دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (١).

فالنصوص الّتي تعدد العقاب البدني تبلغ على هذا النّحو (ـ ٧٤ آ و ١٥ ب).

على أننا لا ينبغي أن نعتبر كلّ هذه العقوبات المادية غاية ، بل هي وسيلة لإيلامهم أخلاقيا ، فالغرض الجوهري من الإندحار في هذا المأوى البشع ليس النّار ، بقدر ما هو الخزي الّذي تعنيه : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (٢).

ومما يزيد في شقائهم أنّهم في هذه الآلام الأخلاقية ، والمادية لن يجدوا من حولهم قلبا عطوفا معزيا ، بل إنّ روابط الصّداقة الّتي كانت لهم في الماضي ، والّتي ستكون قد تقطعت يومئذ ، هذه الرّوابط سيحل في مكانها جوار سيىء لهؤلاء الأصدقاء القدامى أنفسهم ، فلن يكون بينهم منذئذ سوى الخصام : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٣).

والبغض : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٤).

والتّلاعن : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) (٥) ، (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (٦).

ولقد أردنا بهذا التّصنيف ، وهذه النّصوص المحددة أن نعطي للقارىء إحساسا دقيقا بمنهج التّبليغ الّذي اتبعه القرآن ، وبالنسبة الّتي يمثلها كلّ طريق من طرقه

__________________

(١) الغاشية : ٣ (ـ ١ آ).

(٢) آل عمران : ١٩٢ ، التّوبة : ٦٣ ، هود : ٦٠.

(٣) سورة ص : ٦٤.

(٤) الزّخرف : ٦٧.

(٥) الأعراف : ٣٨.

(٦) العنكبوت : ٢٥.

٥٤١

في المجموع.

ولسنا ندعي ، نظرا إلى غنى الأسلوب القرآني ، أننا قدمنا إحصاء منزها عن الخطأ ، ولكنا على الأقل قدمنا الأحداث الرّئيسية في جداول ، كلّ في إطاره الخاص ، ونحسب أنّ إدخال أي تعديل إليها سوف يكون قليل الأهمية ، ولكنا كي نبرز نتيجة هذه الدّراسة نعتقد أنّ من المفيد تلخيصها في جدول إجمالي ، على النّحو التّالي :

٥٤٢

قائمة ورود الطّرق المختلفة للتوجيه

الحث على الواجب

أ

ب

المجموع

بسلطانه الشّكلي

١٠

١٠

بقيمه الدّاخلية

٦٢٠

٤٥٥

١٠٧٥

بالمشاعر الدّينية (حبّ ـ حياء ... إلخ)

٢٠

٦٢

٨٢

بالنتائج الطّبيعية

٢

١٢

١٤

بالجزاءات الإلهيّة :

١ ـ مبدأ الجزاء بعامة

١١

٢

١٣

٢ ـ مبدأ الجزاء على مرحلتين

١٤

١٢

٢٦

٣ ـ الجزاء الإلهى في العاجلة :

آ ـ ذو طابع مادي

١

١

ب ـ ذو طابع دنيوي

٥

٣١

٣٦

ح ـ ذو طابع عقلي ، وأخلاقي

٢٣

٤٠

٦٣

د ـ ذو طابع روحي

٢٠

٥٨

٧٨

٥٤٣

٤ ـ الجزاء الإلهي في الآخرة :

آ ـ اسم عام للدار الآخرة : الجنّة

١٩

٨

٢٧

: النّار

٦١

٥٠

١١١

ب ـ إعلان ثواب ، أو عقاب غير محدد :

ثواب

٦٦

١٠٠

١٦٦

عقاب

٩٤

٦٦

١٦٠

ج ـ تحديد (ثواب ، أو عقاب) :

سعادة روحية

١٠٢

٧٠

١٧٢

سعادة حسية

٩٧

٢٧

١٢٤

صيغة كاملة

٤

٤

عقوبات أخلاقية

١٠١

٤١

١٤٢

عقوبات مادية

٧٤

١٥

٨٩

٥٤٤

خاتمة

فتلك إذن أرقام تتحدث ببلاغة أكثر من أي تعليل نظري. وأخطر الإعتراضات الّتي تثار غالبا ضد الأخلاق الدّينية بعامة ينحصر في القول بأنّها تضرب صفحا عن الضّمير ، فرديا كان ، أو جماعيا ، وأنّها تستمد كلّ قوتها ، وكلّ سلطانها من إرادة علوية ، خارجة عن طبيعة الأشياء ، وأنّها تفرض نفسها بخاصة عن طريق التّرغيب في الثّواب ، والخوف من العقاب الّذي قررته تلك الإرادة العليا (١).

