دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

التّوازن ، أو إهمال الواجبات الأخرى الّتي ليست بأقل أهمية. وهو يستهدف أن يتحاشى التّكلف ، والأساليب المتجاوزة للحد ، الّتي يبغضها ، أوّلا وقبل كلّ شيء ، ولقد أمره ربه أن يقول : (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (١).

بيد أنّ هذه الرّحمة الّتي يبديها تجاه النّاس لا تنفي لديه ، أو لدى من يريدون ، ويستطيعون الإقتداء به إلتزاما واضحا نحو أنفسهم أن يبذلوا أشجع الجهد ، ولكنه في الوقت نفسه أعقله ، وأوفقه.

وجملة القول أننا هنا أمام تركيب تلتقي فيه الشّدة ، واللّطف ، أمّا وهذا هو الفقه القرآني في هذه المسألة ، فلسنا نجد أصدق من أن نقدم بين يدي هذا الفقه شاهدا من النّص ذاته ، وهو يجمع هاتين الفكرتين في آية واحدة :

يقول تبارك وتعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢).

وكذلك ترد على لسان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعبيرات مماثلة ، والواقع أنّه كان يقرر دائما أنّ أهم سمات النّظام الإسلامي أنّه يضم صفتين معا في وقت واحد : أنّه (متين) ، وأنّه (يسر) ، وذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ هذا الدّين متين ، فأوغل فيه برفق» (٣) ، «ولن

__________________

(١) سورة ص : ٨٦.

(٢) الحجّ : ٧٨.

(٣) انظر ، مسند أحمد : ٣ / ١٩٨ ح ١٣٠٧٤ ، الكافي : ٢ / ٨٧ ، الأحاديث المختارة : ٦ / ١٢٠ ح ٢١١٥ ، مجمع الزّوائد : ١ / ٦٢ ، المجازات النّبوية : ٢٦٠ ، سنن البيهقي الكبرى : ٣ / ١٨ ح ٤٥٢٠ و ٤٥٢١ ، شرح اصول الكافي : ١ / ٢٧٦ ، مسند الشّهاب : ٢ / ١٨٤ ح ١١٤٦ و ١١٤٧ ، منية المريد : ٢٠٠ ، شعب الإيمان : ٣ / ٤٠٢ ح ٣٨٨٥ و ٣٨٨٦ ، بحار الأنوار : ٦٨ / ٢١٢ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ٢٣٥ ح ٩٠٠ ، صفوة الصّفوة : ١ / ٢٠٨.

٨٤١

يشاد الدّين أحد إلّا غلبه ، فسددوا ، وقاربوا ، وأبشروا» (١).

أمن الممكن أن نختط منهجا قادرا على أن يحدد مضمون هذا المفهوم المركب عن (الجهد النّبيل المعتدل)؟ ..

إذا كنّا نقصد بالتعريف صيغة رياضية صحيحة بصورة شاملة ، فيجب أن نطرح هذا التّعريف جانبا ، سواء نظرنا إلى الشّيء المعرف من الخارج ، أو من الدّاخل.

فلنتناوله أوّلا من الخارج.

ولا شك أنّ بوسعنا القول بعامة ، بأنّ جدلية العنصرين اللذين تتكون منهما الفكرة المراد تعريفها يجب أن تؤدي بهما إلى وضع وسط ، بين «الخمود» و«الجموح».

بيد أنّ هذا الوضع الوسط لا يمكن تخيله في صورة نقطة هندسية ، تبتعد عن الطّرفين بمسافة متساوية ، ذلك أنّ الإختلاف البالغ في الظّروف الفردية ، والّذي ينتج عن آلاف الأوضاع الّتي لا نملك السّيطرة عليها ـ يوجب على العكس أن نتمثل المقياس العام في منطقة مركزية ، تتردد هي الأخرى بين قطبين ، يميلان تارة إلى جانب ، وأخرى إلى جانب آخر ، فيحتويان بهذه الصّورة على درجات لا تنتهي.

ولكي تحدّد هذه المنطقة المركزية لن يكون لدى النّاظر سوى أن يركن إلى

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٣ / ١٩٩. «المعرب». وانظر ، سعد السّعود لابن طاووس : ٥٢ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٦٣ ح ٣٥١ ، عوالي اللئالي : ١ / ٦٩ ، سنن البيهقي الكبرى : ٣ / ١٨ ح ٤٥١٨ ، بحار الأنوار : ٧٤ / ٤٠ ، سنن النّسائي (المجتبى) : ٨ / ١٢٢ ، مسند الشّهاب : ٢ / ١٠٤ ح ٩٧٦ ، الّتمهيد لابن عبد البر : ٥ / ١٢١ ، كشف الخفاء : ٢ / ٣٧٦ ح ٢٦٤٩.

