دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

عن درجة الحذر الّذي نستخدمه في سلوكنا لمواجهة واجباتنا الدّقيقة. فإذا كنت في حالة المنع قد كسبت قدرا من الإنتظام في الرّقابة على شهواتي وضبطها ، فإنّي أستطيع أن أحكم بقدر من الإحتمال : بأنّ اعتبار القانون في حالة الإباحة هو الّذي يحكم سلوكي ، ويقيد حاجاتي ؛ وأمّا إذا كنت ، في حالة الصّراع بين الواجب ، والهوى ، أعترف بأنّ الهوى هو الّذي يتسلط غالبا ، فلسوف يثبت لي أنّه في حالة اتفاقهما ـ ستكون الطّبيعة أيضا هي الّتي تحكم لديّ ، وتمضي كلمتها.

ولقد وصف القرآن على نحو كاف هذا الموقف المضطرب وفضحه ، وهو الموقف الّذي يغير وجهه غالبا أمام الشّرع ، فتارة يخضع له ، وأخرى يفارقه ، تبعا لما يجد ، أو يفتقد ، من إشباع حاجاته الأنانية ، فقال سبحانه : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١).

كلا ... فسلطة الواجب بالنسبة إلى شهواتنا يجب أن تكون مطلقة غير مشروطة ، وليس أمامنا إلّا أن نذعن لها طوعا ، أو كرها : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) (٢).

وذلكم هو شعار المؤمنين الثّابت أمام الأوامر المختلفة ، لله ورسوله : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا.)

__________________

(١) النّور : ٤٧ ـ ٥٠.

(٢) النّور : ٥١.

٦٨١

وفي احترام هذه العلاقة المتدرجة ، أو عكسها بتقديم ما ينبغي أن يتأخر ، تكمن السّمة الّتي يتميز بها الهوى المستنير ، الّذي يعتبر إشباعه طبيعيا ، ومباحا ـ عن الهوى الأعمى الّذي لا يفتأ القرآن يحذرنا منه.

بيد أنّه لا يكفي أن يكون الهدف الّذي يتوخاه المرء من بين المباح ، في ذاته ، بل يجب أيضا ، بموجب الشّرط الثّاني ـ أن يكون العمل الّذي يستهدفه من شأنه أن يستخدم أخلاقيا ، كوسيلة لبلوغ هذه الغاية.

وهنا تتدخل فكرة «الغائية» ، بكلّ تعقيداتها (١) ، فإنّ أهدافنا من هذا العمل ، أو ذاك لن تقوم في ذاتها فحسب ، بل بإعتبار اتفاقها ، أو اختلافها مع أهداف الشّرع من هذه الأعمال.

هل يوجد ـ مثلا ـ بالنسبة للإنسان ، اهتمامات أكثر طبيعية من اهتمامه بأن يعيش دون مفاجآت كبيرة ، وبأن يخلق صداقات متينة مع إخوانه؟ .. بيد أنّ الإنسان لكي يبلغ هذه الغايات يملك طريقا طبيعية جدّا ، لا معابة فيها ، ولا ملامة. فلكي يعيش ماديا ، ما عليه إلا أن يبذل جهوده في الإنتاج ، أو في المبادلات ، أو في بعض المهام الشّريفة ، والمنتجة ، لكي يكسب موّدة أصدقائه حسبه أن يتصرّف حيالهم بأكثر الطّرق مجاملة ، وأقلها طلبا ، وأعظمها سماحة بقدر ما يطيق.

وعلى أيّة حال ، فليست طقوس العبادة ، ومآثر الإحسان بالتي نستحق أن نطمح بها إلى تقدير النّاس ، أو نؤمل مساعدتهم ، فإذا اتخذ المرء هذه الأعمال

__________________

(١) سوف نرى أنّها معقدة تعقيدا مضاعفا ، إذ يجب أن ننظر في العمل الواحد إلى غايات الشّرع ، وغايات الذات ، أساسية كانت ، أو ثانوية.

٦٨٢

لغايات دنيوية كهذه ، على حين أنّها أعمال لا ينبغي أن يستهدف بها سوى قداسة الواجب. فتلك هي النّيّة الآثمة الدّنسة.

ولكن ، إذا كان جرما أن يستعمل الإنسان الفضيلة بنّيّة تحصيل بعض الميزات الإنسانيّة ، فهل يعد جريمة أيضا أن يؤديها المرء على أمل الحصول على ثواب الله ، أو خوفا من عقابه؟.

هذا سؤال أثار مناقشة من أعظم المناقشات بين الأخلاقيين المسلمين.

وإنّا لنعرف البرهان الأساسي للمتشددين ، وهو برهان جدّ بسيط ، مستمد مباشرة من القرآن : فلقد خلق الإنسان من أجل طاعة الله فحسب ، ومن أجل التّوجه إليه بنّيّة نقية ، فإذا سمح لنفسه أن يتطلع ببصره إلى النّتائج المناسبة ، أو غير المناسبة لأعماله ، فإنّ معنى ذلك قلب نظام الغائية ؛ لأنّ الواجب حينئذ سيصير مجرد وسيلة ، وستصبح المنفعة هي الغاية الأخيرة ، والموضوع الحقيقي للعبادة.

ولقد كان على خصومهم في الرّأي أن يقوموا بجهد في التّعليل الدّقيق حتّى يتخلصوا من هذا البرهان. والواقع أنّ هؤلاء الخصوم قد حاولوا من ناحية أن يثبتوا للخلق غاية مزدوجة يستهدفها ، وأرادوا من ناحية أخرى أن يؤكدوا أنّ متابعة غايات ثانوية يمكن أن يحدث دون الإضرار بالغاية الأساسية.

