دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

الّذي يمنحه لأشرف المشاعر ، وأرقها ، والقيم الأخلاقية الّتي يؤدي تطبيقه إلى تحقيقها ، والغايات العظمى في هذه الدّنيا ، وفي الأخرى ... كلّ ذلك يسهم في دعم سلطان الواجب القرآني.

بيد أنّ خاتمتنا هذه ، بدلا من أن تذلل جميع الصّعوبات ، يبدو أنّها أثارت صعوبة جديدة ؛ ذلك أنّ جميع الطّاقات حين تسخر على هذا النّحو ، وإذا ما توترت كلّ القوى ونشطت ، وإذا ما تهيأت كلّ الوسائل واستعدت ، فلا يبقى سوى أن تتحرك تحت عصا الإرادة ـ فهل سيكون من حقّ هذه الإرادة أن تستعير دوافعها من مجالات جدّ مختلفة؟ .. وهل يمكن أن يقوم أي شي ، في نظر القرآن على أنّه حافز على العمل؟.

وبعد أن وفقت الأخلاق القرآنية بين الإختلافات ، وأجابت عن جميع المقتضيات المشروعة ، على صعيد الجزاء ـ هل تبدو هذه الأخلاق لا مبالية في مجال «النّيّة» ، وذلك من وجهة نظر عرضنا للموضوع؟

أتكفيها المطابقة المادية ، أيّا كان المبدأ الّذي يلهمها ، أو حتّى في غيبة الشّعور بالواجب كلية؟ .. تلكم هي المسألة الّتي تواجهنا الآن بإلحاح ، وهي ما خصصنا له الفصل التّالي.

٥٦١
٥٦٢

النّظرية الأخلاقية

كما يمكن استخلاصها من القرآن

مقارنة بالنظريات الأخرى

قديمها وحديثها

٥٦٣
٥٦٤

الفصل الرّابع :

النّيّة ، والدّوافع

«النّيّة» [L\'intention] بالمعنى الواسع للكلمة : حركة تنزع بها الإرادة نحو شيء معين ، سواء «لتحقيقه» ، أو «لإحرازه».

والموضوع المباشر للإرادة الفاعلة هو (العمل) الّذي تشرع في أدائه ، ولكن هذا المشروع لا يكون ممكنا كمشروع إرادي على وجه الكمال ، إلّا حين يلمح الإنسان في صميم العمل ، ومن ورائه شيئا من الخير ، أيّا كان ، يزكيه في نظره ، وينشىء له سبب كينونته .. وفي هذا يكمن الموضوع غير المباشر ، أو الغاية الأخيرة الّتي يقصد إليها الجهد العاقل ، الواعي ، والّتي يتطلع إلى بلوغها.

وتطلق كلمة «غاية» [fin] أو «هدف» [but] ـ على ذلك الموضوع البعيد ، من حيث هو حقيقة مستقبلة يتعين السّعي وراءها ، وبلوغها ، ولكنه من حيث هو مبدأ ، أو فكرة ، تحفز النّشاط الإرادي ، وتمهد له ، يطلق عليه [باعث motif] ، أو [دافع mobile] : فهما كلمتان معتبرتان بعامة مترادفتين تماما ، على حين أنّهما تشتملان على قدر كاف من الألوان الدّلالية ، يحدد لتصوراتنا دورا مختلفا في

٥٦٥

هذا الإعداد للعمل. فبإعتبار أنّها «باعث» تصور فكرة الخير الأسمى حالة عقلية صرفة ، تستخدم في تسويغ العمل المعتزم ، وجعله معقولا ، وبيان مطابقته للقانون ، أو الشّرع.

بيد أننا حين نتجاوز هذه المرحلة العقلية نجد أنّ فكرة الهدف تتمثل لنا كقوة محركة تدفع نشاطنا ، وحين ننظر إليها من وجهة هذا التّأثير على الإرادة فإننا نطلق عليها اسم الدّافع [mobile].

ويمضي «كانت» إلى ما هو أبعد من ذلك في هذه التّفرقة ، حين يطلق كلمة [دافع mobile] إطلاقا نوعيا على الغايات الذاتية ، الصّادقة بالنسبة إلى الشّخص فحسب ، على حين يطلق [البواعث motifs] مرادا بها عنده الغايات الموضوعية ، الصّادقة بالنسبة إلى جميع الكائنات العاقلة (١).

وأيّا ما كان أمر هذه الألوان الدّلالية ، فإنّ نقطة إنطلاقنا في هذا الفصل هي التّفرقة الواضحة بين نوعين من مطالب الإرادة هما : الماهية [Le quoi] ، والسّبب [Lepourquoi].

