دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

إنّ الشّعور الّذي تثيره هذه الطّريقة في التّوجيه ، هو على هذا النّحو شعور بالإرتياح ، وبالقوة البناءة ، فهو جاذبية الحبّ.

ثانيا : موقف التّجاوب عموما لأحكام الشّرع ، ولكنه لا يستبعد إمكان الخطأ.

وهنا لا نعود نشهد منظر عمل صالح يحدث ، ويجب أن نشجعه ، ولسنا كذلك أمام شرّ يهدد ، إنّما نحن في موقع ما قبل العمل ، في ظروف عادية. ولما كنّا نرى أمام الإرادة إمكانتين فإنّ الأمر يصدر في صورة مجردة بعض الشّيء ، أي لا تبالي مطلقا بإختيارنا المقبل.

وليس للقول التّوجيهي إلّا أن يرتدي نفس الطّابع ، أي أنّه لا يكون تحريضا على عمل الخير صراحة ، ولا دفعا عن إتجاهات الشّر ، بل يبقى غامضا ، وكأنّه حالة بين حالتين ، فهي كلتاهما في وقت واحد. ولن نقرأ بعد ما معناه : إنّ الله يرى الخير الّذي تفعلون ، ولن نقرأ كذلك : حاذروا أن تفعلوا الشّر. بل سوف نقرأ : هذا هو الواجب ، وسيرى الله ما تفعلون ، في مثل قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١).

وهكذا تتغير نغمة الخطاب كلّه ، فوجهه الأليف الباسم يصبح ذا رزانة ، ولكنه ليس قاسيا ، ولما كان لإحتمالي القرار ، حظ متساو في الظّاهر ، فإنّهما قد طبعا

__________________

ـ ١٤٧ ، سنن التّرمذي : ٥ / ٦ ح ٢٦١٠ ، مجمع الزّوائد : ١ / ٣٨ ، وسائل الشّيعة : ١٥ / ٢٢ ، سنن البيهقي الكبرى : ١٠ / ٢٠٣ ، نضد القواعد الفقهية : ١٧١ ، سنن أبي داود : ٤ / ٢٢٣ ح ٤٦٩٥ ، مسند أحمد : ١ / ٢٧ ح ١٨٤ ، زبدة البيان : ٣٢٢.

(١) البقرة : ١٣٤ ، و ٢٣٣ و ٢٣٤ و ٢٣٧ و ٢٤٤ ، النّساء : ١ و ٣٣ و ٥٨ ، المائدة : ٧ و ٨ ، الأنفال : ٣٩ و ٧٢ ، التّوبة : ١٦ و ١٠٥ ، هود : ١٢٣ ، النّور : ٢٨ و ٢٩ و ٣٠ و ٦٠ ، الفرقان : ٢٠ ، العنكبوت : ٤٥ ، الأحزاب : ٣٤ و ٥٤ و ٥٥ ، المجادلة : ٣ و ١٣ ، الحشر : ١٨ ، المنافقون : ١١ (ـ ٣ آ و ٢٥ ب).

٤٦١

الكلام من كلا جانبيه بصبغة محايدة ، ومتحفظة. وهذا الأزدواج بدوره سوف يجد صداه في ازدواج المشاعر الّتي سوف يتقاسم بينها المخاطبون ، أو أنّه سوف يتمخض بالأحرى عن شعور مركب ، بين الحماس ، والرّهبة ، وعن خليط من الإحترام ، والإحتشام ، وما لا أدري أيضا.

ثالثا : موقف طائع من حيث المبدأ ، ولكن لما كان وجود بعض الظّروف الخاصة قد يقحم فيه بعض التّغييرات فإنّ النّغمة تبدأ في أن تصبح أكثر صرامة.

والحقّ أنّ موضوع التّفسير يبقى ثابتا لا يتغير ، فهو يحتفظ بالصيغة المجردة كما كان في المرحلة السّابقة ، ولكنا نرى عبارة التّكليف تلح بخاصة على جانب التّحريم ، كأنّما كان هنالك ملامح نزوع إلى نقض القاعدة. ومن الطّبيعي جد حينئذ أن يزداد وضوح التّنبيه الّذي يدعم القاعدة. وأن يغير معناه على الفور ، وألا تظل كمية الطّاقات الّتي يحتويها بنفس النّسبة الّتي كانت منذ قليل ، وأن يتغلب عنصر (المنع) منذئذ على عنصر (الدّفع) : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

ومن هنا كان عدم التّناسب في المشاعر الموقطة ، الّتي يغلب عليها بلا شك شعور الحياء ، والواقع أنّ فكرة كوننا أمام الله لا يمكن أن تحتل عقولنا عند ما نتخيل بعض المشروعات الخبيثة ، إلّا إذا مارسنا ضد هذه الخبائث كبحا ، يتفاوت في درجة قوته ، وإذا سيطرت هذه الفكرة على عقولنا (أي فكرة مثولنا أمام الله) فإننا نخاف أن نرتكب أمرا ، مهما صغر ، يجعلنا نحمر خجلا أمام عظمة

__________________

(١) البقرة : ١٨١ و ٢٢٤ و ٢٢٧ و ٢٣١ و ٢٨٢ و ٢٨٣ ، آل عمران : ١٥٦ ، النّساء : ٩٤ و ١٣٥ و ١٤٨ وهود : ١١٢ ، النّحل : ٩١ ، الأحزاب : ١ و ٢ و ٥٢ ، الحجرات : ١. (ـ ٢ آ و ١٤ ب).