ثمّ يفسرون ذلك بقولهم : والحقّ أنّ الإنسان بإعتباره ذاتا مكلفة لا دور له إلّا أن يؤدي مهمته أداء دقيقا في وقته ، وأيما امرىء مال إلى هجر واجبه ردّ إليه بمختلف الجزاءات ، ليس هذا فحسب ، بل إنّ من يدخل أداء واجبه في مجال العبادة ، فلن يستحق بهذه الصّفة أدنى شيء يطلبه لدى النّاس ، أو من الله ؛

٦٨٣

فأمّا لدى النّاس : فقد وضحناه فيما سبق ، وإنّا لنعرف أنّ الشّريعة الإسلاميّة تحرم على العلماء ، والقضاة أن يمسوا شيئا من عامة النّاس.

وأمّا من الله : لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لن يدخل أحدا عمله الجنّة» (١). وهو يقصد بذلك أنّ العمل وحده لا يكفي.

وليس ينقص من صدق هذه الحقيقة أنّ الإنسان بوصفه موضوعا للإحسان والعدل الإلهي سوف يدعى إلى أن يجني ثمرات عمله. فعند ما يجيء الإنسان ليطلب ، لا أقول : «مستحقّه» ، ولكن : ما «وعد به» ، فهل يكون هذا الطّلب منه سوى اتفاق مع مشيئة الله المجازي ، إن لم يكن مع مشيئة الله المشرع؟ ..

ولنذكر إلى جانب ذلك حقيقتين لا يستطيع أن ينكرهما أحد ، حتّى من وجهة نظر التّشريع ، (أولاهما) : أنّ هذين الصّنوين المتشابهين : الخوف ، والرّجاء ، هما في نظر الدّين صفتان جديرتان أن يقصدا لذاتهما ، فهما أشبه بجناحين لازمين لتحليق الإيمان ، والتّقوى ، وارتقائهما.

وكذلك نجد أنّ فظاظة القلب ، وقساوته تعدان في نظر كلّ النّاس داء يصيب الأنفس الجاحدة ، ولقد أفاض القرآن في هذا المعنى ، شأنه شأن جميع الكتب المقدسة.

(والحقيقة الثّانية) : أنّ هذه المشاعر الدّينية نفسها يمكن شرعا أن تستخدم دوافع لأعمال تتناسب معها. ولا أحد ينازع في أنّ الآلام الّتي يحسها المؤمن ، أو

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٥ / ٢١٤٧ ح ٥٣٤٩ ، شرح اصول الكافيى : ٨ / ٢٢٩ ، تفسير القرطبي : ٧ / ٢٠٩ ، صحيح مسلم : ٤ / ٢١٧٠ ح ٢٨١٦ ، المعجم الأوسط : ٨ / ٧٤ ح ٨٠٠٤ ، أمالي السّيّد المرتضى : ٢ / ٢٠ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٦٤ ح ٧٥٧٧ ، مسند أبي يعلى : ٧ / ٦٣ ح ٣٩٨٥.

٦٨٤

يخشاها تفرض عليه ـ عادة ـ هذا الموقف الصّوفي الّذي يكل فيه كلّ أموره إلى الله ، طالبا عونه ، ملتمسا إحسانه ، وها هو ذا القرآن يدعونا صراحة بقوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (١) ، وقوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) (٢) ، والسّنّة تعلمنا أيضا : «أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصّلاة» (٣).

فإذا سلمنا بهاتين النّقطتين كان في ذلك حصر للمجال المتطرف.

وفي مقابل ذلك يفسح له المجال المقابل ـ في نقطة مهمة حين يحدد دور المشاعر المذكورة آنفا. ذلك أنّ المبدأ العام ، وإن كان يعترف بقيمتها الذاتية ، ويعلن أنّ الهروب من الألم ، والبحث عن السّعادة بوسائل صالحة إنّما ينبثق عن اتجاهات جدّ مشروعة ، فليس بوسعه أن يذهب إلى حدّ منحها جزاء أخلاقيا عند ما تؤدي في الضّمير دور المحرك الأوّل إلى الواجب ، لأنّ ذلك معناه سنّ أمور لا يزكيها شيء في القرآن.

وهنا نقطة لا نغلو في الإلحاح عليها ، وهي نقطة ألقى إغفالها قدرا من الإختلاط المؤسف في كثير من الأذهان ، بين فكرتين متميزتين تمام التّميز في التّعاليم القرآنية : بين «النّيّة» ، وهي موقف الفاعل الأخلاقي ، و«الجزاء» ، وهو ردّ الفعل من المشرع ، ولقد أثبت القرآن الواجبات من جهة ، وأثبت نتائجها الجزائية من جهة أخرى ، فإذا شرفت الفضيلة ، وأثيبت وإذا ما استنكرت الرّذيلة

__________________

(١) البقرة : ٤٥ ـ ١٥٣.

(٢) الأعراف : ٥٦.

(٣) انظر ، مسند أحمد : ٥ / ٣٨٨ ح ٢٣٣٤٧ ، من طريق حذيفة بن اليمان ـ والعبارة : (كان إذا حزبه أمر صلّى) ـ (المعرب). وانظر ، المعجم الصغير : ١ / ١٢٠ ح ١٧٢ ، شعب الإيمان : ٣ / ١٥٤ ح ٣١٨١ ، تعظيم قدرة الصلاة : ١ / ٢٣١ ح ٢١٢ ، صحيح ابن حبّان : ٦ / ٣٦٩ ح ٢٦٤٢.