فمن المسلم لدينا في الواقع أنّه في أي قرار عادي يتخذ بعد تأمل كاف ـ لا بد للإرادة من نظرتين : إحداهما تنصب على العمل ، والأخرى على الغاية. وهذه العين الغائية للإرادة قد تغض الطّرف ، ولكنها لا تكون مغلقة بصورة كاملة مطلقا ، ولقد يبتعد الموضوع الّذي تتأمله من مجال الشّعور الواضح ، ولكن لن يقلل ذلك من حقيقة حضوره فيما تحت الشّعور ، أو في اللاشعور ، وهو أكثر عمقا

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Kant, Fondement de la meta. des Moeurs, ٢ section, p. ٨٤١.

٥٦٦

وخصوصية. بل إنّ هذا الموضوع هو المبدأ الأوّل الّذي يلهم الإرادة ، ويحدد حركتها نحو العمل.

هاتان النّظرتان للإرادة هما موضوعان مختلفان من موضوعات الدّراسة في العلم. فعلى حين أنّ النّيّة الغائية يكثر تناولها بخاصة لدى الأخلاقيين ، نجد أنّ علماء النّفس ، والقضاة مشغولون أكثر بدراسة النّيّة بمعناها العام ، والموضوعي بعامة ، بحيث يجوز لنا أن نفرق بين هذين النّوعين من النّيّة ، بأن نطلق عليهما ، كلّ على حدة : النّيّة الأخلاقية ، والنّيّة النّفسية ، (أو السّيكولوجية) لا لأنّ الأخلاقية لا تهتم بإختيار الموضوع المباشر (فهذا الإختيار بعكس ذلك هو شرطها الأولي) ، ولكن لأنّ الفعل الّذي يفقد فقدانا كاملا هذه النّيّة الأولى ـ لا يدخل في مجال الأخلاق [amorale] (١) ، أعني يكون محايدا ؛ على حين أنّ الإرادة الّتي تسعى وراء غايات غير مشروعة هي إرادة ضد الأخلاق [immorale] ، أعني : آثمة.

أمّا النّيّة النّفسية ، فإنّها لا تفعل أكثر من أن تمنح العمل حقّ الحياة ، إنّها تجعله صحيحا ، يعتمد عليه ، والنّيّة الحسنة أخلاقيا تجلب إليه ما يناسبه من القيمة. ولقد كان من المستحسن دون شك أن يحدد هذان النّوعان في اللّغة الشّائعة بتسميتين مختلفتين ، ولكن لم يحدث من ذلك شيء ، بكلّ أسف ، بل لقد خلطت اللّغة بينهما دائما في لفظ واحد ، تاركة لنا مهمة تمييز المعنى الدّقيق المراد منه ، بحسب السّياقات ، أو الظّروف الّتي يستعمل فيها. أمّا الّذين يولعون بالوضوح ،

__________________

(١) يقصد بهذه الكلمة أنّه ليست فيه فكرة الأوامر الأخلاقية ، فلا علاقة له بها. «المعرب».

٥٦٧

والتّحديد ، فينبغي عليهم إذن أن يلجأوا إلى صفات مميزة ، مثل : الأولى ، أو الثّانية ، المباشرة أو غير المباشرة ، النّفسية ، أو الأخلاقية ، الموضوعية ، أو الغائية.

ومع ذلك ، فإنّ بعض الأخلاقيين يحتفظون باسم [نيّة intention] للمعنى الّذي يرتبط بالعمل ، وباسم [القصدية intentionnalite] للمعنى الّذي ينصرف إلى الغاية ، حتّى يبددوا هذا الغموض ، ويختصروا الكلام في نفس الوقت.

أمّا نحن ، فسوف نعنون هاتين الدّراستين بكلمتي : [النّيّة intention] ، و[الدّوافع mobiles] ـ من أجل مزيد من الوضوح.

٥٦٨

النّيّة

سوف نفترض الآن أنّ الإرادة أمكنها أن تحصر نفسها في العمل ، وأنّها قد امتصت فيه امتصاصا كاملا ، دون هدف آخر ، أو نيّة مستترة ، وأنّها قد قطعت كلّ صلة لها بالأسباب العميقة الّتي تحفزها إلى ذلك العمل.

إنّ اتجاهها المسدد على هذا النّحو ، إلى العمل الّذي تنتجه ، أو هي بصدد إنتاجه ، يطلق عليه : [قصد ، أو نيّة ـ intention] ، فعلى أهبة القيام بالعمل تعنى كلمة [intention] قرارا يتفاوت في ثباته ؛ فهو (القصد) و(العزم) ، فأمّا حين يتزامن مع العمل ـ وتلك هي الحالة الّتي تكون فيها كلمة (نيّة) هي اللّفظة المناسبة ـ فهو الشّعور النّفسي الّذي يصحب العمل ، أعني : أنّه موقف عقل يقظ. حاضر فيما يؤديه.

بيد أنّ فكرة (القصد ، أو النّيّة) في كلتا الحالين ، ولأنّها تتصل بواجب عمل ـ ينبغي أن تنطوي هنا على ثلاثة عناصر تكوينية ، وثلاثة فحسب ، هي :

١ ـ تصور المرء لمّا يعمله.

