دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

ومع ذلك فهناك حالات يصبح فيها هذا الموقف المصطنع مع طول الزّمن أشبه بطبيعة ثانية ، متمردة ، لا يمكن تذليلها ، لا يمكن تذليلها ، فهل يجب حينئذ أن نتقهقر أمام هذه الصّعوبة ، ونعاملها كواقع ليس في طاقة الإنسان أن يتجنبه ، بحيث ينبغي أن يقف أمامه موقفا سلبيا في إنتظار ما يؤول إليه؟

إنّ الحلّ الأصيل الّذي جاءت به الشّريعة الإسلامية مختلف عن ذلك تماما ، فهو يقوم على التّصدي لهذا الموقف ، وتناوله بطريقة خاصة ، حتّى يتاح للإنسان أن يرتقي مرة أخرى ، في المنحدر الّذي هبط منه ، شيئا فشيئا ، وبحيث يتسنى له ـ حين يبلغ مستوى معينا ـ أن يتقبّل النّظام الأخلاقي ، الّذي ظل حتّى ذلك الحين معلقا.

ولدينا في هذا المقام مثال واضح الدّلالة ، يقدمه لنا موقف القرآن في مواجهة إحدى العادات السّيئة ، الّتي تنوقلت على مدى الزّمن ، من جيل إلى جيل ، وغرست جذورها عميقة في الجهاز العصبي ، بل وفي كيان أولئك الذين مردوا عليها وأدمنوها.

نريد أن نتحدث عن ذلكم الخبال ، وتلكم الآفة الإنسانية الّتي هي الخمر. والآيات ـ الّتي نجد فيها إشارات إلى حالة السّكر ، وإلى الأشربة المتخمرة المسكرة ـ بلغت أربعا ، كانت رابعتها وأخيرتها هي الّتي نصّت على التّحريم الصّريح لهذه الأشربة.

أما الثّلاثة الأولى فلم تكن سوى مراحل تدريجية لتهيئة الإستعداد النّفسي لدى المؤمنين ، حتّى يتقبلوا هذا التّحريم.

١٨١

وقد تمت الخطوة الأولى في هذه الطّريق في كلمة نزلت بمكة ، كلمة واحدة مسّت المسألة مسّا رفيقا ، فمن بين الخيرات الّتي إستودعها الله سبحانه في الطّبيعة ، يذكر القرآن : (ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) (١). ويضيف إليها : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) (٢). فهو لم يقصد إلّا إلى الموازنة بين «السّكر» ، والّثمرات الأخرى الّتي يصفها بأنّها «حسنة» ، دون أن يصف هذا السّكر نفسه. وبذلك صار لدى المؤمنين دافع إلى الإحساس ببعض التّحرج والوسوسة تجاه هذا النّوع من الشّراب.

ولكن ها هم أولاء بعد قليل من وصولهم إلى المدينة يفاجأون مرة أخرى بنص ثان ، من شأنه أن يقوي تحرجهم ، ووسوستهم ، وهو يعقد مقارنة موجزة بين منافع الخمر ، والميسر ، ومضارهما ، ويختم القرآن تلك المقارنة بهذه العبارات : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) (٣).

فإذا كان حقا ألّا شيء في هذه الدّنيا بخير مطلق ، أو شرّ محض ، وأنّ ما يسمى خيرا ، أو شرا ليس في جملته إلا ما يحتوي على نسبة أكبر من هذا ، أو ذاك. فإنّ النّتيجة الّتي نخلص إليها لا بد أن تكون الإدانة الحقيقية. بيد أنّ الّذي حدث هو أنّ التّحريم لم يكن واضحا بدرجة كافية لجميع العقول. ولذلك ظل عدد من المسلمين يشربون ، ولعلهم كانوا هم الغالبية ، على حين بدأ آخرون منذ ذلك الوقت الإمتناع عن الشّرب ، ومن ثم كان لازما بعض الأوامر الأكثر

__________________

(١) النّحل : ٧٦.

(٢) النّحل : ٧٦.

(٣) البقرة : ٢١٩.

١٨٢

صراحة ، كيما تصل جميع العقول إلى الإقتناع الكامل ، ومع ذلك إنّ هذا كلّه لم يكن بلا تأثير على جانب اللاشعور في المجتمع ، حتّى إنّ بعض ذوي العقول الرّاجحة كانوا يتوقعون نزول حكم نهائي يؤيد وجهة نظرهم ، وقد حدث فعلا أن نزل حكم ، ولكنه لم يكن الحكم النّهائي ، وإنّما سوف نجده يمثل مرحلة وسيطة.

في هذه المرحلة الثّالثة لم يقل القرآن : «لا تشربوا» ، بل قال : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) (١). وهنا نلاحظ التّقدم الّذي حققته هذه الخطوة ، إذا ما ذكرنا أنّ الصّلاة تعتبر الفريضة الأولى في الإسلام ، لا لأنّها الفريضة الدّينية الأولى ، الّتي يجب أداؤها في أوقاتها ، ولكن لأنّها كذلك المناط الخارجي ، والعلامة المميزة للمؤمن ـ هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ، يجب أن تقام خمس مرات في اليوم والليلة ، أربع منها ما بين الظّهر إلى الليل ، وينتج عن ذلك أنّ الّذي يشرب أثناء هذه الفترات يكاد يخلّ بالفريضة ، بل بأكثر الفرائض قداسة.

