دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

من هذا الحبّ المتبادل المتساوي شرطا للإيمان : «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه» (١).

من هذه الإدانة الكاملة للأنانية في جميع أشكالها إستخرج الضّمير الإنساني العام مبدأ شمولية الواجب ، وتبادليته.

فلم يفعل «كانت» إذن في البداية سوى أن سجل هذا القانون ، ولاحظه كواقع للضمير. ومع أنّه قد أوضح نقص هذه الأقوال القديمة وعجزها عن تقديم القانون الأخلاقي الكامل (٢) ـ نجده يبني كلّ نظامه إبتداء من الفكرة الموحاة في هذه المأثورات.

والواقع أنّه يعتمد في وضع القاعدة الجوهرية للحكم الخاضع لقوانين العقل العملي المحض ـ على حكم «الإدراك العادي» ، وهي القاعدة الّتي يصوغها على هذا النّحو : «سل نفسك إذا ما كان العمل الّذي تهم به يمكن أن يحدث إفتراضا ، طبقا لقانون الطّبيعة الّتي أنت جزء منها ـ هل تستطيع إرادتك ـ مع ذلك ـ أن تقبله على أنّه ممكن»؟.

ويستطرد قائلا على سبيل المثال : «كلّ منا يعرف جيدا أنّه إذا سمح لنفسه أن

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٩٥ ح ١٢ ، ويضيف النّسائي : ٨ / ١١٥ ، عبارة «من الخير» ، سنن التّرمذي : ٤ / ٧٦ ح ٢٦٣٤ ، المحاسن للبرقي : ١ / ١٠ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٣٠٧ ، سبل السّلام : ٤ / ١٦٥ ، المجموع : ١ / ٣١ و : ٩ / ١٥٣ ، المحلى : ١١ / ١٤٣ ح ٢١٧٣ ، وسائل الشّيعة : ٨ / ٥٤٩ ، منية المريد : ١٩٠ ، مسند أبي يعلى : ٥ / ٣٢٧ ح ٢٩٥٠ ، البيان والتّعريف : ٢ / ٢٩٨ ، مسند أحمد : ٣ / ٢٧٨ ح ١٣٩٩٥ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ٢ / ١٦ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٢٨٦ ح ٣٩٧٦ ، تحفة الأحوذي : ٧ / ١٨٤ ، بحار الأنوار : ٢٧ / ٨٩.

(٢) انظر ، ١ ـ Kant : Fondement de la metaphysique des moeurs p : ٣٥١

٢٠١

يخدع خفية فلن يكون ذلك سببا في أن يسلك كلّ النّاس نفس السّلوك ، وإذا ما نظر أحدنا بلا مبالاة كاملة إلى بؤس الآخرين فلن يترتب على ذلك أن يقف النّاس جميعا نفس الموقف من بؤسه» (١).

ب ـ ولكن من أين يأتي هذا الطّلب الحثيث لعمل مثالي لا يوجد له نموذج في التّجارب؟ ويجيب مؤسس مذهب : الشّكلية العملية pratique [Formalisme] بقوله : «يأتي ذلك من أنّ «القانون الأخلاقي» ينقلنا بطريقة مثالية إلى مجال مختلف تماما عن مجال «القانون التّجربي» ، فهو يشركنا في عالم ذهني صرف ، حيث بتجلى إستقلال الإرادة ، لا في نوع من الإستقلال عن قانون الطّبيعة المحسوسة ، وحسب ، فذلك ليس سوى وجه سلبي للحرية ، ولكن كذلك في أنّ هذه الإرادة تضع لنفسها قانونها.

هذا القانون ينبغي أن يكون قانون عقل محض ، أي : بحيث لا يكون متحررا فقط من تأثير أي ظرف تجريبي ، أو حدس [intuition] ، أو أية مادة ، بل يكون أيضا قادرا على تحديد الإرادة بطريقة قبلية [Apriori] ، ذلك أنّ العقل المحض إنّما كان كذلك لأنّ شأنه في إستعماله العملي كشأنه في إستعماله النّظري : «هو عقل واحد ، يحكم طبقا لمبادىء قبلية» (٢).

ولما كنّا لا نجد غير الشّكل المحض لتشريع عام ، هو الّذي يستطيع أن يحدد الإرادة تحديدا قبليا ـ وجب لهذا أن يتكيف كلّ حكم مع هذا الشّكل ، وإلا أصبح

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Kant : critique de la R.pratique ,p.١٧ ـ ٢.

(٢) انظر ، ١ ـ Kant : Crit de la R.prati.p.٠٣١.

٢٠٢

مستحيلا أخلاقيا.

وهكذا نجد أنّها عمومية ، لا تشبه فقط عمومية قانون الطّبيعة ، الّذي ينبغي لأي حكم عادي أن يهتدي به ، على أنّه صورة مطابقة للعقل المحض ، ولكنها أيضا عمومية مطلقة ، تصلح للتطبيق على جميع الكائنات العاقلة ، فانية وخالدة ، وهي تجد أساسها في حكم جازم ، أعني ضروري وقبليّ ، صادر عن العقل المحض.

ويعلن «كانت» هذا القانون الأساسي للعقل المحض على هذا النّحو : «إسلك بحيث يمكن للقاعدة الّتي تقبلها إرادتك أن تصلح في الوقت نفسه كمبدأ يتخذ أساسا لتشريع عام» (١).