٨٤٢

الذوق العام ، وتقديراته التّقريبية المبتسرة ، تبعا للتجارب اليومية. والواقع أننا نعلم متى تفتر الطّاقة ، وتقترب من الخمود ، ومتى تصير مفرطة محمومة ، فنضع الجهد المعقول بين هذين في درجات مختلفة.

ومن هنا نفهم أنّ القرآن قد إلتزم بإستخدام هذا المقياس العام ، وهو يوجه عظاته إلى النّاس ، ولهذا كان البرد ، والحرّ ، والعرق ، والتّعب ، والعطش ، والجوع ، وما شاكلّ ذلك من المصاعب الّتي لا تمنعنا من ممارسة أعمالنا ، هذه كلّها لا ينبغي في نظر القرآن أن تعفينا من بذل كلّ قوانا لأداء واجبنا الأخلاقي. وكما نبذل أحيانا جهدا إضافيا لكي نوفر حاجات الأفراد الّذين نعزهم ، ونتكفل بهم ، فكذلك ينبغي أن نتحمل أكثر ، من أجل واجب أكثر ضرورة ، ونتقبل أعظم التّضحيات في سبيله : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١) ، (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) (٢).

وبالرغم من قلة التّحديد الظّاهرة في هذا التّعريف الخارجي إلّا أنّ له ميزة مزدوجة ، هي أنّه يتطابق مع المنهج القرآني ، ويلبي في الوقت نفسه المطالب الأساسية للأخلاقية.

ونلاحظ فيما يتعلق بالقرآن أنّه في جميع المواضع الّتي يتحدث فيها عن الدّواعي المعفية من هذه الشّعيرة أو تلك ـ لا يستخدم سوى ألفاظ شائعة في

__________________

(١) التّوبة : ٤١.

(٢) التّوبة : ٨١.

٨٤٣

عموم الجنس ، مثل (المرضى) (المسافرين) .. إلخ ... فهو حين اكتفى بالمعنى القريب الّذي يفهم عموما من الصّعوبة في موقف كهذا ـ لم يقل مطلقا أي درجات المرض ، ولا أية مسافة ، أو مدة في السّفر. ولذلك فقد أختلفت آراء الفقهاء إلى أقصى حدّ عند ما حاولوا تحديد أدنى مسافة يقطعها المسافر ليسمى مسافرا ، فبعضهم جعلها مئات الفراسخ ، وآخرون عشراتها ، وغيرهم بعضا منها.

بيد أنّ عدم التّحديد بهذه الصّورة كان ضروريا في نفس الوقت لإنقاذ حرية الضّمير الأخلاقي ، ولولاه لما بقي للفرد أثر من حرية الإختيار. وبهذه الطّريقة الّتي استخدمها القرآن في التّعبير بوضوح ، ومرونة ـ استطاع أن ينشيء إطارا متوافقا لبناء هذا الوسط الأخلاقي المشترك بين جميع أعضاء الجماعة ، ولكنه إطار غني بالألوان يمكن أن نجد في داخله درجات كثيرة من القيمة الأخلاقية.

وفي هذا الإطار يدعى كلّ فرد إلى ممارسة نشاطه ، بأن يضع نفسه على درجة مناسبة العلو ، في سلّم القيم ، تبعا لطاقته المادية ، ومطامحه الأخلاقية.

وبهذا يتضح معنى ذلك الحديث الصّحيح الّذي يقرر أنّ صحابة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يسافرون «مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يعب الصّائم على المفطر ، ولا المفطر على الصّائم» (١).

والقرآن لا يعتمد فقط على الضّمير الإنساني حين يغفل تحديد الشّروط لهذه

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٦٨٧ ح ١٨٤٥ ، تذكرة الفقهاء : ٦ / ١٥٤ ، المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم : ٣ / ١٩٥ ح ٢٥٢٨ ، مشارق الشّموس للمحقق الخوانساري : ٣٦٨ ، سنن التّرمذي : ٣ / ٩٢ ح ٧١٣ ، مجمع الزّوائد : ٣ / ١٥٩ ، سنن التّرمذي (المجتبى) : ٤ / ١٨٨ ح ٢٣٠٩ ، المسائل الفقهية للسيد شرف الدّين : ٥٣ ، مسند أحمد : ٣ / ٧٤ ح ١١٧٢٣ ، المعجم الكبير : ٣ / ١٦١ ح ٢٩٩٧ ، حاشية السّندي : ٤ / ١٩٤ ح ٢٣١٢.

