دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

جديد.

لقد أسفنا على ما اقترفنا من شرّ ، ودعونا الله أن يغفره لنا ، وعزمنا ألّا نعود إليه ، واستفرغنا طاقتنا في مقابلة الفعل السّيء بأعمال طيبة ، كلّ هذا جميل ، ومأمور به ، وحبيب إلى الله ، ولكنه يظل عاجزا عن أن ينشىء توبة كاملة ، إذ يجب أن نحصل على إبراء صريح ، ومحدود من أولئك الّذين أسأنا إليهم ، فضلا عن النّدم ، والإهتداء. والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من كانت له مظلمة لأحد ، من عرضه أو شيء ، فليتحلله منه اليوم ، قبل ألّا يكون دينار ، ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» (١). فإبتداء من الكذاب حتّى القاتل ، كلّ إنسان مذنب في حقّ الغير يجب أن يعترف ، ويستسلم لضحاياه ، ويخضع لأحكامهم ، فإذا لم يستبرئهم في هذه الدّنيا وجب أن ينتظر مقاصة ثقيلة ، يقتضونها منه في الآخرة ، كما أخبرنا رسول الله ، وهي مقاصة ذات طابع أخلاقي ، تتمثل في أن ينقل إلى حسابهم جزء من حسنات ظالمهم ، فإذا أنتهت حسناته قبل أن يستوفوا مالهم ، وهو (الإفلاس) كما عبر الرّسول ، فإنّ عملية عكسية تبدأ : يؤخذ من سيئاتهم فيوضع على كاهله. وذلكم أيضا هو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما رواه أبو هريرة : «أتدرون ما المفلس؟. قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ، ولا متاع ، فقال : إنّ المفلس من

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ١٦٥ ح ٢٣١٧ ، شرح اصول الكافي : ١٠ / ١٠ ، تفسير القرطبي : ١ / ٣٧٨ ، تفسير الطّبري : ٨ / ١٢٣ ، بحار الأنوار : ٧٢ / ٤٢٣ ، صحيح ابن حبان : ١٦ / ٣٦٢ ح ٧٣٦٢ ، سنن البيهقي الكبرى : ٣ / ٣٦٩ ح ٦٣٠٥ ، المعجم الأوسط : ٢ / ١٩١ ح ١٦٨٣ ، مسند الشّاميين : ٢ / ٢٧٣ ح ١٣٢٦ ، المعجم الصّغير : ١ / ٢١٧ ح ٣٤٨ ، سبل السّلام : ٤ / ٢٠٣ ، المحلى : ٨ / ١٦٥.

٣٨١

أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة ، وصيام ، وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم ، فطرحت عليه ، ثمّ طرح في النّار» (١).

ولكي ندرك الأهمية الخاصة الّتي نعت بها الإسلام الإخلال بواجباتنا الإجتماعية ، حسبنا أن نقرأ الحديث الّذي يقسم الذنوب ثلاثة أقسام ؛ فعن عائشة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «الدّواوين ثلاثة : ديوان يغفر ، وديوان لا يغفر ، وديوان لا يترك ، فالديوان الّذي يغفر ذنوب العباد بينهم وبين الله ، والدّيوان الّذي لا يغفر الشّرك ، والدّيوان الّذي لا يترك مظالم العباد» (٢).

وقبل أن نترك مفهوم التّوبة يبقى علينا أن نضيف ملاحظتين نجدهما في

__________________

(١) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / ١٩٩٧ ح ٢٥٨١ ، شرح اصول الكافي : ١ / ٢٤٤ و : ٩ / ٢٣٢ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٦١٣ ح ٢٤١٨ ، المعجم الأوسط : ٣ / ١٥٦ ح ٢٧٧٨ ، بحار الأنوار : ٦٩ / ٦ ح ٣ ، شعب الإيمان : ١ / ٦٧ ، التّرغيب والتّرهيب : ٣ / ١٢٩ ح ٣٣٦٦ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٢ / ٦٠ ح ٢٣٣٨ ، موضح أوهام الجمع والتّفريق : ٢ / ٢٣ ، المحلى لابن حزم الظّاهري : ١ / ٢٢.

(٢) انظر ، مسند أحمد : ٦ / ٢٤٠ من طريق عائشة ، ونصه : «الدّواوين عند الله عزوجل ثلاثة : ديوان لا يعبأ الله به شيئا ، وديوان لا يترك الله منه شيئا ، وديوان لا يغفره الله ، فأمّا الدّيوان الّذي لا يغفره الله فالشرك بالله. قال الله عزوجل : (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) المائدة : ٧٢. وأمّا الدّيوان الّذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين وبه ، من صوم يوم تركه ، أو صلاة تركها ، فإنّ الله عزوجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء ، وأمّا الدّيوان الّذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا ، القصاص لا محالة» ـ (المعرب). انظر ، تفسير ابن كثير : ١ / ٥٠٩ و : ٢ / ٨٢ ، بحار الأنوار : ٧ / ٢٧٣ ح ٤٤ ، اللمعة البيضاء للتبريزي الأنصاري : ٣٤٢ ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٦١٩ ح ٨٧١٧ ، مجمع الزّوائد : ١٠ / ٢٤٨ ، مسند أحمد : ٦ / ٢٤٠ ح ٢٦٠٧٣ ، شعب الإيمان : ٦ / ٥٢ ح ٧٤٧٣ و ٧٤٧٤.

٣٨٢

القرآن ، أولاهما : أنّ الكفار الّذين يدخلون في الدّين الحقّ معفون من كلّ إجراء إصلاحي للماضي ، كأنّما كان لهذا التّحول إلى الإيمان فضل تطهيرهم من جميع الذنوب الّتي سلفت ، قال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) (١).