٤٦٢

الله ، واقرأ في ذلك ما رواه ابن مسعود أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «استحيوا من الله حقّ الحياء ، قلنا : إنّا لنستحي من الله يا رسول الله ، والحمد لله ، قال : ليس ذلك ، ولكن الإستحياء من الله حقّ الحياء أن تحفظ الرّأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وتذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدّنيا ، وآثر الآخرة على الأولى ، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقّ الحياء» (١). فإذا أخطأ المرء ، أو ضعف فلأنّه ـ قطعا ـ قد غابت عنه في غمرة الحياة ولهوها تلك الفكر الهادية ، الّتي أدركت يوسف من قبل حين (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (٢). ولكن ذكر الله سرعان ما يخالط شغافنا ، ليثير فينا حاجة عارمة إلى أن نبكي على تلك الغفلة الشّائنة ، وبهذا وحده يسترد المرء مكانه في المجتمع الإلهي ، وصدق الله العظيم : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٣).

ولقد رأينا في هذه المراحل الثّلاث أنّ الأمر أمر تربية أخلاقية على أساس

__________________

(١) انظر ، سنن التّرمذي : ٤ / ٦٣٧ ح ٢٤٥٨ ، وذكره ابن الدّيبع الشّيباني في تيسير الوصول : ٢ / ٢٣ ، نشر الشّيخ حامد الفقي (المعرب). وانظر ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٣٥٩ ح ٧٩١٥ ، كنز الفوائد للكراجكي : ٩٨ ، مجمع الزّوائد : ١٠ / ٢٨٤ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٧ / ٧٧ ح ٣٤٣٢٠ ، المعجم الأوسط : ٧ / ٢٢٦ ح ٧٣٤٢ ، مسند أحمد : ١ / ٣٨٧ ح ٣٦٧١ ، المعجم الصّغير : ١ / ٢٩٨ ح ٤٩٤ ، مسند أبي يعلى : ٨ / ٤٦١ ح ٥٠٤٧ ، المعجم الكبير : ٣ / ٢١٩ ح ٣١٩٢ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ٨٧ ح ٢٧٧.

(٢) يوسف : ٢٤.

(٣) آل عمران : ١٣٥ ـ ١٣٦.

٤٦٣

من المشاعر الدّينية ، وهي بحكم طبيعتها قلما يكون لها تأثير أبعد منها ذاتها. ففي المرحلة الأولى يوقظ التّوجيه الإلهي شعورنا بالحبّ ، ذلك المحرك الممتاز ، كيما يدفعنا قدما في طريق تحقيق القيم الإيجابية ، وفي المرحلة الثّالثة يمس شعورنا بالحياء ، وهو لجام طيب ، حتّى يحفظنا من السّقوط ، ويوقفنا أمام الخطر ، أمّا في المرحلة الثّانية فإننا نأخذ حذرنا بفضل تعادل القوتين ، فتستمر خطانا على صراط مستقيم.

رابعا : وأخيرا الموقف المتمرد المجاهر ، لغير المؤمنين ، وهو ـ على نقيض الحالة الأولى ـ لا يقتصر فيه الأمر على بعض قرارات خاصة منافية للشرع ، وإنّما هو موقف ضد الشّرع صراحة ، وتسبق الأقوال المعتادة ـ هذه المرة ـ بعض النّصوص عن الجرائم المقترفة ، بحيث يستحيل أن يخطىء المرء ما تتسم به من طابع الوعيد : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (١).

فما الشّعور الّذي تراد إثارته لدى الكافرين بهذه الوسيلة ، وعلى وجه التّحديد ..؟ ..

أهو الخوف من العقاب ...؟ ..

ولكن أي تأثير لإنذار كهذه في ضمير مغلق كضمير هؤلاء الجاحدين؟ .. إنّ

__________________

(١) فاطر : ٨ ، البقرة : ٧٤ و ٧٧ و ١٤٠ و ١٤٤ ، آل عمران : ٦٣ و ٩٨ و ٩٩ و ١٦٧ ، النّساء : ٦٣ و ١٠٨ ، المائدة : ٦١ و ٧١ ، الأنفال : ٤٧ ، التّوبة : ٧٨ ، يونس : ٣٦ ، هود : ٥ ، الإسراء : ٤٧ ، الأنبياء : ٤ ، المؤمنون : ٩٦ ، النّور : ٥٣ ، الفرقان : ٥٨ ، النّمل : ٩٣ ، العنكبوت : ١٠ ، ويس : ٧٦ ، الشّورى : ٦ ، الأحقاف : ٨ ، الحجرات : ١٨ ، البلد : ٧. (ـ ١٣ آ و ١٦ ب).

٤٦٤

النّاظر الّذي يعي خطورة حالهم قد يخشى عليهم العقاب ، أمّا بالنسبة لهم ، فهل يوجد هناك شيء آخر سوى إثبات عقوقهم؟ ... سوى نوع من الحكم المسبق؟ سوى أمارة تشعر بإدانتهم الفعلية؟ ..

نعم ، فليس من الممكن أن يتوجه تحذير من هذا النّوع إلى الجاحدين من أجل منفعتهم المباشرة ، وإنّما هي دعوة موجهة من بعيد إلى الإنسان العاقل المستكن فيهم ، فربما أدى إدمان الطّرق إلى أن ينفتح الباب ، أن تنطلق الرّوح ، أن يبعث الميت. أمّا الآن ، فذلك موضوع من موضوعات التّفكر يقدم إليهم ، فإن كانت لديهم فرصة للتفكير فسوف يرون بلا ريب فيه نذيرا بالطامة الكبرى الّتي تنتظرهم ، والّتي يدل كلّ شيء على وقوعها. ما هي طبيعة هذه الطّامة؟ ومتى تقع؟ وكيف؟. لم يذكر شيء في هذا الشّأن حتّى الآن.

