢٢

(يَتَساءَلُونَ) (١) ، مستغرقين في سعادتهم لأنّهم : (فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) (٢).

وليس عليهم إلّا أن يأمروا بما يشاءون : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) (٣) ، فإنّ في طاعتهم غلمانا يطوفون عليهم ، وهم : (مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) (٤) ، يحملون في أيديهم صحافا : (مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) (٥) ، (وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) (٦) ، وأواني أخرى من فضة : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا) (٧) ، وكلّ ذلك مع : (رِزْقٌ مَعْلُومٌ) (٨) ، وقوله (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٩). وهنالك يسارع الغلمان بأن يقدموا إليهم ما يشتهون من : (شَرابٌ مُخْتَلِفٌ) (١٠) ، (وَلَحْمِ طَيْرٍ) (١١) ، (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) (١٢).

مجموع هذه التّفاصيل : (ـ ٩٧ آ و ٢٧ ب).

__________________

(١) الصّافات : ٥٠ ، الطّور : ٢٥ ، المدثر : ٤٠ (ـ ٣ آ).

(٢) سورة يس : ٥٥ (ـ ١ آ).

(٣) سورة يس : ٥٧ ، سورة ص : ٥٨ ، الدّخان : ٥٥ (ـ ٣ آ).

(٤) الإنسان : ١٩ ، الطّور : ٢٤ ، الواقعة : ١٧ ، (ـ ٣ آ).

(٥) الزّخرف : ٧٠ (ـ ١ آ).

(٦) الواقعة : ١٨ (ـ ١ آ).

(٧) الإنسان : ١٥ (ـ ١ آ).

(٨) الصّافات : ٤١ (ـ ١ آ).

(٩) مريم : ٦٢ (ـ ١ آ).

(١٠) النّحل : ٦٩ ، الصّافات : ٤٥ ، الطّور : ٢٣ ، الواقعة : ١٨ ، الإنسان : ١٧ ، النّبأ : ٣٤ ، المطففين : ٢٥ (ـ ٦ آ).

(١١) الواقعة : ٢١ ، الطّور : ٢٢ (ـ ٢ آ).

(١٢) الواقعة : ٢٠ ، البقرة : ٢٥ ، الطّور : ٢٢ (ـ ٢ آ و ١ ب).

٥٢٣

وفي كلمة واحدة : كلّ (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) (١) ، سوف يكون في حوزة عباد الله المخلصين ، و (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) (٢) ، بل وأكثر : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٣).

وهكذا يكتمل القول في : (ـ ٤ آ).

أجمع الخطوط الثّلاثة الّتي رسمناها عن الأرض ، والمبنى ، والسّكان ، وضعها على الأساس الأخلاقي ، والرّوحي الّذي عرضناه من قبل ، وحينئذ سوف تجد بين يديك اللّوحة القرآنية ، عن حياة الفردوس ، بقدر ما تطيقه لغة الفانين ، ومداركهم.

على أنّ هنالك بعض الملاحظات الجديرة بالذكر قبل أن ندع مقام السّعداء :

أوّلا : أنّ القرآن لا يكتفي بأن يعدد هذه المتع المختلفة ، الأخلاقية ، والمادية ، الّتي توجد في الجنّة ، فلقد أثبت أنّ بينها تدرجا في القيم ، بحيث إنّه يحتفظ للأشياء الرّوحية بأعلى درجة ، وهو يعلمنا أنّ بين جميع أشكال النّعيم الّتي تقدمها السّماء نعيما واحدا لا يمكن تقدير قيمته ، وهو رضا الله تبارك وتعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (٤).

إنّ رحمة الله ، وفضله بصفة عامة هما بالنسبة إلى القرآن أثمن الأهداف ، وأقدرها على تحقيق فرح الإنسان : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ

__________________

(١) الزّخرف : ٧١ (ـ ١ آ).

(٢) النّحل : ٣١ ، الزّمر : ٣٤ (ـ ٢ آ).

(٣) سورة ق : ٣٥ (ـ ١ آ).

(٤) التّوبة : ٧٢.

٥٢٤

فَلْيَفْرَحُوا) (١) ، (وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٢).

