دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

الرّاهنة لشعوره ، وهي ضرورة تجعل من العصيان أمرا مقيتا ، ومستهجنا.

ولسوف نرى (١) في أي صورة ساق القرآن هذه الضّرورة الّتي يسميها : أمرا [Imperatif] ، وكتابة [Prescription] ، وفريضة [Devoir].

فإذا ما عرفنا مبدأ الإلزام ، وطرحناه على هذا الوجه ـ وجب علينا الآن أن نتغلغل أكثر ، في معرفة طبيعته ، دارسين مصادره ، وخصائصه ، ومناقضاته.

١ ـ مصادر الإلزام الأخلاقي :

استطاع الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون ، في تحليله العميق لقضية الإلزام الأخلاقي أن يكشف له عن مصدرين : أحدهما : قوة الضّغط الإجتماعي ، والآخر : قوة الجذب ذي الرّحابة الإنسانية المستمدة من العون الإلهي ، وهي قوة أوسع مدى من سابقتها.

وقد فسر ذلك قائلا : إننا نؤدي الدّور الّذي عينه لنا المجتمع ، ونتبع الطّريق الّتي رسمها لنا ، ثمّ نسلم قيادنا لهذه الطّريق ، نترسمها كلّ يوم ، بنوع من العادة لا يكاد يخالطه تفكير ، أشبه شيء بغريزة النّحلة ، أو النّملة. وذلكم هو ما يسمى عادة : بالوفاء بالواجب.

ولو أننا قاومنا ذلك لحظة ، أو حاولنا أن نعدل من سيره فإننا لا نلبث أن نرتد إليه ، شئنا أو أبينا ، بفضل تلك القوة القاهرة للحياة الجماعية.

هذا الدّور يختلف إختلافا كاملا في وجهه الآخر ، فعلى حين أنّ أخلاق الكافة أثر ناشىء عن نوع من القهر الجماعي ، نجد أنّ أخلاق الممتازين منهم

__________________

(١) انظر ، فيما بعد ، في نفس الفصل ـ الفقرة الثّانية.

١٠١

هي طموح إلى المثل الأعلى ، فهي نقلة على جناح الحبّ المبدع ، الّذي ينزع لا إلى توجيه سلوك الفرد وجهة أفضل فحسب ، بل إلى جذب المجتمع معه ، وقيادته ، بدلا من أن يكون مقودا له (١).

فإذا نظرنا إلى عرض برجسون هذا ـ على أنّه وصف وتحليل لواقع معين نجده في التّجربة ـ أمكن القول بأنّه لم يغفل كثيرا من الأساس.

وأمّا إذا تناولناه ـ على أنّه نظرية في الإلزام الأخلاقي ـ فإنّ تحليله يحمل بعض الصّعوبات ، وشيئا من الإنحراف عن الجادة ، بالنسبة إلى وجهة النّظر القرآنية.

فمن حيث كونه وصفا يمكن أن نتساءل ـ ما دام الأمر أمر تعيين لكلّ القوى المؤثرة على الإرادة ـ : لما ذا لم يشر برجسون إلى عامل ثالث ، أكثر قدما ، وأعمق جذورا في الفطرة الإنسانية ، أعني : العنصر الفردي [L\'individuel] ، أو الحيوي [Le vital]؟؟

ذلك أنّ ما يهم كلّ مواطن ليس فقط أن يخضع لقيود ، المجتمع ، ويسلك في داخل الكيان الإجتماعي مسلك خلية في مركب عضوي ، ولكنه كذلك أن يبحث بخاصة عن المحافظة على ذاته ، مستقلا عن المجموعة الّتي ينتمي إليها ، إن لم يكن على حسابها.

وأخطر من ذلك أنّ مصطلحي إلزام [Obligation] وأخلاق [morale] الواردين في هذا التّحليل ـ يبدو أنّ لنا متنافيين ، يناقض أحدهما الآخر ، فمتى أصبح

__________________

(١) انظر ، : ١ ـ ١ Bergson. Les deux sources de la morale et de la religion ـ ch ـ. ١ (مصدرا الأخلاق والدّين ـ الفصل الأوّل).

١٠٢

الإلزام قهرا شبه غرزي فإنّه يفقد بذلك صفته الإخلاقية ، وعكس ذلك : أنّ تلقائية الحبّ هي نقيض الإلزام.

والحقّ أنّ الإخلاقية الصّحيحة لا تجد هنا مجالها ، في إحدى الحالتين ، أو في الأخرى ، فالإنسان قد صور لنا على أنّه لعبة في يد قوة ، أيّة كانت ، فهو تارة مدفوع بالغريزة ، وأخرى محمول بالعاطفة ، ولكنه لم يكن مطلقا شخصية مستقلة ، قادرة على المقارنة ، والتّقويم ، والإختيار.

وإذن ، فلكي تكون لدينا أخلاقية لا يكفي أن يتمثل لنا المثل الأعلى على أنّه هدف لطموح متوثب محلق ، ولا على أنّه أمر البيئة ، وكأنّه ضريبة استبدادية ، بل يجب أن يمر كلاهما في الضّمير ، ويتعرض لعملية إنضاج حقيقية ، يخرج منها بمظهر جديد ، قائم على مبادىء قانونية ، يقويها ، ويفرضها العقل. فما دامت جاذبية المثل الأعلى ليست لها صبغة الأمر الصّادر عن العقل ، وحتّى لو لم تكن نوعا من ملاحقة السّراب ، أو حلما واهما ؛ فإنّها تظل محكومة بنوع من الإحساس بالجمال ؛ ولكن هذا الإحساس بالجمال ، مهما بلغ من النّبل ، فلن يكون مبدأ أخلاقيا.

