دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

برأيهم بالموافقة ، نذكر أصحاب أبي سليمان الدّاراني ، على حين أنّ علماء البصرة قد أيدوا الرّأي المعارض تماما (١). ولو أننا رجعنا إلى الضّمير العام ، فلن نعدم أن نلاحظ نفس التّعارض ، ونفس التّردد.

ألا تنطوي هذه الحيرة على تناقض في الفكر الأخلاقي ذاته ، وهو تناقض بين طريقتين في التّقويم ، كلتاهما مشروعة على سبيل الإحتمال؟.

أليست العبقرية ، وشرف الخلق ، والعظمة ، وطهارة النّفس ، كلّها موضوع تقدير ، وإعجاب لدى كلّ النّاس؟ ..

فإذا قارنا هذه الصّفات الفطرية بتلك الّتي تكتسب بالعمل فهل فعلنا سوى أن قابلنا الصّلب بالهش ، والدّائم بالمؤقت؟ ..

من ذا الّذي يتردد في أن يقول : أن يضع ثقته؟ ..

إننا لو خيرنا بين فنانين ، أحدهما يؤدي حركاته برشاقة ، وتلقائية ، والآخر لا يستطيع أن يؤدي نفس الحركة إلّا بعناء ، وعرق متصبب ، فمن الواضح أن نميز التّفوق عن التّوسط ، ونفضل دائما المطبوع عن المصنوع.

ييد أننا من ناحية أخرى ننظر إلى القولة المشهورة : (لكلّ بحسب أعماله) لا

__________________

(١) ونص هذه المسألة كما وردت في إحياء علوم الدّين : ٤ / ٤١. قال الإمام الغزالي : «فإن قلت : إذا فرضنا تائبين ، أحدهما سكنت نفسه عن النّزوع إلى الذنب ، والآخر بقي في نفسه نزوع إليه ، وهو يجاهدها ويمنعها ، فأيهما أفضل؟ فاعلم أنّ هذا مما اختلف العلماء فيه ، فقال أحمد بن أبي الحواري ، وأصحاب أبي سليمان الدّاراني : إنّ المجاهد أفضل ، لأنّ له مع التّوبة فضل الجهاد. وقال علماء البصرة : ذلك الآخر أفضل ، لأنّه لو فتر في توبته كان أقرب إلى السّلامة من المجاهد ، الّذي هو في عرضة الفتور عن المجاهدة. وما قاله كلّ واحد من الفريقين لا يخلو عن حقّ ، وعن قصور عن كمال الحقيقة .. إلخ» «المعرب».

٧٦١

على أنّها عادلة فحسب ، بل على أنّها هي العدالة ذاتها بحدها. وإذن ، فمن ذا الّذي لا يرى أنّ الصّفات الفطرية الّتي منحتناها الطّبيعة ـ ليست من عملنا؟.

أليس من واجبنا ـ إذا قسنا الأمور بهذا المقياس ـ أن نحتفظ للجهد بكلّ القيمة ، وأن نستبعد من حساب القيمة كلّ ما كان تلقائيا؟ ..

ثمّ .. أفلا يترتب على هذا المنطق أن تحتل نفس القديس حينئذ أدنى الدّرجات في سلم الجزاء؟ .. من الّذي يسلم بقبول ذلك؟ ..

هل يجب أن ننحاز إلى جانب ، في مواجهة هذا التّناقض؟ أو أن نبحث على حل وسط؟ ..

والحقّ أنّ الفضيلة في أيّة مرحلة من مراحل الحياة الأخلاقية ليست ثمرة خالصة من ثمرات الطّبيعة المحضة ، كما أنّها ليست نتيجة الإكتساب المطلق.

ذلك أنّ أسوأ النّاس ، وأكثرهم شرّا ، لا يخلو أن تكون في نفسه بذرة طيبة يستطيع استخدامها في صراعه ضد خلقه الخبيث ، كما أنّ أطهر الأنفس لا تستغني مطلقا عن بعض الجهد ، كيما ترتقي في مراتب الجزاء.

ولقد أثبتت اللّغة الفرنسية هذا المقياس المزدوج للقيمة ، حين أطلقت كلمة [Merite] على كلّ صفة فطرية ، أو مكتسبة ، جديرة بالتقدير ، حتّى لو كانت الجمال ، أو الغنى.

وإنّما يجب فقط أن نعترف بأنّ لدى النّاس إختلافا في نصيب كلّ منهم من عاملي الفضيلة ؛ ويجب أن نلاحظ في الوقت نفسه أنّ النّاس لا يتساوون دائما لا في موضوع الكفاح ، ولا في الشّكل الّذي ينبغي أن يبدو فيه جهدهم الأخلاقي.

٧٦٢

وهنا نجد من المناسب أن نتعمق أكثر ، لنكشف عن صيغة التّوفيق بين أحكامنا الأخلاقية.

وإنّا لنعتقد أننا نستطيع العثور على مفتاح الحل في التّفرقة الّتي أثبتها القرآن بين نوعين من الجهد ، أحدهما قد يطلق عليه [جهد المدافعة eliminatoire] effort والآخر هو [الجهد المبدع effort createur] :

آ ـ جهد المدافعة

ونقصد بعبارة (جهد المدافعة) تلك العملية الّتي نضع فيها في مواجهة الميول الخبيثة الّتي تحثنا على الشّر قوة مقاومة قادرة على دفع تأثيرها.

ولا أحد يستطيع أن ينازع في ضرورة عملية كهذه ، كلّما وجدنا أنفسنا أمام قوة معادية تريد أن تتغلب ، فواجبنا الأوّل في هذه اللّحظة ، ومهمتنا العاجلة الملحة هي أن نسكت سورتها. ولقد رأينا أنّ القرآن لا يفتأ في كثير من المواضع يطالبنا بهذه المقاومة ، وهو يعيد أولئك الّذين يعرفون كيف يقهرون شهواتهم بأعظم الغايات ، يقول تبارك وتعالى : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (١).