وإذا كان المثل العربي يقول : (الجار قبل الدّار) (٣) ـ أو ليست هذه الفكرة ذاتها هي الّتي يوحي إلينا بها القرآن عند ما وجدناه ـ وهو يجمع بين نوعي السّعادة الّتي وعدت بها الأنفس المطمئنة ـ يسمح أوّلا بدخولها العظيم في المجتمع الإلهي ، ثمّ يرد ذكر الجنّة بطريقة ثانوية ، وفي المكان الأخير : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٤)؟

ثانيا : وإذا كانت ضرورة التّحليل ، وسهولة الإحصاء قد اضطر انا إلى أن نفرد العنصرين المكونين للحياة السّعيدة ، وأن نبني كلا منهما على حدة ، فإنّ الأمر لا يجري على هذا النّحو في النّص ، فليس في القرآن هذا الفصل المقصود ، بل إنّ الصّورة الّتي كوناها آنفا لكلّ منهما لا توجد فيه ، في أي مكان ، كاملة على هذا النّحو ، إنّها فيه مجزأة ، موزعة على سور كثيرة ، بحيث لا نعثر في أغلب الأحيان ، في كلّ مكان ، إلّا على بعض السّطور القليلة ، كأنّما هي موجزة تذكر في أثناء الحديث.

ولهذا المسلك في نظرنا مدلول مزدوج :

إنّه لا يحرص كثيرا على أن يحدث في الرّوح هذا الأثر المضلل النّاشيء عن صورة محدودة منتهبة ، لكي يكون بمنأى عن أن يثير الحس ، أو يستنفد الفضول

__________________

(١) يونس : ٥٨.

(٢) يونس : ٥٨ ، الزّخرف : ٣٢.

(٣) هذا المثل مستل من إحدى رسائل الإمام عليّ عليه‌السلام كما جاء في نهج البلاغة : ٣ / ٥٦ خطب الإمام عليّ رسالة رقم (٣١) ، وكما جاء في عيون الحكم والمواعظ : ٢٨٤.

(٤) الفجر : ٢٩ ـ ٣٠.

٥٢٥

أو يشبعه. وإذا كان يلمس القلب فإنّما يلمسه بحكمة ، واعتدال ، ولكنه من ناحية أخرى لا يكشف لنا عن نفسه على أنّه ثمرة علم بلغ هدفه منذ البداية ، ولا على أنّه ثمرة خيال جامح ، كما افترضه بعضهم ، لدى الإنسان الّذي أبلغنا إياه ، وإنّما هو ثمرة تعليم منزه متدفق ، يبدو مع ذلك أنّه متصل بخطة توقيفية ، لا تجارب فيها ، ولا تنقيحات.

ثالثا : وأبرز ملامح السّعادة الحسية ، أعني : أكثرها ذكرا ، موجود ـ كما رأينا ـ في تلك الإشارة إلى (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (١). وكلّ منا استطاع أن يجرب تلك اللّذة الّتي يثيرها منظر الماء الجاري حين ينظر إليه من عل ، وزد على ذلك أنّ في هذا دون شك أنزه ما يلذ النّظر ، وأطهره ، والقرآن يومىء إلينا منه بمعنى أكثر عمقا ، وبسعادة أحلى مذاقا ، ليس هو مطلقا ذلكم الموقف الّذي يثير الأحلام ، ويلهم الشّعر ، ولكنه واقع أخلاقي في جوهره ، هو : نسيان كلّ حزن ، وذهاب كلّ حقد من القلوب : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) (٢).

رابعا : أمّا فيما يتعلق بطعام الجنّة اللذيذ ، فإنّ التّفسير يحدد بمقتضى تعبير الآية : (فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) (٣) أنّ ضيوف السّماء سوف يتعاطونه لمجرد السّرور والإبتهاج ، وليس حاجة إلى حفظ حياتهم ، أو صحتهم ، ذلك أنّهم لما كانوا قد من الله عليهم بأبدان لا تقبل الفساد ـ لم تعد بهم حاجة إلى أي وقاية (٤).

__________________

(١) البقرة : ٢٥.

(٢) الأعراف : ٤٣.

(٣) الصّافات : ٤٢.

(٤) انظر ، تفسير الجلالين : ٥٩٠ ، سورة الصّافات : ٤٢.

٥٢٦

خامسا : وأكثر ما تنبغي ملاحظته تلك العناية الّتي يبديها القرآن ، عند ما يتحدث عن شراب السّماء «فهو ينفي عنه صفة الإغتيال الّتي تتصف بها عادة المشروبات المعروفة في الحياة الدّنيا» ، ويقول القرآن في ذلك إنّ الصّالحين سوف يسقون : (شَراباً طَهُوراً) (١).