٢ ـ إرادة إحداثه.

٣ ـ إرادته بالتحديد ، على أنّه شيء مأمور به ، أو مفروض.

٥٦٩

فهذه الفكرة إذن هي الشّعور الّذي يتحقق لدينا من نشاطنا الإرادي ، سواء حين يكون هذا النّشاط على وشك أن يمارس ، أو خلال ممارسته ، مع معرفتنا أننا نسعى بذلك إلى أداء واجب ملزم. فإذا حددنا هذه الفكرة على هذا النّحو فإنّها سوف تقدم لبحثنا عددا من المشكلات الّتي تطلب حلا : ما الّذي يحدث إذا ما غابت النّيّة كلّيا ، أو جزئيا؟ .. وإلى أي حدّ يمكن للنّيّة أن تغير طبيعة العمل؟ ... وهل تكون الغلبة في الفعل الأخلاقي التّام ، للعمل ، أو للنّيّة؟ .. وإلى أي حدّ تستطيع النّيّة بمفردها أن تقوم بدور واجب كامل؟ ..

آ ـ النّيّة كشرط للتصديق على الفعل

أمّا بالنسبة إلى المسألة الأولى ، وهي المسألة الّتي تتصل بغيبة النّيّة ، فلكي نزيدها تحديدا يجب أن نتذكر أوّلا ما سبق أن قيل في موضوع المسئولية.

ولقد رأينا (١) كيف أنّ الشّرع الإسلامي يضرب صفحا عن أي عمل ينقصه أحد العنصرين النّفسانيين : المعرفة ، والإرادة. فالعمل اللاشعوري ، أو الحدث المادي الصّرف ، الّذي يحدث عن طريقنا ، دون أن نشعر به ، بأنّ نكون نائمين مثلا ، هذا العمل لا يمكن أن يوصف بحسن ، أو قبح ، ما دام لا يمكن أن نحاسب عليه. ومن هذا القبيل العمل الشّعوري ، حين يكون غير إرادي ، إنّه حدث يتم ، بعلمنا ، ولكن مستقلا عن إرادتنا ، في صورة طارىء نتعرض له ، صادر عن قوة لا تقاوم ، وذلك كحادث ، أو تصادم.

ولقد كنّا نقول حتّى الآن : إنّ المبادىء القانونية ، والمبادىء الأخلاقية تسير

__________________

(١) انظر فيما مضى : ١٨٩ من الأصل الفرنسي.

٥٧٠

جنبا إلى جنب. بيد أنّها تبدأ في الإفتراق منذ أن يصبح الأمر متعلقا بعمل شعوري وإرادي ، ولكن يفتقر إلى النّيّة ؛ أي : حين يدور القانون على جانب منه ، وتدور الإرادة على جانب آخر ، بحيث إنّه ، على الرّغم من كونه من النّاحية المادية يمكن إعتباره متفقا مع القانون ، أو مخالفا له ، فإنّه لا يمكن أن يكون كذلك من حيث الرّوح الّتي تمّ بها ، وتلك هي حالة القتل الخطأ ، أو أي حدث يتم بنّيّة حسنة ، ولكنه يسبب أضرارا للآخرين.

فعلى حين يعلن القانون الأخلاقي ، كما يعلن قانون العقوبات من جانب آخر : أنّ أعمالنا لا تنسب إلينا إلّا بقدر النّيّة الّتي نؤديها بها ، فإنّ القانون المدني يحاول أن ينفذ هنا نوعا من الحل الوسط : فهو ، وإن كان يبرىء الشّخص ، يستخدم جزءا من ثروته لإصلاح الضّرر الّذي تسبب فيه.

هذه الإعتبارات الّتي قدمناها من وجهة نظر المسئولية ، والجزاء ، يجب أن نعيد تناولها هنا من وجهة نظر التّصديق على الفعل ، فمن هذه الزّاوية الأخيرة يبدو أنّ ما وصلنا إليه من نتائج يتعرض للنقض ، أو الهجوم ، في مواضع مختلفة ، حيث يظهر الشّرع الإسلامي قانعا بما حصل من نتيجة ، حتّى لو كانت تحدث ضد نيّتّنا ، أو حتّى دون علمنا.

ويمكن تشبيه ذلك بسداد دين معين عن طريق طرف ثالث ، دون أن يقوم هذا الأخير بإخطار المدين ، أو يسترجع ماله منه.

وحتّى لو أنّ الدّائن لجأ إلى تصرفات قاسية ، فبلغ به الأمر أن ينتزع حقه إنتزاعا ، فلن يعود له شيء يطالب به.