وثانيتهما : أنّ تأثير التّوبة النّصوح ، الّتي تحدث بشروطها المطلوبة ، ما كان لينهار بسبب العودة المحتملة إلى الذنب ، (وهو أمر ممكن ، حتّى مع العزم الشّديد الآن) ، فهي حالة عارضة ، وعلينا أن نكرر جهودنا للصلاح ، دون أن نيأس أبدا ، والله سبحانه يقول : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٢) ، ويقول : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) (٣) ، ويقول : (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) (٤). والأحاديث أكثر صراحة في هذا الباب. ولنقرأ هذا الحوار الّذي ورد به الحديث القدسي : «قال الشّيطان : وعزتك يا رب ، لا أزال أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، قال الله : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» (٥).

__________________

(١) الأنفال : ٣٨.

(٢) الأنفال : ٣٣.

(٣) الزّمر : ٥٣ ـ ٥٤.

(٤) الشّورى : ٢٥.

(٥) انظر ، مسند أحمد من طريق أبي سعيد الخدري ، ونصه : «قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال إبليس : أي رب ، لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. قال : فقال الرّب عزوجل : لا أزال أغفر لهم ما ـ

٣٨٣

ولكن ، في أي صورة ما تمثلت التّوبة ، بالمعنى المركب الّذي صورناها به ، فإنّها لا تنشىء سوى جزاء إصلاحي ، يتطلبه منا الشّرع ، أفلا يوجد أيضا جزاء أخلاقي ثوابي ، يمارسه فينا تلقائيا ، على إثر الموقف الّذي نتخذه منه.

بلى ؛ وهو سابق على الجزاء التّكليفي الّذي لا يفرضه علينا إلّا لكي يوقف أثر هذا الجزاء العاجل ، فإمّا ألّا يكون للتكليف الأخلاقي معنى ، أو يكون لممارسة الفضيلة ، وهجر الرّذيلة بعض الأثر الواقعي ، ـ الشّعوري ، أو اللاشعوري ـ ، لصالحنا ، أو ضد صالحنا ؛ وبغير ذلك يصبح خضوعنا للشرع عملا بلا جدوى ، أمرا من سيد مستبد ، يدفعنا إلى أن نعمل من أجل الإستمتاع فقط بأنّه يدفعنا إلى العمل. ولو كان الأثر المؤجل لطريقتنا في الحياة ينتهي إلى أن يمس حساسيتنا ، برفق ، أو بقسوة ، دون أن يغير ملكاتنا العليا تغييرا عميقا ، فإنّ ذلك يكون أشبه بحال صاحب العمل ، الّذي يشغل ألف عامل ، ثمّ لا يدفع إلّا لأقلهم ذكاء!! كلا .. فإنّ هذا الأمر الدّاخلي الّذي لا يقاوم ، والّذي يريد أن يسخر كلّ شيء فينا ـ لطاعته : جسدا ، وروحا ، وملكات بالإدراك ، والتّسليم ، وقدرة على القيادة ، والتّنفيذ ، والّذي يريد أن ينظم كلّ شيء ، وأن يهدي كلّ شيء بطريقة معينة ، دون أخرى ـ هذا الأمر ـ إذا لم يكن مجرد نزوة ـ فيجب أن يستهدف أكبر خير في وجودنا بأكمله ، وأن يكون شرطا فيه.

__________________

ـ استغفروني». «المعرب».

وانظر ، تفسير القرطبي : ١٠ / ٢٧ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٠٨ ، فيض القدير : ٣٥١ ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٢٩٠ ح ٧٦٧٢ ، مسند أحمد : ٣ / ٢٩ ح ١١٢٥٥ ، مسند أبي يعلى : ٢ / ٥٣٠ ح ١٣٩٩ ، التّرغيب والتّرهيب : ٢ / ٣٠٩ ح ٢٥٠٠ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٣ / ١٩٩ ح ١٩٩.

٣٨٤

وإنّا لنتساءل ، هل خلق الإنسان من أجل القانون ، أو أنّ القانون هو الّذي خلق من أجل الإنسان؟ وقد يجاب عن ذلك تارة بالرأي الأوّل ، وتارة بالرأي الثّاني. وفي رأينا أنّ كلا الرّأيين يعبر عن جانب من الحقيقة ، ونحن نصادف ، هذه القولة ، أو تلك في القرآن ، فالله سبحانه يعلن من ناحية : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١).

ويؤكد من ناحية أخرى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢) و (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) (٣) و (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) (٤) و (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) (٥).

فلنقرب ما بين هذين القولين ، بحقيقتهما النّسبية ، ولسوف نحصل على الحقيقة المطلقة ، فالإنسان وجد من أجل تنفيذ الشّرع (الّذي هو عبادة الله) ولمّا كان الشّرع قد وجد من أجل الإنسان ، إذن فالإنسان قد وجد من أجل نفسه. والشّرع غاية ، ولكنه ليس الغاية الأخيرة ، إنّه ليس سوى حدّ وسط بين الإنسان ، كما هو ، ناشئا يتطلع إلى الحياة الأخلاقية ، ومصارعا من أجل كماله ، وبين الإنسان كما ينبغي أن يكون ، في قبضة الفضيلة الكاملة. أي : أنّه حدّ وسط بين الإنسان العادي ، والقديس ، بين الجندي ، والبطل.

__________________

(١) الذاريات : ٥٦.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) الإسراء : ١٥.

(٤) العنكبوت : ٦.

(٥) فاطر : ١٨.

٣٨٥

والشّرع أشبه بقنطرة بين شاطئين ، نحن نقطة بدايته ، ونقطة نهايته ، أو هو أشبه بسلم درجاته مستقرة على الأرض ، ولكن يعد من يريدون تسلقه أن يرفعهم إلى السّماء. ولقبس من القرآن صورته الدّيناميكية ، فهذا أفضل من تلك الصّور السّاكنة ، والميكانيكية ، فالقرآن في رمزين مشهورين يشبه الحقّ ، والباطل بشجرتين ، فيقول : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) (١) ـ هذا التّشبيه ينطبق على الصّدق ، والكذب العمليين ، كما ينطبق عليهما نظريين ، فالفضيلة المؤثرة خصبة نافعة ، تنمي قيمتنا ، وترفعنا من عال إلى أعلى ، والرّذيلة قبيحة ، وبلا غد ، تجعلنا سطحيين ، مبتذلين ، بل إنّها تنزعنا من الإنسانية.