ولن تغشّي لذة الكأس على العقل ، لأنّها : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٢) ، ولن يصيبهم منها صداع ، ولا وصب : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) (٣) ، ولن يصحبها كذب ، ولا ثرثرة : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) (٤) ، ولن تؤدي بهم إلى إثمّ ، لأنّها : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٥).

سادسا : نلاحظ نفس الإهتمام بموضوع الأزواج ، الّذي تعد مرات ذكره ـ مع ذلك ـ قليلة نسبيا. فالقرآن لم ترد فيه أية إشارة إلى معاشرة الرّجال للنساء (في الجنّة) ، ليس ذلك فحسب ، بل إنّه ـ بعد أن حدد أنّ النّساء سوف يكن أبكارا (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) (٦) ، وسوف يظللن كذلك أبدا ـ قال : إنّ الحياة معهن ستكون حياة حبّ متبادل ، لأنّهنّ سيكنّ (عُرُباً) (٧) ، وهو حبّ بين شباب من سن واحدة : (وَكَواعِبَ أَتْراباً) (٨).

__________________

(١) الإنسان : ٢١.

(٢) الصّافات : ٤٧.

(٣) الواقعة : ١٩.

(٤) النّبأ : ٣٥.

(٥) الطّور : ٢٣.

(٦) الواقعة : ٣٦.

(٧) الواقعة : ٣٧ ، وهو جمع مفرده (عروب) وهي المرأة المتحبية إلى زوجها. انظر ، لسان العرب : ١ / ٥٩١.

(٨) النّبأ : ٣٣ ـ والكواعب جمع مفرده كاعب ، وكعاب : ناهدة الثّدي. انظر ، لسان العرب : ١ / ٧١٩.

٥٢٧

أيجب أن ندهش لهذه اللّغة النّبيلة من كتاب يرى أنّ خير الزّواج في حياتنا الدّنيا هو قبل كلّ شيء في تلك السّكينة الباطن الّتي يشعر بها الرّجل لدى رفيقة مشتقة من نفسه ، وهو في المودة ، والحنان الّذي أودعه الله بينهما : (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١)؟؟ ..

ونلاحظ من ناحية أخرى أنّ الصّفات الأخلاقية تزاحم الصّفات المادية في نعت هؤلاء الرّفيقات العلويات ، ليس ذلك فحسب ، ولكن العنصر الأخلاقي يتقدم على المادي ، ومن ثمّ وجدنا : (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) (٢) ، و (فِيهِنَّ خَيْراتٌ) (أولا) (حِسانٌ) (٣) ، و (قاصِراتُ الطَّرْفِ) (أولا) (عِينٌ) (٤) ، و (قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) (٥) ، وهن (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) (٦) لا يبرحنها.

هذه الصّفات الأخلاقية ذاتها هي الّتي أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نبني عليها إختيارنا الزّوجي فقال : «تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، وجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدّين تربت يداك» (٧).

__________________

(١) الرّوم : ٢١.

(٢) البقرة : ٢٥ ، وآل عمران : ١٥ ، والنّساء : ٥٧.

(٣) الرّحمن : ٧٠.

(٤) الصّافات : ٤٨.

(٥) سورة ص : ٥٢.

(٦) الرّحمن : ٧٢.

(٧) انظر ، صحيح البخاري : ٥ / ١٩٥٨ ح ٤٨٠٢ ، السّرائر : ٢ / ٥٥٩ ، صحيح مسلم : ٢ / ١٠٨٦ ح ١٤٦٦ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢١٩ ح ٢٠٤٧ ، السّنن الكبرى : ٣ / ٢٦٩ ح ٥٣٣٧ ، المحاسن : ١ / ١٦ ، سنن ابن ـ

٥٢٨

سابعا : وأخيرا ، عند ما يتحدث القرآن عن أمور السّماء لا ينبغي أن ننسى أنّه يقصد إنشاءها خلقا جديدا ، له أصالته المجهولة : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) (١) ، (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٢).