٦٨٥

وعوقبت ، فهل في ذلك غير العدالة؟. ولكن شتان ما بين أن نعين لأعمالنا عاقبتها ، وأن نقترح على الإرادة مبدأ يلهمها ، وذلكم هو ما صاغه القرآن في مواضع كثيرة ، فهذا المبدأ مختلف تماما ، إذ هو المثل الأعلى ، والإنسان الّذي يؤدي واجبه بالخوف ، أو بالرجاء ، والّذي يتخذ من توقع مصيره في الحياة الآخرة قوة محركة لإرادته الطّائعة ، هذا الإنسان لا يقتصر عمله على خلط وتوحيد نوعين مختلفين من الغائية : الغاية الوجودية : (الثّمرة) ، والغاية الأخلاقية : (الهدف) ، ولكنه أيضا يغفل شرطا جوهريا عن العاقبة الموعودة ، لأنّ القرآن خط له طريقا يتبعه ، وأثبت له سعيا يقوم به ، من أجل أن ينتهي إلى هذه الحياة السّعيدة : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١) ، وليست الجنّة إلّا للقلوب السّليمة ، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٢) ، والقلوب الرّاجعة إلى الله : (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (٣). ولكن إذا كان التّقارب قد تمّ على هذا النّحو بين المذاهب المتعارضة ، فهل يؤدي ذلك إلى اندماجها؟ .. ليس بشكل تام برغم هذا ، فإنّ النّقطة المتنازع عليها تظل كما هي.

فعلى حين أنّ النّظرية المتشددة تحكم دائما بالكدرة ، والدّنس على كلّ ما ليس طاهرا نقيا إلى الحدّ الوارد في قول الله تعالى : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) (٤) ـ ترى النّظرية المتسامحة أنّ بين الطّهارة المطلقة ، الّتي هي موضوع

__________________

(١) الإسراء : ١٩.

(٢) الشّعراء : ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) سورة ق : ٣٣.

(٤) البقرة : ٢٧٢.

٦٨٦

الثّناء ، والثّواب ، والدّنس الصّارخ ، الّذي دحرّ ، وذم كثيرا في النّصوص ـ توجد تلك الطّهارة النّسبية ، الوسط ، الّتي لم يذكرها القرآن صراحة بالموافقة ، أو بالرفض ، وهو موقف يدعو إلى اعتبارها لا تستحق مدحا ، ولا ذما ، وإنّما هي مباحة فحسب.

ويمكننا كذلك القول بأنّ القرآن قد ارتضى هذا الموقف الإنتفاعي ، إن لم يكن شجعه على نحو ما بمجرد التّبشير بالمجازاة.

ولا ريب أنّه لم يقل مطلقا : أدوا واجباتكم ، ناظرين إلى سعادتكم الأخروية ، ولكنه قال : أدوها لله ، وحين تؤدونها بهذه النّيّة سوف تكونون سعداء.

وإذا كانت هذه الصّورة قد غابت حتّى عن بعض الفلاسفة فبوسعنا أن نحكم بصعوبة إدراكها على عامة المؤمنين. فالإنسان الوسط سوف يحتفظ دائما منها صورة الوعود الجميلة للصالحين (والنّذر المخوفة للأشرار) ، ولما كان هذا الإنسان ضعيفا ، وحساسا بطبيعته ، وعلى افتراض أنّه مؤمن ، فإنّه سوف ينقاد بفطرته إلى التّعلل بالآمال (والإحساس بالمخاوف) إلى جانب شعوره بالواجب.

وإذن ، فعند ما يجتمع الشّعور بالواجب مع الحاجة إلى الأمن ، ويتسايران في الضّمير دون افتراق ـ فلا قوة على وجه الأرض ، متى تحركت الفطرة ، تستطيع أن تمنع آثار هذا الإتصال الدّائم ؛ إذ كيف يستطيع تشريع عادل أنّ يحرم ثمرة أودعت بذرتها في القلب؟ ..

ولكن ، لنتناول الأمر تناولا عقليا.

قد يقال إنّ العمل بدافع الخوف من العقاب هو أبعد شيء عن أن يكون مبدأ ذا قيمة أخلاقية ، ونحن أوّل من نوافق على هذا الرّأي. ولكن هل هو دافع يتساوى

٦٨٧

في حقارته مع الخديعة ، والصّلف ، والمداهنة ، والتّباهي؟ .. وهل من الممكن أن نضع شعور الخوف من الله في مستوى الخوف من النّاس؟ أليس من الواجب أن نعترف على الأقل بأنّ بين هذين الخوفين فرقا هو : أنّ الخوف من النّاس يعلمنا النّفاق ، والجبن ، ويحملنا على خرق القانون حين يكون موضوع هذا الخوف عاجزا عن أن ينالنا؟ ..

أمّا فيما يتعلق بالأمل في السّعادة المقبلة : فقد تقولون : إنّها قضية ارتزاق وطمع في الأجر.

ـ نعم ، بداهة ، نظرا إلى الحبّ الخالص ، الّذي يصد عن كلّ ما سوى المحبوب ذاته. ومع ذلك فمن ذا الّذي لا يرى أنّ مجرد قبول هذه الصّفقة ، والتّنازل هكذا عن مال ملموس ، مؤكد ، مستحق فورا ، نظير سعادة غير محددة ، غير مؤكدة على المستوى الفردي ، بعيدة ساحقة البعد ، لدرجة أنّها تقتضي الموت ، والعودة إلى الحياة مرة أخرى. قبل لمسها .. أقول : من ذا الّذي لا يرى في كلّ هذا ارتفاعا فوق الغريزة الحيوانية المرتبطة بالحاضر ، إلى مستوى الآجلة ، وبرهانا على الصّفات العليا من الصّبر ، والسّيطرة على النّفس ، وسعة العقل ، وفي كلمة واحدة : برهانا على نوع من المثالية؟ ..

قد يقال : إنّها بصيرة مضارب.

ـ ولكن ، يا لها من مضاربة عجيبة! ما كان لأي حساب احتمالي أن يسوغها ، دون تدخل من الإيمان.

وإذن ، فما هو ذلكم الإيمان ، إن لم يكن الإعتقاد فيمن ليس بالنسبة إلينا مدركا بحواسنا ، ولا قابلا للإثبات بعقلنا وحده؟ .. فهو حساب إذن ، إن وجد ،

٦٨٨

ولكنه أرفع قدرا ، وأقل غرضا من حساب المضاربين جميعا ، إذ أنّ مخاطره في نظر العقل العملي السّليم أكبر بكثير من فرص نجاحه ، غير أنّ الإنسان يوافق عليها ، ويرتضيها إلى حدّ التّضحية العليا ، بفضل الثّقة وحدها.