وهنا أيضا نتعرف على مسلك العقل المبتذل [Triviale] ، الّذي أراد ـ كانت ـ أن يعلو عليه.

جـ وحيث قد وصلنا إلى قمة التّجريد بهذه الصّيغة الّتي لا يمكن أن نتصور ما يفوقها في العمومية ـ فإننا نستطيع أن نعفي أنفسنا من الإشارة إلى المنحدر الّذي يجب أن نهبط منه ، لنجد تطبيقات هذا القانون العام على الطّبيعة الإنسانية.

ولنعد الآن مرة أخرى إلى تتبع هذا المذهب في مراحله الثّلاث ، المتعاقبة ، كيما نسبر غوره.

المرحلة الأولى :

ـ ولنسأل أنفسنا أوّلا عمّا إذا كان يوجد في الواقع علاقة ضرورية بين فكرة

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Kant : Crit de la R.prati.p.٠٣.

٢٠٣

العموم ، وفكرة الأخلاق.

أصحيح أنّ إمكان تحول قاعدة إلى قانون عام يعتبر الشّرط الضّروري والكافي لنخلع عليها الوصف الأخلاقي؟.

أصحيح أيضا «أنّ القاعدة إذا لم تصمد أمام تجربة الّتماثل مع القانون الطّبيعي عموما ، فإنّها تصبح مستحيلة أخلاقيا» (١).

وعلى حدّ قول مؤلفنا : إنّ في هذا المقياس المزدوج ـ «القانون الّذي يسمح بتقدير سلوكنا بعامة» (٢) ، والوسيلة إلى أن نتعلم «بأسرع ما يمكن مع عصمتنا من الخطأ» (٣) ، وقال : «وبهذا المقياس في أيدينا يصبح لدينا في جميع الحالات الّتي تطرأ ، كامل الإختصاص لتمييز ما هو خير ، مما هو شرّ ، ما هو مطابق للواجب مما هو مناقض له» (٤).

ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الحصافة لكي نرى كم يضم الجزء الأوّل من هذا المقياس ، تحت نفس المفهوم ـ قيما شديدة الإختلاف فيما بينها ، إبتداء من الواجب ، حتّى نقيضه تماما ، مارة بالأعمال المحايدة ، والمشبوهة.

والواقع أننا إذا نحينا جانبا طرق السّلوك الّتي قد يرفض الإنسان التّبادل فيها ، فإنّ ما يتبقى يعتبر في نظره سلوكا لا مؤاخذة فيه ، تقبل أحكامه أن تتحول ـ في رأيه ـ إلى قانون عام. ونبدأ بقاعدة السّلوك الّتي يتخذها الإنسان المتوسط لنفسه

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Kant : Crit de la R.prati.p.٧٢.

(٢) انظر ، ١ ـ Fondement de le Met.des Moenrs.p ٢٤١.

(٣) انظر ، ١ ـ Fondement de le Met.des Moenrs.p ٤٠١.

(٤) انظر ، ١ ـ Fondement de le Met.des Moenrs.p ٦٠١.

٢٠٤

في ناحية من نواحي حياته اليومية : وهي أن يسير وراء أهوائه البريئة الّتي يجوز التّرخّص في إرضائها ، وحينئذ نجد أنّ السّلوك الحسن أخلاقيا ، والسّلوك المحايد أخلاقيا قد أصبحا غير متميزين ، بحسب المفهوم الّذي يقول : «بإمكان تعميم مثل هذه القاعدة» ـ ليس هذا فحسب ، ولكن الواجب قد هبط إلى مستوى مجرد المباح ، لأنّه شتان بين أن نقول : إنّ التّشريع يجب أن يكون عاما ، وبين أن نقول : إنّه يمكن أن يكون كذلك.

ولما كان هذا الإختلاف هو الّذي يتميز به السّلوك «الملزم» من السّلوك «الجائز» فقط ، فإنّ الصّيغة الكانتية شأنّها شأن الصّيغة السّوقية [Vulgaire] الّتي تعتزى إليها ـ عاجزة عن تقديمه.

ومعلوم من ناحية أخرى بأية عناية ميز «كانت» بين طائفتين من قواعد السّلوك الّتي تدور حول الواجب «كإسداء الخير للغير» :

الطّائفة الأولى : تأمر بالإمتثال للواجب ، لا أكثر ، «أي ، مهما يكن الدّافع : إستعداد طيب ، أو مزهوّ ، أو ذو مصلحة ...»

والأخرى : تشترط في الوقت نفسه تحديد الواجب بفكرة الواجب. ولما كان واضحا أنّ مقياس العمومية ، سواء أكان ممكنا أم ضروريا ، لا يوضح لنا هذه الفروق الطّفيفة مع أهميتها القصوى ، فإنّ إلتّباسا آخر يحدث هنا ما بين الأخلاقية ، والشّرعية [Moraliteet le galite].

بيد أنّ الإلتباس الأسوأ هو الإلتباس الّذي يحدثه هذا «المحكّ» المزعوم في الضّمير الفردي ، حين يمنحه الحقّ في أن يطلق وصف «الخير الأخلاقي» على كلّ سلوك يريد ببساطة رفعه إلى مرتبة القانون العام ، حتّى لو كان من أكثر

٢٠٥

الأعمال تهمة ، إن لم يكن بحكم الضّمير العادي ، فعلى الأقل في نظر الحكمة الكانتية ذاتها.