والواقع أنّه ما من إنسان يعلم ما أعدّ للمتواضعين ، والمحسنين ، والذّاكرين الله في غالب أحوالهم ، من مفاجآت جميلة ، وإنعام يفوق خيالهم ، وقد حدث القرآن عن ذلك فقال : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (٣) ، وقال الله تعالى ـ في حديث قدسي : «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» (٤) ، مما جعل ابن عباس يقول ، وهو من أصوب المفسرين رأيا بين صحابة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس في الدّنيا من الجنّة شيء إلّا الأسماء» (٥).

بيد أنّه لا يبدو أنّ هذه الأصالة تبلغ حدّ التّخلص من الواقع المحسوس ،

__________________

ـ ماجه : ١ / ٥٩٧ ح ١٨٥٨ ، مسند أبي يعلى : ١١ / ٤٥١ ح ٦٥٧٨ ، تهذيب الأحكام : ٧ / ٤٠١ ح ١٥٩٩ ، فتح الباري : ٩ / ١٣٥ ح ٤٨٠٥ ، الكافي : ٥ / ٣٣٢ ح ١ ، تلخيص الحبير : ٣ / ١٤٦ ، سبل السّلام : ٣ / ١١١ ، وسائل الشّيعة : ٢٠ / ٣٨.

(١) الواقعة : ٣٥.

(٢) الواقعة : ٦١.

(٣) السّجدة : ١٧.

(٤) انظر ، صحيح البخاري : ٣ / ١١٨٥ ح ٣٠٧٢ و : ٤ / ١٧٩٤ ح ٤٥٠١ ، و : ٦ / ٢٧٢٣ ح ٧٠٥٩ ، منته المطلب : ١ / ٢٥٤ ، صحيح مسلم : ١ / ١٧٦ ح ١٨٩ ، تفسير الجلالين : ١ / ١٣٣ ح ١٧٣ ، تفسير القرطبي : ١ / ٧٧ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٩١ ح ٣٦٩ ، الذكرى للشهيد الأوّل : ٦٩ ، المستدرك على الصّحيحين : ٢ / ٤٤٨ ح ٣٥٤٩ ، سنن التّرمذي : ٥ / ٣٤٦ ح ٣١٩٧ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٤٢٨.

(٥) انظر ، تفسير الطّبري : ١ / ١٧٤ ، طبعة الحلبي سنة ١٩٥٤ م ، و : ١ / ٢٥١ ، طبعة بيروت.

٥٢٩

فالنصوص تتجه إلى إقرار فرق في الدّرجة بين الحياتين ، أكثر من كونه فرقا في الطّبيعة.

النّار :

هل نريد الآن صورة كاملة بقدر الإمكان عن مقام الهالكين ، وما سوف يسامون من عذاب؟

إنّ هذه المقابلة بين مقام الطّائعين ، ومقام العاصين جلية لدرجة أنّ من الممكن أن نكوّن هذه الصّورة بأن نتتبع السّطور الّتي خططناها ، فنضع في مكانها معطيات نقائضها ، نقطة بنقطة ، ولكن ليست بنا من حاجة أن نلجأ إلى هذا المنهج المسبق : فلنترك القرآن يتحدث ، فذلك أولى بنا ، وأجدر.

عقوبات أخلاقية سلبية :

إنّ الجانب السّلبي ، أو بالأحرى : الحرماني ، من العقوبة الأخلاقية المرصودة للظالمين ينحصر في الأحداث التّالية :

* حبوط أعمالهم : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (١).

* خيبة أملهم في الأوثان الّتي أشركوها مع الله : (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٢).

* يأسهم من رحمة الله : (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) (٣).

__________________

(١) آل عمران : ٢٢ ، ١١٧ ، البقرة : ٢١٧ و ٢٦٤ و ٢٦٦ و ٢٧٦ ، المائدة : ٥ و ٥٣ ، الأعراف : ١٤٧ ، التّوبة : ١٧ و ٥٢ و ٥٣ و ٦٩ ، هود : ١٦ ، إبراهيم : ١٨ ، الكهف : ١٠٥ ، النّور : ٣٩ ، الفرقان : ٢٣ ، الأحزاب : ١٩ ، الزّمر : ٦٥ ، محمد : ٩ و ٢٨ و ٣٢ ، الحجرات : ٢ (ـ ٦ آ و ١٨ ب).