ومما يذكر هنا كحكم عملي ، من أحكام كثيرة : الصّوم المطلق ، الّذي يفرضه القرآن ، من طلوع الفجر الصّادق إلى غروب الشّمس ، في الجزء الثّاني عشر من

__________________

(١) النّازعات : ٣٤ ـ ٤١.

٧٦٣

السّنة ، وفي أحوال كثيرة ، غير هذه الفترة المفروضة. إنّ في ذلك بلا ريب تدريبا عظيما ، لحطم عبودية الجوارح.

ولكن ، هل هذا الإنتصار باهظ دائما ، وفي كلّ مكان ، لدرجة أنّه يقتضينا تضحية مرهقة؟ ..

إنّه على الرّغم من التّشاؤمية المفرطة ، الّتي تنظر إلى الحياة الأخلاقية من خلال منظار أسود ، والّتي ترى أنّ الشّر قانون الطّبيعة الّذي لا يرحم ـ فإننا نجيب عن هذا السّؤال بأنّه ليس الأمر هكذا دائما.

وبدهي أننا لا نريد أن نتكلم عن فطرة ملائكية ، لم تطرح بالنسبة إليها مشكلة الشّر مطلقا ، من حيث كان محالا على مثل هذه الفطرة أن تفعل غير الخير. ولسنا نتكلم أيضا عن مريض ، ربما تنقصه كلّية الطّاقة العضوية ، ليأتي شرّ ما ، وربما ينقصه الذوق العادي ليسيغ لذة معينة.

فهاتان الحالتان ، ما فوق الأخلاقية [Supramoral] ، والحياة الأخلاقي [amoral] ، هما خارج القضية سواء.

ولكنا وإن بقينا في مجال الفطرة الإنسانية الكاملة ، المزودة بالغرائز ، وبالعقل ـ نلاحظ لدى كثير من الأشخاص قدرا من الإنبعاث التّلقائي فيما يصدرون من قرارات خيرة ، وهو إنبعاث ذو درجات لا تحصى ، تصعد إلى أعلى درجة ، وتهبط إلى أدناها ، بحيث إنّ هذه القرارات لا تجد ما يقاومها حسيا من النّزعات المضادة.

ولا يقتصر الأمر على حالة اتخاذ قرار عادي ، أو تافه فحسب ، بل حتّى في

٧٦٤

حالة اتخاذ قرار عظيم الخطر ، نجد أنّ هذه العزيمة الّتي لا يحصل عليها الرّجل العادي إلّا بمجهود شاق ، تتحقق لدى هؤلاء الأشخاص بطريقة أكثر يسرا وطواعية.

وهذه الحالة الشّبه ـ تلقائية يمكن أن تحدث بطريقتين : فإمّا أن تكون منحة ، بفضل استعداد فطري ، وإمّا أن تكون «ثمرة جهد» ، بعد فترة تتفاوت في طولها وفيما تخللها من معاناة.

ففي الحالة الأولى ، حيث تكبت الأهواء إلى مستوى لا يكاد يدركه الشّعور ، وتحتل فكرة الخير في النّفس مكانا سنيّا ، يصبح العمل الصّالح موضوع حبّ ومتعة. وهذه الحال العلوية الّتي تستهدفها الحاسة الأخلاقية هي حال كبّار الصّالحين ، الّتي فطرهم الخالق عليها ، وبخاصة الرّسل ، الّذين اصطفاهم الله منذ البدء ، لتبليغ الرّسالة الإلهية ، و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (١).

وفي الحالة الثّانية لا تمضي الأمور هكذا إلّا إلى حدّ معين ، وبفضل كفاح شخصي متجدد غالبا. وليس قانونا فقط أن نقول : إنّ استخدام ملكة ما في اتجاه معين يغذي بنفس القدر هذه الملكة المستخدمة ، ولكن الله سبحانه يتدخل بمعونة إيجابية لهداية من يبحث عن الطّريق الصّحيح ، بحثا جادا ، والقرآن الكريم يعلن : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٢). وفي الحديث القدسي عن ربّ العزة تبارك وتعالى : «وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به ، وبصره الّذي يبصر

__________________

(١) الأنعام : ١٢٤.

(٢) العنكبوت : ٦٩.

٧٦٥

به ، ويده الّتي يبطش بها ، ورجله الّتي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينّه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ، يكره الموت ، وأنا أكره مساءته» (١).

ولكن ، إذا نزلنا أكثر من هذا ، إلى مستوى الإنسان الوسط ، ألا نلاحظ حالة شبيهة بهذه ، شبها جزئيا؟ ..

فحين نألف أن نقف أمام شهوة معينة ، سواء لنفكر في صفتها الّتي لا تليق بكائن عاقل ، أو لنحدس بنتائجها المخوفة ، وحين تبلغ هذه التّوقعات ، أو تلك القيم أن تملك علينا غالبا تصورنا ، وأن تنفذ إلى قلوبنا ، ـ ألا نحس في أنفسنا بقوة معينة نابضة ، كانت إلى ذلك الحين غير محسّة ، وهي منذئذ تيسر أمر ابتعادنا عن الشّر؟. وعليه ، فإذا كان القديس مدفوعا «بالحبّ» ، والرّجل الوسط مؤيدا «بالعقل» ، والعامي مقيدا «بالخوف» ، أو منجذبا «بالرجاء» ، فإنّ المنهاج دائما هو هو ، بصرف النّظر عن ذلك الفرق النّوعي بين الأفكار ، والمشاعر ، المتفاوتة في قدرها ، وشرفها. فالإرادة في هذه الحالة ، أو في تلك ، مزودة بمحركات أخرى تساعد على انطلاقها ، وحينئذ يصبح القرار أسرع ، وأيسر ، ويقل الجهد بنفس النّسبة.

