دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

متغلب متفوق ، وجانب آخر مساعد ، خاضع له.

ومن البديهي أنّه في حالات تساوي التّأثير بين الواجب ، والمنفعة يجب أن ينظر إلى العمل على أنّه باطل ، فالخير ، والشّر يتقاصان ، ويتزايلان ، فإذا رجح الباعث الأخلاقي كان له أجر ، ولكنه نظير فضل من القوة ، بالنسبة إلى دافع الهوى.

وبعكس ذلك لو أنّ باعث الهوى كان أقوى من باعث الواجب ، فإنّ العمل يكون مستحقا للعقوبة ، ولكنها أقل مما إذا كان مفروضا بسبب خبيث.

ذلك أنّه كما أنّه أصغر كمية من الغذاء ، أو الدّواء ، لا بد أن تحدث تأثيرها الطّيب ، أو السّيء ، على أبداننا ، فكذلك لا بد أن يضفي أقل ميل للإرادة ، وأخفّ إتصال لها بالخير ، أو الشّر ، على أنفسنا قدرا مساويا من النّور ، أو الظّلام ، من القرب أو البعد عن الله.

ويتساوى في ضعف الإحتمال أن تستحق كثرة الشّر سحقا كاملا قلة الخير ، أو أن تمحو قلة الشّر محوا كاملا كثرة الخير ، إذ لو حدث هذا لوضعنا الشّرع في مأزق حرج ، ولحرمنا من كلّ أمل ولن تستطيع النّفس الإنسانيّة أن تفلت من هذا الخليط إلّا في ظروف نادرة (١).

ولكي ندعم هذه النّظرية ، يمكن أن نستمد دليلا إيجابيا من القرآن الكريم ،

__________________

(١) هذا الظّرف النّادر هو حالة الإخلاص الكامل لوجه الله تعالى ، وهي حالة التّجرد المطلق من كلّ البواعث الدّنيوية ، يقول الغزالي «إحياء علوم الدين : ٤ / ٣٦٨» : والإنسان مرتبط في حظوظه ، منغمس في شهواته ، قلما ينفك فعل من أفعاله ، وعبادة من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة .. حتّى قيل : من سلم له من عمره لحظة واحدة خالصة لوجه الله نجا ، وذلك لعزة الإخلاص». «المعرب».

٧٤١

عند ما يبيح للحجيج أن يشتغلوا بحياتهم المادية ، خلال سفرهم (بالتجارة مثلا) ، إلى جانب اشتغالهم بواجباتهم الرّوحية ، وذلك قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) (١) ، ولكن على شرط أن تكون الواجبات الرّوحية هي المحرك الأوّل (٢).

أمّا فيما يتعلق بالنصوص الّتي عرفناها من قبل ، والّتي بحكم بالبطلان على كلّ شرك في البواعث ـ فيجب ، كما ذكر الغزالي ، أن نقيدها بالحالة الّتي تبدو فيها هذه البواعث متساوية ، كما تدل عليه كلمة (شرك) عادة (٣).

والغزالي ـ على الرّغم من الطّابع العقلي ، والنّقلي معا لهذا التّصنيف ، والّذي يبدو لنا عند التّجريد ذا سمات صحيحة منزهة ـ لا يدعي بتقديمه أنّه قد وجد الحل العملي النّهائي للمشكلة ، والمقياس الصّحيح الّذي يمكننا من الحكم على أنفسنا بأنفسنا ، على طمأنينة. بل إنّه ـ على العكس ـ يحذرنا من «الخطر العظيم» في أن نركن إلى أحكامنا الخاصة ، الّتي قد تجعل هذا العنصر ، أو ذاك أغلب على قصدنا بين مجموع البواعث.

ثمّ يقول : «نعم ، الإنسان فيه على خطر عظيم ، لأنّه ربما يظن أنّ الباعث الأقوى هو قصد التّقرب إلى الله ، ويكون الأغلب على سره الحظ النّفسي ، وذلك مما يخفى غاية الخفاء ، فلا يحصل الأجر إلّا بالإخلاص ، والإخلاص قلما

__________________

(١) البقرة : ١٩٨.