ونحن ندرك الآن أنّ هذا النّقص ـ في أية حالة من حالاته ـ لا يمس الأخلاق الإسلاميّة ، فالقرآن ـ كما رأينا ـ يعلن أنّ النّفس الإنسانيّة مستودع قانون أخلاقي فطري ، نفخ فيها منذ الخلق ، والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر كلا منا أن يستفتي قلبه ، كيما يعرف ما يأخذ وما يدع.

بل إنّ أكثر المذاهب الإسلاميّة محافظة تتفق على أنّ تسلم للعقل الإنساني بمجال خاص في التّقدير ، والتّشريع ، حين يكون تحديد الخير ، والشّر مرجعه

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Boutteville, La morale de l\'eglise, et la morale natu ـ relle, p. ٥٤٤.

٥٤٥

العقل ، سواء أكان كمالا أم نقصا ، وسواء أكان موافقا أم مخالفا للفطرة.

والمشكلة الّتي أثارت اختلاف هذه المذاهب في هذه النّقطة كانت فقط هي : أيجب أن نأخذ أمر العقل أمرا نهائيا؟ وهل هو يتفق دائما ، وأينما كان ، مع واقع الأشياء؟ وهل هو يتوافق بخاصة مع العقل الإلهي؟.

فأمّا أنّ الضّمير مزود ـ بطريقة كافية ـ بسلطة لتأكيد مسئوليتنا أمام أنفسنا ، فأمر لا يماري فيه أحد ، ولكن هل لديه من هذه السّلطة ما يكفي لإثبات مسئوليتنا أمام الله؟.

على هذه المسألة المحددة دار النّقاش.

وعلى هذا ، أليس واضحا ما يحدث لنا غالبا من أن تعمي العادات ضميرنا ، أو تضلله الأوهام ، أو تتسلط عليه المنفعة ، وأن تتحدث إلينا العاطفة أحيانا متخفية في ثوب العقل ، ومتقلدة بلغته؟ .. بل إننا قد نميل إلى القول بأنّ العقل في هذه الحالات هو الّذي يتحدث إلينا ، ولكنه عقل ساقط فاسد ، لكثرة ما سخر نفسه لخدمة الغريزة البهيمية ، فإذا ما بلغ هذا الحدّ من الضّلال فإنّه يزعم أنّ دوره الرّئيسي أن يكشف عن وسائل إشباع منافعنا العاجلة ، وأن يحاول إنجاحها.

ولكن عجبا!! إننا حين يتعارض العقل ، والمشاعر على نحو سافر ، وذلك ما يحدث في أكثر الحالات ، نسلم بإنتظام للعقل بحقه في السّيطرة على المشاعر ، فهل نحن بهذا في موقف محايد؟ ..

وحين يستأثر العقل في زهو بسلطة حسم النّقاش ألا يجعل من نفسه بذلك حكما ، وخصما في آن؟.

فإذا ما أمضينا هذا الإستدلال إلى غايته حقّ لنا أن نتساءل عما إذا كان خالق

٥٤٦

هذه الفطرة البالغة التّنوع يرضى فعلا أن يضحي بالجانب الأكبر ، والأقدم من صنعه ، في سبيل آخر قادم ، ما الّذي يدل في الواقع على أنّ الله قد أمر بهذه التّضحية؟.

وأين هو التّوكيل الّذي بمقتضاه يتحدث جزء واحد فقط من الخلق باسم الخالق؟. وما الّذي يهدينا في هذه الدّعوى؟ أهو غريزة الصّدق؟ أم هو الكبرياء ، والزّهو بالذكاء؟.

ولا ريب أنّ الإرادة العاقلة هي أثمن جزء في وجودنا ، فهي الّتي نتميز بها ، على حين أنّ ما تبقى مشترك بيننا ، وبين الكائنات الدّنيا. إنّها الملكة القادرة على أن تركزنا في ذواتنا ، على حين أنّ الحواس ، والغرائز تبعثرنا خارجها. فهي إذن مخصصة ليمنحها الخالق حقّ السّيادة ، ودور المبدأ المنظم.

ولكن ، هل يكون عدلا أن يحكم سيّد رعاياه دون استشارتهم؟ أليس من الواجب أن يبذل كلّ طاقته ليضمن لهم النّمو الّذي يقدرون عليه؟

أين ينتهي العمل الدّيموقراطي ، وأين يبدأ الطّغيان ، والإستبداد في هذا التّنظيم؟ ومن ذا الّذي يستطيع أن يرسم هذا الخط الفاصل على أساس من الحياد؟ ..

لقد أدرك ذلك الفقهاء المسلمون ، فيما خلا عددا قليلا من المعتزلة وأشباههم. وقد قرر هؤلاء الفقهاء أنّه لإيجاب مسئولياتنا أمام الله لا بد من شريعة تأتي من عند الله بطريقة إيجابية ، وصريحة ، في مقابل ذلك القانون الضّمني المستودع ابتداء في فطرتنا. ولن يكون دور هذه الشّريعة الجديدة ـ بلا ريب ـ أن تبطل قانون الفطرة ، لأنّهما حقيقتان ، ما كان لهما أن تتعارضا ، ولكن دور الشّريعة

٥٤٧

الإلهية أن تثبت قانون الفطرة ، وأن تمنحه سندا متينا ، وذلك بعد أن تستخلصه بكل نقائه ، وطهارته.