ليس المراد من ذلك أن نقول : إنّه لم يعد هناك صراع ، وإنّما نستطيع القول بأنّه

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٥ / ٢٣٨٤ ح ٦١٣٧ ، والمؤلف مجتزىء في الأصل ببعض جمل الحديث ، وآثرنا إيراده كاملا. (المعرب). انظر ، مجمع الزّوائد : ٨ / ٢٠٦ ح ٧٨٣٣ ، القواعد والفوائد : ٢ / ١٨١ ، فتح الباري : ١٠ / ٤٦٢ ح ٥٦٩٣ ، المحاسن : ١ / ١٥٩ ، تحفة الأحوذي : ٨ / ٤٨٣ ، الكافي : ٢ / ٣٥٢ ح ٧ و ٨ ، شرح سنن ابن ماجه : ١ / ١٢٨ ح ١٧٨٩ ، توحيد الصّدوق : ٣٩٩ ، فيض القدير : ٥ / ٤١٢ ، وسائل الشّيعة : ٣ / ٥٣ ، تهذيب الكمال : ٢٦ / ٩٦ ، الجواهر السّنية : ٣٥٢ ، بحار الأنوار : ٥ / ٢٨٣.

٧٦٦

موجود ، حتّى في الحالة الحدّية ، الّتي لا يمكن تجاوزها ، وذلك على الأقل ما يتضح من مجموع النّصوص الّتي سوف نراها.

إنّ القوتين اللّتين نواجههما هنا ليستا مسلحتين على قدم المساواة. والقاعدة العامّة هي ما قال القرآن : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) (١) ، والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فيما روي عن ابن مسعود رضى الله عنه : «ما منكم من أحد إلّا وقد وكّل به قرينه من الجن. قالوا : وإياك يا رسول الله؟ قال : وإياي ، إلّا أنّ الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلّا بخير» (٢) ، وتلك هي حال عباد الله الصّادقين ، فليس للشيطان عليهم سلطان : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٣) ، (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٤).

وإنّ التّأثير الّذي تتعرض له فطرتهم الحساسة من هذا العمل الشّيطاني لهو أقل ثباتا ، ودواما من التّأثير الّذي يمارس على عامة النّاس ، فهو مجرد ظلام خفيف ناشيء عن ظل سحابة عابرة ، لا تلبث أن تتقشع : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٥).

__________________

(١) يوسف : ٥٣.

(٢) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / ٢١٦٨ ح ٢٨١٥ ، كتاب صفة القيامة ، والنّص الّذي ذكره المؤلف : (نعم ، ولكن ربي أعانني عليه حتّى أسلم) هو من رواية عائشة رضى الله عنه ، ولكن بقية السّياق تدل على أنّ المراد ما ذكرناه. «المعرب».

انظر ، مسند أحمد : ١ / ٤٠١ ح ٣٨٠٢ وص : ٤٦٠ ح ٤٣٩٢ ، بحار الأنوار : ٦٠ / ٢٩٨ ، المعجم الكبير : ١٠ / ٢١٨ ح ١٥٠٢٢ ، الأحاديث المختارة : ٩ / ٥٤٧ ح ٥٣٩ ، تفسير الميزان للسيّد الطّباطبائي : ٨ / ٦٣ ، تهذيب الكمال : ٩ / ٣٨ ، كشف الخفاء : ٢ / ٢٥٢ ح ٢٢٤٢.

(٣) النّحل : ٩٩.

(٤) الإسراء : ٦٥.

(٥) الأعراف : ٢٠١.

٧٦٧

والصّدمة الّتي يحدثها إلتماس الشّر في أنفسهم لا تتجاوز كثيرا شكة الإبرة في بناء صلب : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

وليس يغض من صدق هذا القول أن نجد أكثر النّاس صلاحا هم كذلك أناس متمتعون بفطرتهم الكاملة. وقد كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عن نفسه : «إنّما أنا بشر ، أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب البشر» (٢).

والواقع أنّ «الرّجل الصّالح في الإسلام» لا ينبغي أن يتصور على مثال «الحكيم البوذي» المجرد من الشّهوة ، ولا على مثال الحكيم الرّواقي الّذي لا يبالي بالألم. بل الأمر بعكس ذلك ، فبعض الأشياء يروق الرّجل الصّالح ، وبعضها يكرهه ، وما دام هواه الفطري ، أو الّذي اعتاده لا يتعارض مع واجب ، فهو في كلّتا الحالين لا يحاول أن يقاومه. ومن هذا القبيل ما روته السّنّة من عائشة رضى الله عنه ، قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبّ الحلواء ، والعسل» (٣).

وما روي عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكره الثّوم ، والبصل ، وأنّه

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٠.