(٢) ربما ذكرنا في هذا الصّدد أيضا قوله تعالى في سورة الحجّ : ٢٧ ـ ٢٨ : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) وإن لحظنا تقدم الجانب المادي على الجانب الرّوحي في نسق الآية. «المعرب».

(٣) انظر ، إحياء علوم الدّين : ٤ / ٣٦٨.

٧٤٢

يستيقنه العبد من نفسه ، وإن بالغ في الإحتياط» (١).

وقد سبق هذا الشّك أيضا لدى المحاسبي ، ولكن بصورة تذكرنا بالنظرية الدّيكارتية عن الدّليل النّظري ، فهو مع إعتقاده أنّه من المكن ، بل مما تفرضه الضّرورة الأخلاقية ـ ألا نبدأ عملا إلّا عن يقين بأننا نقصد به وجه الله وحده ، إلّا أنّه يرى أنّ إنقضاء بعض الوقت قد يتيح الفرصة للنسيان ، أو الغفلة ، مما يستوجب خوفنا من تسرب بواعث أخرى إلى نفوسنا لا نكون متنبهين لها (٢) ، كالإرتياح ، والسّرور بإطلاع النّاس على أعمالنا ، أو ركون القلب إلى شيء من ذلك مما لا يلتفت إليه ، ثمّ لا نزال حذرين حتّى نفرغ ، ثمّ نمسك عن إظهارها ، يقول المحاسبي : «فإذا مضى عليه وقت من الأوقات ، ولو كان كطرف العين ، مما يمكن المخلوق فيه النّسيان ، والسّهو ، فالخوف أولى به ، لأنّه لا يدري لعله قد خطرت خطرة بقلبه : رياء ، أو عجب ، أو كبر ، أو غيره ، فقبلها وهو ناس ، لا يذكر أنّها رياء ، فيكون مشفقا ، خائفا ، فالخوف على عمله ، والوجل والإشفاق من أجل ذلك ، بل الأمل ، والرّجاء أغلب ، وأكثر ، لأنّه قد إستيقن أنّه قد خله بالإخلاص لله وحده ، ولم يستيقن أنّه رأى بشيء منه ، فالإخلاص عنده يقين ، والرّياء هو منه في شك ، فخوفه إن كان قد خالطه رياء كان ذلك الخوف مما يرجو أن يصفيه الله له ، لإشفاقه على ما لا يعلم فيه ، فبذلك يعظم رجاؤه ، وإن لم يكن

__________________

(١) انظر ، إحياء علوم الدّين : ٤ / ٣٧٤.

(٢) ومع ذلك فلا يبدو المحاسبي متشددا في مسألت معرفة ما إذا كان يجب أن يكون لكلّ عمل نيّة جديدة ، مؤكدة الإخلاص ، فعلى الرّغم من أنّه يفضل أن يكون ذلك كذلك ـ يكفي ، كما يؤكد ، أن يصدق المرء في نيّة العامّة ، بألا يطيع الله إلّا لذاته ، ومتى شعر بسيطرة فكرة أخرى وجب أن يدفعها بازدراء ، مجددا نيّته في ألا يعمل إلّا لله. (المحاسبي ـ الرّعاية : ٢٠٠).

٧٤٣

خالطه رياء فذلك زيادة على عمله ، وعبادة منه ، وكلّما أشفق ازداد نعيما بالطاعة ، وأملا في الله عزوجل ، إذا أيقن أنّه دخله بالإخلاص ، وختمه بالإشفاق والوجل من علم الله عزوجل ، فبذلك يعظم رجاؤه ، وأمله ، ويتنعم بطاعة ربّه عزوجل» (١).

__________________

(١) انظر ، الرّعاية للمحاسبي : ١٩٨ ـ ١٩٩.