وهكذا كان هذا التّحريم الجزئي غير المباشر منهجا علميا لتوسيع فترات إنقطاع التّأثير الكحولي ، وفي نفس الوقت تقليل رواج الأشربة ، وتجريدها من سوقها بالتدريج ، دون إحداث أزمة إقتصادية بالتحريم الشّامل ، والمفاجىء.

وحين تم هذا ، وتخلصت التّجارة من تأثيرها لم تبق سوى خطوة واحدة ، وهي الخطوة الّتي أنجزتها الآية الرّابعة ، والأمر الأخير : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ

__________________

(١) المائدة : ٤٣.

١٨٣

تُفْلِحُونَ) (١).

هذا المسلك اليسير المتدرج يدعونا إلى أن نتذكر الطّريقة الّتي يستخدمها الأطباء المهرة لعلاج مرض مزمن ، بل أن نتذكر ، بصفة عامة ، المنهج الّذي تلجأ إليه الأمهات لفطام أولادهن الرّضع ، ذلك أنّ هذه الوسائل الّتي خلت من العنف والمفاجأة تدعو الجهاز الهضمي إلى أن يغير نظامه شيئا فشيئا ، إبتداء من أخف الأطعمة ، حتّى أعسرها ، مارا بجميع الدّرجات الوسيطة. ألا ما أعظم رحمة الله الّتي ترفقت بالعباد ، على نحو لم يبلغه فن العلاج ، ولا حنان الأمّهات!!

هذا الجانب التّدريجي الّذي درسناه لا يقتصر وجوده على بضعة أمثلة فحسب ، بل هو ينطبق أيضا ، وبطريقة جد واضحة ، على الأخلاق القرآنية في مجموعها ، كما ينطبق على النّظام الإسلامي بعامة.

ومن المعلوم أنّ القرآن الّذي يقوم في هذا النّظام بالدور الرّئيسي ـ لم يجيء إلى النّاس كتابا ، جملة واحدة ، على نحو ما نراه اليوم ، فلقد ظهر بعكس ذلك ـ نجوما تتفاوت في كمها ، خلال نيف وعشرين عاما ، تنقسم إلى مرحلتين متساويتين تقريبا : المرحلة المكّية ، والمرحلة المدنية. ومن اليسير ملاحظة أنّ الآيات الّتي نزلت في المرحلة الأولى كان موضوعها الأساسي دعم الإيمان ، وتثبيت المبادىء ، والقواعد العامة للسلوك ، وأنّ ما سوى تعاليم الصّلاة والمعاش ، وهو تطبيق هذه القواعد العملية على حلول المشكلات الخاصة ، الأخلاقية ، والشّرعية ـ كان كلّه تقريبا مقصورا على المرحلة الثّانية.

__________________

(١) المائدة : ٩٠.

١٨٤

ومن هذه الوجهة نستطيع أن نقول : إنّ المرحلة المكّية كانت في مجموعها نوعا من الإعداد ، ولكن التّطبيقات المقدرة ، والمحددة لهذه المبادىء العامة قد توزعت بصورة متفاوتة على عشر سنوات. كذلك نستطيع القول بأنّ كلّ أمر جديد كان ينشىء في مجال التّكليف تقدما بالنسبة إلى الحالة السّابقة ، ونقطة إنطلاق بالنسبة إلى الحالة اللاحقة.

وإنّه ليكفي أن نلاحظ هذه المجموعة من الأوامر ، المنفصل بعضها عن بعض ، بمراحل تتفاوت طولا وقصرا ، لكي نتفق على أنّ فيها منهجا تربويا ، بلغ الذروة في قيمته ، وذلك بغض النّظر عن أسباب النّزول الّتي تفسر ، وتسوغ إقرار كلّ واجب جديد.

وحسبنا أن نتخيل ما كان يمكن أن يحدث لو أنّ هذه الكثرة من الواجبات المتصلة بجميع مجالات الحياة ـ قد فرضت مرة واحدة ، وبصورة شاملة!! أمّا وهي قد وزعت على هذا النّحو فإنّ النّفوس جميعا قد تقبلتها بإرتياح كامل ، حتّى كأنّها كانت تزداد قوة وإستعدادا كلما كانت تمارس واجبا منها.

لم يفهم الكفار على عهد النّبي هذه الحكمة التّشريعة السّامية ، ولذلك إعترضوا فقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (١) ، وترد الآية نفسها على إعتراضهم : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) (٢) ، ثمّ نقرأ في آية أخرى تفسيرا ثانيا : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) (٣).

__________________

(١) الفرقان : ٣٢.

(٢) الفرقان : ٣٢.

(٣) الإسراء : ١٠٦.

١٨٥

ولقد أدركت عائشة رضي الله عنها هذا المعنى ، فيما رواه البخاري ، قالت : «حتّى إذا ثاب النّاس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام .. ولو نزل أوّل شيء : «لا تشربوا الخمر ـ لقالوا : لا ندع الخمر أبدا» (١).

وأكد عمر الثّاني ـ بن عبد العزيز ـ بدوره أهمية هذا المنهج في المجال السّياسي ، ففيما يحكى عنه أنّ ابنه عبد الملك قال له : «مالك لا تنفذ الأمور ، فو الله ما أبالي لو أنّ القدور غلت بي وبك في الحقّ؟»

فقال له عمر : «لا تعجل يا بنيّ ، فإنّ الله ذمّ الخمر في القرآن مرتين ، وحرّمها في الثّالثة ، وإنّي أخاف أن أحمل الحقّ على النّاس جملة ، فيدفعوه جملة ، ويكون من ذا فتنة» (٢).