٨٤٤

الرّخصة ، أو تلك ، بل إنّه يرجع إليه صراحة في تحديد بعض واجباتنا الأسرية ، والإجتماعية ، الّتي يتركها غير محددة من النّاحية الكمية ، مكتفيا بالقول بوجوب أدائها في صورة إنسانية وهو يحمل هذه الصّورة الإنسانية هي كلمة «المعروف» : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (١) ، (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) (٢) ، (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) (٣) ، بل إنّ القرآن الكريم غالبا ما يضع أفكار الخير والشّر تحت اسم «المعروف ، والمنكر».

بيد أنّ المقياس الحقيقي للفكرة المركبة الّتي تشغلنا هنا لا يمكن تحقيقه إلّا من الدّاخل ، حيث يجب أن يترك لتقدير كلّ منا بنفسه ، وليس معنى ذلك أن يحدد كلّ منا مقياسه مرة واحدة ، بل يجب أن يتنوع هذا المقياس ليقابل في كلّ تجربة بين قيمة طاقتنا المتاحة ، وأهمية أعبائنا ، دون أن نغفل جانب التّوافق في مجموع تكاليفنا.

ولقد يحدث ـ دون شك ـ أن تقود المرء رغبة خفية في الّتملص من الواجب ، فيفيد من هذه المرونة في القاعدة العامّة ، ليطبقها على حالات مقاربة ، من نفس الطّبيعة في الظّاهر ، وفي هذه الحالة ننقذ المظاهر دون أن تكون الأخلاق قد نالت حقها بمثل هذا التّصرف.

ومن الواضح أنّه لا يمكن التّحدث عن الأخلاق إلّا بقدر ما يكون المرء صادقا

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) البقرة : ٢٣٣.

(٣) البقرة : ٢٣٦.

٨٤٥

مع نفسه ، وهذا هو التّحفظ الّذي ما زال القرآن ينفثه في آذاننا : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (٢).

وهو يثبت من حيث المبدأ بطلان أي عذر لا يستمد منبعه من الصّدق : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (٣).

ولقد يحدث أيضا أن يتخلى المرء عن الجهد قبل أن يصطدم فعلا بإحدى العقبات ، لا بسوء نيّة ، ولكن بنوع من التّراخي ، والإهمال. فهو يتخيل ابتداء أنّ عقبات سوف تصادفه ، فيقول في نفسه : لن أفعل هذا ، فقد أمرض ، ولن أفعل هذا ، فقد يعيبه النّاس عليّ ، ولن أعطي الفقراء ، فقد أصبح الغداة فقيرا. وليست هذه في أكثر الأحيان سوى أوهام محضة ، أو بلغة القرآن ، هي أفكار شيطانية ، والله يقول : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) (٤).

كلا .. فيجب ألا نتقهقر إلّا أمام استحالة واضحة لأعيننا ، أو على الأقل عرفناها بالتجربة معرفة كافية.

يجب أن نبدأ دائما بإرادة الطّاعة ، وأن نشرع في العمل ، حتّى لو بدت المهمة لنا أكثر مشقة : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) التّوبة : ٩١.

(٣) القيامة : ١٤ ـ ١٥.

(٤) البقرة : ٢٦٨.

٨٤٦

فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (١) (لأنفسهم).

ولقد نصل إلى سدّ لا نتوهم اجتيازه فييسر الله الخروج منه بفضله ، وتجربة الأنفس الكبيرة خير دليل على ذلك ، وحسبنا أن نذكر هنا مثال إبراهيم ، وولده إسماعيل : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (٢) ، أو مثال أمّ موسى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣). وتلك هي حال من يخضعون لإرادة الله تبارك وتعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (٤) ، (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٥).

ولقد يحدث أخيرا أن يكتفي المرء ـ وهو يؤدي واجباته الأساسية ، ويطرح الذنوب الفاحشة ـ بهذا المستوى المتواضع للرجل الطّيب ، ومعنى ذلك أنّه بدأ ـ دون شك ـ بتثبيت مثله الأعلى عند درجة متوسطة ، هي أقصى ما يبلغه الجهد المعتدل ، وهو خطأ يختلط به «الهدف» و«العمل».