٧٤٤

خاتمة

إنّ المسألة الّتي وضعناها أمام أنفسنا في نهاية الفصل السّابق ـ قد وجدت هنا إجابتها ، بأكثر الطّرق تفصيلا ، وتحديدا.

وليس يكفي أن نقول إنّ الأخلاق الإسلاميّة لا تقيم وزنا مطلقا لعمل مقتصر على تعبيره المادي المحض ، حيث ينعدم وعي الضّمير به انعداما تاما.

وليس يكفي كذلك أن يكون لعمل ما حقيقة نفسية مزدوجة ، أعني : أن يكون شعوريا ، وإراديا معا ، لكي يثبت وجوده أخلاقيا ، فهذا الوجود يفترض أن يدخل في الضّمير عامل جديد تمام الجدة.

فمتى ما كان المرء أمام واجب عمل ، فإنّ العمل المطلوب «يجب أن يتصور في علاقته بقانون» ، ومن حيث هو مطابق لقاعدة ما ، يجب أن تدخل فكرة الواجب في فلك الضّمير ، وأن تكون جزءا من هدفه. وأي تصور لها على غير هذا النّحو ، أعني أن تتصور من جانبها العادي ، وفي تحديدها المادي ، فذلك معناه أنّ العمل يبقى خارج مجال الأخلاقية ، فهو حدث «دنيوي».

هذه النّظرة العقلية إلى الطّابع الأخلاقي للعمل ليست فقط ضرورية لتخصيصه بصفته الأخلاقية بعامة ، ولكن هذه الصّفات الأخلاقية سوف يحكم عليها فعلا

٧٤٥

بالطريقة الدّقيقة الّتي نقدر بها غالبا مشروعاتنا.

ولا ريب أنّ الأخلاق الإسلامية لا تذهب إلى حدّ أن تتخذ من مفاهيمنا الأخلاقية معيارا وحيدا ، يعفينا من مطابقتها للشريعة الموضوعية في ذاتها ، ولكنا نجد ، من ناحية ، أنّ نيتنا الحسنة يمكن أن تعذرنا في حالة الجهل الّذي لا يدفع ، ومن ناحية أخرى ، حين تتعارض المطابقة الواقعية مع مفهومنا الذاتي ، أعني حين نؤدي عملا نعتقد خطأ أنّه غير مشروع ، فإنّ هذه النّيّة السّيئة تكفي لإدانة سلوكنا ، الّذي هو غاية في الصّواب في الواقع. على ذلك انعقد «الإجماع» ، ولا حاجة بنا إلى مزيد من القول لإثبات تفوق النّيّة على العمل.

وهكذا نجد أنّ الشّرط الأولي للفعل الأخلاقي هو وجود إرادة تشرع في العمل في علاقته بالقاعدة ، وبهذه الصّفة على وجه التّحديد.

ولكن ، إذا كان هذا الإدراك شرطا ضروريا فإنّه ليس الشّرط الكافي لتوفير نيّة حسنة من النّاحية الأخلاقية ، فإنّ هناك ، فوق الإختيار الأخلاقي للموضوع المباشر (وهو العمل) ، إختيار الهدف البعيد (الغاية) وفي هذا الإختيار تتمثل النّيّة الأخلاقية بأخص معانيها.

فما القاعدة الّتي يجب أن تسيطر على هذا الإختيار؟

لقد رأينا كيف استخدم القرآن ، خلال تعليمه الأخلاقي جميع وسائل الإقناع القادرة على أن تكسبه كلّ العقول وقلنا : «إنّ جلال الأمر الإلهي ، ومطابقته للحكمة ، وتوافق موضوعه مع الخير في ذاته ، والرّضا الّذي يمنحه لأشرف المشاعر ، وأرقها ، والقيم الأخلاقية الّتي يؤدي تطبيقه إلى إخفائها على النّفس ،

٧٤٦

والغايات العظيمة في هذه الدّنيا ، وفي الأخرى .... كلّ ذلك يسهم في دعم سلطان الواجب القرآني» (١).