فلنختبر ، مثلا ، شعور أولئك الذين يرتكبون مخالفات تتفاوت في خطورتها ، ضد القانون الأخلاقي : «الطّبيب الّذي يخدع مريضه ليشفيه ، والمحسن الّذي يرتكب كذبة بريئة لينقذ حياة ، والإنسان المرهف الحس الّذي يؤثر أن ينتحر على أن لا يتحمل عارا ..) ـ ألّا يعطي هؤلاء لسلوكهم قيمة قانون عام ، يجب أن يطبق على جميع النّاس الذين يوجدون في نفس الظّروف الّتي وجدوا هم فيها؟

ثم ما ذا؟! هذا الإنسان الوقح الّذي يرتمي في أحضان الفسق الدّاعر ، هل يحس بأدنى عيب في أن يقتدي النّاس به؟ أو ليس هناك بعض النّاس يريدون أن يخلعوا صفة القانون العام على العري ، وجميع آثاره اللاأخلاقية؟!

بيد أنّ هناك ، على عكس ذلك ، قواعد للسلوك لا يمكن أن ترتفع إلى درجة العمومية ، دون أن تتعارض في ذاتها ، أو دون أن تعرّض الطّبيعة الإنسانية للخطر ، ومع ذلك لا نستطيع أن ننسبها إلى اللاأخلاقية.

ولنفترض أنّ إنسانا ما جعل موقفه في الحياة أن يبلغ درجة من الكمال لم يبلغها أحد دونه. فليس التّعميم وحده هو الّذي يهدم هذه الفكرة ، بل إنّ أقل قدر من التّوسع فيها يهدمها تماما ، إذ أنّ التّفوق لن يصبح تفوقا. فهل من العقل أنّ نصف هذه الغاية بأنّها شرّ من النّاحية الأخلاقية؟

وإليك مثلا آخر : التّبتل عن الزّواج .. ولنترك جيلا إنسانيا واحدا يفرض على نفسه إلزاما بهذا التّبتل .. إنّ آخر حيّ من هذا الجيل سوف يشهد حتما نهاية الإنسانية ، فهل يمكن أن نصف بالإجرام موقف هذا المتبتل ، وهو موقف مدحته

٢٠٦

المسيحية كثيرا؟

وما رأي «كانت» نفسه في هذا؟

هكذا تبطل المقابلة بين العام ، والأخلاقي ، في وجهها المزدوج ، الإيجابي والسّلبي ، وليس يغض من صدق هذا القول أنّ هناك علاقة ضرورية بين الملزم ، والعام ، وهي علاقة من طرف واحد ، سوف نتولى بعد قليل بيان معناها ، وأهميتها.

المرحلة الثّانية :

بيد أنّ «كانت» لا يقتصر على تقرير عمومية واجباتنا ، كواقع حسّي ، وتجريبي ، وإحتمالي. وهو لا يكتفي كذلك بنصف تجريد ، يجعل من العقل الإنساني قوة للقانون العام .. إنّه يمضي إلى أبعد من ذلك كثيرا ليصل إلى الجوهر الحقيقي للعقل العملي في ذاته ، وهو يقدم لنا القانون الأساسي لهذا العقل المحض ، على أنّه مطلب لا غنى عنه ، ليس لقاعدة أو أخرى «محددة للقيام بأعمال معينه» (١) فحسب ، بل لتشريع شامل عموما. ويؤكد لنا أنّ قانونا بهذا الشّكل ، وبهذه الشّمولية البالغة التّجريد ـ هو الّذي يحقق الصّفة الجوهرية للقانون الأخلاقي ، ولا يمكن مطلقا أن تكون له صفات أخرى إذا أريد للواجب ألّا يكون «مفهوما وهميا».

ويقول لنا «كانت» : إنّه لم يصل إلى مذهبه الشّكلي عن طريق حاجة فلسفية إلى التّجريد ، أو تقليدا للشكلية المنطقية لدى أرسطو ، وإنّما على أساس إعتبارات أخلاقية ذات أهمية بالغة ، وعن طريق منطق الأخلاقية ذاته ؛ لأنّه ـ

__________________

(١) أنظر ، ١ ـ Kant : Fondement.p.٣٠١

٢٠٧

كما يقول ـ : إذا كانت القيمة الأخلاقية للعمل لا تكمن في الآثار الّتي تنتظر منه ، ولا في إتفاقه مع ميولنا ، بل في علاقته بالقانون .. وإذا كان هذا القانون ـ من ناحية أخرى ـ واقعا مسلما للعقل ، بإعتباره قوة ذات كيان ذاتي ، ومستقل عن قوة الشّعور ـ فيجب أن نستبعد كلا من المذهب الإمبيريقي [Empirisme] الّذي يحصر الخير في النّتائج النّافعة ، والنّزعة الصّوفية [Mysticisme] الّتي تتوه في العالم العلوي ، ونتمسك بالمنهج العقلي [Rationalisme] ، وهو المنهج الوحيد الّذي يتناسب مع المفاهيم الأخلاقية (١).

وإلى هنا نستطيع أن نكون متفقين مع «كانت» ، ولكنه يضيف قائلا : «ولما كنت قد جردت الإرادة من جميع الدّوافع ، والنّتائج فلم يبق سوى التّمسك بالصيغة العامة للقانون في عمومه ، فهي وحدها الّتي تصلح أن تكون مبدأ للإرادة.