جـ ـ تحديد الواجبات ، وتدرجها :

وهكذا نجد أنّ الإلزام الأخلاقي قد جاء في القرآن مشروطا بأمرين :

أوّلهما : أنّ النّشاط الّذي يستهدفه يجب أن يكون يسيرا على الطّبيعة الإنسانية بعامة ، أي «خاضعا لإرادة الإنسان».

وثانيهما : أن يكون هذا النّشاط ميسرا في واقع الحياة المحسوسة ، أي «يمكن ممارسته ، وغير إستبدادي».

وليس هذا هو كلّ شيء ؛ إذ أنّه لا يكفي ، حتّى ونحن في نطاق الخير الخلاقي ، أن يوصف نشاط بأنّه ممكن وعملي ، ليدخل في عداد الواجبات ،

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٤ / ١٩١٠ ح ٤٧٠٧ ، المصنّف لعبد الرّزاق الصّنعاني : ٣ / ٣٥٢ ح ٥٩٤٣.

(٢) الموافقات ، لأبي إسحاق الشّاطبي : ٢ / ٩٣ الطّبعة التّجارية ، الإمام جعفر بن محمد الصّادق لعبد الحليم الجندي : ١٥٣.

١٨٦

فسوف نصادف هنا سلما من القيم الإيجابية ، والسّلبية ، رتبت بعلم ، وتنوعت في وفرة.

ولو أننا ـ بادىء ذي بدء ـ نحينا جانبا الواجبات الأولية المحددة الّتي لا يؤدي تطبيقها إلى أدنى لبس ، مثل : (لا تكذب ـ أدّ الأمانة ـ كن في حاجة الآخرين ..) لبقي أمام الفضيلة المبدعة ، والبناءة ميدان نشاط متراحب ، يضم عددا لا ينتهي من الدّرجات ، كلّها ممكنة ، وعملية ، فهل يجب إستيعابها؟ أو أنّه يكفي الإجتزاء ببعضها؟. وبعبارة أخرى ، هل الخير والواجب فكرتان متطابقتان؟ وهل لا يوجد فوق السّلوك الملزم بشكل صارم درجات يتزايد إستحقاقها للثواب ، ويصح تجاوزها دون إرتكاب موقف غير أخلاقي؟

إنّ رجوعنا إلى الضّمائر الفردية سوف يصطدم بأنّ كلّ النّاس ليس لديهم نفس القدر من التّشدد ، ولا نفس الطّاقة الأخلاقية ، ويترتب على ذلك أنّ التّنوع في الإجابات يرينا كثيرا من الإتجاهات المتعارضة ؛ فعلى حين أنّ الأنفس ذات العزيمة القوية (١) تجعل واجباتها في أعلى درجات الكمال الممكن ، وبذلك يتطابق لديها المفهومان «أي ؛ مفهوم الواجب ، والخير» يتجه الكافة بعكس ذلك إلى ما هو أقل وأدنى ، ليحددوا الواجب على أنّه الحد الأدنى من النّزعة الإنسانية وحسن المعاشرة.

وعلى الرّغم مما يدعيه «كانت» فإننا نتردد في وضعه بين الفلاسفة الذين يؤيدون أرتباط فكرة الإلزام بفكرة الخير ؛ بالمعنى الواسع الّذي نقصد إليه من

__________________

(١) انظر ، مثلا الغزالي في الإحياء : ٤ / ١٠ ، وكذلك أبو المعالي ، الّذي يرى أنّه لا توجد خطيئة عرضية ، فكلّ شرّ أخلاقي هو كبيرة «أبو المعالي بالإرشاد ـ ذكره الشّاطبي في الموافقات : ٣ / ٢٥٣».

١٨٧

هذه الكلمة ؛ لأنّه لكي يضع فكرة الواجب فوق كلّ ؛ بدأ بأن استبعد من مجالها علاقات الإنسان بالكائن الأعلى [L\'etre Superieur] ؛ وبالكائنات الدّنيا [Les etres infe rieurs] قاصرا إياها على الفرد والمجتمع الإنساني ؛ ثمّ إنّه ميز في هذا المجال المقيد طائفتين من الواجبات يطلق على بعضها ؛ كاملة أو جوهرية ، وعلى الأخرى ؛ ناقصة ، أو عارضة (١).

وأخيرا نجد أنّ الواجبات الّتي أدخلها في هذه الطّائفة الأخيرة هي على وجه التّحديد ما كان موضوعها تحقيق الكمال للفرد نفسه ، وسعادة الغير.

أمّا الواجبات الّتي يصفها بأنّها صارمة [Stricts] فلم تكن في جوهرها سوى واجبات منصبة على التّحريم ، لا تحط من كرامة الإنسان ، ولا تستخدمه مجرد وسيلة.

والكمال الوحيد الّذي أعلن أنّه ملزم على وجه الأخلاق ، وهو في الوقت نفسه مستحيل في هذه الحياة هو : النّيّة الأخلاقية الّتي تنطوي على تأدية الواجب ، بدافع الواجب وحده.