هذه الطّريقة في تصوير الشّرع لا تحسم مسألة معرفة ما إذا كانت البواعث الّتي استخدمها الشّارع لتسويغ أوامره يمكن بطريقة صحيحة أن تكون للإنسان بمثابة مبدأ يحكم إرادته للطاعة. فهل من حقّه عند ما يواجه حالة اتخاذ قرار أخلاقي أن يستقي دوافعه من أي مصدر من هذه المصادر بلا تمييز ، إن لم يكن من غيرها أيضا؟. ذلكم هو السّؤال الّذي طرحناه من قبل ، والّذي خصصنا لحله هذا الفصل.

وبوسعنا الآن أن نقول ، والنّصوص في يدنا ، ما ذا يكون الحل ، فإنّ القرآن لم يبق من كلّ البيّنّات المطروحة أمام العقل إلّا على نقطة واحدة ، يفرضها على الإرادة الطّائعة ، بإعتبارها الهدف المفرد الصّحيح ، والمبدأ الوحيد الّذي يجب أن تستلهمه في العمل : «اعمل وغايتك الله وحده» ، وتلكم هي القضية الّتي لا يفتأ القرآن يرددها في مواضع مختلفة ، وبنفس الألفاظ تقريبا. فلم يرد في القرآن مطلقا هذا التّعبير الغائي : «افعل هذا من أجل ذاك» ، مما موضوعه المباشر منفعة ، شخصية أو عامة ، حسية ، أو معنوية.

أمّا الخير المحسوس فليس هناك نصّ يقترحه ، لا هدفا مبدئيا ، ولا تكميليا. بل إنّ مما يزيدنا إعجابا أنّ الخير الأخلاقي ، الّذي ينشده الحكماء بوصفه أعلى

__________________

(١) سبق هذا القول في : ٣٩٤ من الأصل مع إختلافات يسيرة ، راعيناها إلتزاما بطريقة تعبير المؤلف. «المعرب».

٧٤٧

الدّرجات ، وذلك مثل الكمال الذاتي ، والتّضحية من أجل الآخرين ، هذا الخير الأخلاقي لا يبرز في القرآن على مستوى النّيّة إلّا كقيمة من الدّرجة الثّانية ، كإضافة خاضعة للمبدأ الأسمى ، ألا وهو : رضوان الله العلي الأعلى.

ـ وإذن ، فما ذا يبقى لكي نخص به الفطرة ، على صعيد القيم الأخلاقية؟

ـ لا شيء.

ـ ألا يوجد استثناء من أجل البحث عن السّلام ، وعن السّعادة الموعودة؟

ـ لا ..

ـ ولكن ، فيم إذن الخلاف في هذا الصّدد بين المتطرفين ، والمعتدلين؟ ..

ـ هذا الخلاف لا ينصبّ إلّا على طرف جانبي من المسألة ، ولا يقلل صرامة النّتيجة الّتي انتهبنا إليها في شيء. فبعضهم يرى أنّ ما سوى المبدأ الأسمى ذل ودناءة ، وضياع للقيمة ، وآخرون يرون أنّه تفاهة ، ونفي للقيمة.

فالذين يبحثون عن القيم العليا ، الخالدة ، مفضلين إياها على الملذات العابرة ، يعرفون ، بكلّ تأكيد ، الشّروط الواجب توفرها لهذا الإختيار ، فإنّ المقاعد محجورة للقلوب المخلصة ، المتوجهة إلى الله.

فليس يكفي إذن أن يكون للإنسان نشاط مستنير ، واع بذاته ، وبعلاقته بالشرع ، يقظ للأمر الإلهي كنموذج يتبع ، وإنّ انقاد لمبدأ آخر غريب عنه ، بل يجب أن يكون هذا النّشاط متحركا ، مهتديا ، متأثرا بهذا الأمر العظيم ذاته.

يجب أن يصبح هذا الأمر ، للنظر المتأمل محركا.