وبعبارة أخرى : إذا أتخذت المادة موضوعا للإرادة ، وكانت مبدأ محدّدا لها ، فإنّ الإرادة سوف تخضع لظرف تجريبي ، «ولما كنّا قد نزعنا بالتجريد كلّ مادة ، فلم يبق سوى الشّكل» (٢).

وهنا ـ في رأينا ـ يمكن اللبس ، وتظهر الحاجة إلى الحبكة ، وبسببهما أحدث هذا التّعليل ثغرة بين المقدمات ، والنّتيجة ، لأنّه عند ما أستبعدت الدّوافع الحسية ، والحسابات العملية ، فلم تستنفذ بذلك جميع الحلول الممكنة للوصول إلى الشّكل المحض ، ألسنا نرى ـ في الواقع ـ وسطا بين «المادة» المنقوضة

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Kant : Crit.p.٣٧

(٢) انظر ، ١ ـ Kant : Crit.p.٦٢.

٢٠٨

و«الشّكل» المختار؟ إنّ هذا الوسط ليس المادة «موضوع الرّغبة» ، الخاضعة للتجربة ، والمتنوعة بالنسبة لكلّ ، ولا الشّكل الخالي تماما ، ولا مضمون له ، ولكنه مفهوم قابل للتفكير ، موضوع للإدراك ، معروف قبليّا ، ومفروض على كلّ الإرادات ، بفضل تصور قيمته الذاتية.

ألسنا بهذا نتحاشى عيوب المنهج الأمبيريقي ، مع تحفظنا الكامل من أن نضيع في المنهج الشّكلي؟.

والحقّ أننا بسبب نوع من الحاجة المنطقية نفرض بالضرورة على أحكامنا شكلا عاما ، كيما نجيزها من ناحية القوانين الأخلاقية ، فنحن لا نوافق على أن يصبح سلوك ما ملزما لبعض النّاس ، وغير ملزم للآخرين ، الذين يماثلونهم في ظروفهم ، فذلك أمر يثير العقل. ولكن هذا الأرتباط الضّروري بين المادة والشّكل لا يصح إلا في إتجاه واحد : «فكل واجب عام ، ولكن العكس ليس صحيحا» ، فمن أجل تأكيد هذه العلاقة بدأ الحكم الأخلاقي بأن لاحظ في السّلوك «قيمة» في ذاتها ، تنزع بمنطقها الدّاخلي إلى أن تنتشر ، وهي قيمة ذات صفة من نوع خاص ، فهي من الممكن أن تفرض ، وهي يسيرة بالنسبة لكلّ الأفراد.

وأية طريقة للسلوك لا تستوفي هذا الشّرط المزدوج لا يمكن أن تكون قانونا أخلاقيا .. فلتكن أي شيء ، إلا أن تكون واجبا ، ولكنها ليست بالضرورة جريمة ، لأنّ من الممكن أن تكون عملا إختياريا (مثل التّبتل) ، أو عملا يستحق أعلى درجات التّقدير (مثل : البطولة الخارقة لمن هو فوق البشر) ، ولهذا لم تكن

٢٠٩

الفضيلة الإلهية الّتي هي أسمى القيم الأخلاقية ـ قانونا عاما بالنسبة إلى جميع الكائنات العاقلة.

وما دام الأمر كذلك ، أعني : ما دامت جميع القيم ليست لها القدرة على أن تأخذ شكل قانون عام ، وما دام يتحتم علينا أن نختار من بينها القيمة الّتي يمكن بحسب طبيعتها ذاتها أن تتحقق فيها هذه العمومية ـ فأولى بنا أن نقبل عقلا أنّه ليس من الضّروري حين تتخذ أية قاعدة للسلوك هذا الشّكل المجرد ، أو تزودنا بمقياس للخير الأخلاقي.

والنّظر بعين الأعتبار إلى «عمومية» قانون ما ـ لا يعفي مطلقا من النّظر إلى «شرعيته». ولما كنّا نزعم أنّه حين نقدر شرعية مبدأ معين ـ لو أننا أكتفينا بأن نلاحظ فيه فكرة القانون المحضة ، بصفة عامة ، دون نظر إلى مضمونه ، ومدلوله الخاص ـ فلسوف يصبح من المستحيل علينا أن نقرر أنّ هذا المسلك وحده أخلاقي ، دون ذاك ؛ كما يصعب علينا تحديد مجال الفضيلة ، والرّذيلة.

لقد كان «كانت» يعترف بأنّ الشّيء حين يمكن إستعماله حسنا من وجه ، وسيئا من وجه آخر ـ ليس حسنا مطلقا .. ألّا تنطبق هذه الحالة على منهجه الشّكلي؟

إنّ المبدأ الشّكلي العام ليس سوى قالب يمكن أن نصب فيه كعكة من عجين ، أو حجرا من طين. وأعظم تناقض في النّظرية الكانتية هو أنّها تعتبر صفة أساسية ما ليس إلا صفة فرعية ، ولذلك فإنّ «كانت» يرى أنّ القانون الشّكلي هو الّذي يتخذ أساسا للخير ، وليس الخير هو الّذي يتخذ أساسا للقانون الشّكلي.

٢١٠

هذا الموقف المعارض لموقف القرآن ـ كما رأينا ـ محدد في فكر «كانت» ، بنفس القياس الكاذب [Parallogisme] ، الّذي فندناه ، والّذي قال فيه : «إذا كان مفهوم الخير لا يتفرع عن قانون سابق ، وإنّما يتخذ أساسا لهذا القانون ـ فلن يمكن حينئذ أن يكون سوى مجرد مفهوم لشيء مرغوب» (١).