وهكذا تنتهي المنطقة الوسيطة (ـ ٢٠ آ و ٦٢ ب).

وبهذه المرحلة الأخيرة نصبح على عتبة الجزاء بالمعنى الصّحيح.

جـ : «إعتبارات النّتائج المترتبة على العمل»

نتائج طبيعية : إذا نظرنا إلى هذه المجموعة الأخيرة نلاحظ أوّلا قلة نسبية في النّصوص الّتي تهتم بما نطلق عليه عموما : «الجزاءات الطّبيعية» : أي النّتائج النّافعة ، أو الضّارة الّتي تصدر في الأحوال العادية دائما عن سلوكنا الأخلاقي ، كالصحة ، والمرض في نظام حياتنا المادية ، دون تدخل ظاهر من الإرادة العليا الّتي تحكم الطّبيعة.

ولقد استطعنا في نسق هذه الأفكار أن نميز نوعين من الأسباب المسوغة :

٤٦٥

فردية ، أو عامة.

فأمّا ما كان من الوصايا معللا بالخير الفردي ، ناتجا عن العمل بها ، فلم نجد منه سوى أربعة نصوص ، هي قوله تعالى (١) :

(ـ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) (٢).

(ـ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٣).

(ـ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) (٤) ، (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥).

ـ وأخيرا تنحصر إدانة البخل ، والتّبذير في أنّهما معا يعرضان صاحبهما للوم والعسر ، (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (٦).

ولكن الأوامر الّتي يأتي تسويغها بالخير العام الّذي تؤدي إليه فهي أكثر عددا ،

__________________

(١) ربما أضفنا إليها نصا خامسا إذا ما تمسكنا من بعض التّفسيرات بالبرهان الّذي جاء به القرآن لصالح إفراد الزّوجة ، ومنع التّعدد ، قوله تعالى في سورة النّساء : ٣ (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا ،) والواقع أنّ عددا قليلا من المفسرين يرون في هذا النّص أسبابا أقتصادية ، أي تحاشوا أي عبء أسري» ، ولكن أكثرية المفسرين ، وأصحاب الرّأي منهم يرون أنها أسباب أخلاقية «ابتعدوا ما أمكن عن أن ترتكبوا ظلما» ، وهذه الطّريقة في التّفسير أكثر دقة ، لأنّها أكثر إحتراما لقواعد التّراكيب ، فكلمة (أَلَّا تَعُولُوا) لا تقبل المعنى الأوّل إلّا بشرط أن تتضمن مفعولا به مباشرا ، وهو غير موجود في النّص.

(٢) النّساء : ٥ (ـ ١ ب).

(٣) المائدة : ١٠١ (ـ ١ ب).

(٤) الأحزاب : ٥٩.

(٥) الأحزاب : ٥٩ (ـ ١ ب).

(٦) الإسراء : ٢٩ (ـ ١ آ).

٤٦٦

هي قوله تعالى :

(ـ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (١).

ـ (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٢).

ـ وعقاب القاتل يجب أن يستهدف المذنبين وحدهم : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (٣).

ـ والنّزاع الّذي يتفشى في جيش ، أو في شعب يستتبع ضياعه ، واضمحلال قوته :

(وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٤).

ـ وتسليح الجيش في زمن السّلم يستهدف إرهاب العدو :

(تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (٥).

وفي حالة الحرب يجب أن نأخذ حذرنا ، وألّا نضع أسلحتنا ، حتّى في أثناء الصّلاة ، وهو واجب كإجراء وقاية ، توقعا لهجوم مفاجىء :

(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) (٦).

__________________

(١) فصلت : ٣٤ (ـ ١ آ).

(٢) المائدة : ٩١ (ـ ١ ب).

(٣) البقرة : ١٧٩ (ـ ١ ب).

(٤) الأنفال : ٤٦ (ـ ١ ب).

(٥) الأنفال : ٦٠ (ـ ١ ب).

(٦) النّساء : ١٠٢ (ـ ١ ب).

٤٦٧

ـ ولكن ، لما ذا نقاتل؟ ...

وبدهي أننا نقاتل «فى سبيل الله» ولكي نبلغ هذه الغاية الأخيرة رسمت لنا النّصوص أهدافا كثيرة وسيطة هي :

آ ـ إيقاف بأس الكافرين ، وكسر قوتهم العدوانية :

(وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١).

ب ـ منع الفساد ، والفوضى أن ينتشروا في الأرض :

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (٢).

جـ ـ إنقاذ المؤسسات الدّينية من أن تهدم :

(لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) (٣).

د ـ وأخيرا معاقبة المعتدين ، وكشف الكرب عن المؤمنين :

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٤).

وهذا هو كلّ ما وجدناه مرجعا للجزاءات الطّبيعية (٥). (ـ ٢ آ و ١٢ ب).

__________________

(١) النّساء : ٨٤ (ـ ١ ب).

(٢) البقرة : ٢٥١ (ـ ١ ب).

(٣) الحجّ : ٤٠ (ـ ١ ب).

(٤) التّوبة : ١٤ ـ ١٥ (ـ ١ ب).

(٥) لسنا هنا نتحدث طبعا عن النّتائج الّتي يقال إنّها لازمة. فهي حين إلتّصقت بالموضوع نفسه أضافت إليه أو حذفت منه بعض القيم ، دون إعتبار لإنعكاساتها على الفرد. وفي القرآن موضعان يقدر أنّ هذا النّوع من الغاية الطّبيعية ، فالمقارنة المعروفة بين الشّجرة الطّيبة ، والشّجرة الخبيثة ، مع إبراز الصّفات الأخلاقية للحقّ ، والباطل (طيب وخبيث ، قوي وضعيف. إلخ) هذه المقارنة تؤكد في الوقت نفسه أهدافها ـ

٤٦٨

وها نحن أولاء نجد أنفسنا بعيدين عن مستوى الحس الأخلاقي الّذي هو غاية في ذاته ، حيث كانت الواجبات تمتدح ، وتقدر تبعا لطبيعتها الخاصة ، وحين تدخلت المشاعر الدّينية بعد ذلك لتحفز من جانبها إلى إيقاظ هذا الحس كنّا لا نزال في مجال عناصر تنتمي إلى أسرة واحدة.