(٢) الأنعام : ٩٤ ، هود : ٢١ ، النّحل : ٨٧ ، القصص : ٧٥ ، فاطر : ١٤ ، غافر : ٧٤ ، فصلت : ٤٨ ، الأحقاف : ٢٨. (ـ ٨ آ).

(٣) العنكبوت : ٢٣ (ـ ١ آ).

٥٣٠

* ومن مغفرته : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) (١).

* ومن رؤيته : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (٢).

* ومن نظره ، وتزكيته : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) (٣).

* حرمانهم من النّور (الّذي يبحثون عنه لدى المؤمنين بلا جدوى) : (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) (٤).

* ومن السّمع ، والبصر ، والكلام (لحظة البعث) : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (٥).

* ومن كلّ اشتهاءاتهم : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) (٦).

* يأسهم من الحياة الآخرة : (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) (٧).

* حيث لا نصيب لهم فيها : (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) (٨).

* ويخذلون : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) (٩).

__________________

(١) النّساء : ١٣٧ و ١٦٨ ، محمد : ٣٤ (ـ ٣ ب).

(٢) المطففين : ١٥ (ـ ١ آ).

(٣) آل عمران : ٧٧ ، البقرة : ١٧٤ (ـ ٢ ب).

(٤) الحديد : ١٣. (ـ ١ آ) ـ وهذا قريب مما جاء في أنجيل متى ، الإصحاح الخامس والعشرين : ١ ـ ١٢ ـ حيث يشبه ملكوت السّموات بعشر عذارى ، أخذن مصابيحهن ، وكان خمس منهن حكيمات أخذن زيتا في آنيتهن مع مصابيحهن ، وخمس جاهلات أخذن مصابيحهن ولم يأخذن زيتا معهن ... إلخ ... القصة.

(٥) الإسراء : ٧٢ و ٩٧ ، طه : ١٢٤ (ـ ٣ آ).

(٦) سبأ : ٥٤ (ـ ١ ب).

(٧) الممتحنة : ١٣ (ـ ١ ب).

(٨) آل عمران : ٧٧ و ١٧٦ ، البقرة : ١٠٢ ، الشّورى : ٢٠ (ـ ١ آ و ٣ ب).

(٩) الإسراء : ٢٢ ، الجاثية : ٣٤ (ـ ٢ آ).

٥٣١

* وحيث ينسون : (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (١).

* ويبعدون : (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (٢).

* ولا مولى لهم ، ولا ناصر : (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٣).

* ولن تفتح لهم أبواب السّماء : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) (٤).

* ولن يقبل منهم دفاع عن أنفسهم : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٥).

* وفي كلمة واحدة : إخفاقهم : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٦).

* وخسرانهم : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٧).

عقوبات أخلاقية إيجابية :

* ويوم البعث يمثل الأشرار أمام الله منكسي الرّءوس : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) (٨).

* سود الوجوه : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ

__________________

(١) الجاثية : ٣٤ (ـ ١ آ).

(٢) الإسراء : ١٨ و ٣٩ (ـ ٢ آ).

(٣) الشّورى : ٨ (ـ ١ آ).

(٤) الأعراف : ٤٠ (ـ ١ آ).

(٥) المرسلات : ٣٥ و ٣٦ ، النّحل : ٨٤ (ـ ٣ آ).

(٦) الأنعام : ٢١ و ١٣٥ ، يونس : ١٧ و ٧٠ ، النّحل : ١١٧ ، طه : ١١١ ، المؤمنون : ١١٧ ، القصص : ٣٧ ، الشّمس : ١٠ (ـ ٩ آ).

(٧) البقرة : ٢٧ و ١٢١ ، آل عمران : ٨٥ و ١٤٩ ، النّساء : ١١٩ ، المائدة : ٥ و ٥٢ ، الأنعام : ٣١ و ١٤٠ ، الأعراف : ٩ و ٥٣ و ١٧٨ ، التّوبة : ٦٩ ، يونس : ٤٥ و ٩٥ ، هود : ٢١ ، النّحل : ١٠٩ ، الحجّ : ١١ ، المؤمنون : ١٠٤ ، العنكبوت : ٥٢ ، فاطر : ٣٩ ، الزّمر : ١٥ و ٦٣ و ٦٥ ، فصلت : ٢٣ و ٢٥ ، الجاثية : ٢٧ ، الأحقاف : ١٨ ، المجادلة : ١٩ ، المنافقون : ٩ ، العصر : ٢ (ـ ٢٢ آ و ٩ ب).