(٢) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / ٢٠٠٩ ح ٢٦٠٣ ، صحيح ابن حبّان : ١٤ / ٤٤٤ ح ٦٥١٤ ، مجمع الزّوائد : ٨ / ٢٦٧ ، الأحاد والمثاني : ٢ / ٢٠٠ ح ٩٥٠ ، البيان والتّعريف : ١ / ٢٦٣ ، فتح الباري : ١١ / ١٧٢ ح ٥٩٩٩ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١٦ / ١٥١ ، حلية الأولياء : ٧ / ٢٠٨. ونعوذ بالله من هذا الحديث وأمثاله ؛ لأنّه يخالف عصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) انظر ، صحيح البخاري : ٥ / ٢٠٧١ ح ٥١١٥ و ٢٥٧٧ و ٥٢٩١ و ٥٣٥٨ ، صحيح مسلم : ٢ / ١١٠١ ح ١٤٧٤ ، صحيح ابن حبّان : ١٢ / ٥٩ ح ٥٢٥٤ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٢٧٣ ح ١٨٣٠ ، سنن التّرمذي : ٢ / ١٤٦ ح ٢٠٧٤ و ٢٠٧٥ ، سنن أبي داود : ٣ / ٣٣٥ ح ٣٧١٥ ، السّنن الكبرى : ٤ / ٣٧٠ ح ٧٥٦٢ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١١٠٤ ح ٣٣٢٣ ، مسند أبي يعلى : ٨ / ١٨٦ ح ٤٧٤١.

٧٦٨

قال : «من أكلّ ثوما ، أو بصلا فليعتزلنا ، أو ليعتزل مسجدنا ، وليقعد في بيته» (١). وما روي عن خالد بن الوليد بن المغيرة أنّه دخل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت ميمونة زوج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتي بضبّ محنوذ ، فأهوى إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، فقال بعض النّسوة اللاتي في بيت ميمونة : أخبروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يريد أن يأكلّ منه ، فقيل : هو ضبّ يا رسول الله ، فرفع يده ، فقلت : أحرام هو يا رسول الله؟ فقال : لا ؛ ولكنه لم يكن بأرض قومي ، فأجدني أعافه. قال خالد : فاجتررته فأكلته ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر» (٢).

ولقد «كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمزح ولا يقول إلّا حقا» (٣) ، وروى البخاري عن اسامة بن زيد قال : كنّا عند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسلت إليه إحدى بناته ، تدعوه ، وتخبره أنّ صبيا لها ، أو ابنا لها في الموت ، فقال للرسول : ارجع إليها فأخبرها أنّ لله ما أخذ ، وله ما

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٢٩٢ ح ٨١٧ و : ٦ / ٢٦٧٨ ح ٦٩٢٦ ، صحيح مسلم : ١ / ٣٩٤ ح ٥٦٤ ، مسند أحمد : ٣ / ٤٠٠ ح ١٥٣٢٧ ، المصنّف لعبد الرّزاق : ١ / ٤٤٦ ح ١٧٤١ ، السّنن الكبرى : ٤ / ١٥٨ ح ٦٦٧٩ ، سنن أبي داود : ٣ / ٣٦٠ ح ٣٨٢٢ ، سنن البيهقي الكبرى : ٧ / ٥٠ ح ١٣١٠٨ ، صحيح ابن خزيمة : ٣ / ٨٣ ح ١٦٦٤.

(٢) انظر ، موطأ مالك : ٢ / ٩٦٨ ح ١٧٣٨ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٥٤٣ ح ١٩٤٥ ، صحيح البخاري : ٥ / ٢٠٦٢ ح ٥٠٨٥ و ٥٢١٧ ، صحيح ابن حبّان : ١٢ / ٦٩ ح ٥٢٦٣ و ٥٢٦٧ ، سنن البيهقي الكبرى : ٩ / ٣٢٣ ، مسند الشّافعي : ١ / ١٦٨ ، سنن أبي داود : ٣ / ٢٥٣ ح ٣٧٩٤ ، مسند أحمد : ٤ / ٨٨ ، المعجم الكبير : ٤ / ١٠٧ ح ٣٨١٦.

(٣) انظر ، تهذيب الأسماء : ١ / ٥٧ ، شرح اصول الكافي : ٩ / ٣٩٨ ، تأويل مختلف الحديث : ١ / ٢٩٣ ، سنن التّرمذي : كتاب البر ، باب المزاح ، بحار الأنوار : ١٦ / ٢٩٤ ، فيض القدير : ٥ / ٢٦٥ ، مستدرك الوسائل : ٨ / ٤٠٩ ، المغني لابن قدامة : ١١ / ٣٤٤ ، مناقب آل أبي طالب : ١ / ١٢٨ ، كشف القناع : ٥ / ٣٦٩ ، ، شرح مئة كلمة لابن ميثم البحراني : ١٦١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٦٠ ، عوالي اللئالي : ١ / ٦٩.

٧٦٩

أعطى ، وكلّ شيء عنده بأجل مسمى ، فمرها فلتصبر ، ولتحتسب ، فعاد الرّسول فقال : إنّها قد أقسمت لتأتينها ، قال : فقام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقام معه سعد بن عبادة ، ومعاذ ابن جبل ، وانطلقت معهم ، فرفع الصّبي ، ونفسه تقعقع ، كأنّها في شنّة (١) ، ففاضت عيناه ، فقال سعد : ما هذا يا رسول الله؟ .. قال : «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنّما يرحم الله من عباده الرّحماء» (٢).

وهذه الظّاهرة نفسها حدثت عند ما : «اشتكى سعد بن عبادة شكوى له ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوده مع عبد الرّحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود ، فلما دخل عليه وجده في غشيّة ، فقال : أقد قضى؟ قالوا : لا يا رسول الله ، فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأى القوم بكاء رسول الله رضى الله عنه بكوا ، فقال : ألا تسمعون ، إنّ الله لا يعذب بدمع العين ، ولا بحزن القلب ، ولكن يعذب بهذا (وأشار إلى لسانه) أو يرحم» (٣).