يجب أن يتحول هذا النّور إلى قوة.

٧٤٨

يجب أن يكون الموضوع المباشر ، في نفس الوقت ـ الغاية الأخيرة.

وإنّا لنستطيع بفكرة الواجب ، من حيث هي موضوع مباشر ، أن نستهل الحياة الأخلاقية : «مرحلة الصّحة». ونستطيع بها ، من حيث هي «غاية أخيرة» ، أن نبلغ ذروة «القيمة».

ولقد كان (كانت) على صواب في هذه النّقطة ، ولكنه لم يفعل سوى أن قلد وجهة نظر الأخلاق الدّينية ، وإن عراها من جوهرها الحيوي.

٧٤٩
٧٥٠

النّظرية الأخلاقية

كما يمكن استخلاصها من القرآن

مقارنة بالنظريات الأخرى

قديمها وحديثها

٧٥١
٧٥٢

الفصل الخامس :

الجهد

الآن وقد ميزنا بصورة كافية ، بين عنصرين متميزين في البناء الأخلاقي ، هما : «النّيّة» و«العمل» ، وبعد أن حددنا الدّور المزدوج «للنيّة» (١) ـ يبقى علينا أن نجلو الأهمية الفائقة للعنصر الثّاني : «العمل» ، وهو السّلاح الوحيد ، الهجومي والدّفاعي ، في معركة الفضيلة.

والواقع أنّ المدد الوحيد في يد الإنسان لكي يصل إلى غاياته ، وواجبه الوحيد في الوقت نفسه ـ منحصر في أن يستعمل قواه المعنوية ، والمادية ، القادرة على هدايته اليها ، سواء أكانت الغاية أن يتخذ قرارا أخلاقيا ، أو أن ينفذه ، وسواء أكان يريد إصلاح خلّة باطنية ، أو تزكية نيّة.

وربما كان من غير المفيد ، وغير المعقول ، على سواء ، أن يمارس الإنسان نشاطا ، أيّا كان ، لكي يكسب الفضيلة ، لو كانت النّفس الإنسانيّة ذات طبيعة كاملة مكملة ، أو إذا كانت هذه الطّبيعة برغم ما فيها من نقص ، غير قادرة على

__________________

(١) انظر ، من حيث هي شرط صحة ، وشرط قيمة للسلوك.

٧٥٣

التّطور.

فضرورة تدخلنا المؤثر تنطوي إذن على مسلّم مزدوج ، هو أن الكائن الأخلاقي قد خلق ناقصا ، وقابلا للكمال في آن ... فهو بذرة تنطوي على جميع عناصر الكائن بأكمله ، وتشتمل تقديرا ، وفي حيز القوة ، على شروط نموها كلّها ، ولكنها في إنتظار ظهور عمل حرّ ، وإرادي ، حتّى تحول هذه الشّروط التّقديرية إلى واقع فعلي.

فأمّا أنّ هذه فعلا هي حالة الكائن الأخلاقي فذلك هو ما يبدو أنّ القرآن قد دل عليه دلالة كافية بالآيات الآتية :

فمع أنّ الإنسان ـ من ناحية ـ قد ولد محروما من جميع المعارف العقلية والحسية ، فإنّه قد زود بملكات قادرة على أن تقدم له ما يتمنى من هذه المعارف : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١). ومتى ما صاغ الله نفس الإنسان ، وسواها استودعها فكرتي الخير ، والشّر : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٢).

فذلكم هو مجموع الوسائل الّتي تتصرف فيها كلّ نفس إنسانية ، وبفضلها تستطيع أن تتصور مباشرة المثل الأعلى الّذي تسعى إليه ، وأن تشعر بالرغبة في بلوغه ، وأن تلتزم بتحقيقه بذاتها.

__________________

(١) النّحل : ٧٨.

(٢) الشّمس : ٧ ـ ٨.