وكذلك الحال في كلّ خضوع لا مسوغ له ، إلّا أن يكون صادرا عن نوع من الأرهاب الجماعي.

ومن هنا نرى القرآن يقف دائما أمام هذين العدوين للأخلاقية : اتباع الهوى دون تفكير : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ) (١). (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) (٢) ،

__________________

(١) ص : ٢٦.

(٢) النّساء ١٣٥.

١٠٣

والإنقياد الأعمى : قالوا (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (١). فهل يقدم الذين يريدون السّير على سنة أسلافهم على الإنقياد لهم دون تمييز ، حتّى ولو (كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (٢)؟.

ففي الفرد إذن ـ من حيث كونه فاعلا ـ عنصر عقلي ، أعني : عنصرا أخلاقيا ، بالمعنى الحقّ ، وفي الأمر الخلقي عنصر آخر هو : العقل ، والحرية ، والمشروعية ؛ وتلكم هي العوامل الأساسية ، الّتي أدى إغفالها إلى نقص كبير في تحليل برجسون.

ولقد يستطيع من شاء أن يقلل من شأن «الملكة الفكرية» ، وما لها من دور في تصور الأمور ، والحكم عليها ، بإعتبارها الأخيرة من حيث تأريخ ظهورها ، ويستطيع أن يصر على أنّ تأثيرها ضئيل في مقاومة الشّهوات ، ولكن يبقى شيء لا شك فيه ، هو أنّ جوهر الأخلاقية ذاته يكن في نشاط ذاتنا المفكرة.

ولقد أحسن (كانت) صنعا ـ برغم بعض النّقص في طريقة تقديمه لنظريته ـ حين أكد أنّه كشف عن مصدر الإلزام الأخلاقي ، في تلك الملكة العليا في النّفس الإنسانية ، والّتي توجد مستقلة عن الشّهوة ، وعن العالم الخارجي معا ـ ، إذ يقول :

«أيّها الواجب ، أيّها الاسم الأسمى العظيم ... أي مصدر جدير بك؟ ..

وأين نجد جذر ساقك النّبيلة؟ .. لعله لا يكون ـ على الأقل ـ سوى ذلك الّذي يرفع الإنسان فوق ذاته ... والّذي يشده إلى نظام للأشياء ، لا يمكن لقوة أن

__________________

(١) الزّخرف : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) البقرة : ١٧٠.

١٠٤

تتصوره سوى قوة الإدراك» (١). فالإنسان بانتمائه في وقت وأحد إلى عالم الإدراك ، وعالم الحسّ ، ذو طبيعتين ، تسيطر أشرفهما ، وهي (العقل) على دنياهما ، وهي (حبّ الذات غير المشروع) وهذا الصّوت العقلي واضح تمام الوضوح ، «شديد التّأثير ، قابل لأنّ يدركه حتّى السّذج من النّاس ... والحدود الّتي تفصل الأخلاقية عن حبّ الذات مميزة بكثير من الوضوح ، والضّبط ، حتّى إن النّظرة العادية لا تعجز عن تمييز ما يتصف به أحدهما ، دون الآخر» (٢).

فإذا ما رددنا نظرية (كانت) إلى أبسط تعبير عنها ، وخلصناها من جميع مظاهر الدّقة الشّكلية ، ونزعة التّسامي ، ونقيناها أيضا من نزعة التّشاؤم ، الّتي اتسمت بها ؛ ومن بعض ما شابها من البرود العاطفي ـ فهي بعد هذا لا تعد من المسلمات فحسب ، بل إنّها لتتفق تماما ـ فيما نرى ـ مع النّظرية المستخلصة من القرآن.

لقد علمنا هذا الكتاب أنّ النّفس الإنسانية قد تلقت في تكوينها الأولي الإحساس بالخير ، وبالشر : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٣).

وكما وهب الإنسان ملكة اللّغة ، والحواس الظّاهرة ، فإنّه زود أيضا ببصيرة أخلاقية : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (٤).

ولقد هدي الإنسان طريقي الفضيلة ، والرّذيلة : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٥) ، حقا (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (٦). ولكن

__________________

(١) انظر : ١ ـ Kant.Critique de la Raison Pratique ,p.١٩

(٢) انظر ، المرجع السّابع : ٣٥ ـ ٣٦.

(٣) الشّمس : ٧ ـ ٨.

(٤) القيامة : ١٤.

(٥) البلد : ٨ ـ ١٠.

(٦) يوسف : ٥٣.

١٠٥

الإنسان قادر على أن يحكم أهواءه : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (١).

وإذا لم يكن كلّ النّاس يمارسون هذا التّأثير على أنفسهم فإنّ منهم من يفعله بتوفيق الله له ، وهو ما قرره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : «إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه ، يأمره وينهاه» (٢).

ففي الإنسان إذن قوة باطنة ، لا تقتصر على نصحه وهدايته وحسب ، بل إنّها توجه إليه بالمعنى الصّريح أوامر بأن يفعل ، أو لا يفعل.

فما ذا تكون تلك السّلطة الخاصة ، الّتي تدّعي السّيطرة على قدراتنا الدّنيا ، إن لم تكن ذلك الجانب الوضيء من النّفس ، والّذي هو العقل؟ ..