ونحن نعتقد ، بعكس ذلك ، أنّ الحكم على قانون بأنّه أخلاقي ليس لكونه عاما ، ولكن تعميم القانون يصبح واجبا لأنّه وضع أوّلا على أساس أنّه حقّ ، إذ لما ذا ننشد سلاما عالميا إن لم يكن لاعتقادنا أنّه يمنحنا نموا عظيما لوجود الإنسانية ذاته؟

ولنفترض بعكس ذلك أنّه تقرر وجوب إختفاء الضّعفاء ليفسحوا المجال للأصلح من النّاس ، للحياة!!. إن حكمنا سوف يتغير في الحال ليصبح الصّراع الشّامل هو الرّأي الوحيد الّذي يعطيناه رجل الأخلاق.

إنّ العمومية لا تفعل أكثر من أن تترجم في عبارات شاملة ما تحصل أوّلا في شكل جوهر مفهوم ، والّذي يحدث هو : أنّ الضّرورة ، سواء في النّظام الأخلاقي ، أو في النّظام المنطقي ، هي السّبب في وجود العمومية ، ومن ثم ينبغي أن تسبق هذه الضّرورة العمومية في تفكير المشرع ، ومن الواضح أنّ الضّرورة الأخلاقية تنبع من قيمة داخلية ، لا من شكل خارجي.

هذا الفهم المعكوس لعلاقة الفضيلة بالقانون لا يؤدي إلا إلى تغيير وضع الإرادية الإلهية [Volontarisme theologique] ، بنقلها إلى مجال ميتافيزيقي ،

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Kant.Crit.p.٠٦

٢١١

بحيث يرى أصحاب هذا الإتجاه أنّ الله لا يأمر بشيء لأنّه حقّ في ذاته ، بل إنّ ما يأمر به الله هو حقّ ، لأنّه أمر به فحسب. فهناك فقط تغيير في المصطلحات ، فحيث يقول رجال اللاهوت : «هذا أمر علوي من الله». يقول كانت : «هذا أمر حتمي من العقل المحض»

والفرق بينهما ، مع ذلك ، هو أنّ رجال اللاهوت يجدون في الكمال الإلهي ضمانا واقعيا ضد الأوامر الظّالمة ، فأي ضمان نجده في هذا المفهوم التّجريدي للعقل المتسامي ، أللهمّ إلا إذا طابقنا بينه وبين العقل الإلهي؟

ولا يخطئنّ أحد في إدراك فكرتنا ، فنحن نميز في الشّكلية الكانتية جوانب كثيرة ، ما دامت تستخدم قانون العقل المحض في نواح متعددة ، فهذا القانون مبدأ موضوعي ، يحدد السّلوك وموضوعاته : (الخير ، والشّر) ، وهو في الوقت ذاته مبدأ شخصي (دافع) يوجه الإرادة نحو الطّاعة (١).

ونحن نميل بالنسبة إلى هذه النّقطة الأخيرة ألّا نثير أية صعوبة ، بل على العكس من ذلك ، نحن نعترف بأنّ الشّكل الصّرف للقانون قادر قدرة كاملة على أن يؤثر في الضّمير الأخلاقي. فأداء المرء للواجب ، لأنّه واجب ، دون أن يبالي بالخير الأخلاقي الّذي يستهدفه ـ هو تعريف للإرادة المخلصة بإطلاق.

ولسوف نبيّن (٢) أنّ ذلك هو المثل الأعلى للأخلاق القرآنية ؛ فالمرء لا يسأل طبيبه الّذي يثق به عن أوامره ، لأنّ المناقشة هنا هي الأرتياب ، فهل الأمر كذلك فيما يتصل ـ لا بالسلوك ـ بل بالحكم ، والتّقدير ، والأمر المفروض؟. وهل

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Kant : Crit.p.٩٧

(٢) انظر فيما بعد ، الفصل الرّابع ، فقرة : ٢ ـ ١.

٢١٢

يستطيع الشّكل الخارجي للقانون بعامة أن يقوم بدور مبدأ تشريع للخير ، والشّر؟.

إنّ القول بأنّ فكرة الإلزام وحدها تكفي لإعطائنا دليلا إيجابيا على أفضل الطّرق للسلوك ـ قول يدهشنا ؛ فإنّ العقل الّذي يأمر بالخضوع لقانون ما ـ ربما يكون متحكما ظالما ، وما كان له أن يكون عقلا ، إذا لم يفترض مقدما الإتفاق الكامل لهذا القانون مع المثل الأعلى العدالة.

فقد خلط ـ كانت ـ إذن ، وعالج بطريقة واحدة مرحلتين مختلفتين للضمير الأخلاقي :

١ ـ اللّحظة الّتي ما زال التّفكير يجري فيها لوضع القانون.

٢ ـ واللّحظة الّتي ينفذ فيها القانون ، الّذي تمّ وضعه بالفعل.

وفي كلمة واحدة : خلط «كانت» بين «الإلزام» و«النّيّة» ، بين علم الأخلاق [La morale] ، وبين السّلوك الأخلاقي [La moralite].

المرحلة الثّالثة :

والواجب الكلّي العام!! فلنقبله ، ولكن ينبغي أن نفرق بين درجات كثيرة من العمومية ، فإنّ لها إمتدادا بقدر ما لها من مفاهيم :

الواجب الأبوي ، والأمّومي ، والزّوجي ، والبنوي.