٥٧١

ومن الممكن أن يتم أداء الأمانة ، والمساعدة المادية للمعوزين ، في نفس الظّروف. حتّى إنّه في حالة رفض الأغنياء أن يدفعوا زكاة العشر ، فإنّ الحكومة تستطيع ، بل يجب عليها ، أن تتصرف بكلّ أنواع الضّغط على الأغنياء ، حتّى تضمن للفقراء حقهم. ولا شك أننا نعرف خبر المعركة القاسية الّتي خاضها الخليفة الأوّل أبو بكر رضي الله عنه في هذا الشّأن (١).

__________________

(١) كان ذلك من أسباب حروب الرّدة ، وقد قال أبو بكر رضى الله عنه آنذاك : «والله لأقاتلن من فرق بين الصّلاة والزّكاة ، فإنّ الزّكاة حقّ المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقاتلتهم على منعها» ـ البخاري ـ باب وجوب الزّكاة. (المعرب). انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٥٠٧ ح ١٣٣٥ و ١٣٨٨ و : ٦ / ٢٥٣٨ ح ٦٥٢٦ و ٦٨٥٥ ، صحيح مسلم : ١ / ٥١ ح ٢٠ ، صحيح ابن حبّان : ١ / ٤٤٩ ح ٢١٦ ، المستدرك على الصّحيحين : ١ / ٥٤٤ ح ١٤٢٧ ، سنن التّرمذي : ٥ / ٣ ح ٢٦٠٧ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ٢٢٥.

إذا أراد المعرب من حرب الرّدة حرب مسيلمة الكذاب ، وسجاح ، والأسود العنسي ، وأتباعهم فصحيح ، وإن أراد معنى أعم من ذلك بحيث يشمل وقعة مالك بن نويرة ، فمحكمات التّأريخ خلاف ذلك. ، فهولاء امتنعوا عن دفع الزّكاة بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومرد ذلك إلى عدم الخضوع لأبي بكر ، والإمتناع عن بيعته لا الإمتناع عن أداء الزّكاة ، وعدم قبولهم الصّلاة كما وصفوهم ، ولذا حاربهم أبو بكر ، وسلط عليهم السّيف بحجة أنّهم مرتدون ، وسموا جميع حروبه حتّى للمتنبئين ، والمشركين الّذين كانوا خارج المدينة «بحروب الرّدة» ، علما بأنّ الرّدة كانت في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما حدث لعبد الله بن سعد بن أبي سرح الّذي أسلم ، وهاجر إلى المدينة ... ، ثمّ ارتد مشركا ، وصار إلى قريش بمكّة ... وقد أهدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دمه ، وأمر بقتله ، ولو وجد متعلقا بأستار الكعبة ...

ولكنه فرّ إلى عثمان أخيه من الرّضاعة فغيبه عنده مدة ، ثمّ ولاه في زمن خلافته مصر. انظر ، الإستيعاب : ٢ / ٣٦٧ برقم : ٤٧١١ ، الإصابة : ٢ / ٣٠٩.

وارتد في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله عبيد الله بن جحش زوج أمّ حبيبة بعد أن أسلم معها ، وهاجر إلى الحبشة فتنصر ، ومات على النّصرانية. انظر ، الإصابة : ١ / ١١.

وارتد كذلك عبد الله بن خطل الّذي قتل وهو متعلق بأستار الكعبة. المصدر السّابق. أمّا ارتداد مالك بن نويرة بن جمرة بن شداد التّميميّ اليربوعيّ ، كما يدعون فهو ليس بارتداد بالمعنى اللّغوي ـ أرجعه ، ـ

٥٧٢

__________________

ـ صرفه عنه ـ ولا هو بالمعنى الإصطلاحي : الإرجاع عن الدّين ، وصرف المسلمين عن الإسلام. حتّى يستحق القتل طبقا للنصّ الشّرعي هذا أوّلا.

وثانيا : لقد أفتى الفقهاء سنّة ، وشيعة بأنّ المرتد يمهل ثلاثة أيام للمناقشة فيما إذا إلتبس عليه من أمر الدّين وطروء الشّبهات. انظر كتاب المبسوط للسرخسي : ١٠ / ٩٨.

وقال الإمام مالك : ثلاثة أيام بلياليها من يوم الثّبوت لا من يوم الكفر بلا جوع ولا عطش ، بل يطعم ، ويسقى ، ولا يعاقب خلال هذه المدة. الشّرح الكبير للدّرديريّ ٤ : ٢٧٠.

وقال الإمام الشّافعيّ بوجوب الإستتابة ؛ لأنّه كان محترما بالإسلام. حاشية البجيرمي على شرح المنهج باب الرّدة.

وقال الإمام أحمد بن حنبل بوجوب البلوغ ، والعقل ، وكان الكفر بقوله ، وعمله لا بالأحتمال من تسع وتسعين وجها ، ويحتمل الإيمان من وجه واحد. كشف القناع على متن الأقناع : ٤ / ١٠٠ ، حاشية ردّ المحتار على الدّر المختار لابن عابدين : ٢٨٣.