ويجب أن يبدأ مشروع هذا التّطهير المسبق ـ بداهة ـ بمنع ضلالات العقل المزعوم قبل وقوعها ، وبإيقاظ الضّمير النّائم تحت أنقاض الأوهام. يقول تقي الدّين ابن تيمية : «إنّ الرّسل إنّما بعثت بتكميل الفطرة ، لا بتغيير الفطرة» (١) ، وإنطلاقا من هذه الفكرة يمكن القول بأنّ الأطر الّتي سوف تثبتها هذه الشّريعة الإيجابية حتّى تتيح للضمير الفردي أن يمارس حقّه بطريقة حرّة ، ومشروعة ـ هذه الأطر سوف تكون منطلقا ، لا لما هو من باب الحلال ، والحرام فحسب ، بل وفي الوقت نفسه ، لما هو معقول حقا ، وما ليس كذلك. فما يضاد النّقل سيكون كذلك مضادا للعقل ، وكما قال ابن تيمية : «وكلّ ضلالة فهي مخالفة للعقل ، كما هي مخالفة للشرع» (٢).

وعلى هذا النّحو ، فإنّ هذه الشّرعية الدّينية لم تأت لتحل محل الأخلاقية ، ولا لتضادها ، بل هي تفترضها ، وترجع إليها دائما. ولقد رأينا في الواقع مدى العناية الّتي يلتزم بها القرآن ، وهو يصوغ أوامره ، فهو يحرص على مطابقتها للعقل ، وللحكمة ، وللحقيقة ، وللعدالة ، وللإستقامة ، إلى جانب قيم أخرى ، يتكون منها بناء الضّمير الأخلاقي ذاته.

__________________

(١) انظر ، منهاج السّنّة ، لابن تيمية : ١ / ٨٢ ، هكذا وردت فيه ، وذكر المؤلف أنّ النّص : (لتكميل الفطرة لا لتغيير الفطرة) باللام بدل الباء ، وهو خطأ. «المعرب».

(٢) انظر ، منهاج السّنّة : ١ / ٨١ ، وبدء العبارة (وفرعوا في صفات الله ، وأفعاله ما هو بدعة مخالفة للشرع ، وكلّ بدعة ضلالة ...) «المعرب».

٥٤٨

ورأينا كيف يقدم القرآن النّتائج الّتي تحدث في النّفس من إتصالها بالفضيلة ، والتّأثير الّذي يمارسه الفعل على القلب ، والرّوح ، وأهمية النّدم ، والتّوبة. وهذا كلّه يتصل بالضمير الفردي.

بيد أنّ الإنسان ، وهو كائن عاقل ، هو في نفس الوقت كائن إجتماعي ؛ إنّه في ملتقى قوتين ، باطنة ، وظاهرة ، يتلقى منهما معا ، أو على التّوالي ، أوامره .. وقد يجوز لنا أن نقول : إنّ الجانب الأكبر من الغذاء الرّوحي ، وأغلب المثل العليا ، بالنسبة إلى كلّ إنسان يعيش في المجتمع ـ إنّما تأتيه أوّلا من خارج ، وهو مختار ، بعد أن يعيد التّفكر فيها ، ويجترها ، أن يتمثلها كاملة ، أو يرفضها ، ويستبدل بها خيرا منها.

فما الجانب الّذي يعود إلى الأمّة الإسلاميّة في السّلطة الأخلاقية؟

هذا الجانب على الرّغم من كونه محدودا ، إلّا أنّه من أهم الجوانب ، لأنّ حدوده ليست سوى الحدود الّتي تفرضها العدالة الفطرية ، والقواعد العامّة للعدالة المنزلة ، إننا لا ندين بالإحترام ، والطّاعة ولاء للإجماع فحسب ، وهو القرار الإجماعي للهيئة التّشريعية المختصة ، ولا لكلّ صيغة صادرة عن السّلطة التّنفيذية ، من أجل إقرار النّظام ، وتوفير الخير العام فحسب ، بل إنّ كلّ تفصيل إداري تافه في ذاته ، ولكنه يعتبر موضوعا لأمر شرعي ـ ينال بهذه الصّفة قوة القانون الأخلاقي.

ولكي نبرهن على أنّ الضّمير العام ليس في الإسلام وهما ، بل ولا نسخة من الضّمير الفردي ـ لا نجد خيرا مما سبق أن ذكرناه ، أعني : تكليف الأمراء أن

٥٤٩

يطبقوا الجزاءات الشّرعية على من يستحقونها ، حتّى بعد توبتهم ، وهدايتهم التّامة.