ذلكم أيضا هو ما عبر عنه القرآن بألفاظه الخاصة ، حين صور حال الكافرين بين أمرين ، فقال تعالى : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٣)؟.

فها هو ذا مبدأ الطّرف الثّالث المستبعد من الأخلاق قد استبان ووضح ، إذ ليس وراء أمر العقل ، وقيادته قاعدة أخرى ـ سائغة ـ للسلوك ، فهو وحده إذن السّلطة الشّرعية.

في هذه الظّروف نستطيع أن نقول مع (كانت) : إننا مشرعون ورعايا في آن ، وإنّ التّجربة الأخلاقية للندم لتؤكد هذا الأزدواج ، فنحن عند ما نقصر في واجبنا

__________________

(١) النّازعات : ٤٠.

(٢) الدّيلمي ـ مسند الفردوس ، صحيح من طريق أم سلمة ، يذكره السّيوطي في الجامع الصّغير : ١ / ١٧.

(٣) الطّور : ٣٢.

١٠٦

نحسّ أننا قد هبطنا إلى مستوى غير خليق بنا ، ونعترف ضمنا بأننا مخلوق نبيل قد زلّ ؛ ولا يزال القرآن يوقظ فينا هذا الشّعور بكرامتنا الأصلية ، ويؤصله ، فهو لا يقرر فقط أنّ الله كرم الإنسان ، وبسط سلطانه على الأرض ، وعلى البحار : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (١) ، ولم يقتصر فضل الله سبحانه على أنّ أمر الملائكة أن تسجد أمام أبينا : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) (٢) ، وهي درجة رفيعة ، كثيرا ما يذكرنا القرآن بها في مثل قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) (٣). ليس هذا فحسب ، ولكنا ، إذا ما نحينا جانبا تلك الإشارات الخارجية إلى الكرامة الإنسانية ، وإذا ما وقفنا أمام القيمة الأخلاقية فإنّه يبدو لنا أنّ القرآن لا ينظر إلى الطّبيعة الإنسانية على أنّها شريرة في أصلها ، ولا على أنّها فاسدة فسادا عضالا ، بل على العكس من ذلك : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤). ولم يهلك من النّاس بعد هذا سوى الجاحدين ، والذين لا يؤدون شعائر دينهم : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٥) ، وفي آية أخرى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٦) ـ لم يهلك إلّا الذين : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ

__________________

(١) الإسراء : ٧٠.

(٢) البقرة : ٣٤.

(٣) الأعراف : ١١ ، وأيضا : الحجر : ٢٩ ، وطه : ١١٦ ، وص : ٧٢ ... إلخ.

(٤) التّين : ٤.

(٥) التّين : ٥ ـ ٦.

(٦) المعارج : ١٩ ـ ٢٢.

١٠٧

آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١).

فالأمر إذن أمر إختيار حرّ دنيوي ، لا علوي ، وهو يرجع إلى استخدامنا الحسن ، أو السّيء لملكاتنا العليا ، وهي ملكات يزكي تثقيفها النّفس ، كما يدسيها ويطمسها إهمالها : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (٢).

والحقّ أنّ القرآن لم يقتصر على الملكات العقلية وحدها ، فلقد عنى في الوقت نفسه عناية كبيرة بإيقاظ أشرف مشاعرنا ، وأزكاها ، بيد أنّه لم يحرك هذه المشاعر إلّا تحت رقابة عقلنا ، فهو يتوجه إلينا دائما ، أعني : يتوجه إلى ذلك الجانب المضيء من أنفسنا ؛ إلى ملكتنا القادرة على أن تفهم ، وأن تقدر في كلّ شيء ما يضر ، وما ينفع ، وأن تقوم القيم المختلفة.

ومن المشاعر السّامية الّتي حركها القرآن فينا ـ نذكر على سبيل المثال (٣) ما جاء فيه دعما لسائر واجباتنا الأجتماعية ، بالمعنى الأوسع لكلمة : (مجتمع) ، ألا وهو الشّعور بالأخوة الإنسانية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) (٤) ، (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (٥). ولقد تجلى هذا الشّعور حين قدم لنا القرآن في صورة عاطفية مؤثرة

__________________

(١) الأعراف : ١٧٩.

(٢) الشّمس : ٩ ـ ١٠.

(٣) لمن أراد معرفة أوسع أن يرجع إلى الفصل المعنون «نظام التّوجيه القرآني» ـ المبحث الثّالث من الفصل الثّالث ـ م.

(٤) الحجرات : ١٣.

(٥) النّساء : ١.

١٠٨

مشهد الفزع الّذي ينبغي أن يزعنا عن أغتياب الآخرين ، فشبه المغتاب به من (يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ) ـ ثم يضيف : (فَكَرِهْتُمُوهُ) (١) ـ كلكم أجمعون.

وإذا كان الأمر كذلك ، ألّا يمكن أن نستخلص منه أن الإنسان يملك في غيبة أي تعليم إيجابي ـ جميع الوسائل الضّرورية ، العقلية ، والعاطفية ، لكي يميز ما يفعل مما يدع؟ ، وعلى ذلك ألّا يكون التّشريع للخير ، وللشر أحد شؤوننا نحن؟.