بيد أننا يمكن أن نسأل أولئك الذين يمدون «الواجب» إلى جميع مجالات الخير ، ويريدون في الوقت نفسه أن يعينوا لكلّ مجال أعلى درجات الكمال الممكن على أنّها إلزامية وملحة ـ نسألهم عما إذا كانوا يرون أنّ هذه الكمالات جميعا «واجب» على كلّ شخص ، أو أنّهم يتركون لكلّ أن يختار مجال كماله؟

ومن الواضح أنّ الأفتراض الأوّل يقتضي شيئا هو فوق القدرة الإنسانية ، أمّا الثّاني فإنّه يستحوذ على الإنسان ببعض القيم ، ويفرغه لها تماما على حساب

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Kant : Grit.de la R.prat.p.٨٦١ ـ ٩.

١٨٨

القيم الأخرى ، فهل هذا يشبع الحاجة الأخلاقية؟ ..

إنّ الكائن الإنساني تركيب من العلاقات : فالعنصر الحيوي ، والشّخصي ، والأسري ، والإجتماعي ، والإنساني ، والإلهي ـ كلّ ذلك نظام من العناصر المترابطة المتواثقة ، وكلّه قابل للتطور والتّقدم ، وليس من الممكن أن نغفل أي واحد منها دون أن نخلخل هذا التّناسب العجيب الّذي أبدع فيه الإنسان ، أو نشوهه ، أو نبتزه.

والحاسة الخلقية تتطلب أزدهار هذا المجموع ككلّ ، وهو ما لا يمكن إلّا بشرط أن نربي ـ على التّوازي ـ جميع الجوانب إلى مستوى معين ، أي : أنّه يجب أن تمارس النّفس الإنسانية جميع القيم ، قبل أن تتخصص في واحدة من بينها ، وذلكم هو المفهوم الإسلامي للواجب : «إنّ لربّك عليك حقّا ، ولنفسك عليك حقّا ، ولأهلك عليك حقّا» (١) ، «وفي رواية. ولزورك ، فأعط كلّ ذي حقّ حقّه» (٢).

فمن هذه المنافسة في القيم ينتج بالضرورة أنّ الواجب فرع من فروع الحياة لا ينبغي له أن يشغل سوى إمتداد معين من الخير الممكن ، والميسور في هذا الفرع نفسه ، تاركا المجال للفروع الأخرى كي تشبع إحتياجاتها ؛ وتحرز نصيبها

__________________

(١) انظر ، تفسير ابن كثير : ٣ / ٤٠٠ ، بحار الأنوار : ٦٧ / ١٢٨ ح ١٤ ، سير أعلام النّبلاء : ١ / ٥٤٢ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٢٤ ، مسند أبي يعلى : ٢ / ١٩٣ ، تأريخ واسط : ١ / ٢٣٣ ، الإستيعاب : ٢ / ٦٣٧ ، مستدرك السّفينة : ٣ / ٢٦٨.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٦٩٦ ح ١٨٧٣ وص : ٦٩٧ ح ١٨٧٤ و : ٥ / ٢٢٧٢ ح ٥٧٨٣ ، صحيح ابن حبان : ٨ / ٣٣٧ ح ٣٥٧١ ، سنن البيهقي الكبرى : ٤ / ٢٩٩ ح ٨٢٥٧ ، السّنن الكبرى : ٢ / ١٧٦ ح ٢٩٢٣ ، مسند أحمد : ٢ / ١٩٨ ، التّرغيب والتّرهيب : ٣ / ٢٥٠ ح ٣٩٠٤ ، فتح الباري : ٣ / ٣٩ و : ٤ / ٢١٧ و : ١٠ / ٥٣١ ح ٥٧٨٣ ، الطّبقات الكبرى : ٤ / ٢٦٣ ، المحلى : ٧ / ١٢.

١٨٩

الشّرعي من نشاطنا.

وهنالك مقياس تستطيع الضّمائر الطّاهرة أن تلمح به الحدّ الأعلى ؛ الّذي يتحول عنده معنى كلّ فضيلة إلى نقيضها ؛ حين تلحق الضّرر بفضيلة أخرى.

بيد أنّ هذا الحدّ الأعلى ؛ الّذي يختلف تبعا لإستعداد كلّ فرد ؛ وتبعا للظروف الّتي يمر بها ـ لا يحدد ميدان الخير الأخلاقي إلّا على نحو جزئي ؛ وسلبي ؛ إذ لما كان الميدان رحبا عرف كلّ فرد فيه درجات مختلفة من الفضل ، والإستحقاق ؛ بحيث يستتبع النّقص في درجة ، أو في أخرى ؛ تارة تأنيبا قاسيا ؛ وأخرى عتبا رقيقا ، أو عتابا شديدا ؛ وثالثة لا يثير أدنى رد فعل في الضّمير.

أليس معنى هذا أنّ الفرد قد عرف ضمنا أنّ فكرة الخير يجب أن تتضمن قيمتين مختلفتين : حدا أدنى إلزاميا ؛ وإضافة أكثر إغراء بالثواب؟.

إنّ الضّمائر لا تخطىء في هذا ؛ ولكنها تخطىء عند ما تريد أحيانا أن تأخذ الجانب الإلزامي على أنّه أدنى الدّرجات الممكنة ، وهو مقياس لا يجد فيه النّاس ما يبلغ رضاهم بصفة عامة.