واجبات الرّياسة ، والصّداقة ، والمواطن ، والإنسان.

واجب العمل ، وواجب التّفكير ، وواجب المحبة.

فهل يمكننا بصفة مشروعه أن نعطي لكلّ هذه التّعبيرات نفس الإمتداد ، على جميع الأشخاص ، وعلى كلّ الموضوعات ، بحيث ننفض عنها حدودها

٢١٣

الخاصة ، ثمّ نمد بعضها على بعض؟.

وهل من حقنا أن نقول لرئيس أن يعامل من هم أعلى منه رتبة معاملته لمرؤسيه؟ وأن نطلب إلى زوج أن يعامل كلّ نساء الدّنيا كما يعامل زوجته ، والعكس؟.

إنّ كلّ واجب ، إذا تعدى حدوده الخاصة ـ قد يتوقف عن أن يكون واجبا ، ولربما يصير جريمة. فالأمر إذن أمر عمومية نسبية ، لا يمكن لإمتدادها أن يتحدد إلا تبعا لطبيعة عناصره التّكوينية ، وبالقياس إلى مجموعة الظّروف المناسبة. وتقسيم الواجبات وتحديدها هو العمل الجوهري لعالم الأخلاق بمعنى الكلمة ، فكيف نشرع في هذا العمل؟

أيمكن أن نصل إلى النّسبي إبتداء من المطلق ، دون أية مساعدة خارجية؟

وكيف نحدد ألوان رسم من الرّسوم ، وتفاصيله الّتي يضعها فيه الفنان بالإعتماد على الشّكل فقط؟

وكيف يتسنى لنحوي قح ، من حيث كونه كذلك أن يكون قادرا على إعطاء المبررات للمعاني العميقة في المقال ، وألوان الأسلوب؟

إننا إذا أردنا أن نحول الأخلاق إلى رياضيات ، بل وأكثر من من رياضيات ، فربما أصبح الأمر غريبا وغير مقبول ، ويا لها من أعجوبة!!

وإذا كان من المستحيل ، واقعا ، أن نستنبط جميع نظريات الهندسة من مبدأ واحد ، فكيف نأمل أن نحصل من ذلك على نجاح أكبر في علم السّلوك؟

وإذن ، ففي حالة نقص الإستنباط الدّقيق ، لأنّه مستحيل في هذه الظّروف ، نشهد لدى «كانت» محاولة للتقريب تتفاوت في براعتها ، بين الشّكل ، والمادة ؛

٢١٤

نوعا من التّكليف يهدف إلى تسويغ نفس قواعد الأخلاق العامة ، بعد قطعها عن روابطها الدّينية ، أو الميتافيزيقية ، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى نشهد لديه بعض الآراء الشّخصية عن نوع الحياة الفاضلة الّتي يفضلها الفيلسوف.

إنّ ضمائر كثيرة مخلصة يمكنها أن تجتمع على الطّريقة الكانتية ، في رؤية المثل الأعلى الأخلاقي ؛ وهو أمر لا نناقشه ، ولكنا حين نختبر بعض صيغه الفرعية في علاقتها بمبدئه الأوّل ـ تبدو لنا ، إمّا دون رباط ضروري ، وإمّا سقيمة التّوافق معه.

فأمّا كونها دون رباط ضروري ، فتلك هي حال الصّيغة الّتي تأمر بإحترام الإنسانية في شخص الغير ، كما نحترمها في أنفسنا ، وذلك بإعتبار الشّخصية الإنسانية غاية في ذاتها. إنّ من الممكن أن نسأل أنفسنا : لما ذا يحس العقل المحض ، وهو السّيد المستقل ، والمطلق ، بهذه الضّرورة في أن يحترم شيئا آخر دون ذاته؟ أمن المعقول أن نعتبر غاية ما لا يكونها إلا جزئيا ، تلك الطّبيعة المختلطة ، المصنوعة من الشّيء ومن الفكر ، وهي في أصلها محسوسة أكثر منها معقولة؟

ويبدو أنّ هذه الملاحظة لم تغب بكاملها عن الفكر الكانتي ، وربما كان هذا هو السّبب في أنّه قيد صيغته ، حين طلب معاملة الشّخصية الإنسانية على أعتبار أنّ مفهوم «العناية» لا يقتصر عليها وحدها ، بل ينطبق «في الوقت نفسه» على غيرها ، ولكن هذه الدّقة في التّعليل لا تلبث بكلّ أسف أن تضعف بمجرد أن نصل إلى تحديد الواجب العملي الّذي ينبع من هذا الإحترام.

٢١٥

وقد كان من الواجب أن يؤدي منطق هذه الثّنائية في الطّبيعة الإنسانية إلى تأكيد نوع من التّفرقة ، لا بين الشّخص والفرد فحسب ، أي : بين ما آل إلينا على صورة الإشتراك ، وما يعزى إلى كلّ إنسان بمفرده ، ولكن أيضا بين حقوق العقل وحاجات الجسد.