وينبغي للإجابة عن هذا السّؤال أن نحدد معنى هذه الدّعوى ، وأهميتها. هل نريد أن نقتصر على وجهة النّظر الإنسانية ، ونهتم بخاصة بالضمير الفردي ، أو أننا نريد أن نتناول وجهة الشّيء في ذاته؟.

فإذا كانت فكرة الخير ، والشّر قد حددت عقلا على أنّها : «صفة كمال ، أو نقصّ ، موافق للطبع ، أو مخالف ، مستحق للمدح ، أو الذّم» ـ فإنّ المتكلمين المسلمين لم يجدوا صعوبة في أن يقرروا صلاحية الإنسان للتشريع من هذه النّاحية ، ولكن هل كلّ ما نرى أنّه حسن ، أو قبيح ، بحسب عقولنا ، هو في ذاته كذلك بالضرورة؟. وبعبارة أخرى : هل هو كذلك في نظر العقل الإلهي؟. وهل نحن على ذلك مدينون أمام الله سبحانه ، حتّى قبل أن نتلقى أوامره بوساطة رسله؟ ..

لقد دارت مناقشاتهم حول هذه النّقطة المحددة ، وتنوعت إجاباتهم الّتي

__________________

(١) الحجرات : ١٢.

١٠٩

قدموها لنا ، ابتداء من العقليين (المعتزلة ، والشّيعة) ، الذين يؤكدون ذلك الرّأي بصورة عامة ، حتّى الأشاعرة الذين ينكرونه إنكارا مطلقا ، وبين هؤلاء وأولئك الماتريدية الذين يسلمون به في حدود الواجبات الأولية.

ولكن من ذا الّذي لا يرى أنّ العقليين من المتكلمين عندنا قد تغالوا في إعتقادهم بعصمة العقل الإنسانى؟. وأ ليس هذا على الأقل مجالا عصيّا على إدراكنا؟ .. وخذ مثلا : الطّريقة الّتي يؤدي بها المرء عبادته لخالقه ، فلو ترك لكلّ أمرىء أن ينظم هذه العبادة فلن يخلو الأمر من إحتمالين : فإمّا أن يبقى متحيرا لا يفعل شيئا ، وإمّا أن يلجأ إلى كلّ ضرب من ضروب التّخى ، ل والإعتساف.

وحتّى بالنسبة إلى جميع المجالات الأخرى ـ يجب أن نعترف بأنّ هذا النّور الفطري الّذي يغلفه الهوى ، وتفسده العادات ، ينبغي أن يتعرض لنوع من الكبح ، وأن يظفر بجملة من التّوجيهات ، تختلف بإختلاف الزّمان ، والمكان ، والأمزجة ، وإلا ، فإنّ اليقين الأخلاقي ـ بصرف النّظر عن بعض الواجبات الأساسية المعترف بها لدى جميع الضّمائر السّوية ـ سوف يخلي مكانه تدريجيا للأوهام ، وضروب الشّك ، وصنوف الضّلال.

فمثلا ، ما واجبنا حيال طبيعتنا العاطفية؟. أمن الواجب ألّا نستجيب لشيء من شهواتنا ، وأن نفرض على أنفسنا الآلام ، وألوان القهر ، والتّقشف ، وأن نمضي في هذه الطّريق مع البوذية ، حتّى نبلغ مرحلة (النّرفانا) (١) ؛ أو درجة الإمحاء

__________________

(١) النّرفاتا ، في فلسفة الهنود تعني إمحاء الذات في الكلّ «المعرب».

١١٠

والفناء؟. أو أنّه يكفي أن نتظاهر ـ كما يفعل الرّواقيون ـ بنوع من اللامبالاة تجاه كلّ ضروب الخير ، والشّر في هذا العالم ، وإن كنا نفضل بعضها على بعض؟ .. أو أنّه يجب علينا أخيرا أن نستمتع بكلّ ملذات الحياة ، سواء أكان ذلك في حكمة وأنتقاء ، كما يعلمنا النّفعيون ، أم كان بلا قاعدة أو منهج ، على طريقة أريستيب (١) [Aristippe] والشّعراء في كلّ زمان؟ ..

ومع ذلك فكلّ هذه ضروب من الإدراك تؤكد أننا قد رجعنا في أمرها إلى الفطرة الإنسانية ، وأتحنا لكلّ منها الوسيلة الفريدة الّتي تجعل صاحبها يسلك سلوكا مطابقا لتلك الفطرة ، بقدر الإمكان.

وكذلك الحال في علاقاتنا بأقراننا ، فإنّ الإهتداء إلى السّلوك المناسب لا يقل صعوبة بسبب ما يواجهنا من اختلاف في الرّأي. ونسوق هنا مثالا طالما قوبل من قبل بآراء متعارضة : فهل يجب على من لحقته إهانة أن يقتص ، أو أن يعفو ، أو أنّ له الخيار؟. وهل يجب علينا أن نعامل أخواتنا بتحفظ ، أو بقساوة ، أو نكشف لهن عن حبنا الأخوي؟ .. وهل ينبغي أن نساعد الآخرين ليعيشوا أعفاء ، أو نتركهم لوسائلهم الخاصة؟ .. إلخ ..؟؟ .. فلو أننا أردنا أن ننزل إلى تفاصيل الحياة اليومية من : بيع ، وربا ، وخمر ، وزواج ، وزنا ، فإنّ الخطايا سوف تعظم أبدا ، ولسوف تقاوم العقول دائما بعقول ، كما تقاوم العواطف بعواطف.