(٨) السّجدة : ١٢ ، الشّورى : ٤٥ ، القلم : ٤٣ ، المعارج : ٤٤ ، الغاشية : ٢ (ـ ٥ آ).

٥٣٢

أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (١).

* عابسة كالحة : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) (٢).

* تعلوها ظلمة ، وغبار : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) (٣).

* إنّهم في ذلك اليوم سوف يودون أن يباعد الله بينهم ، وبين أعمالهم السّيئة : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٤).

* ولكن الكتاب هنالك ، أحصيت فيه الأعمال على كلّ إنسان ، حتّى أتفه تفاصيلها : ويقولون : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٥).

* وأكثر من ذلك هنالك في أبدانهم ، وحواسهم ، شهود يشهدون ضدهم : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦).

* فهم : (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (٧).

* وهم : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٨).

__________________

(١) الزّمر : ٦٠ ، آل عمران : ١٠٦ (ـ ٢ آ).

(٢) القيامة : ٢٤ (ـ ١ آ).

(٣) عبس : ٤٠ و ٤١ ، يونس : ٢٧ (ـ ٣ آ).

(٤) آل عمران : ٣٠ (ـ ١ ب).

(٥) الكهف : ٤٩ (ـ ١ آ).

(٦) النّور : ٢٤ ، سورة يس : ٦٥ ، فصلت : ٢٠ (ـ ٢ آ و ١ ب).

(٧) الأنعام : ٣١ ، طه : ١٠١ (ـ ٢ آ).

(٨) آل عمران : ١٨٠ (ـ ١ ب).

٥٣٣

* وهم مذمومون : (جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (١).

* وملومون : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) (٢).

* وممقوتون : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) (٣).

* ويجللهم الخزي ، والعار : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) (٤).

* ولسوف يعرضون أمام الله ، فيراهم الأشهاد ، ويشيرون إليهم بإحتقار : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) (٥).

* فإذا ما عرفوا حسابهم تمنوا أن لم يكونوا قد عرفوه ، وأن لو كان الموت عدما حقا لهم : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) (٦).

* ويرون أخيرا العذاب الأليم يقترب : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) (٧).

* ويحسون تقطّع كلّ العلائق الّتي تربطهم بسادتهم ، وأتباعهم : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ

__________________

(١) الإسراء : ١٨ و ٢٢ (ـ ٢ آ).

(٢) الإسراء : ٣٩ (ـ ١ آ).

(٣) غافر : ١٠ (ـ ١ آ).

(٤) الأنعام : ١٢٤ ، يونس : ٢٧ ، النّحل : ٢٧ ، الحجّ : ١٨ ، الفرقان : ٦٩ ، سورة ص : ١٨ ، غافر : ٦٠ (ـ ٦ آ و ١ ب).

(٥) هود : ١٨ (ـ ١ آ).

(٦) الحاقة : ٢٥ و ٢٦ و ٢٧ ، النّبأ : ٤٠.

(٧) يونس : ٥٤ ، الأنبياء : ٩٧ ، سبأ : ٣٣ (ـ ٣ آ).

٥٣٤

الْأَسْبابُ) (١).

* ويجدون أنفسهم عاجزين عن أن يرجعوا مجرى الزّمن ، ويعودوا إلى الأرض : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

* فليس أمامهم إلّا أن يعضوا أصابعهم مع زفرات الأسى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) (الفرقان : ٢٧) (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٣).

فهذه هي الآيات المتعلقة بالعقاب الأخلاقي (ـ ١٠١ آ و ٤١ ب).

عقوبات بدنية :

من الممكن ـ أوّلا ـ أن نقدم الآلام البدنية الّتي سوف يتعرض لها الظّالمون بعد الحساب الأخير ـ في صورة سلبية تنحصر في الحرمان من الحاجات الجوهرية ، فهم جياع عطاش ، ولن يجدوا شيئا يهدىء عطشهم ، وجوعهم : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) (٤) ، (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (٥).

بيد أنّ الآيات القرآنية الّتي تحدد تحديدا موضوعيا عذابهم قد جاءت بوفرة كثيرة.

__________________

(١) البقرة : ١٦٦ (ـ ١ ب).

(٢) الأنعام : ٢٧ ، الشّعراء : ١٠٢ ، الفجر : ٢٤ (ـ ٣ آ).