٧٥٤

وليس ينقص من صدق هذا القول ـ من ناحية أخرى ـ أنّ النّفس الإنسانيّة ، على الرّغم من وجود استعدادها بكلّ هذا الجهاز ، تظل دائما قابلة للترقي ، والتّردي ، للإزدهار ، والذبول ، بتأثير إرادتها الخاصة : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١).

ومن ثمّ تنبع الضّرورة الأخلاقية ، أن يعمل الإنسان ، وأن يتحمل مسئوليته : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢).

بيد أنّ مفهوم «الجهد» لا يتحدد بوساطة «العمل بعامة» ، بل «بالعمل المؤثر الفعال» بخاصة ، الّذي موضوعه : «مقاومة قوة ، أو قهر مقاومة» (٣) ، وهو تعريف متوافق ابتداء مع المعنى المادي ، ولكنه يجب أن يتوافق أيضا مع المعنى الأخلاقي. والتّماثل بين المجالين واضح جلي ؛ فعلى صعيد الإبداع الخيّر يصادف الفكر غالبا في الموضوع ، وفي نفسه ، عقبتين ينبغي أن يتخطاهما : خمود المادة الّتي يجب تحويلها ، ونقص الهمة في الإرادة الفاعلة.

والأمر كذلك عند ما يجب الإمتناع عن الشّر ، في مواجهة القوى الّتي تدفعنا إليه. ففي هذه الحالات جميعا لا يكفي أن «نعمل» ، بل يجب أن «نجاهد بقوة وإصرار».

لقد كان وجودنا العضوي ، والمادي صراعا مستمرا ضد جميع أنواع الشّرور ،

__________________

(١) الشّمس : ٩ ـ ١٠.

(٢) التّوبة : ١٠٥.

(٣) انظر ، ١ ـ Dictionnaire Littre.article : effort.

٧٥٥

الّتي نلقاها على طريق الحياة ، حتّى الموت (١) ، ولا يفتأ القرآن يذكرنا بهذا الظّرف الملازم للطبيعة الإنسانيّة ، في مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٢).

ولكن فوق هذا الجهد «الطّبيعي» الّذي تفرضه الغريزة جهدا آخر ، يقتضيه «العقل» ، ويجب أن يسخر لخدمة «المثل الأعلى».

هذا النّوع من الجهد ، هو الّذي نزمع دراسته في الأخلاق الإسلاميّة.

وأوّل ما نقوله هو : أنّ المطالبة بإستخدام الطّاقة الأخلاقية قد ترددت كثيرا في القرآن ، ففي كلّ موضع منه نستمع إلى دعوة إلى هذا الجهاد الثّابت المستمر ، سواء من أجل فعل الخير ، ومقاومة الهوى ، أم لإحتمال الشّرور ، وكظم الغضب ، أم لأداء واجباتنا الدّينية.

والحقّ أنّ الله سبحانه وتعالى لا يفرض علينا أي تكليف فوق وسائلنا ، ولكن ذلك لا يمنع أنّه يحثنا على طاعته «بكلّ» ما نملك من «قوانا» : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٣).

والقرآن يدعو إلى أن نبذل هذا النّشاط ، ونمده على طريق التّقدم الأخلاقي الصّاعد ، وهي دعوة يصوغها في تشبيه مجازي جميل ، وهو يقول : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ،) ثمّ يبين حقيقتها : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ

__________________

(١) اقرأ ، ١ ـ La philosophie de L\'effort : Sabtier

(٢) الإنشقاق : ٦.

(٣) التّغابن : ١٦.

٧٥٦

وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (١).

ولم يكتف القرآن بأن يستثير النّاس إلى تحقيق هذا الإقتحام الصّاعد ، بل مضى إلى حدّ أن أدخل فكرة هذا الجهد في تحديد الإيمان الصّادق نفسه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٢).

فهل بوسع أحد أن يضع الجهد الأخلاقي وضعا أسمى من هذا؟

ومع ذلك فلسنا نستطيع أن نكتفي بهذه العموميات ، فإنّ فكرا جدليا مولعا بالوضوح ، وبالدقة لا يمكن أن يتوقف عند تأكيد مطلق كهذا ، دون أن يبحث له عن بعض ما ينقضه ، ودون أن يحاول توفيقا يضع الأمور موضعها الصّحيح.