قد يخطر لنا أن نتساءل : أليس في تغيير المذنب لموقفه ، وإلتزامه طريقا من السّلوك المرضي ، ما قد يرضي الأخلاقية إرضاء كاملا؟ .. ومن وجهة نظر الإيمان ، أليس مكفولا العفو عن ذنوب الّذين يعودون إلى الإيمان في طهارة وعزم؟ ..

ومع ذلك ، يبقى علينا أن نطهر جوا دلسته الجريمة ، وأن نأسو جراح الضّمير العام الّذي صدم بها ، وأن نتدارك تقليد المثل السّيىء الّذي قدمته.

وتلكم هي الإعتبارات ، ذات الطّابع الإجتماعي المحض ، الّتي حتمت هذا الإجراء البالغ القسوة ، الّذي يعاقب إنسانا صلح حاله ، وصفت سريرته.

ولنذكر واقعا إجتماعيا آخر ، يتصل ، هذه المرة ، بالعلاقة بين الأفراد ، فلقد رأينا في الواقع صفة القداسة الّتي يضفيها الإسلام على حقّ الغير ، بحيث أنّ أي ضرر يحدث لإخواننا ، حتّى في حال عدم علمهم ، يظل على عاتق من تسبب فيه ، إلى أن يعترف لضحاياه ، فينال منهم عفوا صريحا ، وواعيا.

وهكذا نرى أنّ إنتهاك الحقّ العام ، يقتضي من النّاحية الأخلاقية ، جزاءات أخرى ، أكثر من مجرد النّدم ، والتّوبة ، والصّلاح الشّخصي ، جزاءات تصل في مداها إلى ما هو أبعد من الرّضا الإلهي.

إنّ من وراء أوامر الضّمير الفردي ، والضّمير العام نظاما أكثر صلابة منهما ، هو نظام الفطرة الكونية الشّاملة ، بقانون سببيته الّذي لا يعرف الهوادة ، فهذه طريقة

٥٥٠

في العمل تؤدي إلى نهاية حسنة ، وتلك طريقة أخرى تعود ضد صاحبها ، ولذلك تنصحنا الفطنة الحكيمة بأن نحسب حساب النّتائج قبل الشّروع في أي عمل.

على أنّ هذه الإعتبارات الغائية لا يمكن من وجهة النّظر الأخلاقية أن تنال صفة الشّرعية إلّا حين لا تحيد عن الواجب ، بل تمضي بالأحرى متوافقة معه ، طالبة منه المزيد.

وبهذه الشّروط ، أليس من حقّ أية تربية حسنة أن تلجأ إلى مثل هذا الأسلوب أحيانا ، لدعم تعليمها؟ .. على هذا النّحو ، جرى القرآن في كلّ حال ، وهو يذكرنا ، بعدد قليل من الأمثلة ، بالنتائج الطّبيعية لسلوكنا ، وهي نتائج مختارة من بين أكثرها عموما ، وأكثرها واقعية ، وبقاء.

إنّ المنابع العقلية الّتي يستقي منها الأخلاقيون عادة ، كلّ بحسب هواه ، برهانهم لوضع أسس التّكليف الأخلاقي ـ هي : الإقتضاء الأخلاقي المحض ، والضّرورة الإجتماعية في جوهرها ، والعقل الرّاشد العملي ، وتلكم هي المنابع مجتمعة. وهنا تتوقف الأخلاق العلمانية ، ولكن الأخلاق القرآنية لا تقتصر على هذه الإعتبارات ، بل هي تشملها ، وتتجاوزها ، وتكملها لحسن الحظ بمبدأ سام من جانب آخر ، هو الإيمان بوجود سيّد مشرع ، له سلطته العلوية الضّرورية للتصديق على كلّ قرار يتخذ من جهة أخرى ، واعتماده.

ولقد رأينا على هذه الأرض الجديدة أنّ أمر القرآن تقوم دعائمه على ثلاثة أسباب مختلفة :

أوّلا : على السّلطة التّشريعية وحدها ، لمن قرر الأمر ؛ والله سبحانه جدير أن

٥٥١

تكون كلمة أمره مطاعة دون شرط ، ودون ما حاجة إلى أي سرّ آخر : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) (١) ، كما أنّه صوت الحقيقة ، والعدل ذاته : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢).

ثانيا : على الشّعور بمعيته الحبيبة المهيبة ، وهذا الشّعور من شأنه أن يحرك شجاعتنا إلى فعل الخير ، وإلى أن نفعله على خير وجه ، كما أنّه قادر على أن يدفع دفعا رقيقا كلّ ميولنا السّيئة.

ثالثا : على توقع إجراءات الجزاء الّتي قررها الله سبحانه.