هل نريد بعض أمثلة ، مما ساقه القرآن ، وأثبت به أنّ ممارسة الخير ، والشّر في مختلف صورهما تحدث أثرها في النّفس الإنسانية؟. ها هي ذي عينة :

محاسن الفضيلة :

١ ـ الصّلاة : وهي بالنسبة إلى أولئك الّذين يؤدونها بروحها ذات وظيفتين أخلاقيتين : فهي لا تقتصر على كونها : (تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ، ولكن (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (٢) ، فهي تجعلنا روحيا على إتصال بالمنبع الشّامل لجميع

__________________

(١) إبراهيم : ٢٤ ـ ٢٦.

(٢) العنكبوت : ٤٥.

٣٨٦

الكمالات.

٢ ـ الصّدقة : ولها أيضا أثر مزدوج الفائدة : فهي (تطهر) النّفس ، حين تصرفها عن حرصها الزّائد على الكسب ، وهي (تزكي) نضارتها ؛ (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (١).

٣ ـ والصّوم ، وللصوم كذلك دور تجنيبي : فهو يحفظنا من الشّر ، ويدفع عنا شرة الجوارح ، ويجعلنا أقدر على أن نحترم القانون ، وهو وسيلة إلى بلوغ (التّقوى) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢).

٤ ـ الممارسة ، والحكمة : إنّ الأداء الدّائم للأفعال الفاضلة يجعل الإنسان حكيما ، شجاعا في خصومته ، كريما في رخائه : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٣).

قبح الرّذيلة :

١ ـ السّكر : يقدم لنا القرآن الخمر ، والميسر بقبح مزدوج ، أعني أنّهما يزرعان البغضاء ، والعداوة بين النّاس ، ويمنعان من ذكر الله ، فقال تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) (٤) ، وهكذا أثبت الإسلام أنّ الخمر «أمّ الخبائث» (٥) و«مفتاح

__________________

(١) التّوبة : ١٠٣.

(٢) البقرة : ١٨٣.

(٣) المعارج : ١٩ ـ ٢٤.

(٤) المائدة : ٩١.

٣٨٧

الشّرور» (٦) ، والواقع أنّه إذا ذهب العقل فأية سيطرة تكون لنا على أنفسنا؟ ..

٢ ـ الكذّب : وإذا كان هناك فضائل ، ورذائل خصبة في الخير ، وفي الشّر الأخلاقي ، بحيث تولد الفضائل الأخرى ، والرّذائل الأخرى بدورها ، فيجب أن نحسب في هذا العدد : الصّدق ، والكذب ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الصّدق يهدي إلى البر ، وإنّ البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرّجل ليصدق حتّى يكون صديقا ، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور ، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار ، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند الله كذابا» (٧) ، والله سبحانه يقول : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) (٨). والقرآن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ؛ فهو لا يكتفي بأن يخبرنا

__________________

(٥) انظر ، جامع السّيوطي : ٢ / ١٣ ، المهذب : ٥ / ٧٨ ، كشف الخفاء : ١ / ٤٥٩ ح ١٢٢٥ ، فيض القدير : ٢ / ١٢٠ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٢ / ٣٦٧ ح ٣٦٣٩ ، المجازات النّبوية : ٤٤٢ ، شعب الإيمان : ٥ / ١٠ ح ٥٥٨٦ ، مسند الشّهاب : ١ / ٦٨ ح ٥٧ ، المعجم الأوسط : ٤ / ٨١ ح ٣٦٦٧ ، الجعفريات : ١٣٤ ، سنن ابن حبان : ١٢ / ١٦٩ ، موارد الظّمآن : ١ / ٣٣٤ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ٢٨٧ ، سنن الدّارقطني : ٤ / ٢٤٧ ح ١ ، المصنّف لعبد الرّزاق : ٩ / ٢٣٦ ، المعجم الأوسط : ٤ / ٨١ ح ٣٦٦٧ ، مسند الشّهاب : ١ / ٦٨ ح ٥٧ ، مستدرك الوسائل : ١٧ / ٥٤.

(٦) انظر ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١١١٩ ح ٣٣٧١ وص : ١٣٣٩ ح ٤٠٣٤ ، مجمع الزّوائد : ١ / ١٠٥ ، مصباح الزّجاجه : ٤ / ٢٧ ، سنن البيهقي الكبرى : ٧ / ٣٠٤ ح ١٤٥٥٤ ، المصنّف لعبد الرّزاق : ٩ / ٢٣٨ ، المعجم الأوسط : ٨ / ٥٨ ح ٧٩٥٦ ، المعجم الكبير : ٢٠ / ٨٢ ح ١٥٦ ، شعب الإيمان : ٥ / ١٠ ح ٥٥٨٨ ، الأدب المفرد : ١ / ٢٠ ح ١٨ ، التّرغيب والتّرهيب : ١ / ٢١٤ ح ٨١٤ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٢ / ٤٠٤ ح ٣٧٩٦ ، كشف الخفاء : ١ / ٤٩ ح ١٠٧.

(٧) انظر ، صحيح البخاري : ٥ / ٣٢٦١ ح ٥٧٤٣ ، الكافي : ٢ / ١٠٥ ح ٩ ، صحيح مسلم : ٤ / ٢٠١٤ ح ٢٦٠٧ ، صحيح ابن حبان : ١ / ٥٠٨ ح ٢٧٣ ، تحف العقول : ١٤ ، المستدرك على الصّحيحين : ١ / ٢١٧ ح ٤٤٠ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٣٨٨ ح ٢٧١٥ ، مسند أحمد : ١ / ٤٣٠ ح ٤٠٩٥ ، وسائل الشّيعة : ١٢ / ١٦٢ ، مسند أبي يعلى : ٩ / ٧١ ح ٥١٣٨ ، صفوة الصّفوة : ١ / ٤١٠ ، بحار الأنوار : ٦٨ / ٧ ح ٨.