(٣) الفرقان : ٢٧ ـ ٢٩ (ـ ١ آ).

(٤) النّبأ : ٢٤ ـ ٢٥.

(٥) النّبأ : ٢٤ ـ ٢٥ ، الغاشية : ٦ ـ ٧ ، الأعراف : ٥٠.

٥٣٥

* إنّ مسكن المعذبين هو ـ على نقيض مقام الطّائعين ـ سجن : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (١).

* وهو ذو أبواب كثيرة ، كلّ باب يخصّ طائفة بعينها : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٢).

* سجن زبانيته من الملائكة الأشداء القساة : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٣).

* ولكنه سجن تحت الأرض مقسم إلى سراديب مظلمة كثيرة ، بعضها تحت بعض : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (٤).

* وهي نار محكمة الإنسداد عليهم : (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) (٥).

* وهي حفرة مملوءة نارا : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٦).

* وهي نار متقدة : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) (٧).

* يسمع لها من بعيد زمجرة ، وهدير : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) (٨).

__________________

(١) الإسراء : ٨ (ـ ١ آ).

(٢) الحجر : ٤٤ (ـ ١ آ).

(٣) التّحريم : ٦ ، المدثر : ٣٠ ـ ٣١ (ـ ٢ آ).

(٤) النّساء : ١٤٥ (ـ ١ ب).

(٥) البلد : ٢٠ ، الهمزة : ٨ (ـ ٢ آ).

(٦) آل عمران : ١٠٣ (ـ ١ ب).

(٧) القارعة : ٩ و ١١ (ـ ٢ آ).

(٨) الفرقان : ١٢ (ـ ١ آ).

٥٣٦

* حتّى كأنّها بركان ثائر : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١).

* فهي تقذف شرارا كالقصور الكبيرة : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) (٢).

* وهم موثوقو القيود : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٣).

* مغلولو الأعناق ، والأيدي ، والأقدام : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) (٤) ، (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (٥).

* مشدودون إلى سلاسل طويلة : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) (٦).

* (يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) (٧) ، (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) (٨).

* ثمّ يطرحون في النّار على وجوههم : (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) (٩).

__________________

(١) الملك : ٧ (ـ ١ آ).

(٢) المرسلات : ٣٢ (ـ ١ آ).

(٣) إبراهيم : ٤٩ ، الفجر : ٢٦ (ـ ٢ آ).

(٤) غافر : ٧٠ ـ ٧١.

(٥) الرّحمن : ٤١ ، غافر : ٧٠ ـ ٧١ ، الرّعد : ٥ ، إبراهيم : ٤٩ ، سبأ : ٣٣ ، الحاقة : ٣٠ ، الإنسان : ٤ ، العلق : ١٥ (ـ ٨ آ).

(٦) الإنسان : ٤ ، غافر : ٧١ ، الحاقة : ٣٢ (ـ ٣ آ).

(٧) القمر : ٤٨.

(٨) الإسراء : ٩٧ ، الفرقان : ٣٢ ، الإنسان : ٢٤ (ـ ٣ آ).

(٩) النمل : ٩٠ (ـ ١ آ).

٥٣٧

* وهم مضطرون إلى مكان ضيق : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً) (١).

* ليذوقوا عذابا لا نظير له يومئذ : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) (٢).

* يتعرضون فيه لعقاب الإحراق : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٣).

* فهم غذاء جهنم : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (٤).

* وكلّما أحس العصاة بالعذاب ، والألم حاولوا الهروب منه ، فتدفعهم الزّبانية في النّار ، يضربونهم بهراوات من الحديد : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٥).

* ويحيط بهم النّكال من كلّ صوب : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) (٦).

* وسيضرب اللهيب وجوههم : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (٧).

* وسيسلخ جلدهم : (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) (٨).

* وسيحرق لحمهم : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) (٩).

__________________

(١) الفرقان : ١٣ (ـ ١ آ).

(٢) الفجر : ٢٥ (ـ ١ آ).

(٣) الأنفال : ٥٠ ، الحجّ : ٩ و ٢٢ ، البروج : ١٠ (ـ ١ آ و ٣ ب).

(٤) الجن : ١٥ ، البقرة : ٢٤ ، الأنبياء : ٩٨ ، التّحريم : ٦ (ـ ٢ آ و ٣ ب).