أمّا أهل الصّلاح من النّاس فهو أكثر إلحاحا ؛ إنّه يقدر لنفسه بطريقة مبهمة ـ قدرا وسطا من الخير لا يستطيع أن يقيسه قياسا دقيقا ، فكيف نبلغ في الواقع تحديد هذا القدر المتوسط بالنسبة إلى كلّ واجب من واجباتنا؟

ليس هناك أي مقياس عقلي ، وموضوعي يستطيع أن يقدمه العقل الإنساني.

فهل نركن إلى الضّمير الفردي؟ ..

ليس هناك اتّفاق في هذا الصّدد ، فهل نحاول وضع حدّ إتفاقي؟

إنّ هذا يعني اللجوء إلى التّحكم ، والإعتساف.

وهكذا نجدنا بحاجة ماسة إلى هذه التّحديدات.

١٩٠

إنّ شمولية القانون [L\'universalitede la loi] تتطلب قدرا من التّجانس في الأساس ، وبغير ذلك ربما لا تبقى لنا أية قاعدة ؛ ثمّ لا يصبح القانون أكثر من كلمة تردّد ، فارغة من مضمونها.

لقد حاولنا أحيانا أن نحدّد تحديدا عقليا واجبنا الدّقيق نحو أندادنا ، ولكنا لم نستطع أن نقدم سوى جانبه السّلبي : ألّا نلحق بهم ظلما ، ومعنى ذلك أن يكون للناس حقّ في عدالتّنا ، لا في إحساسنا ، وتلكم هي الأنانية شامخة في القانون!!

ثمّ .. كيف نقدر الحدّ الأدنى الضّروري من واجباتنا نحو الله ، ونحو أنفسنا؟. عن هذه النّقاط جميعها تقدم الأخلاق الإسلامية إشارات ثمينة.

ففيما عدا الواجب المطلق الّذي لا يتضمن تقييدا ، ولا تحديدا ، أعني : «الإيمان» ـ نجد أنّ هذه الأخلاق تعين في كلّ عمل يقبل التّحديد درجتين من الخير ، وتعطي لكلّ منهما علامات مميزة ، ومحددة بدرجة كافية : الحدّ الأدنى ، الّذي لا يهبط العمل دونه ، إلا إذا أخلّ بالواجب ؛ ثم ما يعلو فوق ذلك دون تجاوز للحد الأقصى ؛ وبعبارة أخرى : الخير الإلزامي ، والخير المرغوب فيه. ومعنى ذلك بالنسبة إلى ما سبق أنّ ما وصف بأنّه ضرورة صارمة يمثل مشاركة جوهرية في كلّ قيمة (١).

وفضلا عن ذلك ، إنّ القرآن يفتح الطّريق في كلّ مجال إلى مشاركة أكبر ، وهو يحث كلّ إنسان على ألّا يقنع بهذه المرحلة المشتركة ، وأن يرتفع دائما إلى درجات أكثر جدارة ، في مثل قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (٢) ؛ وقوله :

__________________

(١) وعلى سبيل المثال : شهر من الحرمان يفرض على شهواتنا ، وعشر من محاصيلنا ، وجزء من أربعين جزءا من أموالنا يوجهها إلى الفقراء ، وخمس صلوات في كلّ يوم .. إلخ ..

(٢) البقرة : ١٨٤.

١٩١

(وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (١) ، وقوله : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) (٢) ، فهو يضع فضيلة الإسماح [Condescendance] فوق (الحقّ الثّابت) ، ويلح بخاصة على فضيلة (الإحسان) ، واسمع في ذلك قوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (٣).

وإمهال المدين عند ما يكون عاجزا عن الوفاء ـ واجب ، ولكن إعفاءه نهائيا من دينه بادرة جديرة بالثناء. (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (٤).

والدّفاع عن النّفس ضد الظّلم حقّ ، ولكن التّحمل ، والمغفرة أجمل. (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٥).

وأداء الفرائض خير ، ولكن (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (٦).

في مقابل هذه الدّرجات للقيمة الإيجابية ، والّتي سبق أن ذكرناها في المفهوم الأخلاقي للخير ، في القرآن ـ من اليسير أن نتعرف درجات القيمة السّلبية الّتي وضعها القرآن على النّقيض.

بيد أنّ سلم القيم ، مع هاتين القائمتين المتوازيتين لمّا يستنفد ، حتّى في سطوره البارزة ؛ ذلك أنّه سلّم ثلاثي ، يتقارب فيه هذان الطّرفان المتضادان

__________________

(١) البقرة : ٢١٩.

(٢) الفرقان : ٦٤.

(٣) البقرة : ٢٣٧.

(٤) البقرة : ٢٨٠.

(٥) الشّورى : ٤١ ـ ٤٢.

(٦) البقرة : ١٥٨.

١٩٢

بوساطة حدّ وسط يربطهما ، دون أن ينقطع إستمرارهما ؛ فبين «القيمة» ، و«نقيض القيمة» يقحم القرآن «اللاقيمة» ؛ إذ يوجد بين «المفروض» و«المحرّم» مكان ل «المباح».

ثم إنّه يميز في «المفروض» ـ أوّلا ـ الواجب الرّئيسي ، ثم يجيء دور التّكاليف الأخرى ، ثم أخيرا الأعمال الّتي يتصاعد ثوابها.