أمّا الآن ، فإنّ لنا شأنا مع طرف ثالث ليس من الأسرة ، وحاشاه أن يكون البحث عن اللّذة ، أو الطّمع في الكسب ، أو تدبيرا ماهرا لإجراءات محترسة لمداراة الرّذائل. ولكنه العقل الرّشيد العملي ، وغريزة المحافظة على النّفس ، وشعور مشروع بحبّ الذات ، واهتمام طيب بخلق روابط من الصّداقة المتبادلة

__________________

ـ الوجودية : قابلية الحياة ، أو الزّوال. (انظر ، سورة إبراهيم آيتي : ٢٤ و ٢٦). ومن هذا القبيل الموازنة بين الزّبد الّذي يختفي ويتلاشى ، والماء الّذي يبقى (الرّعد : ١٧). ومع ذلك إنّ هذه النّصوص ليست في مكانها هنا إلّا من حيث كون دوام الحقيقة ، وإثمارها يمكن أن تتكفل بتحقيقهما شريعة الفطرة.

ولا ريب أنّ من العسير أن نثبت على سبيل القطع أنّ الحقيقة في غنى عن أن تكون معروفة ، ومنشورة بقدر كاف ، لتكون معترفا بها ، ومدافعا عنها. ومع أنّها قد اضطهدت طويلا ، وأزهقت كثيرا ، فإنّها سوف تجد في النّهاية تأريخا منصفا يرد إليها إعتبارها ، وأرواحا طاهرة تعتنقها.

ومن الممكن أيضا أن نقول : إنّ نجاح الكذب ، وحياته المؤقتة إنّما يدين بهما دائما لأنّه يتقمص شرائع الحقّ. وفي نفس النّظام الفكري الّذي تفيده هذه الموازنات يمكن أن نذكر كثيرا من النّصوص ينحصر استهزاؤها بالوثنية والشّرك في أنّهما يتوسلان إلى ذوات فانية : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ـ القصص : ٨٨ ، وهي ذوات عاجزة عن أن تضر أو تنفع ، عاجزة عن أن تمنع ما يريد الله أن يكون (المائدة : ٧٦ ، الأنعام : ١٧ و ٤٦ و ٦٢ و ٧١ و ١٩٢ ـ ١٩٨ ، يونس : ١٨ و ١٠٦ ، الرّعد : ١٤ و ١٦ ، الإسراء : ٥٦ و ٦٧ ، الأنبياء : ٤٢ و ٤٣ ، المؤمنون : ١٢ و ١٣ ، الفرقان : ٣ و ٥٥ ، النّمل : ٧١ و ٧٢ ، الرّوم : ٣٠ ، فاطر : ٢ و ٣ و ١٤ ، ويس : ٧٥ ، الزّمر : ٣٨ ، الأحقاف : ٥ ، الملك : ٢٠ و ٢١ و ٣٠) ، وواضح أنّ الأمر في هذا كلّه أمر وصف لواقع راهن ، وليس أمر إخبار بنتيجة مستقبلة. ولنلاحظ من ناحية أخرى أنّ عبادة هذه الذوات لا تستتبع هنا نتيجة طبيعية إيجابية ، بل هي تستتبع مناقضة.

٤٦٩

بين النّاس.

ومع ذلك. فسواء أكان هذا عاما أم فرديا ، مشروعا أو حتّى جديرا بالثناء ـ أو ليس هو دائما المنفعة الّتي لا شك فيها ، تدافع ـ هذه المرة ـ عن قضية القانون الأخلاقي؟ فهل يخصص القرآن ـ حينئذ ـ جانبا ، ولو صغيرا ، للأخلاق السّوقية ، حتّى ما كان منها ـ على هذا النّحو ـ نقيا بريئا؟.

ولنتذكر هنا الفرق الّذي ذكرناه في مستهل هذا الفصل ، ما بين إخبار بوجوب استعمال العقل ، وبين هدف مقترح للإرادة ، ولسوف تكون لدينا فرصة التّوسع في دراسة هذا الفرق في الفصل التّالي.

ولكن لما ذا نصر على إحداث هذه التّفرقة الأساسية للضمير الإنساني الّذي لا يقبل الإنفصام؟ إنني أفهم جيدا أنّ من الواجب عليّ ، عند اصطدام الواجب بالمنفعة ، أن أضحي لأجل الأمر العلوي لواجبي ، لا برغباتي فحسب ، بل بغرائزي الأولية ، بما في ذلك حياتي. ولكن ، حين لا يكون اصطدام ، أيمكن ألا يبالي المرء حقا بذاته ؛ أن يتأفف من مقتضيات فطرته العميقة.

إنّ الحكيم الرّواقي لا يجد بدا من الإعتراف بأنّه إذا لم يكن هذا بالنسبة إليه ضرورة ، فإنّه على الأقل ترجيح ، وتفضيل. ومع ذلك فهل يمكن لأحد أن يتأثر بروح الزّهد أكثر من المسيح؟ ألم يبتعد عن المكان حين عرف أنّ الفريسيين تشاوروا عليه لكي يهلكوه؟ ... (١) وحين أحس بالخيانة تقترب ألم يلجأ إلى الله ، يدعوه أن يجنبه هذه الكأس؟. «وقال يا أبا الآب ، كلّ شيء مستطاع لك ، فأجز

__________________

(١) إنجيل متى : ١٢ / ١٥.