وإذ وصلنا إلى هذه النّقطة ، فقد بدا لنا منهج التّعليم القرآني مرة أخرى في صورة مركبة ، مزدوجة في تركيبها ؛ إذ تستهدف الحياة الدّنيا ، والحياة الأخرى معا ، وتعلن للإنسان بأنّ عليه أن يتقبل في كلتا الحياتين الّثمن الأخلاقي ، والبدني ، والرّوحي لأفعاله.

لقد أثرنا من قبل مسألة معرفة ما إذا كان تغير الوسط الجغرافي ، والظّروف الإجتماعية ـ قد استطاع أن يفرض بعض التّعديلات في المفهوم القرآني عن الحياة الآخرة.

ولقد لزمنا ـ لكي نجيب عن هذه المسألة ـ أن نعود مرة أخرى إلى النّصوص نستشيرها ، ونميز فيها مجموعتين ، تبعا لنزول الوحي بها قبل الهجرة ، أو بعدها. وهنا نلاحظ : وجود نوعين من السّعادة (الرّوحية ، والحسية) في المرحلتين ، مصحوبين بتفاصيل عديدة.

__________________

(١) المدثر : ٥٦.

(٢) الأنعام : ١١٥.

٥٥٢

ومع ذلك ، فقد لاحظنا قلة عددية ، تكاد تبلغ أحيانا حدّ النّدرة ، في الآيات المدنية ، المتعلقة بالجنّة ، أو النّار ، حتّى في جانبهما الرّوحي.

فإذا ما وسعنا نطاق البحث وجدنا أيضا أنّ مراجع القيم الباطنة من النّصوص كثيرة جدا ، في المرحلتين ، وكأنّها متناسبة مع زمانها الخاص ، ومع حجم الحديث المطابق لها (١). وفي مقابل ذلك نجد أنّه على حين يبدأ الحديث الأخروي يقل في المدنية ـ يظهر اتجاه معاكس له في إطار الإعتبارات الأخرى ، فمن الآن فصاعدا يفسح التّبليغ مكانا أرحب للشعور بالحضور الإلهي ، وللنتائج العاجلة ، ذات الطّابع الأخلاقي ، والإجتماعي ، والرّوحي.

ونرى أيضا مجموعة جديدة تظهر ، يفرض الواجب فيها بسلطانه الشّكلي المحض ، وكلّ هذا يسمح لنا أن نرى ، أنّ العالم الإسلامي قد شهد مع الهجرة تقدما للأفكار الأخلاقية ، لا تخلفا كما كان يقال غالبا.

وأيّا ما كان الأمر ، فإذا كنّا قد عرفنا ـ هكذا ـ الوسائل الكثيرة الّتي يستخدمها القرآن لتسويغ أمره ، والجانب الّذي فسحه للدوافع الأخلاقية السّامية ، بما في ذلك التّجرد المطلق ، والخضوع للشرع لمجرد إحترام الشّرع ـ إذا عرفنا ذلك يصبح من الظّلم بداهة أن تنهم الأخلاق القرآنية بأنّها أخلاق نفعية.

إنّ أكثر ما نملك هو أن نتطلب لأخلاق محضة جزاء أخلاقيا لا غير ، وبذلك يمكن أن ننكر على هذه الأخلاق أن تكون مختلطة. وربما كان هذا الجهاز المادي للثواب ، والعقاب الأخروي ـ على الرّغم من أنّه ليس الوحيد في المواجهة ـ من الأمور الّتي نود ألا تكون ، حتّى نرد إلى الجزاء الإلهي قيمته

__________________

(١) من المعلوم أنّ النّصوص المنزلة بعد الهجرة تكاد تشغل ثلث القرآن.

٥٥٣

الكبرى.

ولنلاحظ أوّلا أنّ هذا المفهم عن الجزاء الأخروي ، وهو مفهوم مادي جزئيا ، ليس إسلامي النّوع ، فهو يعتبر عنصرا مشتركا بين جميع الأخلاق الدّينية ، الّتي تعترف للناس بحياة أخرى ، سوف يجتمع فيها البدن ، والرّوح من جديد ، بعد أن يكونا قد إنفصلا مؤقتا بالموت ، يجتمعان ليتلقيا معا ثوابا خالدا ، أو عقابا أبديا.

ولا ريب أنّ هذه هي حال الأخلاق المسيحية ، فلقد أجمع الآباء ، وفقهاء الكنيسة على أن يعلموا عقيدة بعث الجسد ، وعقيدة إشتراكه مع الرّوح في الجزاء (١) ، وهما عقيدتان قائمتان على أساس متين من تعليم السّيد المسيح والدّعاة ، فقد قال يسوع لحوارييه : «لا تخافوا من الّذين يقتلون الجسد ، ولكن النّفس لا يقدرون أن يقتلوها ، بل خافوا بالحريّ من الّذي يقدر أن يهلك النّفس والجسد كليهما في جهنم» (٢). وقال أيضا : «يرسل ابن الإنسان ملائكته ، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر ، وفاعلي الإثمّ ، ويطرحونهم في أتون النّار ، هناك يكون البكاء ، وصرير الأسنان» (٣).