كما أنّه يرتب في «المحرّم» الكبائر ، ثم تأتي السّيئات الأخرى ، من الفواحش ، أو اللّمم.

وكذلك نراه يميز بين درجتين في الأعمال المباحة ، ونعني بهما : المسموح به ، والمتغاضي عنه.

فمن الحقّ إذن أن نتساءل عمّا إذا كان أدق العقول ، وأكثرها إدراكا للتنوع ـ يمكنه أن يجد أشياء أخرى يضيفها إلى هذا البناء المتدرج للقيم؟!

ولقد حاولنا عبثا أن نعثر على أية ثغرة تسوغ ما ذهب إليه «جوتييه» من إطلاق تعبير «العقل المولع بالفصل» ـ على العقل الإسلامي الّذي أقرّ هذا التّدرج ، وهو بحسب ما أعترف به هذا المفكر سمة إسلامية خالصة (١) ، إذ يقول : «إنّ وضع الشّيء بإزاء نقيضه هو الصّيغة الّتي تتلخص فيها جميع الأشياء في العالم العربي ، وبخاصة المسلم ، بما في ذلك الدّين ، والتّأريخ ... إلخ» (٢)

تلك على أية حال ملاحظة عابرة ؛ ولنعد إلى عرضنا ، إلى النّقطة الّتي تركنا

__________________

(١) ١ ـ Gauthier, Introd. a letude de la philos. Musulmanne, p. ٥٢١

(٢) ١ ـ Gauthier, Introd. Al\'etude de la philos. Musulmanne, p. ٧٣

١٩٣

الحديث عندها ، لنقول كلمة عن المغزى الحقّ لهذا التّدريج ، فيما يتعلق بالمعفو عنه ، والمباح القرآني ، فلا ريب أنّ المباح بالمعنى الصّحيح إنّما يتناول الأعمال الّتي لا دخل فيها للأخلاق (١).

أمّا فيما يتعلق بالمعفو عنه فيجب أوّلا أن نبعد الفكرة الّتي تجعل منه رخصة ببعض ما يمس الأخلاق ، رخصة ببعض الميول ، والأهواء لدى كلّ فرد.

إنّ ذلك سوف يكون إنكارا مسبقا للأخلاق ذاتها ، الّتي هي بحسب التّعريف (قاعدة السّلوك) ، فما ذا يكون ـ على الحقيقة ـ الإلتزام بقاعدة ، إن لم يكن الّتمسك الصّارم بها ، وعدم الخضوع للمغريات الّتي تصد عنها؟! ..

ولكن .. ها هو ذا وضع المسألة : فإذا ما وجد نوع من المشقة ، ووقف القرآن أمامها صلبا لا يتزعزع ، ثم وجدناه يحثنا على أن ننتصر عليها بأي ثمن ـ فذلك هو ما يستتبع على وجه التّحديد مقاومتنا لميولنا ، إذ يجب أن نختار بين طاعة الله ، وبين الخضوع للرغبات الجامحة ، ومن ثمّ قال الله سبحانه (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٢) ، وقال. (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) (٣) ، وقال : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ) (٤).

فلم يكن المعفو عنه في القرآن ـ إذن ـ لكي ننحرف أمام أهوائنا ، وإنّما هي بكلّ بساطة وصدق مسألة مراعاة للواقع المحسوس الّذي يجري فيه نشاطنا ،

__________________

(١) فمثلا : تناول طعام معين أو غيره ـ كلاهما صواب ، وهما سواء صحة ، وطهارة.

(٢) ص : ٢٦

(٣) النّساء : ١٣٥

(٤) القصص : ٥٠.

١٩٤

دون أن نذهب في هذه الطّريق إلى حدّ إلغاء جهدنا ، وإعفاء أنفسنا من واجبها. فقد رأينا ـ عموما ـ أنّ القاعدة لا تخضع للموقف بذاتها ، وإنّما هي تخضع له في خصائصها المكانية ـ الزّمانية ـ كالكمية ، والمدة ، والشّكل ، والتّأريخ .. إلخ ...

فإذا أردنا ألّا يكون القانون الأخلاقي حرفا ميتا فيجب ـ في الواقع ـ أن نجعله في إطار صارم من الزّمان ، والمكان ، والظّروف الخارجية المحضة ، يجب أن يجد القانون مجال تطبيقه بشكل ، أو بآخر.

ومن الطّبيعي ، والعدل أن تتطلب فاعلية هذا التّطبيق مرونة مناسبة ، للتكليف مع الواقع المستقل عن إرادتنا ؛ وعند ما يخضع التّكليف للضرورة عند هذا الحدّ ، فيقف أمام عقبة في هذا الواقع لا تقهر ، (مثلا : حالة الإنسان العاجز عن أداء واجبه العسكري ، أو المحروم الجائع الّذي لا يستطيع أن يمتنع عن الأطعمة النّجسة) ـ هنا تصبح المسألة أساسا هي تفادي الهلكة ، في فضيلة واحدة ، على حساب فضائل أخرى تعدلها ، أو تفوقها أهمية. وهكذا نجد أنّ لطف الشّريعة لم يكن الهدف منه تقليل الجهد ، بل إرساؤه على أساس عقلي ، أي «عقلنته» إن صح التّعبير.

ولسوف نرى فيما بعد (١) ، بأية طريقة حقق القرآن تركيب هاتين الفكرتين ، فلنكتف الآن بإستخلاص موقف القرآن أمام المشكلات المتعلقة بمفهوم الإلزام في ذاته.