وقال عمر لأبي بكر : علام تقاتل النّاس! وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ... البداية والنّهاية : ٦ / ٣٤٣ ، الأحكام السّلطانية للماورديّ ، طبعة مصر الأولى : ١٧٤.؟

والسّؤال الّذي يطرح نفسه على المنصفين ، والعلماء الخيرين أصحاب الكلام ، والفقه ، والدّين ، والتّحقيق ، والنّظر ، والدّراية ، أهذه الأساليب الّتي ذكروها اتبعت مع مالك بن نويرة على فرض أنّه ارتد؟ أم أنّ عدم مبايعته لأبي بكر هي الّتي أدت إلى قتله؟ أم أنّ الحقد الدّفين عليه في قلب خالد بن الوليد هو الّذي أدى إلى قتله؟ أم أنّ الطّمع في زوجته لجمالها ، ورجاحة عقلها هو الّذي دفع خالد بن الوليد إلى قتله؟ أم حقا أنّه لم يدفع الصّدقات إلى أبي بكر ؛ لأنّه استعمل عليها من قبل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا لم يدفعها إلّا لصاحبها الشّرعي من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ ثمّ لما ذا يداهمهم ليلا؟ ، ويروعهم تحت جنح اللّيل ، وأخذ القوم سلاحهم تهيّؤا للقتال فقال الرّاوي : فقلنا لهم : نحن مسلمون ، قالوا : فما بال السّلاح معكم؟ قلنا : فإن كنتم كما تقولون فضعوا السّلاح. قال الرّاوي : فوضعوها ـ أي أسلحتهم ـ ثمّ صلينا ، وصلوا معنا. صحيح مسلم : ٢ / ٣ (بتصرف).

أفبعد هذا كلّه من الحوار الّذي يدلل على أنّهم من المسلمين ، وأنّهم يؤدون الصّلاة بإمامة قائدهم ـ

٥٧٣

__________________

ـ يبدأ الغدر الجاهليّ ، ويقطعون عليهم صلاتهم ، ويربطونهم ويأخذونهم أسارى لخالد بن الوليد سيف الله المسلول ـ كما تقولون ـ على خبر بلغه أنّ مالكا قد ارتد؟

ثمّ يقول مالك بن نويرة لخالد بن الوليد : أنا على الإسلام ما غيرت ، وما بدلت ، وشهد له بذلك أبو قتادة أخو بني سلمة الأنصاريّ الّذي شهد احد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان يقال له فارس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ترجمته في الإصابة : ٤ / ١٥٧ ، الإستيعاب : ٤ / ١٦١ ، جمهرة أنساب العرب : ٣٦٠.

وشهد له أيضا عبد الله بن عمر بن الخطاب ، لكن سيف الله قدمه ، وأمر ضرار بن الأزور الأسديّ ـ الّذي بعثه خالد بن الوليد سابقا في سرية أغارت على حيّ بني أسد وأخذ امرأة جميلة منهم فوطئها ، ثمّ ندم ، لكن خالد بن الوليد سيف الله طيبها له فلم يقبل ، وأمره أن يكتب إلى عمر بن الخطاب فيه كتابا ، فكتب عمر بن الخطاب أرضخه بالحجارة لكنه مات قبل وصول الكتاب ، وقيل : إنّه شرب الخمر مع أبي جندب. ترجمته في الإصابة : ٢ / ٢٠٠ ، الإستيعاب : ٢ / ٢٠٣.

ـ أن يضرب عنقه فضربه ، ثمّ قبض خالد بن الوليد على امرأته ـ زوج مالك بن نويرة ـ أمّ تميم فتزوجها. انظر ، القصة في كنز العمّال : ٣ / ١٣٢.

وزاد اليعقوبيّ «... فلما رآها أعجبته فقال : والله ما نلت ما في مثابتك حتّى أقتلك». تأريخ اليعقوبيّ : ٢ / ١١٠.

وفي تأريخ أبي الفداء : «إنّ أبا قتادة ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، كلما خالدا في أمر مالك لكنه كره كلامهما ... وقال مالك لخالد : ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الّذي يحكم فينا ، لكن خالد بن الوليد أبى وقال : لا أقالني الله إن أقلتك ... فالتفت مالك إلى زوجته ، وقال لخالد بن الوليد : هذه الّتي قتلتني ... فقال خالد : بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام؟ فقال مالك : أنا على الإسلام ...» تأريخ أبي الفداء : ١٥٨ ، وفيات الأعيان : ٥ / ٦٦ ، تأريخ ابن شحنة : ١١٤ ، من هامش الكامل : ١١ ، فوات الوفيات : ٢ / ٦٢٧.