ولكنا نرى «كانت» يدافع مع الجميع عن حقّ النّاس في الأمن ، والواجب الصّارم ألا يعتدي أحد على أجسامهم ، وأموالهم ، كما يحرّم الإسترقاق والسّخرة في جميع أشكالها. وإذن ، فلم نكن بحاجة إلى كلّ هذه الدّقة في التّحليل ، لنصل في النّهاية ، إلى ترديد أمور تافهة ، وأعم من أن يتضمنها المبدأ الّذي أعلنه. ألسنا نرى هنا أنّ النّتيجة تتضمن أكثر مما في المقدمات؟. وإذا كان الإحترام يمكن أن يمتد إلى العنصر المحسوس في الإنسان ، ويجب أن يكون كذلك ، فلما ذا نرفض إمتداده إلى العنصر المحسوس في مجال آخر؟. ولما ذا كان من المسموح به أن نعامل الحيوانات على أنّها أشياء ، سواء أكنّا نستأنسها أم كنّا نذبحها دون تحرج؟

وهناك إعتبارات أخرى غريبة عن المنطق المحض ، لا مناص من أن تدخل في تفكير المشرع ، كيما تطبع نتائجه بذلك الطّابع غير المتكافىء ، تارة بتوسيعها ، وتارة بتضييقها.

وأمّا كون تلك الصّيغ الفرعية سقيمة التّوافق مع المبدأ ، فذلك عند ما يحظر علينا هذا المبدأ أن نسمح لأي امرىء أن يمسّ حقوقنا ، فإمّا أنّ الكلمات قد فقدت مدلولها ، وإمّا أنّ أي «حقّ» من حيث هو هو ، لا ينشىء «واجبا» قبل من يملكه ، بل في مواجهة الغير. فإذا كان هذا فعلا حقي فأنا حرّ في أن أستمسك به ، أو أتنازل عنه لمن أشاء. ولنقرر ، بنوع من إنفصام الذات ، أنني بإعتباري «فردا»

٢١٦

يجب أن أدافع عن حقي بإعتباري «إنسانا» ، أي : بإعتباري أمينا على هذا المبدأ المقدس ، مبدأ الإنسانية. لكنا إذا تعدينا واجب «العدالة» فهناك واجب «الرّحمة» ، ألا يتطلب هذا الواجب أيضا أن يطبق بصورة شاملة؟ ولما كانت الرّحمة تستتبع بالأحرى إغضاء وتسامحا ، فإنّ الأخلاق المسيحية الّتي تأمرنا في هذا الصّدد بأن نحب حتّى أعداءنا ـ كانت أكثر إخلاصا لمبدأ الواجب الكلي الشّامل من الأخلاق الكانتية.

وهنا نشهد إعترافا ضمنيا بأنّ العمومية لا يمكن أن تتوافق مع واجب إلا إذا قوضت عمومية واجب مناقض له. والحقّ أنّ الأمر الحتمي غير المشروط لا يمكن أن يتخيّل بالمعنى الدّقيق للكلمة ، أعني : من وجه مطلق ، غير محدود ، لا بالتجربة ، ولا بالإدراك ، ألا إذا قبلنا مبدأ الواجب الوحيد ، وبما أنّ هنالك تعددا في الواجبات ، وينبغي أن يوجد هذا التّعدد ، فإنّ هناك حالتين ممكنتين :

فإمّا أنّ الأمرين سوف يمضيان متوازيين ، دون أن يضيق أحدهما بالآخر ، وإمّا أنّ كلا منهما سوف يتجه إلى مناقضة الآخر ، لا إلى محايدته فحسب.

وفي الحالة الأولى ، لا توجد أية صعوبة عملية ، فنحن مثلا ينبغي ألا نكذب ، وأ لا نقتل ؛ وهذان واجبان متوافقان تماما ، ومن الممكن أن يمضيا معا. ولا ريب أنّه ليس من الضّروري أن يفرضا دائما في وقت واحد ، لأنّ أحدهما خاص «بالكلام» ، والآخر خاص «بالعمل». بيد أنّ الحدود المرسومة لكلّ منهما لم تفرض عليه من خارجه ، بل بنصه نفسه ، ومن تحليل مفهومه الخاص ، وهو عمل يتناسب مع ممارسة الإدراك الإنساني ، مستقلا عن كلّ عنصر تجريبي.

أمّا في حالة التّصادم بين الواجبات ، فتتفجر صعوبات عظيمة الخطر ، وإليك

٢١٧

بعض الأمثلة : يجب أن نقول الحقيقة ، وأن نكون مؤدبين تجاه الآخرين.

فما العمل حين لا يمكن إعلان الحقيقة القاسية دون حرج؟.

يجب أن أمسك عليّ لساني.

ولكن لو أنّي كشفت أنّ العون الّذي وعدت به سوف يكون لمصلحة ظلم واضح؟.

حرام عليّ أن أكذب ، وحرام عليّ أيضا أن أدع للهلاك نفسا ، ربما أستطيع إنقاذها.

وما العمل عند ما تعرّض الحقيقة شخصا آخر بريئا للخطر؟

إنّ قول الحقيقة في هذه الحالة يكون على حساب حياة الغير ، فهل مثل هذا العمل من أعمال الكرامة المحمودة ، أو هو أنانية مذمومة؟

وإذا سمح المرء لنفسه أن يكذب لإنقاذ حياة إنسان ، فهل هذا منه إحتقار لذاته؟ أو هو تضحية؟ أو هبة لذاته؟.