(٨) النّحل : ١٠٥.

٣٨٨

أنّ الكذب هو رأس الفساد ، بل يقدمه لنا على أنّه صفة النّفس الكافرة ، من حيث كان متنافرا مع الإيمان «الأخلاقي». يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث عن أبي هريرة : «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن» (١).

فهو ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يمد هذا التّنافر إلى جميع الكبائر ، والمحرمات الرّئيسية ، وعلى الأقل في لحظة ارتكابها ، ففي هذه اللحظة يؤكد الرّسول أنّ الإيمان يخرج من أعماق القلب ، فلا يبقى منه لدى المجرم ، أو الفاسق سوى فكرة غائمة ، كأنّها ظل يحوّم فوق رأسه : «إذا زنى الرّجل خرج منه الإيمان ، وكان على رأسه كالظّلّة ، فإذا نزع عاد إليه الإيمان» (٢). ولكن لا داعي للإكثار من نصوص السّنّة ، فإنّها تمضي بنا بعيدا ، ولنعد إلى نصّ القرآن.

٣ ـ السّلوك ، والقدرات العقلية : ليس يكفي أن يقال : إنّ الخير «يطهر» القلب ، ويقوي الإرادة الطّيبة ، ويدعمها ، وإنّ الشّر «يفسد» النّفس ، ويدنسها ، ذلك أنّ أثرهما يذهب إلى ما هو أبعد ، بما لهما من إنعكاسات ، وأصداء ، حتّى في

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٨٧٥ ح ٢٣٤٣ و : ٥ / ٢١٢٠ ح ٥٢٥٦ و : ٦ / ٢٤٨٧ ح ٦٣٩٠ وص : ٢٤٨٩ ح ٦٤٠٠ وص : ٢٤٩٧ ح ٦٤٢٤ ، الخصال للشيخ الصّدوق : ٦٠٨ ، مجمع الزّوائد : ١ / ١٠٠ ، صحيح ابن حبان : ١ / ٤١٤ ح ١٨٦ ، سنن التّرمذي : ٥ / ١٥ ح ٢٦٢٥ ، تحف العقول : ٢٤١ ، سنن الدّارمي : ٢ / ١٥٦ ح ٢١٠٦ ، سنن أبي داود : ٤ / ٢٢١ ح ٤٦٨٩ ، السّنن الكبرى : ٣ / ٣٢٧ ح ٥١٦٩ ، تهذيب الأحكام : ٦ / ٣٧١ ، المعجم الأوسط : ١ / ١٧٥ ح ٥٣٤ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٤٣ ح ٧٣١٦ ، صحيح مسلم : ١ / ٧٦ ح ٥٧ ، وسائل الشّيعة : ١٧ / ١٦٩.

(٢) انظر ، سنن التّرمذي : ٥ / ١٥ ح ٢٦٢٥ ، ذكره ابن الرّبيع الشّيباني في التّيسير ، كتاب اللواحق ، باب ١ ، كشف الخفاء : ١ / ٩٥ ح ٢٤٣ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ٢٩٣ ح ١١٥٢ ، تحفة الأحوذي : ٧ / ٣١٥ ، فيض القدير : ١ / ٣٦٧.

٣٨٩

الذكاء. إنّ إضطراب الهوى يصدىء مرآة الفكر ، ويشوه إدراكها للحقيقة : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١) ، على حين أنّ التّوازن النّاشىء عن الصّلاح يجعل الإنسان قادرا على تمييز الحقّ ، والباطل ، والخير ، والشّر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٢).

٤ ـ النّفس بأكملها : وهكذا تتلقى كلّ قوة من قوانا نصيبها من الجزاء الأخلاقي ، فنفسنا بأكملها إذن هي الّتي نعمل على أن ننقذها ، ونكملها ، أو نضللها ، ونجردها : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (٣).

ولكي نقول ذلك كلّه في كلمة واحدة : إنّ الجزاء الأخلاقي الثّوابي يتمثل في الحسنة ، والسّيئة ، أي في كسب القيمة ، أو خسارتها : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ـ كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (٤).

٢ ـ الجزاء القانوني :

حين ننتقل من النّاحية الأخلاقية إلى النّاحية القانونية ، يكون الجزاء الثّوابي قد فقد نصف معناه ، فهو لا يحتفظ من طابعه المزدوج ، الثّوابي والعقابي ، سوى بالطابع الثّاني. والجزاء [Sanction] هنا يعني أساسا (العقوبة) بالمعنى الواسع

__________________

(١) المطففين : ١٤.

(٢) الأنفال : ٢٩.

(٣) الشّمس : ٧ ـ ١٠.

(٤) المطففين : ٧ و ١٨.

٣٩٠

للكلمة ، الّذي يضم الإجراءات التّأديبية ، والإجراءات العقابية بالمعنى الصّحيح ـ على السّواء.

والمجتمع الاسلامي ، كسائر الأمم المتحضرة ، لم يحرص على أن يمنح جوائز مادية لأولئك الّذين يؤدون واجباتهم أداء كاملا ، فهؤلاء سوف يقنعون أوّلا بنوع من الجزاء السّلبي ، الّذي يتمثل في إستظلالهم بحماية القانون ، ليأمنوا على حياتهم ، وأبدانهم ، وأموالهم ، وأعراضهم ، من أي مساس بها. ثمّ هم بعد ذلك يقنعون بجزاء شامل من الرّأي العام ، الّذي سوف يعاملهم بما يستحقون من الرّعاية ، والتّقدير ، والإطراء ، وأخيرا فهم سوف يتمتعون بتلك المقدرة الممتازة ، الّتي تجلب وحدها الحياة الصّحيحة ، الشّريفة ، اللائقة بالإنسان ، وتتيح له أن يؤدي دورا ناشطا في توجيه الشّئون العامة ، وفي توزيع العدل الإجتماعي ، ذلك أنّ التّشريع الإسلامي ، يرى أنّ فساد الخلق ليس هو السّبب الوحيد الّذي تردّ به شهادة الرّجل في المنازعات ، بل إنّ مسلكا طائشا ، أو زيا يخرج عن الإحتشام ، أو أنهما كهما في الملذات ، حتّى ما كان منها مباحا ـ كلّ ذلك من شأنه أن يرد شهادة الرّجل ، ويجعله غير أهل لوظيفة القاضي ، وبالأخرى غير أهل لوظيفة رئيس الدّولة.