وكثيرا ما صورت جهنم على أنّها : «النّار الّتي لا تطفأ ، حيث دودهم لا يموت ، والنّار لا تطفأ» (٤) ، ويصرح الغني الخبيث الّذي كان يلبس الأرجوان ، والبزّ مترفها ، ولم يكن يعطي المسكين لعازر حتّى مات جوعا ، يصرخ وهو في

__________________

(١) انظر ، ١ ـ A. Boulanger : Doctrine catholique ١ ere part. p. ١٣٢ ـ ٣٣٢

(٢) انظر ، إنجيل متى : ١٠ / ٢٨.

(٣) انظر ، إنجيل متى : ١٣ / ٤٣.

(٤) انظر ، إنجيل مرقص : ٩ / ٤٣ ـ ٤٨ نفس العبارة مكررة.

٥٥٤

عذاب الهاوية قائلا : «يا أبي إبراهيم ، ارحمني ، وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ، ويبرد لساني ، لأنّي معذب في هذا اللهيب» (١) ، ونقرأ في رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي : «وأمّا الخائفون ، وغير المؤمنين ، والرّجسون ، والقاتلون ، والزّناة ، والسّحرة ، وعبدة الأوثان ، وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار ، وكبريت» (٢).

وعلى الرّغم من أنّ الكنيسة لم تقل شيئا عن طبيعة النّار ، فإنّها تقرر أنّها نار واقعية ، لها سماتها من : اللهب ، والجمر ، والأوار الّذي لا يخمد ... إلخ ..

وإذن ، فقد كان (ديكارت) على حقّ حين اعترض على نظرية بعض اللاهوتيين الّذين كانوا يقولون : (إنّ الله يخيب أمل المعذبين عند ما يقر في أذهانهم أنّهم يرون ، ويستشعرون نار الجحيم الّتي تحرقهم ، وإن لم يكن موجودا منها شيء في الواقع) ، ويرد (ديكارت) على ذلك بقوله : (إنّ الله لا يمكن أن يكون خادعا ، إذ كيف يمكن أن نؤمن بأمور أوحاها الله إلينا إذا كنّا نظن أنّه يخدعنا أحيانا؟ .. أنّ شعور المعذبين ليس خيبة أمل ، بل هم معذبون حقا بالنار ، لأنّ الله قادر على أن يجعل الرّوح تذوق آلام النّار المادية بعد الموت ، كما كانت تحس بها قبله) (٣).

ومع أنّ الإشارة إلى الجنّة كانت أقل ترددا في العهد الجديد من موضوع النّار ، فإنّها تحمل كثيرا طابع السّعادة الحسية ، بجانب السّعادة الرّوحية.

__________________

(١) انظر ، إنجيل لوقا : ١٦ / ٢٤.

(٢) انظر ، رؤيا يوحنا اللاهوتي : ٢١ / ٨.

(٣) انظر ، ديكارت : ١ ـ Reponses aux ٥ emes objections.

٥٥٥

ولقد رأينا آنفا توسلات الغني الخبيث ، يلتمس قليلا من الماء ليبل لسانه. ولذلك يقرر يسوع في أكثر العبارات صراحة ، وعموما : «وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتا ، لتأكلوا ، وتشربوا على مائدتي في ملكوتي ، وتجلسوا على كراسيّ تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر» (١) ، «وقال أيضا للذي دعاه : «إذا صنعت غداء ، أو عشاء ... فادع المساكين ، الجدع ، العرج ، العمي ، فيكون لك الطّوبى ، إذ ليس لهم حتّى يكافئوك ، لأنّك تكافي في قيامة الأبرار» (٢) ، وأكثر من ذلك تحديدا أيضا قوله في آخر إجتماع له مع حوارييه : «وأقول لكم : إنّي من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة ، هذا إلى ذلك اليوم ، حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت أبي» (٣) ، وقد عبر عن فكرة مماثلة لهذه بمناسبة تناول القربان المقدس ، قال : «شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم ، لأنّي أقول لكم : إنّي لا آكل منه بعد ، حتّى يكمل في ملكوت الله ...» (٤).

بيد أنّ الجانب الحسي من نعيم الجنّة أكثر ظهورا في رؤيا القديس يوحنا : «من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة الّتي في وسط فردوس الله (٥) ، من المنّ المخفى (٦) من يغلب فذلك سيلبس ثيابا بيضا (٧) ، أنا أعطي العطشان من

__________________

(١) انظر ، إنجيل لوقا : ٢٢ / ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) انظر ، إنجيل لوقا : ١٤ / ١٢ ـ ١٤.

(٣) انظر ، إنجيل متى : ٢٦ / ٢٩ ، ومرقص : ١٤ / ٢٥ ، ولوقا : ٢٢ / ١٨.