لقد أبصر (كانت) الصّخرة الّتي تصطدم بها الأخلاق القائمة على الضّمير

__________________

(١) أريستيب : فيلسوف إفريقي ، ولد في القرن الرّابع قبل الميلاد ، وهو تلميذ لسقراط ، وصاحب مدرسة كانت تبني السّعادة على أساس الملذات. «المعرب».

١١١

الفردي ، والواقع أنّه من المستحيل عند بلوغ درجة معينة أن نسن قانونا يفرض بإعتباره ضرورة على كلّ الضّمائر ، فلما ذا أضحي بإقتناعي من أجل إقتناعك؟.

إنّ من الضّروري إذن أن نلجأ إلى سلطة عليا لحسم الخلاف ؛ ولن يكون الحل بكلّ تأكيد أن نعترف بهذه السّلطة للمجتمع ، إذ كان الأمر أمر أخلاقية [Moralite] ، لا أمر شرعية [Legalite]. وهنا نلمح الدّافع السّليم الّذي حدا بكانت أن يلتمس هذا التّشريع من سلطة أعلى ، تتوفر لها صفتا : الأخلاقية والشّمول ، وأعتقد أنّه واجدها في العقل نفسه ، في صورته الأكثر صفاء وتجريدا ، والّذي يحكم جميع الأشياء بقانون عدم التّناقض La loi de la non ـ contradiction ، ولسوف تتاح لنا الفرصة لنلاحظ إفلاس مثل هذا المعيار (١).

ونلاحظ أنّ (كانت) نفسه يعترف بعجز نقده عن تحديد الواجبات الإنسانية بخاصة ، وهي الواجبات الّتي يعد تقسيمها من مهمة نظام العلم ، لا من مهمة نظام نقد العقل بعامة ، فإنّ هذا النّظام لا يستتبع أي رجوع إلى الفطرة الإنسانية (٢).

وإذن ، فالناس محتاجون على وجه التّحديد إلى قاعدة صالحة للتطبيق على فطرتهم ؛ ويستطيع كلّ منهم في الحالات السّهلة أن يجد تلك القاعدة مسجلة بصورة ما في ضميره : أي أنّ الشّخص لا يحتاج إلى ذلك الكيان الشّكلي المجرد ، وهو إن إحتاج إليه فإنّ هذه الفكرة الفارغة لا تفيدنا شيئا محددا.

لا بد إذن من أن نتوجه وجهة أخرى ، فأين نفتش عن ذلكم النّور البديع لنهدي

__________________

(١) انظر فيما بعد : المبحثين الثّاني ، والثّالث.

(٢) انظر : ١ ـ Kant ,Crit.de la R.part ,preface ,p.٦.

١١٢

ضمائرنا ، عند ما لا تجد حيثما توجهت غير الظّلام؟ .. وأين نجد ذلك المخلّص الّذي تعلقت به أنفسنا ، وقد تفاذفتها الشّكوك؟.

ليس لدينا أمام هذه الأسئلة سوى إجابة واحدة تفرض نفسها ، إذ لا أحد يعرف جوهر النّفس ، وشريعة سعادتها ، وكمالها ، مع الصّلاحية الكاملة ، والبصيرة النّافذة ـ غير خالق وجودها ذاته : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١)؟.

فمن ذلكم النّور اللانهائي يجب أن أقتبس نوري ، وإلى ذلكم الضّمير الأخلاقي المطلق يجب أن أتوجه لهداية ضميري : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢).

فبدلا من أن نقول : العقل المحض [Raison transcendentale] ـ يجب أن نقول : العقل العلوي [raison transcendante] ، وبدلا من الإستناد إلى تجريد تصوري ذهني ـ يجب أن نلجأ إلى ذلكم الواقع المحسن ، الحي ، العليم ، الّذي هو (العقل الإلهي) ، فنور الوحي وحده هو الّذي يمكن أن يحل محل النّور الفطري ، ذلك أنّ الشّرع الإلهي الإيجابي هو الّذي يجب أن يستمر ، ويكمل الشّرع الإخلاقي الفطري.

وفي القرآن يسير العقل ، والنّقل معا ، جنبا إلى جنب ، وهو ما يفهم من قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٣) ، وفي قلب

__________________

(١) الملك : ١٥.

(٢) البقرة : ٢١٦.

(٣) الملك : ١١.

١١٣

المؤمن يستقر نوران ، على حين لا يجد الملحد سوى نور وأحد ، وهذا هو معنى رمز النّور المزدوج في قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) (١).

هل معنى ذلك أنّ علينا أن نفرق بين مصدرين مختلفين للإلزام الأخلاقي؟ كلا ... فنحن بالأحرى نراهما مستويين لمصدر وأحد ، أقربهما إلى النّاس هو أقلهما نقاء ، وذلك أنّ هذا النّور المكمل ليس قريب المنال ، ولا سلطان له علينا ، وليس له معنى أخلاقي إلّا من خلال ضميرنا الفردي ، وشريطة أن يعترف به ، فمن يد هذا الضّمير الفردي نتلقى في كلّ حال الأمر المباشر ، وعقلنا الإنساني هو الّذي يأمرنا أن نخضع للعقل الإلهي.