ولو أننا تناولنا بالدراسة النّظام العقابي في التّشريع الإسلامي فلا مناص من أن نميز فيه مرتبتين مختلفتين : فهناك الجزءات الّتي حددها الشّرع بدقة وصرامة ، وهي الّتي تسمى «بالحدود» ، وهناك جزاءات أخرى ، تسمى «التّعزيرات» ، وهي متروكة لتقدير القاضي.

٣٩١

فالمرتبة الأولى ، تتكفل بمجازاة عدد قليل من الجرائم (١) ، هي (الحرابة) والسّرقة ، وشرب الخمر ، والزّنا ، والقذف ، أمّا الجرائم الأخرى فتتبع المرتبة الثّانية.

وليس أهم ما يميز الطّائفة الأولى ـ أنّ العقوبة فيها محددة تحديدا دقيقا ، كيفا ، وكما. ولكنها فضلا عن ذلك ـ ذات صبغة مطلقة ، وهي بهذا المعنى لا يتوقف تطبيقها ، لا على حالة المذنب ، (ذي سوابق ، أو لا ، قابلا للإصلاح ، أو غير قابل ، يخيف النّاس ، أو لا يخيفهم) ، ولا على مشاعر الضّحايا.

صحيح أنّ لهؤلاء الحقّ في ألا يلاحقوا المجرم أمام القضاء ، سواء بأن يعفوا عن عمله العدواني عفوا تاما ، أو بأن يصطلحوا متراضين معه ، وحينئذ لا يكون للجزاء الشّرعي مجال. ولكن متى صارت الجريمة عامة ، أعني متى أتصلت بعلم السّلطة المختصة ـ فإنّ أصحاب الحقّ يكونون بذلك قد تنازلوا عن حقهم ،

__________________

(١) ألا ينتمي القتل العمد إلى نفس المجموعة؟ يقول أكثر الفقهاء : لا ، وحجتهم في ذلك أنّ حقّ أولياء القتيل يغلب هنا على الحقّ الجماعي ، وحتّى لو كانت القضية قد قدمت للقضاء فإنّ عفو هؤلاء الأولياء عن القاتل يكفي لسحب القضية من يدي السّلطة العامة الّتي لن يكون لها حينئذ أن تدعي شيئا ضد المعتدي. أمّا المالكية فتذهب إلى عكس ذلك ، مستندة إلى بعض الأحاديث ، الّتي كانت موضع جدل ، وهي تقرر أنّ عفو أسرة الميت يكفي لتخفيف العقوبة ، لا لالغائها ، والمجرم في هذه الحالة سوف يعفى من عقوبة الموت ، ولكن لا ينبغي أن يمضي مطلقا بلا عقاب ، ويرون من الخير أن يجلد مئة جلدة ، ويقضي عاما في السّجن ، أو التّغريب ، وذلك لتقليل فرصة عودته إلى الجريمة ، وفي الوقت ذاته لتقليل الأثر المصاحب المعدي لهذا المثل السّيىء.

ولنذكر مع ذلك أنّ هذا الخلاف لا موضع له إلّا في حالة القتل العادي ، الّذي يحدث في مشاجرة ، مثلا ، أمّا حالات القتل البشعة ، أو المتعمدة ، مثل : الإغتيال ، أو القتل غدرا ، والإيقاع في كمين .. إلخ. فإنّ كلّ المذاهب مجمعة على أنّ عفو الأفراد قاصر مطلقا في هذا الصّدد ، وأنّ من الواجب تطبيق عقوبة الأعدام على القاتل.

٣٩٢

وبذلك يصبح الجزاء في هذه الحالة ، ألبتة ، من شأن الصّالح العام ، ويجب أن يطبق بلا هوادة ، أو رأفة.

إنّ الصّرامة في هذا الصّدد لا تجعل مجالا أمام أي تنازل ، أو حلّ وسط ، ولا شك أننا نعرف قصة السّرقة الّتي ارتكبتها امرأة تنتمي إلى طبقة الأشراف العربية ، والّتي أعلن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمناسبتها ، وفي كلمات بلغت غاية القوة ، مبدأ مساواة الجميع أمام القانون ، فحين تشفع لديه في هذا الموضوع واحد من خيرة أصحابه ، قام وخطب في النّاس هذه الخطبة القصيرة :

«أيّها النّاس ، إنّما ضل من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ ، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطع محمّد يدها» (١).

وهذه حالة أخرى تزيدنا علما ، ذلك أنّ صفوان بن أمية ، حين أجاب دعوة النّبي الّتي أمر بها المسلمين المضطهدين خارج المدينة أن يجيئوا ليستقروا في هذه العاصمة الإسلامية ، وقيل له : إنّه إن لم يهاجر هلك ، غادر مكّة ، مسقط

__________________

(١) حاشا لفاطمة عليها‌السلام أن تسرق ؛ لأنّها مشمولة بآية التّطهير (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ،) الأحزاب : ٣٣ ، ثم لو صح الحديث عندكم فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لو» وهو حرف امتناع لوجود ، وأراد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن يبين لهم ألّا تساهل في الأحكام الشّرعية ، وخاصة الحدود.