وفي الإصابة : «... قال مالك لامرأته : قتلتني ـ يعني سأقتل من أجلك» وزاد «... أمر خالد بن الوليد برأسه فنصب أثفيه الحجر يوضع على النّار ـ فنضج ما فيها قبل أن يخلص النّار إلى شئون رأسه». الإصابة : ٣ / ٣٣٧ ، تأريخ الطّبريّ : ٢ / ٥٠٣ ، ابن كثير : ٦ / ٣٢٢ ، تأريخ أبي الفداء : ١٥٨ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٧٦ ، ترجمته في فوات الوفيات : ٢ / ٦٢٧. ؛ لأنّه كان رحمه‌الله كثير الشّعر رأسه. ـ

٥٧٤

بيد أنّ جميع الحالات الّتي ذكرناها لا تمثل صعوبات خطيرة ، ولا هي بحيث تحير الأخلاقي. غير أنّ الحقيقة ـ في واقع الأمر ـ أننا لا نعفى اعفاء كاملا من واجباتنا نتيجة حدث يقع مستقلا عنا ، أو رغم إرادتنا. ويجب في الأمثلة السّابقة أن نميز بين جانبين مختلفين للواجب ، ذلك أنّه إذا كانت العدالة تقتضي أن يتملك كلّ أنسان من الطّيبات ما له فيه حقّ ـ فإنّ ذلك ينتج عنه تكليف مزدوج : أوّلا ـ على من يحوز الشّيء مناقضا في حيازته الشّرع أن يرده إلى مالكه ، وثانيا ـ على الأمّة أن تحرص على ألا تضيع حقوق أصحاب الحقوق ، أو تهضم ، فإذا لم يتم الأداء بوساطة الحائز لزم التّدخل لإقرار النّظام.

وليست الدّولة وحدها ، وهي الهيئة العليا الّتي تمثل المجتمع في هذه المهمة العامّة ـ هي الّتي يجب أن تعمل لكي تسود العدالة بين النّاس ، بل إنّ كلّ عضو في الجماعة خاضع لهذه الضّرورة الأخلاقية ، في حدود وسائله المشروعة ، بحيث يترتب على ترك الرّذيلة تستشري ، والعدالة مختلة ـ أن يصبح التّقصير جريمة شاملة.

__________________

ـ وفي تأريخ اليعقوبيّ : «أنّ خالدا تزوج أمّ تميم بنت المنهال ـ زوج مالك ـ في تلك اللّيلة». تأريخ اليعقوبيّ : ٢ / ١١٠.

وهنا يأتي التّأويل ، والتّخطئة من قبل أبي بكر فيترك كلّ النّصوص الشّرعية من القرآن ، والسّنّة المطهرة ، ويأخذ بقول خالد بن الوليد بأنّه تأول ، وأصاب ، وأخطأ ، وعند ما طلب منه عمر بن الخطاب رجمه قال أبو بكر : ما كنت أغمد سيفا سله الله عليهم. المصادر السّابقة ، والإصابة : ٣ / ٣٤٠ ، الإستيعاب : ٣ / ٤٨٨ ، كنز العمّال : ٣ / ١٢٣ ح ٢٢٨. الله أكبر كبيرا! كيف يحل قتل رجل يتشهد الشّهادتين؟ والفقهاء لا يجوزون تكفير أهل القبلة فكيف بسفك الدّماء الّتي شدد الشّارع الحكيم عليها كثيرا؟ وكيف ولم تنصب رؤوسهم على القدور بعد القتل؟ وكيف ينزو على امرأة وهي لم تمض بعد عدتها؟ وكيف تعطل حدود الله؟ وكيف ... وكيف ...؟

٥٧٥

وإذن فإنّ أولئك الّذين يؤدون واجباتي الإجتماعية ، بدلا مني ، أو أولئك الّذين يحملونني على أدائها على الرّغم مني ـ هؤلاء ، وأولئك لا يفعلون ما يفعلون من أجلي ، بل من أجلهم هم ، بمقتضى واجب آخر ، فليقم من شاء بهذا الواجب الأخير ، ولتكف العدالة عن أن تطالبني بشيء ، أو تطالب الآخرين به ، لمصلحة طرف ثالث ، ولكن واجبي تجاه نفسي سوف يبقى كاملا ، ما دمت لا أتدخل شخصيا لأدائه عن رضا ، واقتناع كامل ، ووعي بمسئوليتي.

ولقد يلح البعض محاولا إظهار عجز هذه الإجابة عن التّوفيق بين الأحداث المذكورة ، والمبدأ الموضوع. ذلك أنّه قد يقال لنا : سواء أكان أداء الواجب على المستوى الفردي ، أو المستوى العام فإنّكم توافقون دائما على وجود واجب ، في مكان ما ، قابل لأن يتحقق بصورة آلية ، أو بالإكراه؟

ونجيب على ذلك بأننا حين نميز بين هذين الجانبين للواجب ، فإننا نميز بذلك أيضا بين ذاتين في باب التّكليف ، إحداهما رئيسية ، والأخرى إضافية ، وبناء عليه فإنّ وفاء هذه الأخيرة بواجبها لا يستتبع بالضرورة وفاء الأولى ، ولكن كلّ ذات معتبرة ، على حدة ، على أنّها لا تتحلل من مسئوليتها إلّا بشرط أن تعرف ما الّذي تفعله ... وأنّها تريده صراحة!.