وقد يلح بعضهم أيضا بإدعاء المساوىء الأخلاقية الّتي قد ننتج من قلب العلاقة بين الغاية ، والوسيلة. وهنا لا بد من وضع الأمر في نصابه : ما مقياس هذا القلب؟ .. إنّه ـ كما رأينا ـ الإستقلال الّذي يمنح للمنفعة على حساب الواجب. ولنسأل إذن أي مؤمن : إذا كانت هذه يمكن أن تكون حالته في أيّة لحظة؟ .. أو فليلق على نفسه ـ بالحريّ ـ الأسئلة الآتية.

لو أنّي تصورت المحال ، لأرى أنّ العمل بالشرع ليست له أية مكافأة ، فهل أفكر حينئذ في أن أطلب عليه بعض الأجر؟ ..

وإذا كان انتهاك الواجب لا يستتبع أية عقوبة فهل يضعف بسبب ذلك ، تمسكي بطاعته؟ ..

وإذا كنت لسبب ما مطمئنا إلى أنّ جميع ذنوبي سوف تغفر فهل تكون هذه بالنسبة إليّ فرصة لإرتكابها؟ ألا يكون كلّ هذا بالأحرى سببا إضافيا لكي أثبت كما قال الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّي عبد شكور؟ (١) واستمع إلى هذا التّأمل من الشّاعر (٢) :

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٣٨٠ ح ١٠٧٨ و : ٤ / ١٨٣٠ ح ٤٥٥٦ و : ٥ / ٢٣٧٥ ح ٦١٠٦ ، «أفلا أكون عبدا شكورا». انظر ، مسند أحمد : ٤ / ٢٥٥ ، المعجم الأوسط : ٢ / ٣٣٦ ح ٢١٥٤ ، مجمع الزّوائد : ٢ / ٢٧١ ، سنن التّرمذي : ٢ / ٢٦٨ ح ٤١٢ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٩ ح ٣١١ ، صحيح مسلم : ٤ / ٢١٧١ ح ٢٨١٩ و : ٤ / ٢١٧٢ ح ٢٨٢٠ ، تفسير القرطبي : ٤ / ٣١٠ ، سنن البيهقي الكبرى : ٧ / ٣٩ ح ١٣٠٥٢ ، مسند أبي عوانة : ١ / ١٧٤.

(٢) تنسب هذه الأبيات إلى الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، كما جاء في بحار الأنوار : ٧٨ / ٦٩ ح ١٦٣ ، التخويف من النّار لابن رجب الحنبلي : ١٧.

٦٨٩

هبّ البعث لم تأتنا رسله

وجاحمة النّار لم تضرم

أليس من الواجب المستحقّ

ثناء العباد على المنعم؟!

وهكذا نجد أنّ الأهمية الّتي يعلقها مؤمن صحيح الإيمان على السّعادة لا تمثل سوى منفعة فرعية ، ثانوية ، أو زيادة يمكن أن يستغني عنها عند اللّزوم ، حين توشك أن تهدد أعظم هدف جوهري في نظره وهو : إرضاء الله.

وهذا الموقف العاقل ، النّبيل ، الّذي يرى بنظرة واحدة المثل الأعلى الخالص ، وضعف الفطرة المجردة ـ هذا الموقف متمثل بأكمل صورة في دعاء جميل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحين كفر القوم به ، وجحدوا الحقّ الّذي أنزل معه ، وعرضوه لأشد ألوان الإضطهاد ـ نادى ربّه : «أللهمّ إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على النّاس ، يا أرحم الرّاحمين ، إلى من تكلني ، إلى عدوّ يتجهّمني ، أم إلى قريب ملّكته أمري ، إن لم تكن ساخطا عليّ فلا أبالي ، غير أن عافيتك أوسع لي» (١).

فلنمض إلى ما هو أعمق ، ولنسأل أنفسنا عن درجة هذا الطّموح إلى السّعادة المقبلة ، وعن أهميته ، حتّى نعرف إذا كان من الممكن أن ينشىء لدى المؤمن دافعا مستقلا ، وصالحا ليقود إرادته بمفرده.

فأمّا من الوجه الّذي يصوغ به القرآن ، وعوده فلا بدّ من شرطين لإستحقاق السّعادة الأبدية : طهارة القلب ، والإيمان الدّائم ، حتّى الموت ، وبالأخص في

__________________

(١) انظر ، الجامع الصّغير : ١ / ٢٢١ ح ١٤٨٣ ، وهو النّص الّذي اخترناه. (المعرب). وانظر ، كتاب الدّعاء للطبراني : ٣١٥ ، كنز العمال : ٢ / ١٧٥ ح ٣٦١٤ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٧ / ٨٥ ح ٦ ، السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٦٨ ، تفسير الطّبري : ١ / ٥٥٤ ، تفسير القرطبي : ١٦ / ٢١١ ، فيض القدير : ٢ / ١١٩ ، الأحاديث المختارة : ٩ / ١٨١.

٦٩٠

نهاية العمر.

فمن ذلك الإنسان ، الّذي يدّعي بيقين أنّه استوفى هذين الشّرطين ، حتّى أشدّ النّاس طاعة ، وخضوعا؟ ..

وهل تكون المكافأة العظيمة الّتي يمكن تصورها من القوة بحيث تحرك هذه النّفس القلقة ، نفس المؤمن ، إنّ هذا القلق تعبر عنه أصدق تعبير الآيتان الكريمتان : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) (١)؟ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) (٢).

بيد أنّ فاعلية الشّعور المضاد ليست بأقل إثارة للجدل ، فهل توقع العقاب في الحياة الأخرى ، مهما يكن فظيعا ، يكفي حقا لقهر الإغراء الحاضر للشر ، وتحويل الإرادة عنه؟ .. إنّ لنا الحقّ أن نشك في هذا ، بقدر ما نضع في مواجهة ذلك الإنذار سعة الرّحمة الإلهية.