٤٧٠

عني هذه الكأس ، ولكن ليكن ، لا ما أريد أنا ، بل ما تريد أنت» ..؟ .. (١).

عند ما أرى الغريزة ، والذكاء ، الإيمان ، والعقل ، واجبي ، ومصلحتي ـ كلّ ذلك يتجه نحو نقطة واحدة ، وعند ما أسمع من كلّ جوانحي نفس الصّيحة ، نفس النّداء ، نفس الأمر ـ فهل من حقي أن أقول ـ مفتخرا ـ إنّي لم استجب إلّا لصوت وحيد ، وإنّي لم أتحرك إلّا بدافع الواجب وحده ، وإنّ العوامل الأخرى لم تؤد أي دور ، أساسي أو ثانوي ، في قراري؟ .. كيف أتحقق من هذا؟ ..

ألم يعترف الفيلسوف «كانت» هو أيضا ، بالرغم من طابع مذهبه المتشدد لشخص الإنسان بحقّ الدّفاع عن نفسه بإعتبار أنّه حقّ لا يمكن انتهاكه ، لا بوساطة الغير ، ولا بوساطة الإنسان نفسه؟ ..

وعليه ، فمتى ما حدّد للإرادة موضوع ، وبمجرد أن يتضمن الشّكل موضوعا طيبا ـ يصبح من العسير أن نفصل الشّكل عن الموضوع ، أو نخفي الموضوع عن رؤيا العقل. وهل لجهد الإرادة تلك القدرة السّحرية على أن يمحو ذكرياتنا بضربة واحدة ، وهل بوسعه أن يطفىء أنوار عقولنا بنفخة واحدة؟.

إنّ علينا أن نركز انتباهنا على الغلاف : فإذا تحققنا أنّ محتواه ثمين فسيزيد ذلك لا محالة من وزنه ، وسيغلى من قيمته ، ولسوف يشق في النّهاية القشرة ليلمس إدراكنا ، وحساسيتنا.

وحينئذ لن نستطيع أبدا أن نمنع هذا العنصر الجديد من أن ينشيء لنا ، لا أقول : هدفا آخر نسعى إليه ، أو سيدا آخر نخدمه ، فتلك تكون ردة عن الواجب ،

__________________

(١) إنجيل مرقص : ١٤ / ٣٦.

٤٧١

وإنّما هو ينشيء لنا تكملة من القوة ، والحماس في سيرنا المنتصر ، إلى نفس الهدف ، ولن يعود الواجب آنذاك محترما فحسب ، بل سوف يكون هوانا الّذي يمتزج بدمنا.

أليس تطلّب النّزاهة الكلية في مجال ضروراتنا الجوهرية ـ إنكارا لضعفنا الإنساني؟ .. لقد وصم «بسكال» (١) ، هذا الغرور ، وندد به تنديدا كافيا.

إننا لا ننكر إمكان موقف كهذا بالنسبة إلى بعض المتميزين في قمة تقدمهم ، ولكن هل يكون منهجا حكيما أن ندعو إلى الأخلاق فنبدأ بقطع قنطرتها خلف الأبطال ، بقطع الأسباب بين المرء وماضيه ، وبذلك لا ندع للإنسانية سوى يأس مطلق؟ .. وكيف تقنع بالواجب إنسانا مستغرقا في شئونه ، أو آخر مستسلما لشهواته ، إذا كنت تطلب منه أن ينقطع تماما عن ماضيه كلّه على صورة تحول عنيف ، وأن يخضع نفسه لقاعدة جافة لم يدرك بعد ملاءمتها؟. وإذا كنت فضلا عن ذلك تعمد إلى منعه من أن يلقي نظرة واحدة على أي شيء من شأنه أن يسوغ في نظره أمرك إياه ، وإلّا أصبح عديم الأخلاق ، فأية نتيجة يمكن أن تحصل عليها من هذه التّربية ، إن لم تكن أن تفقد تلميذك كلّ ثقة بنفسه ، وإلى الأبد؟ ..

__________________

(١) بسكال : رياضيّ فيزيائي فيلسوف كاتب فرنسي ، (١٦٢٣ م ، ١٦٦٢ م) أهتم منذ نعومة أظفاره بالعلوم ، وابتكر في سن الثّامنة عشرة ماكينة حاسبة وإليه يرجع الفضل في الكشف عن بعض قوانين الضّغط الجوي ، والمائي وتوازن السّوائل ، وبإسمه المثلث المعروف (مثلث بسكال) (والّذي ثبت فيما بعد أنّه أخذه عن رياضي مسلم هو الكرجي). اعتنق المسيحية ثمّ بدأ يكتب عنها مؤلفا مات قبل إتمامه ، ونشرت بعض أجزائه بعنوان : (أفكار) وقد أدت أعماله في المجال الأخلاقي إلى توجيه فكر عصره نحو دراسة النّقائص ، والرّذائل الّتي ألصقتها الطّبيعة بالنفس والعقل الإنساني ، ومن هنا يعتبر من واضعي الكلاسيكية. (المعرب).

٤٧٢

ألم يكن أكثر تعقلا ، وإنسانية ، لكي تلقن تلميذك أوليات الحياة الأخلاقية ، أن تبدأ بوضع نفسك مكانه ، وتنظر من الزّاوية الّتي ينظر منها؟ وأن تحاول أن تعطيه بدل ما تريد أن تسحبه منه ، وأن تريه أنّ طريق الواجب هي في الوقت نفسه طريق الذكاء ، والذوق الحسن ، طريق الأمن ، والمجد؟ .. إنّه كلما عرف بطريقة أفضل فائدة الإستقامة ، شيئا فشيئا ، وكلّما استبدل بفورة العاطفة اتزان العقل ، فلسوف يتسنى له أن يتذوق حلاوة الخير ، وسحر الفضيلة ، وعظمة البطولة.