ومحاولة التّوفيق بين إتجاهين بإستخدام تعبير غامض ذي معنيين ، أهو لحساب الفضيلة ، أم هو على العكس يعرضها للخطر؟ ذلك أننا في مواجهة المعتدي سنتمسك معنويا بأن نجعله يقتنع بالإتجاه الخاطىء ، ونكون حينئذ قد تجنبنا الكذب بحرفيته ، وإن كنّا قد قارفناه بمعناه.

وهكذا نرى أنّ تعميم أمرين ، ولو عقليا ، يستتبع بالضرورة تجاوزهما للحدود ، وتناقضهما ، وتدمير كلّ منهما للآخر ، ومن ثم كانت الضّرورة المطلقة في تضييق مجال تطبيق أحدهما ، لكي يمر الآخر ، ولكن أيهما؟. أمن حقنا أن نميز واحدا منهما ، أيا كان ، على سبيل التّحكم؟ وكيف نخوّلهما حقا متساويا

٢١٨

للمرور دون أن يسبق ذلك أن تخصهما بقيمة متساوية؟

على أنّه من غير المقبول أن نضع في مستوى واحد : اللازم ، والضّروري ، والزّائد الفضلة ؛ الأكثر إلحاحا ، والأقلّ ، الوجود ، والكمال. ومهمة عالم الأخلاق لا تنتهي بمجرد أن يضع قائمة بالواجبات ، فإنّ عليه أيضا أن يقر فيما بينها تدرجا في القيم ؛ وحتّى لو أفترضنا أنّ هذا النّظام قد وضع ، فلن يكون مطلقا نظاما نهائيا ، لأنّه في جوهره نسبي ؛ ولأنّ ما هو لازم محتم في حالة ـ قد يصبح ثانويا في حالة أخرى ، وفائضا ، زائدا في حالة ثالثة. ولذلك نجد الإنسان أمام الخطر يضحي بأثمن الطّيبات من أجل إنقاذ الحياة ، ثمّ هو يعرّض الحياة للأخطار من أجل إنقاذ الشّرف.

وإنّما تتحدد القيمة الجديرة بإختيارنا عند الأتصال بالواقع الرّاهن ؛ وليس ممكنا وضع خط دقيق للتمييز بين الواجبات المختلفة إلا «على الطّبيعة» ، وهو مع ذلك خط غير ثابت ، يخضع دائما للتعديل ، يحيث إننا لو أردنا تحديد واجب في لحظة معينة ، فإنّ الكلمة الأخيرة سوف تترك لحكم كلّ فرد ، بل ربما تترك لما يمكن أن نسميه «بحاسته السّادسة».

هكذا نجد أنفسنا وقد تجاوزنا «الكانتية» بمرحلتين ، وهذا التّجاوز نفسه ينقلنا إلى الطّرف الآخر من الطّريق.

[فردريك روه Frederic Rauh]

على الطّرف النّقيض للنظرية الكانتية الّتي تجعل السّلطة التّشريعية كلّها من شأن العقل الخالص ـ تقف نظريات أخرى تدافع عن قضية الحرية التّجريبية للذات ، ويتجلى هذا التّناقض العجيب المثير لدى [جيوGuyau] و [نيتشه

٢١٩

Nietzsche] ، وهما اللذان قصرا الأخلاقية على الشّعور بالجمال ، أو على إرادة الحياة ، وعلى أساس هذا الرّأي الأخير يتقرر أنّ القيمة الأخلاقية لا توجد مسبقا في نظام الأشياء الأزلية ، بل هي إبداع إنساني يتجاوز الإنسان به نفسه ليصبح فوق الإنسان [Sur homme].

ولم يدفع الفيلسوف الفرنسي فريدريك روه [Frederic Rauh] هذه الفكرة الثّورية إلى نهايتها ، وهي الّتي ترمي إلى أن تلغي إلغاء كاملا فكرة الإلزام ، ومعها الأخلاق نفسها. وهو ، وإن كان يعترف بسمو فكرة الواجب بالنسبة إلى الفرد ، إلا أنّه مع ذلك أراد أن يكون كلّ فرد هو صاحب مبادئه ، وأحكامه الخاصة ، ومبدعها (١).

ويمكن أن نقول ، دون أن نخشى إغرابا : إنّه على الرّغم من المسافة الّتي تفصل ما بين هذه الفكرة ، وفكرة «كانت» ـ فإنّها تلتقي معها وتتوافق في بعض المقاييس ، ذلك أنّ كلا منهما لا تبقي من فكرة الواجب إلا معناه العام ، الّذي لا يتضمن أي اتجاه خاص. بيد أنّ اختلاف الرّأيين يبدأ بعد هذا التّوافق في نقطة الإنطلاق ؛ فعلى حين يحلّق الفيلسوف الألماني في سماء المنطق ، ولا يهبط نحو المحسوس إلا على مراحل ، ومع كثير من التّحفظ ـ نجد أنّ مؤلف «التّجربة الأخلاقية» (٢) يسرع فجأة على الصّعيد النّفسي.

__________________

(١) سبق للفيلسوف الألماني فيخت [Fichte] أن جعل (الضّرورة) الّتي تواجه كلّ فرد بأن يعمل طبقا لإقتناعه ـ (قاعدة) أساسية للأخلاق ، و(حجته) : أنّ الضّمير لا يمكن أن يخطىء مطلقا. ولكن يبدو أنّ هذا المصطلح لم يكن له في فكره تلميذ «كانت» ـ هذا ـ نفس الصّراحة الّتي له في فكر «روه».

(٢) ١ ـ L\'expe rience morale

٢٢٠