ومع ذلك فإنّ أحيا المشاعر ، وأعمقها لا تتفجر عنده في هذا المواقف العادية المألوفة ، فلقد كان لإهتمامه بنجاة النّاس ، والآلام الّتي يحسها حين يرى ضلالهم ، كان لذلك تأثير موجع على نفسه ، والقرآن يخاطبه بقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ

__________________

(١) قوله تقعقع ، حكاية صوت نزع الرّوح ، والشنّة : القربة البالية ، أي : كأنّ روحه تتقلب في جسد ممزق ، لا تستقر في مكان منه. «المعرب». انظر ، لسان العرب : ٢ / ١٩٥ ، الغريب لابن سلام : ٢ / ٤٠.

(٢) انظر ، صحيح مسلم : ٢ / ٦٣٥ ح ٩٢٣ ، مستدرك الوسائل : ٢ / ٣٨٦ ، صحيح البخاري : ١ / ٤٣١ ح ١٢٢٤ و : ٦ / ٢٤٥٢ ح ٦٢٧٩ ، مسكن الفؤاد للشهيد الثّاني : ٩٥ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٢٠٨ ح ٤٦١ ، مجمع الزّوائد : ٣ / ١٨ ، سنن البيهقي الكبرى : ٤ / ٦٥ ح ٦٩٢١ و ٦٩٤١ ، بحار الأنوار : ٧٩ / ٩١ ، سنن أبي داود : ٣ / ١٩٣ ح ٣١٢٥ ، السّنن الكبرى : ١ / ٦١٢ ح ١٩٩٥.

(٣) انظر ، المراجع السّابقة ، والمعتبر للمحقق الحلي : ١ / ٣٤٤ ، الذّكرى للشهيد الأوّل : ٧٠ ، مسكن الفؤاد : ٩٥.

٧٧٠

نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (١).

وكما تتجه عواطفه الرّقيقة نحو هذه القيم العليا ، نجدها تتجه وجهة أخرى ، فيما حدثنا عن نفسه : «وجعلت قرة عيني في الصّلاة» (٢).

فالقداسة الإسلاميّة لا تتمثل إذن في لا مبالاة مطلقة حيال الفطرة ، ولكن في تفضيل مؤكد بصفة خاصة ، للقيم الرّوحية. ولذلك نجد أنّ القرآن حين يصف المؤمنين الصّادقين لا يقول : إنّهم لا يحبون إلّا الله ، ولكن يقول : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (٣).

وإذن ، فلكي نطرح مشكلة الجهد ، والإنبعاث التّلقائي لسنا بحاجة إلى أن نفترض حالة تكون فيها القوى المناهضة للواجب منعدمة تماما ، بل حسبنا أن ننطلق من واقع عدم التّساوي بين القوى المتصارعة ؛ لأنّ أدنى تفوق للشعور الخير يجب أن يخفف بنفس النّسبة من ثقل التّكليف ، ومن التّضحية الّتي تفرضها المقاومة ، ولقد ذكر القرآن هذه الملاحظة ، فبعد أن أوصى بأن نستعين بالصبر والصّلاة قال : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (٤).

__________________

(١) الشّعراء : ٣.

(٢) انظر ، سنن النّسائي (المجتبى) : ٧ / ٦١ ح ٣٩٣٩ ، ونص الحديث : «عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حبب إليّ من الدّنيا النّساء ، والطّيب ، وجعلت قرة عيني في الصّلاة». (المعرب). وانظر ، المصنّف لعبد الرّزاق : ٤ / ٣٢١ ح ٧٩٣٩ ، المعجم الأوسط : ٥ / ٣٤١ ح ٥٢٠٣ ، الكافي : ٥ / ٣٢١ ، مسند أحمد : ٣ / ١٢٨ ح ١٢٣١٦ ، الخصال : ١٦٥ ، مسند أبي يعلى : ٦ / ١٩٩ ح ٣٤٨٢ ، وسائل الشّيعة : ٢ / ١٤٤ ح ١٢ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٢ / ١٤٣ ح ٢٧٣٣ ، فيض القدير : ٢ / ١٤٦ ، رسائل الكركي : ٣ / ٢٢٥ ، الحبل المتين للبهائي : ١٥٤ ، لسان الميزان : ١ / ٤١٥.

(٣) البقرة : ١٦٥.

(٤) البقرة : ٤٥.

٧٧١

وليس من العسير أن نرى ـ في الواقع ـ من خلال النّزاع الّذي يقابل بين قوى متنافرة على هذا النّحو ـ انتصارا يبدو ، أو يتجلى في خطوطه العريضة ، ونقول فقط : «في خطوطه العريضة» ، لأننا لسنا بصدد عمل خاص تبلور بصورة ما ، ويقبل عليه الإنسان عند الإقتضاء بطريقة مباشرة وآلية ، بل هو مجرد وجهة يدل عليها بصورة إجمالية مبسطة ـ الإتجاه الأكثر نضجا وتطورا.

والآن ، ما قيمة العمل الّذي يؤدى في الظّروف الّتي وصفناها؟ ...

إنّه عمل ، لا هو بالتلقائي المحض ، ولا هو بالكسبي الكامل ، فهو ثمرة قوتين متضافرتين : الفطرة ، والشّخص ، كما هي الحال في كلّ عمل إنساني آخر ، مع مقادير مختلفة ، ولكن ألا ينبغي أن ينقص الثّواب الشّخصي كلما زاد إسهام الفطرة؟ ..

هذا هو السّؤال.

إنّ هناك أوّلا حالة تبدو فيها ـ بداهة ـ استحالة القول بالإيجاب ، وهي حالة الرّجل الوسط الّذي يحرز التّقدم ، وتعتبر هذه المرونة الفطرية بالنسبة إليه كسبا للإرادة ، فلنقف الآن أمام هذه الحالة.

أليس بخسنا للعمل الأخلاقي الّذي أصبح ميسورا نسبيا ، معناه أننا ننكر الجهد ذاته ، في خير نتائجه؟ ..