ولسوف تتخلق بالتدريج في نفسه مواءمة مع الخير ، نوع من الّتماثل بين إرادته ، والقاعدة الأخلاقية. وربما استطاع عند بلوغ هذا الحد أن ينفصل تماما عن كلّ مؤثر أجنبي ، كيما يستسلم استسلاما كاملا للواجب من أجل الواجب ، دون أن تقلقه عواطفه الذاتية ، أو يؤثر عليه ما قد تدخره له تصاريف الطّبيعة من نجاح ، أو إخفاق. لقد اضطر إلى الإعتراف بهذه الطّريقة في تصور التّربية الأخلاقية أعظم الفلاسفة الغربيين تشددا بين المحدثين منهم ، ونعني به «كانت» ، فكتب يقول : «لقد يكون من المفيد أن نربط هذا التّوقع لحياة سعيدة ورغدة بذلك الدّافع العلوي : (أن يحترم المرء القانون ، وأن يحترم ذاته) ... ولكن ذلك فقط لموازنة المغريات الّتي لا تفتأ الحياة تخادعنا بها على الجانب الآخر ، لا من أجل أن نضع فيه القدرة المحركة بالمعنى الصّحيح ...» ... (١)

ونقرأ بعد ذلك في نفس الكتاب : «بيد أنّ هذا الفصل لمبدأ السّعادة عن مبدأ

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Kant.Crit.de la R.prats p.٣٩

٤٧٣

الحس الأخلاقي ليس من باب التّعارض ، والعقل العملي الخالص لا يرى أن يتخلى المرء عن كلّ دعاوي السّعادة ، بل ربما كان واجبا في بعض المجالات أن يهتم المرء بسعادته ، لأنّ السّعادة ... تقدم له من ناحية ـ وسائل أداء واجبه ، ولأنّ الحرمان من السّعادة ـ من ناحية أخرى ـ (في حالة الفقر مثلا) ـ يجلب معه إلى الإنسان إغراءات بإنتهاء واجبه.

على أن يكون مفهوما أنّ عمل المرء لسعادته فحسب ، لا يمكن أن يكون واجبا ، أبدا ، وأقل من ذلك أن نجعل منه مبدأ كلّ واجب» (١).

وقال بطريقة أكثر صراحة : «لا شك أنّ أحدا لا يستطيع أن ينكر أنّه لكي نقود عقلا مجدبا ، أو حتّى فاسدا إلى طريق الخير الأخلاقي ـ فإننا نحتاج إلى بعض التّدريبات الإعدادية لترغيبه عن طريق ما يحقق من نفع ذاتي ، أو ترهيبه بالخوف من بعض الخسائر. ولكن متى ما حققت هذه الآلية (الميكانيكية) وهذا الإنقياد ، بعض الآثار فيجب أن نقدم إلى النّفس المبدأ الأخلاقي في صورته المحضة ، أي في صورة الإلتزام بالواجب (٢).

وهكذا تستهل الحياة الأخلاقية بإدخال العنصر المثالي ، (المثل الأعلى) ، في مجال كان من قبل محتلا بالعنصر الطّبيعي ، والحقّ أنّ هذا المثل الأعلى يسعى دائما إلى أن يكسب أرضا ، ويختلس فيها مكان شاغلها الأوّل. فهو لا يكف عن المطالبة بوجوب أن يكون سيد الضّمير الأوحد ، وأنّه لا يريد أي إختلاط أو إلتباس به ، ولكن أهذا ممكن؟ ... وهل له حقّ فيه؟ .. وهل يصل إليه؟ .. كلّ ذلك

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Kant.Crit.de la R.prats p.٩٩

(٢) انظر ، ١ ـ Kant.Crit.de la R.prats p.٢٦١

٤٧٤

خارج عن المسألة الّتي تشغلنا الآن ، أعني أنّه على الرّغم من كلّ شيء ، فإنّ أمر الطّبيعة ، مستقلا عن نوايانا ، يختلط غالبا بقضايانا الأخلاقية ، شئنا أو لم نشأ ، وهو يقاومها ، ويستخرج منها نتائج ، لا تفتأ تمس أعماقنا قليلا أو كثيرا.

وتلكم هي الحقيقة الفعلية الّتي حرص القرآن على إبرازها بالأمثلة العديدة الّتي ذكرناها آنفا ، وكما يروى عن ابن عباس رضى الله عنه ، أنّه قال : (إنّ للحسنة لنورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرّزق ، وقوة في البدن ، ومحبة في قلوب الخلق ، وإنّ للسيئة لسوادا في الوجه ، وظلمة في القلب ، ووهنا في البدن ، ونقصا في الرّزق ، وبغضا في قلوب الخلق) (١).