ومن هنا أستطاع الغزالي أن يقول : «وقول القائل : صار واجبا بالإيجاب حديث محض ، فإنّ ما لا غرض لنا آجلا وعاجلا في فعله وتركه ؛ فلا معنى لاشتغالنا به ، أوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه» (٢). هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى : عند ما أسأل نفسي ، وقد استسلمت لأنواري الفطرية قبل أن أخوض عملا ما ـ لكي أعرف واجبي ، في موقف يتسم بالوضوح نسبيا ، فإنّ إشارة ضميري لن يكون لها في نظري قيمة القاعدة الأخلاقية إلا إذا اعتقدت أنّها تعبر عن الحقيقة الأخلاقية في ذاتها ، لا عن حقيقة نسبية بالنظر إلى مشاعري. وكلّ جهودي في التّأمل تهدف إلى مطالعة هذه الحقيقة الّتي اعتقد أنّها مطبوعة في أعماقي ، وفي جوهر كلّ كائن عاقل.

فإذا ما قيل لنا : إننا نحن الذين نشرع لأنفسنا ، بوصفنا أعضاء في عالم عقلي ،

__________________

(١) النّور : ٢٥.

(٢) إحياء علوم الدّين : ٤ / ٤ ـ طبعة الحلبي.

١١٤

وجب علينا أن نتفق على ذلك الإستقلال الّذي خصّ به العقل.

ما ذا تعني في الواقع هذه القولة : «العقل يمنح نفسه قانونه»؟ هل يبدع العقل القانون؟ أو أنّه يتلقاه معدا ، على أنّه جزء من كيانه ، كيما يفرضه على الإرادة؟.

ذلك لأنّه إذا كان العقل مبدع القانون فإنّه سوف يصبح السّيد المطلق ، فيبقى عليه ، أو يبطله ، تبعا لمشيئته ، فإذا لم يستطع ذلك فلأنّه قانون سبق في وضعه وجود العقل ، وأن صانع العقل قد طبعه فيه ، كفكرة فطرية ، لا يمكن الفكاك منها.

وحينئذ يكون معنى : أن يستنصح المرء عقله : أنّه يقرأ في كتاب فطرته النّقية ، والإنسانية بصفة نوعية ـ ما سبق أن فطرها الله عليه. وبعبارة أخرى : عند ما يرجع أشد النّاس إلحادا إلى سلطة العقل فإنّه لا يفعل في الواقع سوى الإنصات إلى ذلكم الصّوت الإلهي ، الّذي يتكلم في داخل كلّ منا ، دون أن يذكر إسمه ، وهو ينطق به صراحة عند ما يتحدث إلى المؤمن.

ولكن ، إذا كان النّوران : الفطري والموحى ـ ينبثقان من مصدر واحد فحسب ، فيجب أن نخرج أخيرا بأنّ الله سبحانه هو الّذي يرشدنا دائما إلى واجبنا ، ما ظهر منه وما بطن.

وهكذا نصل إلى علاج الإلزام الأخلاقي في الإسلام ، في صورته ، كقانون إيجابي [Loi positive].

وينبغي علينا في مواجهتنا لهذا المجال الجديد أن نسأل أنفسنا عما إذا كان للشريعة الإسلامية مصدر واحد ، أو عدة مصادر؟ ذلك لأنّ الفقهاء قد حددوا لها بعامة أربعة مصادر ، هي : القرآن ، أو (كلمة الله) ، والسّنّة ، أو (ما نقل عن الرّسول) ، والإجماع ، أو (الحكم المجمع عليه في الأمّة) ، وأخيرا : القياس أو

١١٥

(الحكم بطريق التّناظر) (١).

وإذا كان التّحليل الّذي قدمنا صحيحا ـ بإستثناء بعض التّحديدات الّتي يجب أن نضيفها إلى هذا القول ـ فلا ينبغي أن يكون لدينا سوى سلطة تشريعية واحدة ، بالمعنى الصّحيح. والقرآن ذاته لا يفتأ يؤكد لنا هذه الفكرة في كثير من آياته ، قال تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (٢) ، و (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) (٣) ، و (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (٤).

وقد بعث الله سبحانه فينا رسوله ، لا ليكون مجرد خاضع لشرع الله فحسب ، بل ليكون أوّل خاضع له : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (٥).

وإذن فما ذا يقصد بذلك المبدأ الرّباعي ..؟ ..

أوّلا : القرآن :

لما كان القرآن ـ في نظر المسلمين ـ كلمة الله ذاته ، فقد أصبح مستوفيا لشرائطه تلقائيا ، لكي يعبر عن الإرادة الإلهية. ولكن ، ألا ينبغي أن يعدّ منذئذ المصدر الوحيد للشريعة الإسلامية؟ .. ثمّ ألّا يكون إقرار مصدر آخر للتكليف الأخلاقي المباشر ، والواقعي ، بجانب القرآن ـ معناه : أشتراك بصائر أخرى مع الله ، لها نفس الحقّ المقدس في إصدار الأحكام؟ .. فلنر إلى أي مدى بلغت في

__________________

(١) يجب الألتفات إلى أنّ مصادر التشريع عند الإمامية هي : (كتاب الله ، والسّنّة النّبوية الشّريفة بما فيها قول الإمام المعصوم ، والإجماع ، والعقل).

(٢) الأنعام : ٥٧ ، ويوسف : ٤٠.

(٣) الأنعام : ٦٢.

(٤) الرّعد : ٤١.

(٥) الأنعام : ١٦٢ ـ ١٦٣.

١١٦

الواقع السّلطة المخولة للمباديء الأخرى.