لقد طالما ذكرنا أنّ الغاية من الصّراع لا تكمن في الصّراع نفسه ، بل في النّصر الّذي يسفر عنه. ومع ذلك فلا ينبغي لهذا النّصر أن يحمل على معنى عرضي ، أو صدفي ، فإذا كنت للمرة الأولى أصارع ضد إغراء معين ، واستطعت أن أفلت منه فليس ذلك سببا كافيا لأن أمنح لقب المنتصر ، فمن ذا الّذي يدري ما ذا كنت أكون

٧٧٢

لو أنّ الصّدفة لم تسهم بجانب من العمل ، صغر أو كبر؟ .. ولقد قيل في المثل : إنّ عندليبا واحدا لا يصنع الرّبيع (١).

ولا شك أنّ هذا هو السّبب في أنّ أرسطو قد وضع الفضيلة في طائفة العادات. فلنترك إذن الظّروف تتغير ، ولندع الفرصة تسنح في أشكال مختلفة ، فإذا ما حصلت على نفس النّصر ، فحينئذ أستطيع أن أنشرح له ، ولكنه ليس انشراحا كاملا أيضا.

ذلك أنّه ، إذا كنت في كلّ مناسبة ينبغي أن ألجأ إلى نفس مصادر الدّعم ، وأن أعاني نفس المصاعب ، حتّى أضمن لنفسي المطابقة الأخلاقية في سلوكي ، فإنّي أؤكد بذلك أنّ صفة الّتمرد في فطرتي تبقى كاملة ، إن لم أقل : إنّها بدت عاجزة عن أن تتطور. ولعل المثال الكلاسيكي عن الطّفل الّذي يحاول أن يغرق كرته في الماء دون جدوى ـ يعطينا صورة كاملة عن هذه المحاولات المتماثلة دائما ، دون أن تحرز تقدما.

لسوف يبذل المسكين قصاراه ليغرق كرته ، ولسوف تثب كرته وتطفو كلما تركها ، إلّا أن يخرقها ، أو يربط فيها ثقلا.

ولسنا نغالي مطلقا ، حين نؤكد أنّ كلّ الإهتمام الأخلاقي ، كما وصفه المتصوفة المسلمون ، كان موضوعه على وجه التّحديد أن يوقف ضرورة هذا

__________________

(١) هذا المثل بالفرنسية هو :(une hinon delle ne fair pas le printemps)

والمراد به أنّ عملا واحدا لا ينهض مطلقا بتقييم الإنسان والحكم عليه ، كما أنّ وجود طائر واحد من هذا النّوع لا يسوغ الحكم بأنّ الدّنيا ربيع ، أي أنّه لا بد من كثرة الأعمال ، كما لا بد من آلاف من العندليب للتبشير بالربيع. «المعرب».

٧٧٣

الإنهماك في المقاومة ، وأن يحقق نوعا من التّوازن الدّاخلي ، أو يقترب منه بقدر الإمكان.

وهاك مثلا من بين ألف أخرى تصدّق هذه الحقيقة ، وقد سيق إلينا في القصة التّالية الّتي يستبطن فيها أبو محمّد المرتعش ذاته :

فلقد كان من عادة هذا الصّوفي أثناء حجّه السّنوي أن يفرض على نفسه كلّ أنواع المشقات ، كان يحتمل الجوع ، والتّعب ، دون أن يشعر بأي اعتراض في نفسه ، حتّى ظن أنّه قد أصبح متحكما في ميوله الغريزية ، إلى أن وقع حدثه تافه فتح له عينيه ، ولنتركه يتحدث ، قال : «وذلك أنّ والدتي سألتني يوما أن استقي لها جرة ماء ، فثقل ذلك على نفسي ، فعلمت أنّ مطاوعة نفسي في الحجات كانت لحظّ ، وشوب لنفسي ، إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حقّ في الشّرع» (١) ، وما لبث صاحبنا في استعادته لما قام به أن أدان كلّ أعماله السّابقة ، وأدرك أنّ مهمته لما تكن قد بلغت غايتها.

«فالهدف من الجهد إذن هو تقليل الجهد» ، وأعظم ميزة نحصل عليها منه هو أن يجعلنا مستقلين عنه شيئا فشيئا ، وذلك في نفس الوقت الّذي يجعلنا فيه أكثر

__________________

(١) انظر ، الرّسالة القشيرية : ٤٩ طبعة سنة ١٩٥٧ م ، وأخبار أبي محمّد المرتعش ورد بعضها متناثرا في هذه (الرّسالة). وجاءت مجموعة في (طبقات الصّوفية) لابن عبد الرّحمن السّلمي : ٣٤٩ وما بعدها ، بتحيق الشّيخ نور الدّين شريبة ، وفي الطّبقات الكبرى للشعراني : ١ / ١٠٥ طبعة الحلبي ، وقد كان رضوان الله عليه شديدا على نفسه ، كثير الشّك في عمله ، وكان يقول : «سكون القلب إلى غير الله عقوبة عجلها الله للعبد في الدّنيا» ، وروي أنّه اعتكف مرة في العشر الأخير من رمضان فرأى المتعبدين يتهجدون ، والقراء يقرأون ، فقطع الإعتكاف ، وخرج ، فقيل له في ذلك ، فقال : لما رأيت تعظيمهم لطاعتهم ، واعتمادهم على عبادتهم لم يسعني إلّا الخروج ، خوفا من نزول البلاء عليهم. «المعرب».

٧٧٤

إلفا للعمل الّذي درب عليه.

ولا ريب أنّ ذلك لا يكون نتيجة عادة نتصورها في شكلها الإستاتيكي ، الخالي من أيّة محاولة ، بل من حيث هي منبع ديناميكي ينمو بالتطبيق ، ويعدل نفسه بتعديل موضوعه ، وهو يتيح لنا السّيطرة على الموقف ، في أكثر الظّروف تنوعا ، ومفاجأة.