ثالثا ـ «تناقضات الإلزام»

الحقّ أننا بإزاء فكرة الإلزام في ملتقى مجموعة من التّناقضات العملية الّتي

__________________

(١) انظر ، الفصل الخامس ـ الفقرة الثّالثة.

١٩٥

يحس كلّ فكر أخلاقي بأنّه محير فيما بينها ، والّتي ينبغي حيالها أن يتخذ موقفا ، أيا كان ، ومن بين هذه التّناقضات نذكر إثنين رئيسيين :

أوّلا ـ وحدة ، وتنوع

حقيقة لا ريب فيها أنّه إذا كانت الأخلاق علما فيجب أن تبنى على أساس قوانين شاملة ، وضرورية ، لا أن تقوم على قضايا خاصة ، وممكنة.

وليس بأقل من ذلك صدقا أنّه إذا كانت الأخلاق علما معياريا ، موضوعه تنظيم النّشاط الإنساني فيجب أن تتناول الحياة في واقعها المحسوس. ولما كانت الحياة في جوهرها هي التّنوع ، والتّغير ، والجدة ، فسوف نجد أنفسنا إذن أمام التّتابع التّالي :

فإمّا أن يكون نموذج السّلوك الّذي يقدمه لنا هذا العلم قد جاء ليكون ثابتا وعاما.

وإمّا أن يكون قابلا للتنويع ، والتّعديل.

وفي حالة الفرض الأوّل سوف ترتد الإنسانية إلى نموذج وحيد متماثل مع نفسه دائما ، وسوف يختصر المكان إلى نقطة ، والزّمان إلى برهة ، وسوف تتوقف حركة الكون ، وسوف تمحى الحياة ذاتها ، لتحل محلها فكرة مجردة ، لا توجد إلا في تخيل عالم الأخلاق [Le moraliste].

ولو أننا ـ على العكس ـ أخذنا في أعتبارنا أنّ العمل المفرد يتصف بالتفرد ، ويستعصي على الإندماج في فكرة عامة ، وهو خاضع فقط لتأثير الزّمان ، واختلاف المكان ـ فلن يكون هناك مجال للحديث عن قاعدة ، أو قانون ، أو علم .. فما ذا تكون في الواقع قاعدة مصيرها إلى الموت بمجرد تخلقها؟ وما

١٩٦

حقيقة قانون لن يأمر سوى فرد واحد ، بشكل فوري؟ وما كنه علم لا يملك أية عمومية؟

وهكذا ، إمّا أن نحافظ على وحدة القانون ، أو أن نحترم تنوع الطّبيعة المحكومة بهذا القانون.

إمّا أن نبقي على بساطة القاعدة أو أن نخضعها لتعقد الحياة الّتي تطبق عليها.

إمّا أن نرتقي إلى المثل الأعلى الخالص ، والخالد ، أو أن نهبط إلى الواقع المتغير إلى أقصى حدود التّغير ؛

إمّا أن ننتصر «للجوهر» أو «للوجود».

فهاتان هما نهايتا الطّريق الّتي يجب أن نصعد مرتقاها ، وهما النّهايتان اللتان لا نستطيع أن نقترب من إحداهما إلا إذا أبتعدنا عن الأخرى.

تلكم هي أولى الصّعوبات الأخلاقية.

ثانيا ـ سلطة ، وحرية

لكن هنالك صعوبة أخرى ، وهي مع ذلك ذات علاقة بالأولى ؛ فمما لا شك فيه أنّ العلاقة المعبّر عنها بلفظة ـ الإلزام ـ هي علاقة تجمع إرادتين مختلفتين ، ومدفوعتين بطبيعتهما إلى إظهار إتجاهات متصارعة. «المشرّع» الّذي يأمر ، وهو شديد الحرص على «سلطته» ؛ و«الفرد» الّذي يعمل ، وهو يدافع عن «حريته».

ولمّا كانت سلطة المشرّع تبقى محترمة بقدر ما تحتفظ القواعد الّتي تسنها بمعناها كاملا قويا ، دون مساس ـ فإنّ تنوع الظّروف لا يتدخل مطلقا لتحديدها ، أو للتخفيف من وطأتها. وفي هذه الحالة يصبح القانون الأخلاقي مماثلا لأي

١٩٧

قانون من قوانين الطّبيعة ، يخضع له الفرد خضوعا سلبيا ، ويطبقه تطبيقا أعمى.

ومعنى ذلك ، أنّ (الإلزام) الصّرف يقابله بالضرورة إنتفاء للحرية ، وخضوع تام.

ولكن ، ما جدوى هذا الضّمير حينئذ؟ الضّمير الّذي لن يغير حضوره أو عدمه شيئا في مجرى الأمور؟

وإذا نحن إتجهنا إلى الطّرف الآخر ، وأرضينا الفرد العامل بمنحه حرية كاملة في الإختيار والتّصرف ، فستكون النّتيجة عكسية ، إذ سوف يتحول «الأمر» إلى مجرد «نصيحة» يمكن أن نقبلها أو نرفضها ، بحسب تقديراتنا الشّخصية.