وإذن ، فلا يصح من النّاحية العامّة أن تطغى إحدى هاتين الفكرتين بمفردها ، على ضمائر المؤمنين ، وذلك ما تنبغي ملاحظته في وصف القرآن للأنفس الصّالحة ، فهو يقدمها إلينا في الواقع متأثرة بالحالتين المتعارضتين في وقت واحد : الخوف والرّجاء ، وانظر مثلا قوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٣) ، وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) (٤) ، وقوله : (أَمَّنْ هُوَ

__________________

(١) الأحقاف : ٩.

(٢) المؤمنون : ٦٠.

(٣) الأعراف : ٥٥ ـ ٥٦.

(٤) الإسراء : ٥٧.

٦٩١

قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) (١).

أيّة نتيجة يمكن أن نحصل عليها من خلط هذين العنصرين المتضادين ، اللذين يبطل كلّ منهما أثر الآخر ، أو كما يمكن أن يقال : من خلط نصفي الشّعور هذين ، إن لم تكن النّتيجة استشعارا غامضا ، لا يمكن تصويره ، وترجمة في لغة عاطفية للإرادة المستسلمة ، الخاضعة بإختيارها لأوامر الواجب ، مهما كانت النّتائج؟

«افعل ما يجب ، وليكن ما يكون» ، ـ ذلك في آخر الأمر ـ هو الموقف الّذي تؤدي إليه حالة الشّك ، الّتي تزلزل قلب المؤمن.

فإذا أردنا أن نطلق على هذا الوليد اسما ـ بأي ثمن فلسنا نجد خيرا من أن نطلق عليه : (شعور الحياء) ، وهو حالة مخففة تقع بين انفعالين قويين كما إنّه أقرب شيء إلى (شعور الإحترام) ويمكن تعريف هذا الشّعور بأنّه : (مفارقة المرء للشر ، مخافة أن يتدنس ، أو يحمر خجلا أمام نفسه ، وأمام الله).

وإنّها لصدفة سعيدة أن نجد لدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا المفهوم نفسه على أنّه السّمة الّتي تميز الأخلاق الإسلاميّة ، فيقول : «لكلّ دين خلق ، وخلق الإسلام الحياء» (٢) وفي رواية : «إن لكلّ دين خلقا ..» (٣).

__________________

(١) الزّمر : ٩.

(٢) انظر الموطأ لمالك : ٢ / ٩٠٥ ح ١٦١٠ ، مستدرك الوسائل : ٨ / ٤٦٥ ، مسند الشّهاب : ٢ / ١٢٣ ح ١٠١٩ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٣ / ٣٣٦ ح ٥٠١٢ ، مكارم الأخلاق : ٤١ ، الّتمهيد لابن عبد البر : ٢١ / ١٤١ ، الإصابة لابن حجر : ٣ / ٥٢٨ ح ٤٢٦٦.

(٣) انظر ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١٣٩٩ ح ٤١٨١ ، روضة الواعظين : ٤٦٠ ، الجامع الصّغير : ١ / ٩٧ ح ١٣ ، ـ

٦٩٢

وقد جرى العرب بإعتماد الأخلاق اليهودية على أنّها (شريعة الخوف) ، والأخلاق المسيحية على أنّها (شريعة الحبّ). ولكن مؤلفا ـ فيما نعلم ـ لم يحاول حتّى الآن أن يستخلص ـ على هذا النّسق من الأفكار ـ العنصر الغالب على الأخلاق الإسلاميّة ، فها نحن أولاء قد أوردناه من حديث مؤسس هذه الأخلاق ـ ذاته ، وهو ما يفسر ، مرة أخرى ، الفكرة المركزية لهذه الدّراسة ، أعني : أنّ النّظرية الإسلاميّة تجمع مختلف المبادىء اللازمة للحياة الأخلاقية في تركيب منسجم ، بحيث تجعلها جميعا تتجه نحو الوسط العادل.

ولنعد إلى موضوعنا ، ولنفترض أنّ شعورا واضحا بالخوف ، أو بالرجاء يمكن أن يولد لدى المؤمن طاعة نفعية ، عن طريق توقع السّلام الموعود. فلسوف نقول إذن بأنّ ما تقوم به الإرادة لتحويل هذه الغاية الوجودية إلى غاية إرادية ، أي لتجعل منها دافعا للعمل ـ هذا التّحويل يخلق بلا شك علاقة جديرة ، أو مسافة معينة بين وجهة نظر المشرع ، ووجهة نظر الذات.

ولما كانت هذه المسافة لا يمكن تجنبها تقريبا ـ في الأنفس الضّعيفة ، فإنّها لا يمكن أن تنشىء جريمة أخلاقية ، وإنّما هي من قبيل اللّمم الّذي يغفره أي شرع عادل ، وإن كان يعريه من أيّة قيمة إيجابية.

ولقد رأينا كيف يعرف الغزالي «النّيّة الحسنة» ، بالمعنى الرّفيع للكلمة ، ثمّ هو يتحدث بعد ذلك عن هؤلاء الّذين يدفعهم إلى الطّاعة خوف العقاب ، أو إغراء

__________________

ـ عن النّعمان بن بشير ، مصباح الزّجاجة : ٤ / ٢٣٠ ، مسند أبي يعلى : ٦ / ٢٦٩ ح ٣٥٧٣ ، نوادر الأصول في أحاديث الرّسول : ٤ / ٤٥ ، الّتمهيد لابن عبد البر : ٩ / ٢٥٧ ، فيض القدير : ٢ / ٥٠٨ ، ميزان الإعتدال : ٨ / ١٨٢ ح ٦٤٩ ، تهذيب الكمال : ٩ / ٢٢٢ ، مستدرك الوسائل للنوري : ٨ / ٤٦٥.