يجب أن يتعمق الصّراع ، ويتأصل ، ويتحول إلى طبع خاص ، فيصبح وكأنّه فطرة ثانية ، وبهذا وحده يمكن للمرء أن يتحدث عن أخلاق متحققة ، لا عن أخلاق منشودة.

ويجب أن نذكر أنّ هاتين المرحلتين ، من الصّراع ، والإنتصار ، أو بصفة أعم ، هاتين المرحلتين من الإضافة الخارجية ، والتّقدم التّلقائي قد صيغتا في اللّغة العربية بصيغتين مختلفتين ، ومعبرتين خير تعبير ، رغم أنّهما من أصل واحد : خلق ، وتخلّق ، فكلمة «خلق ، أو أخلاقية» بالمعنى الصّحيح تعني تلك القدرة الفطرية ، أو المكتسبة ، الّتي ينبثق عنها السّلوك تلقائيا ، وبعبارة أخرى : الخلق هو الشّكل الثّابت لوجودنا الباطني ، في مقابل الخلق ، وهو الشّكل الظّاهري الّذي وهبه الله لكلّ مخلوق.

وطالما لم نحصل على هذا الثّبات الّذي بفضله تفيض الأعمال ، في دفعة كريمة وتلقائية ، فإننا نظل في حالة التّخلق ، أعني حالة الإختبار ، والمحاولة ، من أجل أن نسلك بطريقة ، أو بأخرى.

ويستعمل اللّفظ غالبا في هذه الصّيغة بمعنى محقر ، يقترب من التّصنع

٧٧٥

والتّظاهر. وهكذا يكفي أن نتأمل تعريفات الألفاظ ، حتّى نعرف في أي جانب نضع القيم العليا.

وشأن العمل ، كشأن المعرفة : فلكي «نعمل» ، كما هي الحال حين «نحكم» ، كلا الأمرين يستوجب «رأسمال» يقتطع منه.

وإذا لم يكن في يد الباحث عن الحقيقة نظام من المبادىء الأولية ، ومن القوانين العامّة ، وما دام لا يستطيع أن يحدس بالوجهة الّتي يوجّه إليها بحوثه ـ فإنّ عمله يصبح من أطول الأعمال ، وأشقها.

أمن حقنا أن نقول : إنّ الإنسان يكون عالما بقدر ما يزداد بطؤه في التّوصل إلى الحقيقة؟.

إنّي أتوقع أنّ أحدا لن يوافقني على هذا القول ، ولكن ، ألا يجب علينا أيضا ، منذئذ ، أن نحدد الإنسان الصّالح بأنّه ذلك الّذي يجد رهن تصرفه مجموعة من الوسائل الخاصة القادرة على إسكات صوت الهوى سريعا ، وجعل القرار الحسن أسرع ، وآكد؟ ..

إنّ الأخذ بالرأي المقابل ، الّذي يحدد العمل الأخلاقي بأنّه الّذي يؤدّى مع أكبر قدر من المقاومة ـ معناه الإصرار الغريب على أن يظل الإنسان في المرحلة البدائية ، حيث يكون عرضة لحشد من المشاعر الشّرسة ، غير المستأنسة ، الّتي لا يستطيع مقاومتها إلّا إذا استدعى جهد أكثر المقاتلين يأسا.

هذه المرحلة البدائية الّتي لم ير فيها أكثر فلاسفتنا الأخلاقيين حرصا (١) سوى

__________________

(١) انظر مثلا ، الرعايظة للمحاسبي : الفصل ٥٠.

٧٧٦

حالة عابرة ، قابلة لأن تجتاز ، وتستبدل بعكسها ـ ما كان لها بداهة أن تكون «قانونا» ، أو «نظاما شاملا» للقيم. ذلك ، أنّ الحياة الأخلاقية المثلى ـ على هذا الرّأي ـ لن تكون فقط حياة المبتدئين ، والتّلامذة ، بل ستكون بالحري ، حياة الأشرار ، والفاسدين. ولسوف يكون نموذجنا هو الإنسان الّذي لا يستطيع أن يعزم على أن يسير في الحياة بشرف إلّا إذا فرض على فطرته نوعا من العنف المؤلم ، وإلّا إذا أتى بعض الحركات القاسية راغما.

ومع ذلك فإنّ وجهة النّظر هذه هي عكس ما يبدو لنا من موقف القرآن ـ تماما. فلقد رأينا كيف ذم الحقّ تبارك وتعالى ، أولئك الّذين لا يؤدّون واجبهم بمسرة ونشاط ، والّذين (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) (١) ، ورأينا بأي أسلوب فضحهم ، وكشف سترهم؟ ..

وكان أرسطو إذا على حقّ في أن يقول : إنّ الّذي لا يسرّ لأداء الأعمال الطّيبة ليس خيّرا حقا.

لقد تناولنا حتّى الآن الحالة الّتي لا يكون فيها هذا الطّبع الكريم ، والخيّر هبة من الطّبيعة ، بل كسبا للجهد ، والعمل الّذي يؤدّى بعد هذه الهداية ، هو مقابل مقاومة متجمعة ، في الماضي ، قليلة كانت أو كثيرة ، وإن كان أداؤه الآن دون مقاومة كبيرة.

وإنّا لنؤكد أنّ العمل الّذي يتم في هذه الظّروف ـ يرجع الفضل فيه إلى الكفاءة الشّخصية ، فالإنبعاث النّاشيء عن الجهد لا يناقضه ، بل يستشعر فيه أنّه أصله ،

__________________

(١) التّوبة : ٥٤.