ما الّذي يجب علينا أمام هذه الدّواعي المتعارضة؟ هل يجب أن ننحاز إلى أحد الجانبين ، أو نحاول التّوفيق بينهما؟ وإذا تعين الإختيار فأي الإتجاهين نختار؟ وإذا تعين التّوفيق فعلى أي أساس يكون؟. تلكم هي المشكلة الّتي تتطلب حلا ، ولننظر الآن كيف إختلفت حلولها.

وفي السّطور التّالية ، حتّى نهاية الفصل سوف نهتم ببيان كيف أنّ الحلّ القرآني يمكن أن يعتبر توفيقا منصفا لجميع الأطراف الحاضرة في القضية ، على حين أنّ لدى النّظريات العادية إتجاها متفاوتا في مقداره ، نحو إختيار أحد طرفي التّعارض ، أو الآخر.

ولسوف نقصر الفقرة التّالية ـ الّتي خصصناها للخاتمة ـ لنقوم بإثبات الشّق الأوّل من هذه الدّعوى المزدوجة ؛ ونبدأ الآن بالشق الثّاني ، لنبرز الصّعوبات الّتي تصطدم بها نظريتان سائدتان ، نقدمهما هنا مثلين نموذجين ، لإتجاهين متطرفين ، أحدهما يمثل السّلطة الصّارمة للواجب العام ، والآخر يدافع عن

١٩٨

أصالة العامل النّفسي ضد فكرة صرامة المنطق : النّظرية الكانتية ، ونظرية روه [Rauh].

«كانت» :

من المعروف أنّه ـ لكي يقاوم هذا الفيلسوف الألماني بعض النّظريات الّتي روضت الأخلاق حين أخضعتها لجميع مطالب الحياة الدّنيوية ـ لم يكتف الرّجل برسم خط فاصل بين فكرة الأخلاق ، وفكرة الحياة الحسية ، بل مضى إلى أبعد من ذلك ، وأمعن في البعد ، فهو لم يكتف بأن جرد مفهوم الواجب من كلّ تجربة حسية ، وكلّ واقع مادي يمكن أن ينطبق عليه ، بل إنّه خلصه أيضا من صفته الخاصة ، من مادته التّكوينية الّتي تظهر في هذه القاعدة ، أو تلك ، فلم يبق له سوى صفته الشّكلية ، وهي أنّه قانون شامل صالح لجميع الإرادات ، وقد إستخلص من ذلك هذا التّعريف للواجب ، فهو : «كلّ سلوك يمكن أن يصاغ في قاعدة عامة ، دون أن يكون عرضة لنقد العقل ، أو تسخيفه» (١).

ولقد أعتقد كانت ـ إعتمادا على هذه الصّيغة المجردة إلى أقصى حدّ ـ أنّه يستطيع أن يستنبط علم «الواجبات الأخلاقية [la Deontologie Ethique] على ما قاله بنتام [Bentham] ؛ أعني : علم الواجبات الحسية الخاص بكلّ مفهوم عملي ، وذلك بتقدير كلّ سلوك عملي من حيث هو أخلاقي أو غير أخلاقي ، عن طريق وزنه بذلك الميزان الوحيد ، وهو صلاحيته لأن يصبح قانونا عاما.

أمشروع من هذا القبيل يمكن أن يتحقق فعلا؟ وهل أساس هذا البناء ذاته متين بحيث يدعمه؟. إليك من وجهة النّظر الّتي تهمنا تخطيطا للفكر الكانتي ،

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Toute action dont la maxime peut sans absurditeetre universalise e.

١٩٩

ويمكن القول إجمالا بأنّه يتكون في ثلاث مراحل :

آ ـ إثبات حدث أوّلي.

ب ـ تحليل يسمح بالإرتقاء إلى أعلى درجات العمومية.

ج ـ هبوط مرة أخرى لوضع القواعد الأساسية للأخلاق الإنسانية.

***

آ ـ إنّ نقطة البداية في النّظرية الكانتية تنحصر في هذا الواقع المحسوس ، الّذي يقدمه الضّمير مباشرة ، أعني : أننا في أحكامنا الأخلاقية لا نزن الأعمال مطلقا بالقياس إلى نتائجها الطّيبة ، أو السّيئة ، ولكنا نزنها بالقياس إلى قاعدة عامة صالحة للتطبيق على جميع الأفراد ، ومستقلة عن جميع النّتائج ، وتلك حقيقة لا مجال للطعن فيها.

فنحن ـ بدلا من أن نجعل البحث عن اللّذة ، والهروب من الألم مبدأ للتقدير الأخلاقي ـ نستحسن الأعمال الفاضلة بقدر ما تشق علينا. ونحن نعجب إلى أقصى حدّ بالنفوس القوية الّتي تعرف كيف تقاوم كلّ ضروب الإغراء ، وتتخطى جميع العقبات. ونحن ـ قبل أن نمنح أنفسنا الحقّ في إخضاع قاعدة سلوكنا الخاص لأحوالنّا الشّخصية ـ نعرف أنّ من واجبنا أن نقيسها على القاعدة الّتي نتطلبها من الآخرين : «كلّ ما تريدون أن يفعل النّاس بكم إفعلوا هكذا أنتم أيضا بهم» (١) ، ويؤكد القرآن الكريم هذا المعنى بقوله : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) (٢) ، ويمضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حدّ أن يجعل

__________________

(١) إنجيل متى ـ القسم ـ الإصحاح السّابع : ١٢.

(٢) البقرة : ٢٦٧.

٢٠٠