(٤) انظر ، لوقا : ٢٢ / ١٥ و ١٦.

(٥) انظر ، رؤيا يوحنا اللاهوتي : ٢ / ٧.

(٦) انظر ، رؤيا يوحنا اللاهوتي : ٢ / ١٧.

(٧) انظر ، رؤيا يوحنا اللاهوتي : ٣ / ٥.

٥٥٦

ينبوع ماء الحياة مجانا (١) ، لن يجوعوا بعد ، ولن يعطشوا بعد ، ولا تقع عليهم الشّمس ، ولا شيء من الحرّ ...» (٢).

واقرأوا وصف القدس الجديدة لنفس المؤلف ، كتب يقول :

«والمدنية ذهب نقيّ شبه زجاج نقي ، وأساسات سور المدينة مزينة بكلّ حجر كريم» (٣). ومن هناك شجرة حياة تصنع إثنتي عشرة ثمرة ، وتعطي كلّ شهر ثمرها ...» (٤) إلخ ...

هل يقال : إنّ هذه رؤيا قديس شجعته في ذلك العصر التّعاليم الأخروية الّتي قالت بها اليهودية؟ .. (٥) ... هذا ممكن ، ولكنه أحد أمرين : إمّا أنّ الرّؤيا وهم شعري ، ومحض خيال حالم ، وإمّا أنّها تتطابق مع شيء من الواقع ، لا أقول : إنّها أدركت كلّ شيء ، ولكن أقول : إنّها تقترب ، وتوجز ، لأنّه كما قيل : «إنّ الأشياء الّتي أعدها الله لمن يحبونه أشياء لم ترها العين ، ولا سمعتها أذن ، ولا خطرت على قلب إنسان» (٦) فهي إذن أشياء سوف تراها العين ، وتسمعها الأذن ، وسوف تمس القلب.

والحقّ أنّه لا يوجد نصّ يؤكد تشابه الحياتين ، ولكن لا يوجد نصّ يمنع إمكان نوع من الإستمرار بينهما ، بل إننا نقول : إنّ هذا الإستمرار شرط في تيسير

__________________

(١) انظر ، رؤيا يوحنا اللاهوتي : ٢١ / ٦.

(٢) انظر ، رؤيا يوحنا اللاهوتي : ٧ / ١٧.

(٣) انظر ، رؤيا يوحنا اللاهوتي : ٢١ / ١٩ ـ ٢٠.

(٤) انظر ، رؤيا يوحنا اللاهوتي : ٢٢ / ١.

(٥) انظر ، ١ ـ Fillion ,Vie de N.S.Jesus T.III p.٨٥

(٦) انظر ، ١ ـ St.Paul Corin II p.٩.

٥٥٧

إدراكهما على نحو بالغ.

ولكن إذا كان العالم الّذي وعدنا به عالما جديدا على وجه الإطلاق ، لا يرى ، ولا يمسّ ، ولا مثال له في عالمنا الحاضر ، فأي سلطان سيكون له علينا؟ .. وأي اضطراب سوف يلقى حينئذ في أذهاننا؟ أنكون إذن بحيث يتعرف بعضنا على بعض ، ونحس بنفس القدر من البساطة أنّه لم تمض سوى ساعة بين الموت ، والبعث؟ (١) ... ثمّ تجربتنا الرّاهنة لجميع الملذات ، والآلام ، البدنية ، والأخلاقية ، أتصلح بحسبانها شيئا ذا قيمة كبيرة؟ .. ألا يتمثل سبب وجودها ، في جانب كبير منه ، في أنّها تعرفنا بأوليات هذه الحياة الجديدة ، وتقدمها إلينا على سبيل الإيجاز ، والتّشويق؟

إنّي لأعرف التّأويل الّذي أمكن أن يوضع لكلمات المسيح ، إنّهم ، لكي يتقوا هجمات العقليين ، وهم في الوقت نفسه يسلمون نصا بما أعد للمعذبين من آلام بدنية بالغة القسوة ـ يريدون أن يعتبروا النّصوص الإنجيلية المتعلقة بالمائدة الطّيبة الّتي أعلنت للسعداء ـ من قبيل الرّموز ، على حين لا مجال هنا ، ولا أثر لأي مقارنة. فهذه النّصوص قد تناولها المسيحيون الأوائل تناولا حرفيا ، كما كان يفعل آباء الكنيسة السّريانية (٢) ، وكما يفعله حتّى الآن البروتستانت في القدس الجديدة (٣).

وإنّي لأعرف أيضا أنّ هذا التّأويل يمكن أن نواجهه عند نظرنا في النّصوص

__________________

(١) مصداقا لقوله تعالى في يونس : ٤٥ : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ.)

(٢) انظر ، ١ ـ T. Andrae. Mohammed, Sa vie et sa Doctrine p. ٧٨.

(٣) انظر ، ١ ـ Tassy ,les lois de Mohomet ,p.٢٣١.