(٥) الحجّ : ٢١ ـ ٢٢ ، السّجدة : ٢٠ (ـ ١ آ و ١ ب).

(٦) الأعراف : ٤١ ، الكهف : ٢٩ ، العنكبوت : ٥٤ ـ ٥٥ ، الزّمر : ١٦ (ـ ٤ آ).

(٧) المؤمنون : ١٠٤ ، إبراهيم : ٥٠ ، الأحزاب : ٦٦ (ـ ٢ آ و ١ ب).

(٨) المعارج : ١٦ (ـ ١ آ).

(٩) المدثر : ٢٩ (ـ ١ آ).

٥٣٨

* ويصل إلى قلوبهم : (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (١).

* أمّا الذهب الّذي يجمعه البخلاء فسوف يحمى في النّار ، ثمّ تكوى به الجباه ، والجنوب ، والظّهور : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٢).

* هنالك ستكون صرخات ألم ، وتوسلات : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) (٣).

* وستكون لهم فيها زفرات ، وشهقات : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) (٤).

* وكلّما ذابت جلودهم كان لهم غيرها ، حتّى يذيقهم الله العذاب مضاعفا ، وهكذا إلى الأبد : (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) (٥).

* ولن يقتصر أمرهم على عذاب الحريق ، بل سيكونون كذلك في عذاب الحميم ، يغمسون في هذا الماء المغلي ، ثمّ يقذفون في النّار ، وهكذا دواليك : (يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٦).

* ويصب هذا الماء الحميم على رءوسهم ، فيذيب جلودهم ، وأحشاءهم : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) (٧).

__________________

(١) الهمزة : ٧ (ـ ١ آ).

(٢) التّوبة : ٣٥ (ـ ١ ب).

(٣) المؤمنون : ١٠٧ ، فاطر : ٣٦ ، غافر : ٤٩ ، الزّخرف : ٧٧ (ـ ٤ آ).

(٤) هود : ١٠٦ ، الأنبياء : ١٠٠ (ـ ٢ آ).

(٥) النّساء : ٥٦ (ـ ١ ب).

(٦) غافر : ٧١ ـ ٧٢ ، الرّحمن : ٤٤ (ـ ٢ آ).

(٧) الحجّ : ١٩ و ٢٠ ، الدّخان : ٤٨ (ـ ١ آ و ٢ ب).

٥٣٩

* فإذا شربوا منه انشوت وجوههم ، وتمزقت أمعاؤهم : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) (١).

* ولسوف يسقون شرابا آخرا أكثر تقيحا ، لا يطيقون إساغته : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) (٢).

* وهنالك أيضا طعام الزّقوم ، يغلي في بطونهم كرصاص يذاب : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٣).

* وأطعمة أخرى ذات غصة ، وعذاب كلّه ألم : (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً) (٤).

* من صنوفه الرّيح المحرقة : (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) (٥).

* وظل من دخان خادع : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) (٦).

* وكذلك حين تتوالى على المعذبين أقصى حالات البرودة ، وأقصى حالات الحرارة ـ على ما قاله بعض المفسرين في كلمة (غساق) : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) (٧).

* وموجز القول أنّهم سوف يلقون عقوبات ، وآلاما دائمة لا انقطاع لها :

__________________

(١) الكهف : ٢٩ ، الأنعام : ٧٠ ، يونس : ٤ ، الصّافات : ٦٧ ، سورة ص : ٥٧ ، محمد : ١٥ ، الواقعة : ٥٤ ـ ٥٥ ، النّبأ : ٢٥ ، الغاشية : ٥ (ـ ١٠ آ و ١ ب).

(٢) إبراهيم : ١٦ ـ ١٧ ، الحاقة : ٣٦ (ـ ٢ آ).

(٣) الدّخان : ٤٣ ـ ٤٦ ، الصّافات : ٦٦ ، الواقعة : ٥٢ ـ ٥٣ (ـ ٢ آ).

(٤) المزمل : ١٣ (ـ ١ آ).

(٥) الواقعة : ٤٢ (ـ ١ آ).

(٦) الواقعة : ٤٣ ـ ٤٤ ، المرسلات : ٣٠ (ـ ٢ آ).

(٧) سورة ص : ٥٧ ـ ٥٨ ، النّب : ٢٥ (ـ ٢ آ).

٥٤٠