النّتائج غير الطّبيعية (أو الجزاء الإلهي)

بيد أنّ الجزاءات الطّبيعية ليست شاملة وعامة ، وليس بلازم أن نذهب إلى حدّ القول دون تحفظ مع فيكتور كوزان [Victor cousin] بأنّ : «الفضيلة ، والسّعادة من جانب ، والشّقاء ، والرّذيلة من جانب آخر ، على توافق ضروري ، لا في نظر الضّمير فحسب ، بل على مسرح الحياة ، والتّأريخ ، فليس هناك عمل ، أو فكرة ، أو رغبة ، أو شعور مرذول ، إلّا وينال عقابه ، آجلا ، أو عاجلا ، وبطريقة مباشرة على الدّوام تقريبا ، وبمعياره الدّقيق ، والعكس صحيح في كلّ عمل ، أو فكرة ، أو قرار ، أو شعور فاضل ، فكلّ تضحية تستتبع مكافأتها» (٢) ، كما أننا لا نريد أن نذهب مع تيودور جوفروي [Th.Jouffroy] في قوله : «عند ما نبتعد ـ متذرعين بحريتنا ـ عن السّعي إلى غايتنا الحقة فإننا لا نفتأ نرد إليها بفضل العقوبات الّتي

__________________

(١) انظر ، منهاج السّنّة لابن تيمية : ١ / ٢٦٩ ، حلية الأولياء : ٧ / ٣٣٠ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٢١٩.

(٢) انظر ، ١ ـ V. Cousin, introd. al\'hist. de la philo. ٩ elecon

٤٧٥

يفرضها النّظام الطّبيعي للأشياء ، وهو النّظام الّذي دعينا إلى أن نعيش في كنفه ، فهو يفرض عقوباته على من يترك طريقه ، ليسلك طريقا ليست له» (١).

كلا ... لسنا ملزمين بالمضي مع هذين الرّأيين ، فإذا كان قانون الطّبيعة المادية ، أو الإجتماعية ، قد استطاع أن يضع جزاء لبعض الواجبات في صورة سعادة ملائمة ، وأن يجازي الوحدة بالقوة ، والإخلاص بالتقدير ، كما يجازي بعض الإنحرافات ، كالسّكر ، والفسق ، بما هي قمينة به من بؤس ، فليست كلّ الفضائل ، والرّذائل بواجدة حسابها مسوىّ في النّظام الطّبيعي للأشياء ... وهيهات.

ولقد كان (كانت) على حقّ حين أعلن أنّه ليس بين الفضيلة ، والسّعادة ارتباط تحليلي ، شريطة ألا يقصد بالسعادة تلك المسرة الخاصة المتصلة بالممارسة الأخلاقية ، والّتي قال عنها أرسطو : «إنّها تنضاف إلى الفعل كما تنضاف إلى الشّباب نضرته» ، وإنّما يقصد بها المتع اللاحقة ، المنفصلة عن الفعل ، والمختلفة عنه من حيث طبيعتها.

وإنّا لنمضي إلى ما هو أبعد من «كانت» ، فإنّ هذا الفيلسوف العظيم ، حين لم ير أنّ هذا الإرتباط يوجد لا حقا في التّجربة الرّاهنة ، جعل منه مبدأ مسلما للقانون الأخلاقي ، واجب الوجود في عالم مقبل ، تتوافق فيه قوانين الطّبيعة مع قوانين الإحسان الإلهي. وموجز رأيه : أنّ هذا الرّباط رباط تركيبي مسبق. أمّا نحن ، فنرى أنّها علاقة تركيبية فعلا ، ولكنها ليست مسبقة.

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Th. Jouffrou, Cours de Droit naturel, ١٣ eme lecon

٤٧٦

ذلك أننا ـ إذا نحينا التّعاليم الدّينية جانبا ـ نتصور أي قانون أخلاقي قانونا كامل العدالة ، يستهدف في كلّ ما يمنحه أشياعه من مكافآت ـ أن يكسبهم ما يستحقون من الإحترام ، والكرامة ، وهو في كلمة واحدة : يمنحهم أجرهم ، دون أن يتيح لهم وجودا بعد الموت ، بل دون أن يضمن لهم حياة دائمة السّعادة. فهذه الأفكار كلّها غريبة تماما عن فكرة القانون الأخلاقي ، العقلية المحضة ، وهي أيضا غريبة أكثر من ذلك عن أخلاق شكلية بدأت بتقسيم الإنسان إلى قسمين ، متعاديين على سبيل الإطلاق. فإذا كنّا قد أبعدنا الجانب الحسي من المجال الأخلاقي بلا أدنى شفقة ، فباسم أي مبدأ نسمح لأنفسنا في النّهاية أن نشفق على مصيره؟ .. ولما ذا ندخله من الشّباك بعد أن طردناه من الباب ، ثمّ نمنحه حقّ الإقامة المشروعة؟ ...

فإذا ما أصرّ بعض النّاس مدعيا أنّ فوق هذه العدالة الّتي تتم داخل القانون الأخلاقي عدالة أخرى أعلى درجة ، تجعل نظامي الإرادة والحس متناظرين ، فإننا نستطيع أن نقبل ذلك إذا لزم الأمر ، دون أن يعني ذلك قبول تلك المسلمات القائلة بإرتباط العمل الأخلاقي بحياة ثانية ، وسعادة مستقبلة. فالعملية من أبسط الأمور ، وما علينا إلّا أن نقلب صيغة هذا التّتابع لنجد أنفسنا مكتفين بما نؤدي من واجب.

أفننتظر أن يكافئنا المجتمع على أمانتنا في الأداء العادي لواجباتنا نحوه؟ .. أولسنا مدينين له بأكثر مما هو مدين به لنا؟ إذن ، فما ذا نقول عن خالق الكون الّذي يدين له الأفراد ، والمجتمعات بكلّ شيء؟ .. من منا لم ينل مقدما من يد

٤٧٧

الله : وجوده ، وقدراته ، وطاقاته ، وإمكاناته ، ونعمه المادية ، والرّوحية؟ .. ولكن ألم يكن من الواجب حينئذ ، بدلا من أن نطمح إلى ثواب ، أن نبتغي بسلوكنا الطّيب أن يكون وفاء لدين ، وشاهد عرفان بتلك النّعم الّتي لا تحصى ، والّتي أنعم الخالق بها علينا ، حتّى من قبل أن نسأله إياها؟ ...