وتبقى نقطة واحدة في هذه الأحداث ينبغي بيانها ، هي تلك العلاقة بين المجتمع ، والفرد في الشّرع الإسلامي ، العلاقة الّتي ترينا هذا المجتمع قليل الإلحاح من النّاحية الأخلاقية ، حتّى إنّه يوقف أي إكراه لأفراده متى ما حصل منهم على واقع مادي ، حتّى لو كان لا شعوريا على الإطلاق.

وإجابة المسألة المطروحة على هذا النّحو من أيسر ما يكون ، فكيف تريدون

٥٧٦

أن يفعل غير ذلك؟ .. هل في وسعنا أن نكره ضمير الآخرين؟ .. وهل نملك سلطة على هذا الضّمير؟ وحتّى في أكثر الحالات اتفاقا مع العادة ، ـ هل لنا من ملجأ سوى أن نفترض حسن النّيّة لدى الآخرين ، أو نحدس به على الوجه الّذي ينبغي ، بصورة أو بأخرى ، بناء على أمارات خارجية؟.

إنّ على الأمّة وحدها يقع عبء حفظ النّظام العام ، والدّفاع عن الحقّ المشترك ، ومنع الظّلم الظّاهر ؛ وعلى كلّ منا أن يراقب موقفه الباطني ، وأن يتحقق من توافقه مع روح الشّريعة.

ولكن ، ألّا يجب منذئذ ، ومن وجهة النّظر الّتي نقول بها الآن ، أن ننتهي إلى «الموضوعية المحضة» في التّشريع الإجتماعي الإسلامي؟.

الواقع أنّ المبدأ الّذي يستخلص من هذا البحث مختلف اختلافا تاما عن المبدأ الّذي رأيناه حتّى الآن. فعلى حين قد رأينا أنّ «الأخلاقية» و«المشروعية» لم تكونا تفترقان من حيث المسئولية ، والجزاء إلّا في منتصف الطّريق ، إذا بنا نشهد الآن انفصالا أساسيا من حيث قبول الفعل ، بين القانون الأخلاقي ، والقانون الإجتماعي ، منذ البداية.

فمن النّاحية الأخلاقية لا يمكن أن ندخل في باب الأخلاق أي عمل إذا لم يكن شعوريا ، وإراديا ، وانعقدت عليه النّيّة ـ في آن واحد.

ولا شيء من هذه الشّروط بضروري للنهوض بالتكليف الإجتماعي ، وإنّما يجب ، ويكفي ، أن يستوفي العمل بعض الشّروط الموضوعية المحضة ، المتعلقة بالمكان ، وبالزمان ، وبالكم ، وبالكيف ، حتّى لو تحققت الصّور الواقعية منه وحدها ، دون علم ، ودون إرادة ، وسواء أكان نتيجة إكراه ، أو صدفة.

٥٧٧

ولا ريب أنّ الرّأي العام لا يرضى تماما بهذا ، فهو يرفض قطعا أن يمنح تقديره للأحداث الّتي تقع في ظروف كهذه ، بيد أنّ وجهة النّظر الّتي يتخذها في هذا التّقدير ذات طابع أخلاقي خالص.

وربما كان أخطر الإعتراضات هو أن نكشف عن وجود أفعال أخلاقية لا علاقة لها بالحياة الإجتماعية ، وهي أفعال قد يقنع القانون فيها ، سواء بالتعبير المادي عن الواجب في غيبة واقعه النّفسي ، أو بمجرد حضور هذا الواقع النّفسي ، دون أن يتطلب منه واقعا أخلاقيا : وهو الواقع الّذي تؤلف فكرة الواجب فيه جزءا جوهريا من العمل الشّعوري المقبول بحرية تامة. إنّ أفعالا كهذه لا ينبغي أن توجد من حيث المبدأ :

أوّلا ـ لأنّ القرآن يتطلب منا الشّعور النّفسي ، وحضور الذهن فيما نقول ، وفيما نفعل ، وذلك حين يمنعنا من أن نتصور أداء واجباتنا المقدسة ، ونحن في حال شرود ، أو إغماء ، أو سكر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) (١).

ثمّ هو يتطلب منا بعد ذلك الضّمير الأخلاقي ، بالمفهوم الأسمى لهذه الكلمة : رضا القلب ، وتلقائية الفعل ، والسّرور ، والهمة ـ الّتي يؤدى بها الواجب. تلكم هي الصّفات الّتي تجعل أعمالنا مقبولة عند الله. وهذا هو السّبب فيما أعلنه القرآن من أنّ أولئك الّذين يقدمون بعض الصّدقات ، أو بعض شعائر التّقوى ، كسالى مرغمين ـ لن تقبل أعمالهم عند الله أبدا : (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ

__________________

(١) النّساء : ٤٣.