٥٥٨

القرآنية ، بل وربما كان على جانب أكبر من الصّواب ، لأنّ هذا التّعليم يجيء في مواضع كثيرة على أنّه (مَثَلُ) (١) أو رمز (مَثَلُ الْجَنَّةِ ...) (٢).

بيد أنّه ، على الرّغم من أنّ كلمة (مَثَلُ) تعني (الوصف) ، كما تعني (المقارنة) فمن الصّعب أمام كثرة الآيات الأخرى الّتي لا تظهر فيها هذه الكلمة ـ أن نعريها من معناها الحقيقي ، وأن نتناولها على أنّها مجرد رموز. ولا ريب أنّ القرآن ـ فيما يبدو ـ يؤكد لنا أنّ ملذات الجنّة ذات شبه بأحوال الأرض ، وأشيائها ، دون أن يكون بينهما تماثل جوهري ؛ (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) (٣) ، وقد استطاع ابن عباس أن يقول : إنّها ليس لها منها سوى الاسم. ولكن ، إلى أي حدّ سيكونان متمايزين؟ .. أهو تمايز المعقول من المحسوس؟ أو أنّ أشياء الجنّة سوف تحتفظ ببعض التّماثل الطّبيعي مع أشياء الأرض؟

ومع ذلك ، إذا لم يكن الجسد المبعوث سيتقاسم مع النّفس كلّ متعها المشروعة ألّا يكون بعثه عبثا؟ ، والجزاء على كلّ حال ناقصا؟ ..

ذلك أنّه على حين أنّ الجزاء القانوني ، والجزاء الأخلاقي ، بطبيعتهما ، لا يؤثر كلّ منهما مباشرة إلّا على عنصر مختلف من الشّخص (الحاسة ، أو الضّمير) ـ فإنّ ما يميز الجزاء الإلهي هو أنّه يجب أن يكون كليا ، وكاملا ، فطبيعة هذا الجزاء المركبة ليست عيبا ، ولكنها فيما يبدو لنا بعكس ذلك ، شرط في كماله ، من حيث هي متفقة مع تركيب الطّبيعة الإنسانية ، على النّحو الّذي نعرفه اليوم ، ويبدو أنّ

__________________

(١) الرّعد : ٣٥.

(٢) محمد : ١٥.

(٣) البقرة : ٢٥.

٥٥٩

هذه الطّبيعة ستظل ـ إلى أن يثبت العكس ـ محتفظة بهويتها هذه : أعني بهذا الإرتباط الوثيق بين الجانب البدني ، والجانب الأخلاقي.

وهكذا نرى الآن رحابة الفكرة القرآنية عن الجزاء. إنّها ليست نزعات خاصة لإنسان ، ولا آراء شخصية لفيلسوف ، ولا رأيا شائعا في عصر ، أي عصر ، سواء أكان معاصرا للإسلام ، أم سابقا عليه ، أم لا حقا به ، ليس ذلك كلّه هو ما تعبر عنه هذه النّظرية ، إذ أنّها لما كانت شاملة بفضل غايتها أرادت أن تكون كذلك شاملة بفضل منهجها ، ومن ثمّ فإنّ ما تركه الحكماء الأقدمون منذ سقراط وإيبيكتيت [Epictete] ، وما كتبه فلاسفة العصر الحديث حتّى «كانت» و«ميل» ، وما جاء به القديسون ، والأنبياء ، منذ بدء الزّمن ، حتّى موسى ، وعيسى ـ كلّ مذهب من هذه المذاهب لا بد أن يجد في النّظرية القرآنية إحدى الصّيغ الّتي يوافق عليها.

وما ذلك إلّا لأنّها تستهدف النّفس الإنسانيّة بكلّ قواها ، وفي كلّ أعماقها ، ولأنّها تدعو جميع النّاس ، في جميع الطّبقات ، ومن جميع درجات العقل.

وليس عدلا في ذاته فحسب أن تتساوى المكافأة مع الجهد المكافأ ، من حيث التّركيب ، والغناء ، ولكن من حكمة المنهج أن يكون التّعليم الشّامل مزوّدا بنظام للبرهنة يتساوى في تنوعه مع تنوع الإتجاهات ، والأمزجة ، والعقول ، لدى من يتوجه إليهم ، بحيث يستطيع كلّ منهم ، تبعا لطريقته في التّفكير ، أن يرى فيه أمورا صالحة لإقناعه. فيجب أن يجد الأمر بالواجب تسويغه في الحقيقة ، بأي صورة تمثّلت ، ويجب أن يكون قادرا على ممارسة تأثيره في النّفس ، بأي عين تأملته ، وذلكم هو ما يقدمه لنا القرآن.

إنّ جلال الأمر الإلهي ، ومطابقته للحكمة ، وتوافقه مع الخير في ذاته ، والرّضا

٥٦٠