وهكذا نجد أنّ كلّ ردّ فعل مستقبل ، لا ينتج طبيعيا ، وتلقائيا ؛ من طريقتنا في العمل ـ لا يمكن أن نقيم عليه برهانا ، أو أن نفرضه مقدما على أنّه بدهي في ذاته ، أو على أنّه ضروري لإثبات الحقيقة الأخلاقية ، وأقصى ما يمكن أن يبلغه هذا التّعليل المسبق إذا ما طبق على فكرة العقاب أن تكون له بعض الصّحة ، وربما استعمله القرآن بهذه المناسبة أحيانا.

وإنّه لحقّ ـ في الواقع ـ أنّ المذنبين الّذين يشعرون الآن بأنّهم سعداء لن يظلوا دون عقوبة أبدا ، فإمّا أن يكون الخلق عبثا ، وإمّا أن تكون هنالك بكلّ تأكيد (رجعة) للعدالة : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١) ، (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٢).

بيد أنّه لما كانت فكرة السّعادة المستقبلة غير ذات ارتباط داخلي بفكرة الفضيلة ، ولما لم يكن هناك مبدأ عقلي يحتم توافقهما ، فإنّهما منفصلان في عقولنا ، ولسوف يظلان كذلك طالما لم يتدخل مشرع حرّ ، إنساني ، أو علوي ، بمبادرته الذاتية ، كيما يوفق بينهما ، ويقر ما بينهما التّركيب المراد.

__________________

(١) المؤمنون : ١١٥.

(٢) القيامة : ٣٦.

٤٧٨

ومع ذلك إنّ الأخلاق القرآنية كسائر الأخلاقيات الدّينية ـ لم تقع في هذا التّناقض الفلسفي ، الّذي يعزل عزلا مطلقا العنصر الأخلاقي عن العنصر الحسي ، ثمّ يعود بعد ذلك إلى التّوفيق بينهما ولكن متأخرا جدا.

إنّها أخلاق تتصور الإنسان ، من أوّل لحظة ، في كيانه المتكامل ، الّذي لا يتوقف فيه القلب ، والعقل عن التّعاون مع الإرادة. وهذه الأخلاق ترى فضلا عن ذلك أنّ خلود النّفس ، ووجود الله ليسا من الفروض المسلمة ، بل هما نقطة إنطلاق. إنّهما عقيدتان أساسيتان في ذاتهما أوّلا ، وتؤسسان بدورهما نظام الجزاءات.

إنّ إله القرآن ، وجميع الكتب المنزلة ليس خالقا ، ومشرعا فحسب ، وإنّما هو في الوقت نفسه مكافىء عادل. وإذن فمن الواضح الجلي أنّ مثل هذه المفاهيم يجد فيها التّفكير في أشكال الجزاء نموا أكثر تماسكا ، كما أنّها تقدم إليه إجابات دقيقة لمختلف المقتضيات ، والمطالب.

فإذا كان الإنسان الّذي يستسلم لأفعاله بأكملها يتحمل نتائجها بأكملها ، فأي شيء أكثر عدلا من هذا؟ ..

ومن ناحية أخرى نجد أنّ الفعل الإرادي الّذي أقر الله ـ سبحانه ـ به شريعة الواجب ، يسير في نفس الفكرة الإلهية ـ مع الفعل الّذي وضع الله به المبدأ العام للمجازاة ، جنبا إلى جنب. واقرأ إن شئت قوله تبارك وتعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ

٤٧٩

عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١).

بل إنّ هذا الإرتباط بين الفضيلة ، والسّعادة ، وبين الرّذيلة ، والعقوبة ، وهذا الفصل بين الأبرار ، والأشرار ، والّذي بدا هنا كواقع ، أو كوعد ، أو كأمر تنفيذي ، يأتي أحيانا كنتيجة ضرورية لحجة إستنباطية ، نابعة من مفهوم (أو مبدأ) إله حيكم ، عدل ؛ يقول القرآن : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢) ، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣) ، (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٤).

ومن الطّبيعي أنّ هذا الإستنباط ، لكي يكون ضروريا ، يجب أن يقتصر على الفكرة العامّة للمجازاة ، وألا يزعم أنّه يحدد أشكالها. أمن الممكن ـ مثلا ـ وضع علاقة عقلية بين العمل الوقتي للإرادة الإنسانية ، أو حتّى الجهد الدّائم في هذه الحياة الفانية ، وبين مكافأة باقية في حياة خالدة؟ (٥).

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤ و ١٤٥ ، الأنعام : ١٢٠ و ١٣٨ ، هود : ٣ و ١١١ ، يوسف : ١١٠ ، السّجدة : ٢٢ ، الجاثية : ٢٢ ، الأحقاف : ١٩ ، النّجم : ٣١ و ٤١ (ـ ١١ آ و ٢ ب).

(٢) الجاثية : ٢١.

(٣) سورة ص : ٢٨.

(٤) سورة القلم : ٣٥ ـ ٣٦.

(٥) على أكثر تقدير نستطيع أن نتصور هذا التّعادل حين نأخذ معيارا للمقارنة ، ليس العمل الخاص ، المؤرخ والمحدد ، بل العمل الكلي الّذي تتخذه الإرادة ـ في ذاتها ـ قاعدة للسلوك ، موافقة أو مخالفة للقاعدة الأخلاقية؟. فالواقع أن الضّمير ـ على هذا المستوى ـ ينشد المطلق ، ويستهدفه ، ويود أن يتمسك بموقفه إلى الأبد ، لو أوتي الإنسان الخلود في هذه الحياة.

٤٨٠