وهذا الحديث مشهور عند أهل السّنة كما جاء في تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٨ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٣١٥ ح ١٦٨٨ ، صحيح البخاري : ٣ / ١٢٨٢ ح ٣٢٨٨ و : ٣ / ١٣٦٦ ، وورد في لفظ : (إنّ بني إسرائيل كان إذا سرق منهم الشّريف تركوه ، وإذا سرق منهم الضّعيف قطعوه ، لو كانت فاطمة ...) ، كما جاء في صحيح ابن حبّان : ١٠ / ٢٤٨ ح ٤٤٠٢ ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٤١٢ ح ٨١٤٥ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٣٧ ح ١٤٣٠ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٢٢٧ ح ٢٣٠٢ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ٢٥٩ ، السّنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ٢٥٣ ، سنن أبي داود : ٤ / ١٣٢ ح ٤٣٧٣.

٣٩٣

رأسه ، وجاء ليستقر بجوار قائده الرّوحي ، وما كاد يصل حتّى رغب في أن يستريح في المسجد هنيهة ، فنام في المسجد ، وتوسد رداءه ، فجاء سارق فأخذ رداءه ، فأخذ صفوان السّارق فجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تقطع يده. فقال له صفوان : إنّي لم أرد هذا يا رسول الله ، هو عليه صدقة؟. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فهلا قبل أن تأتيني به» (١).

وهكذا نجد أنّ العفو عن هذا النّوع من الأخطاء غير صحيح إلّا إذا كان في المجال الخاص ، فمتى علمت السّلطة العامة بالجريمة يصبح تطبيق الجزاء (الحدّ) أمرا جازما لا رجعة فيه. وقد ورد بذلك نصّ آخر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو قوله : «تعافوا الحدود بينكم ، فما بلغني من حدّ فقد وجب» (٢).

فالسرقة ـ إذن ـ تحتم في الشّريعة الإسلامية ، قطع يد السّارق ، بنصّ القرآن : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٣).

والحرابة عقوبتها ، إمّا الموت ، وأمّا تقطيع الأيدي ، والأرجل ، وإمّا النّفي :

__________________

(١) انظر ، الموطأ للإمام مالك : ٢ / ٨٣٤ ح ١٥٢٤ ، الخلاف : ٥ / ٤٢٧ ، المعجم الأوسط : ٧ / ٥٨ ح ٦٩٤١ ، السّنن الكبرى : ٤ / ٣٣٠ ح ٧٣٧٠ ، مسند الشّافعي : ١ / ٣٣٥ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٢٢٦ ح ٢٣٢٩ ، سنن الدّار قطني : ٣ / ٢٠٥ ح ٣٦٦ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ٢٦٧ ، المبسوط للطوسي : ٨ / ١٩ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ٢٧٦ ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٤٢٢ ح ٨١٤٨ ، الأحاديث المختارة : ٨ / ١٩ ح ٨ ، المهذب البارع : ٥ / ٨٧.

(٢) انظر سنن أبي داود : ٤ / ١٣٣ ح ٤٣٧٦ ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٤٢٤ ح ٨١٥٦ ، السّنن الكبرى : ٤ / ٣٣٠ ح ٧٣٧٢ ، المصنّف لعبد الرّزاق : ٧ / ٤٤٠ ح ١٣٨٠٦ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٢ / ٤٨ ح ٢٢٧٦ ، فتح الباري : ١٢ / ٨٧ ح ٦٤٠٦ ، ميزان الإعتدال : ١ / ٢٤٠٣ ، سبل السّلام : ٤ / ١٥ ، بداية المجتهد : ٢ / ٣٣٩.

(٣) المائدة : ٣٨.

٣٩٤

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) (١).

والعقوبة المنصوص عليها في القرآن للزّاني ، هي مئة جلدة : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (٢) ، ولكن يجب أن نضيف إلى هذه العقوبة ، تبعا للأحاديث : «تغريب عام» (٣).

وعلى أية حال ، فإنّ عقوبة الموت يجب أن تستبعد من هذا المجال ، إذا ما إلتزمنا حرفية النّص القرآني ، الّذي ذكرناه آنفا ، والّذي لا يفرق بين المحصن وغير المحصن ، أي بين البكر ، والمتزوج ، ولكن المأثور عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته قد أثبت هذا الفرق ، وبمقتضاه يستحق الأشخاص المحصنون ، الذين تثبت عليهم جريمة الزّنا ـ عقوبة الموت كأشنع ما يكون.

ولنذكر أنّ تعبير القرآن ـ مع ذلك ـ يبدو أنّه يفتح الباب لهذا الإجراء ، على أنّه غاية التّطور التّشريعي في هذا الموضوع ، والواقع أنّ الجزاء المنصوص في القرآن ، بالنسبة إلى النّسوة الزّانيات ، كان في البداية الحبس : (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (٤). وبدلا من أن يفرض هذه السّبيل جاء النّص النّبوي اللاحق ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله مبينا لها : «خذوا عني ، فقد جعل الله لهنّ سبيلا ،

__________________

(١) المائدة : ٣٣.

(٢) النّور : ٢.

(٣) انظر ، تفسير القرطبي : ١٢ / ١٥٩ ، تفسير الجلالين : ١ / ٤٥٧ ، سبل السّلام : ٤ / ٤ ، المحلى : ١١ / ١٨٦ ، صحيح مسلم : ١١ / ١٩٠ ح ١٢ و ١٤ ، فتح الباري : ٨ / ٤٣٧ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١١٤ وص : ٨٥٣ ، عون المعبود : ٣ / ٤٨٦ ، مشكاة المصابيح : ٢ / ٣٢٨ ح ٣٥٥٨.

(٤) النّساء : ١٥.

٣٩٥

الثّيب بالثيب ، والبكر بالبكر ، الثّيب جلد مئة ، ثمّ رجم بالحجارة ، والبكر جلد مئة ، ثمّ نفي سنة» (١).

وأخيرا نجد أنّ القاذف يستحق تقريبا نفس العقوبة ، ما دام قد افترى على الآخرين كذبا ، واستحل لحمهم ، فله ثمانون جلدة ، بدلا من مئة : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) (٢).