٦٩٣

الثّواب ، فيقول : «الحقيقة ألا يراد بالعمل إلّا وجه الله تعالى ، وهو إشارة إلى إخلاص الصّديقين ، وهو الإخلاص المطلق ، فأمّا من يعمل لرجاء الجنّة ، وخوف النّار فهو مخلص ، بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة. وإلّا فهو في طلب حظ البطن ، والفرج ، وإنّما المطلوب الحقّ لذوي الألباب وجه الله تعالى فقط» (١).

إنّ البحث عن السّعادة المقبلة ليس سوى حالة خاصة المفهوم أكثر عموما ، هو السّعي إلى غايات ذاتية ، وصفناها بأنّها مشروعة ، ولكنها مبتذلة ، وقلنا : إنّ الشّرط في هذا التّقدير (الوسط) ألا تكون الإرادة مدفوعة إلى الموضوع المراد ، مستقلة عن الشّرع ، بل بناء على موافقة ضمنية على الأقل بأنّ تتابع السّعي في هذا الموضوع ، بهذا العمل ، أو ذاك.

ولنضف هنا شرطا آخر يظل خفيا بعض الشّيء ، وغير محدد بصورة كافية. فلكي نستحق هذا التّقدير (الوسط) يجب كذلك أن يكون التّأثير الّذي يمارسه القانون الأخلاقي على هذه الإرادة النّفعية ذا طابع (مقيّد ، ومحدّد) لا أكثر ومعنى هذا : أنّه يمنعها من أن تمضي إلى ما وراء الغاية المقصودة ، ولكنه لا يقدم لها أي سبب صالح لتشجيعها على العمل ، وإلّا فإنّ الإرادة تسترد اعتبارها ، كما ينظر إلى النّيّة على أنّها حسنة من النّاحية الأخلاقية.

والواقع أنّه ما دامت الإرادة لا تمسك من الموضوع المراد سوى كونه مباحا ، فكيف يتسنى لها أن تتجه نحو هذا الموضوع ، بله أن تتجه إلى عكسه (الّذي هو أيضا مباح ـ افتراضا) ، لو لم تكن مدفوعة بأشياء خارج الشّرع ، كالميل ،

__________________

(١) انظر ، إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٣٦٩.

٦٩٤

أو العادة؟ ...

إنّ الشّهوة ، حتّى لو كانت مقيدة بالقاعدة ، هي دائما شهوة ، ولذلك نعد من باب التّافه المبتذل ذلك السّعي إلى الخير الشّخصي ، عاجله ، وآجله ، بل هو فقط من باب المباح.

ولن يكون الأمر كذلك حين تكشف الإرادة من وراء اللامبالاة الظّاهرية الّتي يبديها القانون ، أسبابا إيجابية «تجعل العمل أفضل من الإمتناع ـ من النّاحية الأخلاقية» ، فتسعى هذه الإرادة إلى الموضوع ، لا من حيث هو مشبع لشهوة ، بل من حيث إنّ هذا الإشباع سوف يكون فرصة لخير أخلاقي ندب إليه الشّرع.

وإليكم أمثلة مستقاة من السّنّة النّبوّيّة :

١ ـ الكسب :

وذلك أنّ النّشاط المنظم في اكتساب خيرات الأرض تتغير قيمته ، تبعا للهدف الجوهري الّذي يختطه لنفسه ، وتبعا للروح الّتي تحركه.

فإذا كان الهدف هو الفرح بالتملك ، وإمكانة الّتمتع بالحياة دون تعثر ، فإنّه يظل متوجها إلى الفطرة ، ولا يستحق أكثر من أن يوصف بأنّه (لا بأس به). ومن هذا الباب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا بأس بالغنى لمن اتقى» (١).

فأمّا إذا كان في مصدر هذا النّشاط نظرة نزيهة ، وإذا كان العامل يتحرك متطلعا

__________________

(١) انظر ، سنن ابن ماجه : ٢ / ٧٢٤ ح ٢١٤١ ، مصباح الزّجاجة : ٣ / ٦ ، مسند أحمد : ٥ / ٣٧٢ ح ٢٣٢٠٦ ، الأحاد والمثاني : ٥ / ٢٨ ح ٢٥٦٦ ، الأدب المفرد : ١ / ١١٣ ح ٣٠١ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٥ / ٢٠١ ح ٧٩٤٩ ، البيان والتّعريف : ٢ / ٢٧١ ، فيض القدير : ٦ / ٣٨٢ ، تهذيب الكمال : ١٤ / ٤٥١ ، كشف الخفاء : ٢ / ٤٦٨ ح ٢٩٨٧.

٦٩٥

إلى نظام أفضل في توزيع السّعادة العامّة ، وهو نظام يرجو أن يسهم فيه بهذا النّشاط ، سواء بأن ينسى نفسه ، أو بأن يعتبرها فردا في هذا النّظام الشّامل ، حينئذ تصبح النّيّة جديرة بالتقدير ، والثّناء ، بعد أن كانت نيّة مبتذلة ، وفي ذلك يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري : «فنعم صاحب المسلم ، ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السّبيل» (١). ولعلنا نتذكر هنا ما سبق من قوله عليه الصّلاة والسّلام بشأن الخيل أنّها : (لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر) (٢).

٢ ـ الكماليات :

وهذه القيمة ذاتها يمكن أن يوصف بها الإستعمال المعتدل لأدوات التّرف والرّفاهية بعامة (٣) ، وذلك إذا كنّا لا نتصور هذه الكماليات على أنّها تجيب عن تطلعنا ، وتشبع حاجتنا الفطرية ، بل بحسبانها إحسانا ترتضيه العناية الإلهية ، إلى جانب أنّ الرّضا بها يجعلنا موافقين لمشيئتها : «إنّ الله جميل يحبّ الجمال» (٤) ،

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٥٣٢ ح ١٣٩٦ ، شعب الإيمان : ٧ / ٢٧٥ ح ١٠٢٩٠ ، تفسير القرطبي : ١٩ / ٢٨٥ ، صحيح مسلم : ٢ / ٧٢٨ ح ١٠٥٢ ، المسند المستخرج على صحيح مسلم : ٣ / ١١٧ ح ٢٣٤٦ ، سنن البيهقي الكبرى : ٣ / ١٩٨ ح ٥٥٠١ ، مسند أحمد : ٣ / ٢١ ح ١١١٧٣ ، مسند الطّيالسي : ١ / ٢٩٠ ح ٢١٨٠ ، شرح النّووي : ٧ / ١٤٤.