ثانيا : السّنّة :

والحقّ أنّ جميع العلماء متفقون على أنّ يروا في تعاليم السّنّة العملية ، أو مأثور النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ـ مصدرا ثانيا ، عظيم الأهمية ، للشريعة الإسلامية ، بعد القرآن ، كلمة الله.

والقرآن نفسه قد طلب إلى المؤمنين أن ينقادوا ، دون حرج ، لجميع أوامر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، متى أخذوا أنفسهم بالإيمان به ، ومن ذلك قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢) ، وقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٣) ، وقوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) (٤) ، وقوله : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٥).

غير أننا إذا ما نظرنا إلى حقيقة الأمر نجد أن جميع الأوامر النّبوية لا تفرض تكليفا نهائيا ، مهما يكن شأنه ، شرعيا ، أو دينيا ، إلا بقدر ، وبشرط أن ترتدي الفكرة الّتي يشتمل عليها صفة الوحي ، صراحة ، أو ضمنا.

فإذا عدمت هذه الصّفة الإلهية لم يعد للدرس ، أو المثال الّذي قاله (الإنسان) سلطان على أحد.

وقد وردت هذه التّفرقة مشارا إليها في النّص القرآني ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا

__________________

(١) نقصد بهذا مجموع أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، وجميع مواقفه الضّمنية ، إستحسانا ، أو رفضا.

(٢) النّساء : ٦٥.

(٣) النّساء : ٨٠.

(٤) الحشر : ٧.

(٥) النّور : ٥٦.

١١٧

الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (١).

على أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الّذي قرر ذلك بأوضح وجه وأصرحه ، حين قال : «إذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به ، فإنّي لن أكذب على الله» (٢).

ولم يكتف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعلان أنّ آراءه حول أمور الدّنيا ليست معصومة من الخطأ ، من حيث كانت خارج نطاق رسالته ، وهو في ذلك يقول لصحابته ولأمته : «أنتم أعلم بأمر دنياكم» (٣) ـ وإنّما أضاف إلى ذلك أنّه ربما (٤) يقع في

__________________

(١) الأنفال : ٢٤.

(٢) انظر ، صحيح مسلم : ٧ / ٩٥ ، المجموع : ١١ / ٣٥٣ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ٨٢٥ ح ٢٤٧٠ ، الجامع الصّغير : ١ / ٣٩٣ ح ٢٥٧٠ ، كنز العمال : ١١ / ٤٦٤ ح ١٢١٧٩ و ١٢١٨٠ ، فيض القدير شرح الجامع الصّغير : ١ / ٦٢٥ و : ٢ / ٧١٩ ، معتصر المختصر : ٢ / ٣٠٠ ، مسند أحمد : ١ / ١٦٢ ح ١٣٩٥ ، مسند أبي يعلى : ٢ / ١٢ ح ٦٣٩ ، حلية الأولياء : ٤ / ٣٧٣ ، ونحن نشك في صحة الرّواية ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينطق عن الهوى كما قال تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) النّجم : ٣ ـ ٤ ، ومن غير المعقول يخبر بشيء يخالف الحقّ ، هذا أوّلا. وثانيا : من قال أنّه لا يعرف تأثير التّأبير على النّخل ، وهو الّذي عاش في الجزيرة العربية ، وهو ابن بجدتها. وثالثا : وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرف بأنّ النّاس يتعبدون بكلامه ويرتبون الأثر عليه ، فكيف يتكلم بشيء لا يعرفه ، ويضر بالآخرين. وقال المعرب : رواه مسلم ـ كتاب الفضائل ـ باب ٣٨ ، والفقرة الأولى من النّص الّذي ذكره المؤلف من حديث عن رافع بن خديج رضي الله عنه ، والفقرة الثّانية من حديث عن طلحة ابن عبيد الله ، وكلاهما وارد بمناسبة حادثة تأبير النّخل.

(٣) انظر : صحيح مسلم : ٢ / ٢٢٣ و : ٤ / ١٨٣٦ ، البيان والتّعريف : ١ / ٢٩٩ ، فيض القدير شرح الجامع الصّغير : ١ / ٤٨٩ و : ٣ / ٥٠ ، المحلى : ٨ / ٢٨٦ ، مسند أحمد : ١ / ١٦٢ و : ٣ / ١٥٢ ، شرح نهج البلاغة : ٧ / ٢٠ ، الجامع الصّغير : ١ / ٤١٦ ح ٢٧١٤ ، كنز العمال : ١١ / ٤٦٥ ح ٣٢١٨٢ ، فيض القدير : ١ / ٦٢٥ ، سبل الهدى والرّشاد : ١٢ / ٧. ولا ندري ما هي الأمور الّتي لا يتدخل بها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا كانت أمور مثل تأبير النّخل فلما ذا تدخل أوّلا ، وإذا كانت أمور الخلافة أو الإمامة فهذا بحث آخر.

(٤) لا نريد التّعليق على كلمة ربما يقع في الخطأ ـ والعياذ بالله ـ ولكن نسأل هل المؤلف يعتقد بالعصمة أم ـ

١١٨

أخطاء ، صغيرة أو كبيرة ، حين يتعرض لموضوع من موضوعات رسالته الإلهية نفسها ، أعني : النّظام الأخلاقي ، أو التّشريعي ، أو العبادي ، ما لم يكن مؤيدا بالوحي.