أمّا فيما يتعلق بعقوبة تعاطي الخمر ، فليس في القرآن ، أو في كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصّ يذكرها ، بيد أنّه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جرت العادة أن يجتمع نفر من المؤمنين حول ذلك الّذي عاقر الخمر ، فيسومونه ضرب العصا ، والنّعال ... إلخ.

وبعد وفاة الرّسول جمع الخليفة الأوّل كبّار الصّحابة ، واستشارهم في الأمر ، ليتذكروا العدد التّقريبي ، الّذي كان يضربه السّكارى ، فقدروه بأربعين (ضربة بزوج من النّعال) ، وفي عهد عمر رضى الله عنه استشارهم مرة أخرى ، وانته الأمر إلى ثمانين جلدة ، (مستبدلا بكلّ ضربة نعل ضربة سوط) ، وقد كان بين أعضاء المشورة علي رضى الله عنه ، فعللها على النّحو التّالي : «إنّه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هدى افترى ، فأرى عليه حدّ المفترين» (٣).

__________________

(١) انظر ، صحيح مسلم : ٣ / ١٣١٦ ح ١٦٩٠ ، تفسير الطّبري : ٤ / ٢٩٣ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٦٣ ، سنن ابن حبان : ١٠ / ٢٧١ ح ٤٤٥٢ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٤١ ح ١٤٣٤ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ٢٦٤ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ٢١٠ ، سنن أبي داود : ٤ / ١٤٤ ح ٤٤١٥ ، المصنّف لعبد الرّزاق : ٧ / ٣١٠ ح ١٣٣٠٨ ، المعجم الأوسط : ٢ / ٣٢ ح ١١٤٠ ، مسند أحمد : ٥ / ٣١٧ ح ٢٢٧٥٥.

(٢) النّور : ٤.

(٣) انظر ، موطأ الإمام مالك : ٢ / ٨٤٢ ح ١٥٣٣ ، ولم ترد جملة (فأرى عليه حدّ المفترين) في الموطأ. ـ

٣٩٦

أمّا عبد الرّحمن بن عوف ، فقد كان يرى في هذا العدد أقل حلّ يمكن أن يتصور ، من حيث كان أدنى عقوبة عرفها القرآن ، وفي الحديث : «أخف الحدود ثمانون» (١).

وبهذا الطّريق المزدوج ، العقلي ، والنّقلي ، بلغ صحابة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفس النّتيجة ، فأخذ قرارهم المشترك كقاعدة ـ قوة القانون.

ونحن نعترف الآن ، بأنّه ـ فيما عدا الإجراءات الإستثنائية الّتي أتبعت ضد (الحرابة) ـ نجد أنّ الضّمير المعاصر قد أجفل فعلا من هذه الإجراءات البالغة القسوة ، والّتي يقصد الإسلام بها أن يعالج بعض الإضطراب في السّلوك الإنساني ، وبعض جرائم القانون العام.

وفي هذا العصر الّذي بلغت فيه رقة مشاعرنا درجة ، نكره معها ـ أكثر فأكثر ـ أن نعرض المجرمين الشّواذ للألم البدني ـ كيف نستطيع أن نتقبل هذه الآلام الرّهيبة الّتي يراد أن يتعرض لها ضعاف الإرادة ، عند ما يزلون في حياتهم الخاصة أو العامة؟ .. كيف نتقبل ذلك دون أن نرتعد؟. وهكذا ضربت مجتمعات إسلامية

__________________

ـ «المعرب». انظر ، الإحكام للآمدي : ٣ / ٣١٧ و : ٤ / ٤٥ و : ٧ / ٤٥٥ ، تفسير القرطبي : ٦ / ٢٩٧ ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٤١٧ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ٣٢٠ ، سنن الدّارقطني : ٣ / ١٦٦ ، مسند الشّافعي : ١ / ٢٨٦ ، السّنن الكبرى : ٣ / ٢٥٢ ح ٥٢٨٨ ، فتح الباري : ١٢ / ٦٩ ، الثّقات : ٢ / ١٩٩ ، ميزان الإعتدال : ٤ / ٣٥٨ ح ٥٠٨٧ ، سبل السّلام : ٣ / ١٨١ ، المحلى : ١٠ / ٢١١ ، كتاب الأمّ : ٦ / ١٨٠.

(١) انظر ، صحيح مسلم : ٣ / ١٣٣٠ ح ١٧٠٦ ، الخلاف : ٥ / ٤٩٨ ، صحيح ابن حبان : ١٠ / ٣٠٠ ح ٤٤٥٠ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٢٣٠ ح ٢٣١١ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ٣١٩ ، بحار الأنوار : ٣٠ / ٦٩٩ ، السّنن الكبرى : ٣ / ٢٤٩ ح ٥٢٧٥ ، مسند أحمد : ٣ / ١٧٦ ح ١٢٨٢٨ ، مسند الرّوياني : ٢ / ٣٧٨ ح ١٣٥١ ، فتح الباري : ١٢ / ٦٤ ، تحفة الأحوذي : ٥ / ٢٧.

٣٩٧

كثيرة ـ صفحا عن تطبيق هذه الأشكال من العقوبات ، منذ زمن طويل ، بفعل صلاتها بالعالم الأوربي.

لكنها مسألة أن نعرف ، ما إذا كان لهذه الإنفعالات السّريعة أسس متينة في العقل ، أو في المصلحة الواقعية للأفراد ، أو الجماعة؟

ومع ذلك ما ذا يعني تحرّجنا أمام عقوبة؟. ألّا يعني هذا ـ في حالة النّزاع بين الشّرع المنتهك ، وحقّ الفرد الّذي خالفه ـ أننا نخص حقّ هذا الفرد بأهمية كبرى ، وفي الوقت نفسه نعطي للشرع قيمة أقل من قيمة الفرد؟ ولما ذا لا نتحرج ، حين نكون محتلين بعدو ، خارجي ، أو داخلي ، من أن نوجه إليه أقسى الضّربات ، وأن نعد له ردعا رهيبا ، بما في ذلك حرمانه من الحياة؟.