إنّ اعتدال العمل لا ينبغي أن يتأتى ، ولا يمكن أن ينال ، إلّا على أساس نيّة تستهدف أعلى قيمة ، وأسمى درجات الكمال. وأي حدّ يهبط عن هذا المستوى

__________________

(١) النساء : ٦٦.

(٢) الصّافات : ١٠٣ ـ ١٠٧.

(٣) القصص : ٧ ـ ٨.

(٤) الطّلاق : ٢ ـ ٣.

(٥) الإنشراح : ٥ ـ ٦.

٨٤٧

ستكون له بالضرورة إنعكاساته على الإرادة ، التّوقف ، والتّناقص ، والكفاف.

والآيات القرآنية الّتي تأمرنا بأن نجاهد حقّ الجهاد في سبيل المثل الأعلى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (١) ، (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) (٢) ، دون إلتفات لإمكانياتنا ـ هذه الآيات ليس لها من معنى إنساني آخر. فهي حين تعين لنا هذا الهدف الأسمى ، وحين تزكي مطامحنا الأخلاقية إلى غير ما حدّ ـ تحاول في الواقع أن تدفع جهودنا إلى أعلى درجة ممكنة في توترها. ولقد رأينا إلى أي حدّ يحث القرآن النّاس أن ينشدوا الأفضل ، وأن يسابقوا إلى المراتب الأولى. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطينا المفتاح ، ويحركه بهذا الجهاد النّبيل. فهو على حين يأمرنا في نطاق الأشياء المادية أن نقنع بما قسم الله لنا ، ناظرين إلى من هم أدنى منا من إخواننا ، يوصينا في النّطاق الأخلاقي ـ بعكس ذلك ، يوصينا بحرارة أن نسمو دائما بأنظارنا إلى من هم أسمى منا ، وأن نحاول الإقتداء بهم ، وفي ذلك يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خصلتان ، من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا ، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله ، لا شاكرا ، ولا صابرا. من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به ، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه ، كتبه الله شاكرا صابرا. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه : ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منها ، لم يكتبه الله شاكرا ، ولا صابرا» (٣).

__________________

(١) آل عمران : ١٠٢.

(٢) الحجّ : ٧٨.

(٣) انظر ، سنن التّرمذي : ٤ / ٦٥٥ ح ٢٥١٢ ، مسند الشّاميين : ٢ / ٣٠٣ ح ١٣٨٧ ، شعب الإيمان : ٤ / ١٣٧ ح ٤٥٧٥ ، الزّهد لابن المبارك : ١ / ٥٠ ح ١٨٠ ، كشف الخفاء : ٢ / ٣٧٣ ح ٢٦٣٧.

٨٤٨

خاتمة

عرفنا الآن حقيقة الجهد المطلوب ، والمحمود في القرآن. إنّه أوّلا نشاط أخلاقي ، ومادي يسخر لخدمة الواجب ، ويقاس إليه ، فكل ما هو «معتسف» لا علاقة له به ، ثمّ هو بعد ذلك نشاط «مبصر» واضح الرّؤية من ناحيتين : لأنّ نظراته لا تتجه فقط إلى الطّاقات المتاحة ، كيما تستخدمها على بصيرة ، ولكنها في الوقت نفسه تحتوي في نظرة واحدة مختلف العلاقات بين الفرد من جانب ، (وربّه ، والنّاس أجمعين ، ونفسه من جانب آخر) كيما تتوزع فيما بين هؤلاء جميعا توزيعا عادلا ، فتنهض بمختلف تكاليفهم.

وهو أخيرا نشاط «نبيل» «متبصر في العواقب» ، فهو لا يريد في الواقع أن يستنفد ، ويستهلك استهلاكا وقتيا ، فيصبح بلا ثمرة ، وبلا غد ، بل هو على العكس يتوقع نوعا من الدّوام ، والثّبات تزداد معهما الغبطة ويتنامى السّرور.

فإذا ما قصد الجهد إلى هذا المثل الأعلى للواجب ، بعناصره الثّلاثة : (القوة ، والمكان ، والزّمان) ـ فيجب أن يندفع في طريقه ، بحيث يتجنب الإفراط في حال

٨٤٩

تألقه ، ويتجنب التّفريط في حال تقاصره.