ومن أجل هذا سوف نخضع النّقاط الآتية لبحثنا :

١ ـ هل يجب أن تنفي قيمة الجهد قيمة الإنبعاث التّلقائي؟

وبأي شرط؟ ..

٢ ـ ما نصيب الجهد العضوي في هذه القيمة؟.

٣ ـ أليس للجهد حين يفرض نفسه ـ حدّ يقف عنده؟.

١ ـ جهد ، وانبعاث تلقائي :

كان (سيجور) يقول : إنّ الإنسان «يفخر بكلّ ما هو جهد» (٣).

هذا الإتجاه الفطري إلى تمجيد روح الكفاح ، والتّضحية ، ـ وهو إتجاه مشروع

__________________

(١) البلد : ١١ ـ ١٧.

(٢) الحجرات : ١٥.

(٣) انظر ، ١ ـ Segur, Hist. Nap. VIII, ١١. a. tepar littre, art, effort.

٧٥٧

في بعض الظّروف ، إلى درجة معينة ـ قد يصل أحيانا إلى حدّ أن يجعل من هذه الرّوح غاية أخيرة ، وقيمة في ذاتها. فهل بنا من حاجة إلى أن نؤكد رفض هذه الطّريقة في النّظر؟

إنّ النّشاط الّذي لا يبذل إلّا من أجل أن يبذل ـ هو اللّعب بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة. وكلّ جهد حاد يفترض أن يكون له موضوع متميز عنه ، يخصه بقيمة معينة ، ويعزم أن يسعى إليه ، بسبب هذه القيمة الّتي خصّه بها.

ومن خلال علاقته مع «الموضوع المنشود» «يكتسب الجهد قيمته» الّتي تعتبر ذريعته «وواسطته».

بل إنّ الجهد ليست له على الأخص ـ قيمة أخلاقية إلّا من حيث هو وسيلة لتحقيق بعض الخير الأخلاقي. فالشعار الّذي يمجد الجهد في ذاته ، دون نظر إلى متعلقه ؛ الجهد بإعتباره تعبيرا عن الدّيناميكية الحيوية ، الّتي تصلح للضر ، والنّفع ، على حدّ قول الشّاعر (١) :

إذا أنت لم تنفع فضر فإنّما

يرجى الفتى كيما يضر وينفع

هو شعار تمليه الغريزة العمياء ، لا الضّمير الوعي المستنير. ولو كان من الممكن ـ يوما ـ أن نقدر جهد المجرم تقديرا أخلاقيا ، كمنبع للخلق والإبداع ، فلن يكون ذلك إلّا إذا صربنا صفحا عن الموضوع الّذي يقارفه فعلا ، ثمّ نظرنا إلى ما لديه من إمكان أن يباشر موضوعا آخر ، أعني أن يسخر نفسه لخدمة الفضيلة.

__________________

(١) ينسب هذا البيت إلى قيس بن الحطيم كما جاء في ديوانه : ٤٤ ، وفي الصّاعتين : ٢٤٥ ، وقد نسبه إلى الصّولي في أخبار أبي تمام : ٢٨ ، لعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ، إعجاز القرآن للباقلاني : ٨٣ ، شرح الرّضي على الكافية : ٤ / ٥١ ، مغني اللّبيب : ١ / ١٨٢.

٧٥٨

هناك «موقفان فلسفيان» صرحا بميلهما إلى المبالغة في تقدير هذا الجهد الأخلاقي ، وهما ، وإن لم يستلهما المبدأ الّذي رفضناه قبل ، أعني : مبدأ الجهد ـ بوصفه قيمة في ذاته ، فقد جعلا له على الأقل معادلا عمليا.