٧٧٧

فهو استمرار له ، وتتويج ، بإعتباره الغاية ، والوسيلة.

ولقد يعترض علينا ، بأننا حين نعلل على هذا النّحو ، نصور الإرادة الإنسانيّة ، وكأنّ فيها تلك القوة المطلقة المغيرة للكائن الأخلاقي ، بصرف النّظر عن جميع القوى الأخرى الّتي تساعد على تغييره ، بل ننظر إلى تلك الإرادة ، مستقلة حتّى عن الفضل الإلهي!؟. وفي إجابتنا على هذا الإعتراض ننكره أشد الإنكار. فمما لا شك فيه أننا نقع في خطأ فادح ، حين نرتكب خلطا كهذا في عرض الأخلاق القرآنية. ولقد آن الأوان لنتحدث صراحة عما تركناه غامضا في فرضنا. فلنقل إذن في كلمة واحدة : فيم يتمثل تدخل هذا العامل العلوي ، الّذي يتجلى لنا في القرآن ، وفي الحديث.

وإنّه ليتمثل لنا غالبا ، بإعتباره يؤدي دورا محددا في تكوين الطّبع الأخلاقي ، فهو يأتي تلبية لجهد إنساني مستهلّ ، أو منجز ، وهو يجيء على إثر هذا الجهد ، سواء لتغذيته ودعمه ، أو لإثرائه ، والإفضاء به إلى نتيجته.

وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١) ، ويقول : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٢) ، ويقول : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) (٣).

وإذن ، فهناك دائما شيء يأتي أوّلا ، من جانبنا ، فالإنسان ـ لكي يتلقى النّور ـ ينبغي أن يطلبه ، وأن ينشرح له ، ينبغي أن يظهر حاجته إليه ، وأن يمد إليه يديه ،

__________________

(١) العنكبوت : ٦٩.

(٢) محمّد : ١٧.

(٣) يونس : ٩.

٧٧٨

وأن يخطو خطوات نحوه ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يكن عندي من خير لا أدخره عنكم ، وإنّه من يستعفّ يعفّه الله ، ومن يتصبّر يصبّره الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ولن تعطوا عطاء خيرا وأوسع من الصّبر» (١).

فالمدد الإلهي مشروط إذن بجهد إنساني ، وهذا الجهد مع ذلك يحتفظ بقيمته كاملة ، فأمّا السّكينة ، والرّاحة اللّتين تعقبانه فأنّهما لا تنقصان من أجره شيئا.

والحقّ أنّ القرآن لا يذكر في بعض آياته هذه العلاقة ، على أنّها بين شرط ومشروط ، بل إنّه أحيانا لا يشير أدنى إشارة إلى المحاولة الإنسانيّة ، وهو حين يتحدث عن الهداية الكاملة الّتي يحظى بها الأصفياء ، يقدمها على أنّها ثمرة إنعام خالص ، جاء بفضل الله مباشرة ، وهو ما نقرؤه في قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٢) ، (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (٣) ، لأنّه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) (٤) ، (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) (٥).

بيد أنّ ترك الذكر لا يعني بالضرورة النّفي ، ولو أننا أردنا أن نحكم على هذا

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٥٣٤ ح ١٤٠٠ و : ٥ / ٢٣٧٥ ح ٦١٠٥ ، وقد ذكر المؤلف في الهامش (ومن يستعفف) ، «المعرب». وانظر ، صحيح ابن حبّان : ٨ / ١٩٣ ح ٣٤٠٠ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٣٧٣ ح ٢٠٢٤ ، سنن الدّارمي : ١ / ٤٧٤ ح ١٦٤٦ ، سنن أبي داود : ٢ / ١٢١ ح ١٦٤٤ ، موطأ مالك : ٢ / ٩٩٧ ح ١٨١٢ ، مسند أحمد : ٣ / ٩٣ ح ١١٩٠٨.

(٢) الأنعام : ١٢٥.

(٣) المجادلة : ٢٢.

(٤) الفتح : ٤.

(٥) الحجرات : ٧.

٧٧٩

الموقف ببعض هذه الآيات نفسها فلسوف يظهر أنّ هذه المنحة السّماوية لم تكن إلّا أجرا على موقف محسن أبداه هؤلاء النّاس من قبل : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١) (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (٢). فهناك إذن إيمان يحتاج إلى تقوية ، ومشاعر جديرة بالإثابة.

ولن نمضي ـ بطبيعة الحال ـ إلى حد أن ندعي أنّ العمل الإنساني سابق مطلقا ، فمن البداهة أن وجودنا العضوي ، والنّفسي ، والإجتماعي ، سابق على وجودنا الأخلاقي ، ثمّ إنّ الإمكانات الموجودة بالقوة في باطن هذا الوجود الأخلاقي تسبق النّشاط الشّعوري ، وتعد له.

بل إننا لنمضي إلى القول بأنّ هنالك نوعا من المدد الإلهي الإيجابي للأنفس ذات الإستعداد الطّيب ، وزيادة في القوة تغنيها عن مزيد من الجهد في المقاومة ، ضد الإتجاهات السّيئة.

وأنّا لنقف أمام هذه الحالة الأخيرة كيما ندفع برهان النّظرية المناقضة إلى نهايته.

فلنفترض إذن أنّ النّصوص تعني هذه الأنفس المتميزة ، وأنّ هذه القوة الّتي اكتسبتها ليست في جانب منها نتيجة تدخلها الإرادي والمجاهد. ومع أننا نقرر مع القرآن أنّ هذه الأنفس بإستعدادها الطّيب للتقوى : (وَكانُوا أَحَقَّ بِها

__________________

(١) الفتح : ١٨.

(٢) الفتح : ٤.

٧٨٠