ذلك لأنّ غريزة المحافظة على النّفس ، الّتي تحتل من أنفسنا مكانة متميزة ـ تكبت حينئذ مشاعرنا العادية ، المنطوية على المودة ، والأخوة الإنسانية ، تكبتها وتدفعها إلى وراء. ثمّ إنّ رد فعلنا تجاه جزاء معين يقيس ـ بالضبط ـ الفعل الّذي تمارسه علينا فكرة الواجب ذي الجزاء ، وهكذا فإنّ الضّمير العام الّذي لا يتحرج قط من أن يضرب إنحراف أعضائه بقسوة ، لا يدل من ذلك الجانب على عدم إحساس بالألم الإنساني ، بقدر ما يدل على إجلال عميق ، وإحترام ديني (بحرفية هذه الكلمة) للقانون المنهار. ذلك هو المقياس الّذي يجب أن نقيس به المسافة الّتي تفصل المفهوم الأخلاقي المعاصر ، عن مفهوم المجتمع الإسلامي الأوّل.

فإلى أي مدى كان هذا المجتمع يشعر بعمق صفة القداسة في الإخلاص الزّوجي!! وبأي إستهجان كان يقوم في وجه خيانة الزّوجين ، أحدهما بالنسبة

٣٩٨

للآخر؟! وبأي إحتقار كان ينظر إلى مهانة اللّص ، وخبال المخمور ، ودناءة الّنمام؟!.

الحقّ أنّ تلكم الأمّة لم تكن ينقصها العطف ، والرّحمة الإنسانية ، ولكنها كان يجب أن تسكت هذه الرّقة المصطنعة ، وتتجاوزها بروح النّظام ، والطّاعة ، وصدق الله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) (١).

أمّا فيما يتعلق بإحترام شخص الإنسان ، وحقّ الفرد في الأمن ، فمن البدهي أنّهما ما كانا لينشدهما إلّا أولئك الّذين يعرفون كيف يحافظون على كرامة الإنسان. وليس يقتصر أثر الزّلل على أنّه يفقد الفرد قيمته فحسب ، بل إنّه يجعله عرضة للتجريح ، وهو لا يلوم إلّا نفسه إذا أصابه هذا التّجريح ، لأنّه هو نفسه الّذي مزق أستاره الواقية.

واستمعوا إلى هذا التّأمل العميق لشاعر عربي (٢) :

يد بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

عز الأمانة أغلاها ، وأرخصها

ذلّ الخيانة ، فافهم حكمة الباري

على أننا ينبغي أن نذكر أنّ هذه القسوة ضد اللّصوص ليست سوى قسوة ظاهرة ، وفي نطاق النّظرية ، أمّا من النّاحية العملية ، فكلما كانت العقوبة أشد تنكيلا قل غالبا تطبيقها ، فعظم الجزاء يجعل مخالفته أدنى إغراء ، وأقل إغواء ،

__________________

(١) النّور : ٢.

(٢) ينسب البيت الأوّل إلى أبي العلاء المعري بعد ما شكك في الشّريعة ، فاجابه بالبيت الثّاني الشّريف الرّضي ، وقيل : القاضي عبد الوهاب المالكي. انظر ، الإقناع : ١٢ / ١٩٠ ، مغني المحتاج : ٤ / ١٥٨ ، إعانة الطّالبين : ٤ / ١٧٨ ، فيض القدير : ١ / ٢٩٩.

٣٩٩

فلا يجد النّظام أمامه عقبات كبيرة يتعين عليه إجتيازها كيما يسيطر سيطرة كاملة.

وما علينا لكي نقتنع بهذا إلّا أن نرجع إلى السّجلات القضائية في البلاد الّتي تعاقب على السّرقة بالغرامة ، والتّعويض ، أو الحبس ، وفي بلد آخر كالعربية السّعودية ، حيث ما زال الجزاء القرآني معمولا به ، هنالك سوف نجد أعدادا لا حصر لها من الرّجال الّذين لا يرجى صلاحهم ، وهنا يكاد النّاس يكونون معصومين. ولربما قيل : إنّه فرق في الطّبيعة ، ولقد زرت بنفسي الحجاز ؛ في أوائل عام (١٩٣٦ م) ؛ فأذهلني أنّي حيثما وجّهت وجدت تباينا كاملا بين بلادنا وهذا البلد ، فإنّ السّرقة لم تختف من المدن فحسب ، بل أنّها لم تلحظ حتّى في الجبل ، والصّحراء ، بل لم يشك في حدوثها ، أو يظن. حتّى إنّ حقيبة ضائعة ملقاة على الطّريق غير المأهولة ، والّتي لا يمكن أن تصبح مأهولة ، يحتمل أن تبقى في مكانها إلى ما لا نهاية ، دون أن بجرؤ أمرؤ على لمسها ، ولو بدافع الفضول. ومع ذلك فكلّ شيء هنالك كان يغري بها : الفقر المدقع بين سكان الجبال ، وثراء السّياح ، والحجاج ، وندرة وسائل المواصلات ، وعدم وجود الشّرطة ، تقريبا ، على مسافة بعيدة. ولكن كان حسب ابن سعود ، في مستهل أرتقائه السّلطة ، بضعة أمثلة واعظة ، وإن كانت عنيفة ، حتّى يقضي مرة واحدة ، وفي كلّ مكان على كلّ محاولة للسرقة ، والإختلاس في مملكته الواسعة ، وكأنّما كانت معجزة.

ويبقى بعد ذلك أنّه على الرّغم من فداحة الجرم الّذي اقترفه الزّاني ، فإنّ الطّريقة الّتي قصدت السّنة أن تعاقبه بها لا تفتأ ترعونا ، وهي رجم كائن إنساني

٤٠٠