أمّا الموقف الأوّل : فيتحدث على مستوى الوجود ، وهو يتمثل في القول بأنّ النّفس الإنسانيّة عاجزة عن الخضوع للقانون الأخلاقي برضاها الكامل ، وبدافع الحبّ. ولمّا كان الإنتصار على الشّر ، يكلفنا دائما تضحية ، ويفرض إكراها على ذات الإنسان ، فإنّ الكفاح يصبح في كلّ مكان ، وزمان شرطا في الفضيلة ، والوسيلة الوحيدة لإكتساب السّلوك الحسن.

وقد راق (كانت) أن يكرر في كتاب «دين في حدود العقل» (١) ، كلمة القديس بولس في رسالته إلى أهل رومية : «كما هو مكتوب ، أنّه ليس بار ، ولا واحد» (٢).

وتبرز بعض الأقوال في كتابه «نقد العقل العملي» هذه التّشاؤمية ذاتها ، فهو يقول : «إنّ الدّرجة الأخلاقية الّتي وضع فيها الإنسان ... هي إحترام القانون الأخلاقي ، والحالة الأخلاقية الّتي يمكن أن يكون فيها دائما هي الفضيلة ، أعني : النّيّة الأخلاقية «للكفاح» ، لا تملك القداسة ، وربما كان من تفاهة التّفكير ، والسّطحية ، وشطحات الخيال ، أن نخص الرّوح «بطيبة تلقائية ، .. لا تحتاج إلى محرك يحثها ، أو إلى لجام يكبحها» (٣).

ومع ذلك ، فقد تكشف بعض التّعبيرات عنده عن نوع من الشّك ، أقل صرامة ،

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Religion dans les limites de la Raison.

(٢) انظر ، الإصحاح الثّالث : ١٠.

(٣) انظر ، ١ ـ Kant ,Crit.de la Raispon pratique.p ,٩٨.

٧٥٩

وأكثر تعقلا ، فهو ينكر فقط : «أن يكون في قدرة مخلوق أن ينفذ جميع القوانين ، على وجه من الإختيار لا يجد معه في نفسه إمكان شهوة تحثه على مخالفتها ، ولو مرة واحدة» (١).

ويبدو أنّه يوافق أيضا على إمكان «أن يتحول الخوف الإحترامي ... إلى ميل ، والإحترام إلى حبّ ، وذلك على الأقل هو كمال النّيّة الّتي تقدس القانون ، لو كان في طاقة مخلوق ، أن يبلغها ، أبدا» (٢).

وأمّا «الموقف الفلسفي» الثّاني فلن يذهب إلى حدّ الإنكار المطلق لقدرة الإنسان على أن يؤدي واجبا معينا ، عن طواعية وهمة. ولكن العمل المؤدّى في هذه الظّروف قليل القيمة ، والثّواب في نظره.

وإذن ، فإنّ بين مصطلحي (الجهد ، والقيمة الأخلاقية) علاقة ثابتة ، لدرجة أنّ دقة قياس أحدهما بالآخر يمكن أن تذكر في صورة معادلة ، فوجود أحدهما أو عدمه ، وزيادته ، أو نقصه قد تستتبع نفس الأثر في الآخر ، بصورة لا يمكن تحاشيها ، وبنفس النّسبة.

وبقدر ما يكون إلتزام القاعدة أمرا لا يمكن تحقيقه إلّا ببذل مجهود من الإرادة تتفاوت درجته ، فمما لا شك فيه أنّ كلّ جهد يدخر يعادل خسارة ، بنفس النّسبة ، في الجزاء. فهل الأمر كذلك في حالة العكس ، وهي الحالة الّتي تسمح فيها القوة الأخلاقية للذات بأن تنهض بتكاليفها دون جهد؟.

هذه المسألة موضع خلاف بين الأخلاقيين المسلمين ، ومن الّذين أدلوا

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Kant ,Crit.de la Raispon pratique.p ,٨٨.

(٢) انظر ، ١ ـ Kant ,Crit.de la Raispon pratique.p ,٨٨.

٧٦٠