وهكذا وجدنا القرآن يعاتبه في مواقف كثيرة ، لأنّه رقّ لحال المشركين ، فوقف منهم موقفا يتسم بالرحمة ، حيث كان ينبغي أن يكون أكثر تشددا : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (١). ويخاطبه في موقف

__________________

ـ لا؟ وهل مسدد من قبل الوحي أم لا؟ وهل مسدد في التّشريع فقط أم لا؟ وما موقف المؤلف قدس‌سره من آيات العصمة؟.

(١) الأنفال : ٦٧.

لسنا بصدد دراسة أسباب نزول هذه الآية الكريمة ، بل نقول : لا نتفق مع المؤلف قدس‌سره في قوله (وهكذا وجدنا القرآن يعاتبه في مواقف كثيرة) ، وخلاصة قول علماء الإمامية في سبب نزول هذه الآية الكريمة : لقد شاور الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه في الأسرى فصدرت مشورتهم عن نيات مشوبة في نصيحته فكشف الله تعالى ذلك له ، وذمهم له ، وأبان عن إدغالهم فيه فنزلت الآية. فوجه التّوبيخ إليهم ، والتّعنيف على رأيهم ، فأبان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن حالهم حتّى يعلم أنّ المشورة لهم لم تكن لفقر إلى آرائهم ، وإنّما كانت لتأليفهم بهذه المشورة ، ولتعليمهم بما يصنعونه عند عزمهم ، وليتأدبوا بأداب الله ، فاستشارهم لذلك. وقيل : أنّ في أمّته من يبتغي له الغوائل ، ويتربص به الدّوائر ، ويسرّ خلافه ، ويبطن مقته ، ويسعى في هدم أمره ، ويناقضه في دينه ، ولم يعرفه باعيانهم ، ولا دلالة عليهم باسمائهم فإراد بهذه المشورة أن يكشفهم. انظر الفصول المختارة للشيخ المفيد : ٣٢ ، والمسائل العكبرية أيضا للشيخ المفيد : ١٠٨ (بتصرف).

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه يوم بدر في أسارى بدر : إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم ... فقالوا : بل نأخذ الفداء فنستمتع به ، ونتقوى به على عدونا. وروي أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كره أخذ الفداء حتّى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه ، فقال يا رسول الله! هذا أوّل حرب لقينا فيه المشركين ، والإثخان في القتل أحبّ إليّ من استبقاء الرّجال. وقال عمر بن الخطاب يا رسول الله! كذبوك ، وأخرجوك ، فقدمهم واضرب أعناقهم ومكن عليّا من عقيل فيضرب عنقه ... انظر ، بحار الأنوار : ١٩ / ٢٤٢ ، تفسير مجمع البيان : ٤ / ٤٩٥ ، تفسير الميزان : ٩ / ١٣٩.

١١٩

آخر : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (١). وفي موقف ثالث : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) (٢).

ومن أمثلة ذلك أيضا موقفه في إحدى حالات السّرقة الّتي رفعت إليه ، على ما ورد في القرآن ، فكاد يخدع في حكمه ، ولو لا مساعدة الوحي له لأدان البريء ، وبرأ المذنب ، وفي ذلك يقول القرآن : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (٣).

__________________

(١) التّوبة : ٤٣.

هذه الآية الكريمة أيضا كالآية السّابقة ، والدّليل على ذلك قول الإمام الرّضا عليه‌السلام : هذا مما نزل (إياك أعني واسمعي يا جارة) خاطب الله بذلك نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأراد به أمّته. أنظر مسند الإمام الرّضا : ٢ / ١٣٠ ، الإحتجاج للطبرسي : ٢ / ٢٢٢ ، بحار الأنوار : ١١ / ٨٣ ، تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى : ١١٤ ، أو كما قال الإمام أبي جعفر عليه‌السلام : حتّى تعرف أهل العذر ، والذين جلسوا بغير عذر. كما جاء في المصادر السّابقة ، وتفسير القمي : ٢٦٩.

(٢) التّوبة : ١١٣.

سبق وأن ناقشنا ذلك في تحقيقنا لكتاب بلوغ المآرب في نجاة آباء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعمّه أبي طالب للشيخ الأزهري سليمان الجمل فراجع ذلك ، وراجع تفسير الآية في الطّبريّ : ١١ / ٣٠ ، فقد قال : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ .. ،) اختلف أهل التّأويل في السّبب الّذي نزلت فيه هذه الآية ، فقال بعضهم : نزلت في شأن أبي طالب ... وقال آخرون : بل نزلت في سبب أمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أنّه أراد أن يستغفر لها فمنع من ذلك ... وقال آخرون : بل نزلت من أجل أنّ أقواما من أهل الإيمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين ، فنهوا عن ذلك ...

وعن ابن عبّاس قوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ..) الآية فكانوا يستغفرون لهم حتّى نزلت هذه الآية ، فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ... وراجع الكاشف للزمخشري : ٢ / ٢١٧ ، وابن العربي في أحكام القرآن : ٢ / ١٠٢١ ، تحقيق : البجاويّ ، والفخر الرّازيّ : ١٦ / ١٠٨ ، الطّبقات لابن سعد : ١ / ٧٨ ، الشّوكاني : ٢ / ٤١١.

(٣) النّساء : ١٠٦ ـ ١١٣ ، وقد ذكر الواحدي في أسباب النّزول ـ ١٢٠ مناسبة نزول هذه الآيات ، وذلك أنّ ـ

١٢٠