(٢) تقدم إستخراجه.

(٣) من أمثلة ذلك الإلتزام بحسن الهندام ، والنّعال ، وقد ورد هذان المثالان نصا في استفسار يجيب عنه الحديث الوارد في سياق الكلام.

(٤) انظر ، صحيح مسلم : ١ / ٩٣ ح ٩١ ، فقه الرضا لعلي بن بابويه : ٣٥٤ ، صحيح ابن حبّان : ١٢ / ٢٨٠ ح ٥٤٦٦ ، قواعد الأحكام : ١ / ٣٨ ، المستدرك على الصّحيحين : ١ / ٧٨ ح ٦٩ ، مختلف الشّيعة : ١ / ٣٨ ، ـ

٦٩٦

ومعترفين ـ في الوقت نفسه ـ بفضلها : «إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده» (١).

فإذا أخذت المسألة على هذا النّحو لم يكن الإستمتاع المعتدل بما وهبنا الخالق من عناصر الطّبيعة ـ مباحا فقط ، ولكنه يصبح مندوبا إليه ، من حيث إنّه يتيح لنا أن نبرهن على شكرنا للمنعم المتفضل.

٣ ـ الإستثناءات :

فالحرمان الإرادي مما مكننا الله منه يشبه إذن أن يكون اعتراضا سيئا ، وغير مهذب على مقاصد الفضل الإلهي ، ويصدق ، هذا بخاصة على الحالات الاستثنائية الّتي يريد الشّرع أن يوفر علينا فيها مواجهة بعض الصّعوبات ، فهو يحدث بعض الاستثناءات للقاعدة العامّة : «إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه ، كما يحبّ أن تؤتى عزائمه ، (أو) كما يكره أن تؤتى معصيته» (٢). فمن استعمل هذه

__________________

ـ سنن التّرمذي : ٤ / ٣٦١ ح ١٩٩٩ ، إرشاد الأذهان : ١ / ٥٧ ، مجمع الزّوائد : ١ / ٩٨ ، وسائل الشّيعة : ٥ / ١٤ ح ٧ ، المعجم الأوسط : ٥ / ٦٠ ح ٤٦٦٨.

(١) انظر ، سنن التّرمذي : ٥ / ١٢٣ ح ٢٨١٨ ، الخصال : ٦١٣ ، المعجم الأوسط : ٥ / ٦١ ح ٤٦٦٨ ، تحف العقول : ٥٦ ، مسند أحمد : ٢ / ٣١١ ح ٨٠٩٢ ، وسائل الشّيعة : ٣ / ٣٦٢ ح ٤ ، مسند الطّيالسي : ١ / ٢٩٩ ح ٢٢٦١ ، مكارم الأخلاق للطبرسي : ١٠٣ ، المعجم الكبير : ١٨ / ١٣٥ ح ٢٨١ ، بحار الأنوار : ١٠ / ٩٢.

(٢) والحديث بالراوية الأولى ، أخرجه البزار عن ابن عباس ، كما في التّرغيب ، والتّرهيب للحافظ المنذري : ٢ / ٩٢ ح ١٦١١ ، وبالثانية رواه أحمد عن ابن عمر : ٢ / ١٠٨ ح ٥٨٦٦ و ٥٨٧٣. «المعرب» ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٦٩ ح ٣٥٤ ، موارد الظّمآن : ١ / ٢٢٨ ح ٩١٣ و ٩١٤ ، مجمع الزّوائد : ٣ / ١٦٢ ، سنن البيهقي الكبرى : ٣ / ١٤٠ ح ٥١٩٩ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٥ / ٣١٧ ح ٢٦٤٧٢ ، المعجم الأوسط : ٣ / ٨٩ ح ٢٥٨١ ، و : ٥ / ٢٧٥ ح ٥٣٠٢ ، مسند أبي يعلى : ١ / ١٤٢ ح ١٥٤ ، المعجم الكبير : ١٠ / ٨٤ ح ١٠٠٣٠ و : ١١ / ٣٢٣ ح ١١٨٨٠.

٦٩٧

الاستثناءات ، بروح النّظام ، والموافقة الكلية ، لا على سبيل التّرف ، والتّفريط ـ فإنّه يرتقي إلى ما فوق مرحلة براءة العوام ، وهو يبرهن بذلك على تواضعه ، وخشوعه أمام الله ، حين يقر بعدالة كلّ إجراء رحيم ، من لدنه ، بإعتباره تلطفا إلهيا بضعفنا الإنساني.

وبعكس ذلك ، فإنّ من يزعم لنفسه القوة على تحمل المشقة ، وعلى التزام الإجراء الصّارم ، الّذي يتقرر في الظّروف العادية ، أو شك أن يقول لله : «إنني أستطيع أن أستغني عن رحمتك».

٤ ـ اللّعب :

هل هناك ما هو أكثر ابتذالا ، وتفاهة في نظر الحكمة القرآنية من اللّعب واللهو؟ وكلما أراد القرآن أن يضع من شأن الحياة الدّنيوية ، وأن يحقرها ـ هل استعمل في ذلك سوى أن يصفها بهذين اللّفظين : (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (١)؟ ..