٥٧٨

كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) (١). وهو أيضا السّبب في أنّه وصف هؤلاء النّاس الّذين لا إيمان لهم ، ولا شجاعة عندهم ، والّذين يتظاهرون جبنا بالإيمان المنافق ، عن خوف ، لا عن اقتناع ـ وصفهم بأنّهم ليسوا مطلقا في عداد المؤمنين : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (٢).

والشّرط الصّريح للأخلاقية (وللإيمان ذاته) يتمثل ، كما حدث القرآن ، في أن يقبل المرء مختارا جميع أوامر الشّريعة ، وأن يخضع نفسه لها كلّية ، لدرجة ألّا يجد شيئا يتردد في نفسه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٣).

بيد أننا لكي نقدم للقارىء قولة عامة تلخص ، وتستوعب بلا حدود هذه الأمثلة القرآنية ـ لا نجد خيرا من أن نذكر تلك القولة المحمّديّة الّتي جعلها البخاري في صدر صحيحه من الحديث الشّريف : «إنّما الأعمال بالنّيّات» (٤) ، وهذه القولة الّتي يترجمونها عادة بمعنى : «إنّ الأعمال لا قيمة لها إلّا بنواياها» ، ـ هي في الواقع أكثر مضمونا ، ووضوحا من ترجمتها ؛ إنّها تقول بالحرف : «إنّ الأعمال لا توجد (أخلاقيا) إلّا بالنوايا».

__________________

(١) التّوبة : ٥٤.

(٢) التّوبة : ٥٦.

(٣) النّساء : ٦٥.

(٤) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٣ ح ١ ، النّاصريات : ١١٠ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ١١٣ ح ٣٨٨ ، جواهر الفقه : ٣١ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٦٢ ح ٢٢٠١ ، وسائل الشيعة : ١ / ٣٤ ح ١٠ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١٤١٣ ح ٤٢٢٧ ، الخلاف : ٤ / ٤٥٨ ، المعجم الأوسط : ١ / ١٧ ح ٤٠ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ١١٨ ح ٤٠١ ، المعتبر للحلي : ١ / ٣٩٠.

٥٧٩

ومع ذلك فقد توجد بعض الواجبات الفردية ، وبتعبير أدق : بعض الشّعائر الدّينية ، تغاضى الفقهاء المسلمون بشأنها عن غيبة النّيّة ، وهو موقف عام لهم ، إن لم يكن إجماعا بينهم. ومثال ذلك حالة الإستبراء ، والتّطهر ، وسائر مقدمات الصّلاة ، فمن المعروف أنّ على كلّ مسلم إذا أراد أداء الصّلاة ـ أن يمر قبلها بنوع من مرحلة الإنتقال ، وهو الإنتقال من العالم الدّنس للحياة الأرضية ، إلى العالم المقدس للحياة الرّوحية ، فيجب أوّلا أن يزيل النّجاسات ، والوساخات من مكان عبادته ، كما يزيلها من بدنه ، وملابسه ، وهي الملابس الّتي ينبغي أن تكون ذات هيئة محتشمة. ويجب فضلا عن ذلك أن يقوم ، تبعا للحالة ، بتوضؤ جزئي (فيغسل الوجه ، واليدين ، والقدمين ، ويمسح شعره) ، أو بتوضؤ كلّي (بأن يغتسل إغتسالا كاملا). ويجب أخيرا أن يولي وجهه شطر الكّعبة (١).

وإذن ، فقد انعقد الإجماع تقريبا ، فيما يتعلق بالتوجه ، واللّباس ، والنّظافة الطّبيعية ـ على أنّه لا يلزم أن يكون أداؤها عن نيّة وإرادة ، أمّا فيما يتعلق بالنظافة الدّينية المحضة : (الوضوء ، والغسل) ، فقد اختلفت المذاهب : فعلى حين تشترط لها مذاهب أهل الحجاز ، ومصر (المالكية ، والشّافعية ، والحنابلة) ـ وجود النّيّة ، على أساس أنّها واجب بالنظر إلى الصّلاة ، يكتفي مذهب أهل العراق (الحنفي) بالواقع الموضوعي ، متى إلتزم في دقة ، حتّى لو كان عن غير نيّة (٢).

__________________

(١) أكد القرآن أنّها أقدم مكان للعبادة وجد على الأرض (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ ،) آل عمران : ٩٦.

(٢) النّيّة : وهي القصد إلى الفعل بدافع الإطاعة ، وامتثال أمر الله تعالى ، وقد اتفقوا على أنّها فرض في ـ

٥٨٠