ومع ذلك ، فإنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحدث عن بعض الألعاب الرّياضية (كالرمي ، وتربية الخيل) ، وهي ألعاب ذات قيمة ، فقال عن عثمان رضى الله عنه : «كلّ شيء ليس من ذكر الله ، فهو لعب ولهو ، إلّا أن يكون أربعة : ملاعبة الرّجل امرأته ، وتأديب الرّجل فرسه ، ومشي الرّجل بين الغرضين ، وتعليم الرّجل السّباحة» (٢).

__________________

(١) الأنعام : ٣٢.

(٢) انظر ، الجامع الصّغير للسيوطي : ٢ / ٩٣ ، وروى النّسائي : ٦ / ١٨٥ ، طبعة الحلبي و : ٦ / ٢٢٢ ح ٣٥٧٨ (وليس اللهو إلّا في ثلاثة : تأديب الرّجل فرسه ، وملاعبته امرأته ، ورميه بقوسه ونبله). «المعرب». انظر ، مجمع الزّوائد : ٨ / ٢٦٩ ، مسند أحمد : ٤ / ١٤٦ ، فيض القدير : ٥ / ٢٣ ، نصب الراية : ٤ / ٢٧٣ ، البيان والتّعريف : ٢ / ١٤٦ ، المحلى : ٩ / ٥٦ ، كتاب الأمّ : ٦ / ٢٠٨ ، المعجم الأوسط : ٨ / ١١٩ ح ٨١٤٧ ، المعجم الكبير : ٢ / ١٩٣ ح ١٧٨٥.

٦٩٨

وكما قال بعض الصّحابة : من حكم علي رضى الله عنه : «روحوا القلوب ، فإنّها إذا أكرهت عميت» (١) ، ومن أقوال أبي الدّرداء : «إنّي لأستحم نفسي بشيء من اللهو ، فيكون ذلك عونا لي على الحقّ» (٢).

لقد كانوا يرون أنّ من الخير أحيانا أن يريحوا أنفسهم ببعض اللهو ، حتّى يشحذوا أذهانهم ، ويستردوا طاقاتهم اللازمة لإستئناف النّشاط الأخلاقي بالمعنى الصّحيح.

من هذا كلّه تنبع نتيجتان واضحتان في الأخلاق الإسلاميّة.

الأولى : أنّ في هذه الأخلاق منطقة وسطى ، بين الحسن ، والقبيح.

والثّانية : أن تدخل النّيّة الحسنة يجعل الأعمال المباحة ، أو المسموح بها فقط ، أو حتّى الأعمال الّتي قلما ندب إليها الشّرع بعامة ـ يجعلها حسنة ، وجديرة بالثناء.

ولكن إذا كان الأمر كذلك فكيف نفسر هذه الصّرامة الّتي لجأ إليها أكثر الحكماء ، والنّساك في الإسلام ، ليحرموا على أتباعهم ، وأحيانا على أنفسهم ، أن يقبلوا على عمل من قبيل المباح فقط ، أو ينتفعوا برخصة ، وأن يتخلوا عن نزعاتهم حتّى ما كان منها أكثر اتصالا بالشرع ، أللهمّ إلّا في حالة الضّرورة القصوى ، الّتي يفرضها الحفاظ على الحياة؟ .. كيف نفسر هذا؟

__________________

(١) انظر ، المهذب البارع لابن فهد الحلي : ٣ / ١٧٣ ، شرح مئة كلمة للبحراني : ١٦٥ ، أدب الإملاء والإستملاء للسمعاني : ١ / ٦٨ ، عوالي اللئالي : ٣ / ٢٩٦ ح ٧٠ ، الجامع لأخلاق الرّاوي وآداب السّامع : ٢ / ١٢٩ ح ١٣٨٩.

(٢) انظر ، إحياء علوم الدّين : ٤ / ٣٦٤.

٦٩٩

والواقع أنّ منهجهم يتطلب أن يستشير كلّ فرد هواه ، لا لكي يتبعه ، بل لكي يأخذ جانب المعارضة منه تماما (١) ، وهم يعلنون ضرورة أن يشغل المرء نفسه بواجب جوهري ، هو (الواجب) ، أو بواجب كمال هو (المندوب) ، وهم يرون صراحة أنّ الإنسان مكلف بأن يقف في مواجهة الأشياء المباحة : (المباحات) ـ تماما كما يقف من الأشياء المحرمات. أليس في هذا خلط لنظامين اهتمت النّظرية اهتماما كبيرا بالتفرقة بينهما؟ وهل من المستطاع أن نوفق بين هذا الرّأي ، وتعاليم القرآن ، والحديث؟

أمّا فيما يتعلق بطريقتهم في صوغ تلاميذهم فإنّ لنا إجابة نستقيها من تعاليم الشّيوخ أنفسهم ، فهذه الصّرامة في النّظام ، كما يقولون ، ليست إلّا نوعا من العلاج يجب أن يفرضه المنتسبون على أنفسهم في مرحلة انتقال ، تختلف طولا وقصرا ، وهي طريقة لتحطيم قوة الشّهوة الحسية في أنفسهم ، الّتي تعتبر أقدم النّزعات ، وأرسخها جذورا في الفطرة الإنسانية ، وبذلك يتم الّتمهيد لسيطرة العقل.

وكلّنا يعرف التّأثير المشئوم الّذي يحدثه في النّفس تعود التّساهل ، فلكي يتم استئصال هذه الرّذيلة من أنفس المبتدئين يجب أن يتعاطوا أوّلا دواء على هذا النّحو من القسوة. فهم يبرئون المتطرف بالنقيض المتطرف ، حتّى يعود المرء بعد ذلك إلى الوضع العادي ، ومتى ما انطرحت عن نفسه أثقال هذه القوى المناهضة للأخلاق سمح لها بإرخاء العنان لجوارحها شيئا فشيئا ، إذ كانت مطمئنة منذئذ

__________________

(١) انظر ـ الحكيم التّرمذي ـ كتاب الرّياضة : ٣٤٥ و ٣٤٨ من المجموع. (المعرب).

٧٠٠