وإنّ ذلك ليذكرنا ـ على الفور ـ بنظرية «الوسط العادل» الّتي خصص لها أرسطو مجموعة من الفصول في كتابه : (الأخلاق). ولعل من المفيد أن نسجل تقاربا بين النّظريتين ، ولكنا نرى على وجه التّحديد أنّ مسألة معرفة ما إذا كان يوجد ، أو لا يوجد بينهما بنوّة تأريخية ـ غير مطروحة ؛ فالدنيا كلّها تعرف أنّ القرآن لا حق لنظرية أرسطو ، ولكن الدّنيا كلّها تعرف من ناحية أخرى أنّ من الخطأ البين تأريخيا القول بفرض حدوث استعارة ، فإنّ الصّلة بين الفكر الإسلامي ، والفلسفة الهلينية لم تبدأ في الواقع إلّا بعد قرنين من الإسلام.

وإنّما الّذي نقصده هو أن نحاول أن نرى فقط إلى أي حدّ بلغ تشابههما ، وفيم يتمثل اختلافهما؟ ..

إنّ فكرة «المقياس» فكرة قديمة ، فالفيثاغوريون يرون أنّ العالم عدد وتناسق ، ويعترف أفلاطون في المجال الأخلاقي بوجوب أن يكون تنفيذ كلّ الأشياء بمقياس ، وطبقا لمقتضيات العقل السّليم.

وحين أراد أرسطو أن يقدم لنا هذه الفكرة في صورة أقل تجريدا قال بوجوب إلتزام الوسط العادل أي تجنب الإفراط ، والتّفريط ، أو الزّيادة ، والنّقص.

ثمّ نجد هذا المبدأ العملي نفسه في القرآن ، لا بمناسبة جهد التّقوى فحسب ، كما رأينا آنفا ، بل كذلك بمناسبة «القناعة» : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (١) ، و«العفة» : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) (٢) ، و«الكرم» :

__________________

(١) الأعراف : ٣١.

(٢) المؤمنون : ٥ ـ ٦.

٨٥٠

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (١). و«رقة الصّوت» ، «ولطف المسلك» : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) (٢).

وإلى هذا الحدّ فالتشابه واضح.

ولكن ها نحن أولاء أمام أوّل فرق ، فلسنا نجد في كتاب الإسلام المقدس صيغة عامة توحد بين الفضيلة ، والعمل المتوازن كالذي نجده لدى أرسطو ، حين قال ، «فالفضيلة إذن هي نوع من التّوسط ، بما أنّ الهدف الّذي تتوخاه هو نوع من التّوازن بين طرفين ، فالزيادة ، والنّقص يشيان بالرذيلة ، على حين أنّ الوسط العادل يطبع الفضيلة» (٣).

أهذا التّعريف كامل؟ .. أهو دقيق؟ أهو قائم على استقراء كامل؟ ..

ثمّ نتساءل أوّلا : هل تسلم كلّ المبادىء الأخلاقية بهذا الفرق الكمي ، بالزيادة ، والنّقص ، والمساواة؟.

إننا لن نقف أنفسنا عند مثال (الصّدق) ، الّذي ذكروه أحيانا على أنّه استثناء من القاعدة ، لأننا نميل إلى تعريف الرّجل الصّادق بأنّه الّذي يقول الحقيقة كاملة. وعلى ذلك فنقص الصّدق يتمثل أحيانا في أن نذهب وراء هذا المقياس ، أو نقبع دونه. والإنسان الّذي يضيف إلى الحقيقة بعض المبالغة ، والآخر الّذي يقتطع منها ما يخفيه ـ كلاهما في الخطأ سواء.

فالإعتراض القائم على مثال الصّدق يمكن إذن أن يستبعد. ولكن كيف نثبت

__________________

(١) الفرقان : ٦٧.

(٢) لقمان : ١٩.

(٣) انظر ، ١ ـ Aristote ,ethique ,livre II ,ch.VI.

٨٥١

هذا التّقسيم الثّلاثي في عمل أخلاقي جواني لا يقبل القسمة؟ ..

ولنأخذ مثلا «الأمانة» من حيث هي اتفاق باطني للمرء مع نفسه على موقف معين ، ففي هذا المجال فعلا يبدو لنا مبدأ الطّرف الثّالث المستبعد مطبقا بكلّ قوته ، لأنّه إمّا أن يكون صادقا مع نفسه ، أو لا يكون كذلك ، تماما كما يقال : فلان يرى ، أو لا يرى.

ومع ذلك فلنضع أنفسنا في الظّروف المناسبة لهذا التّدرج. هل يجب أن نسلم بأنّ كلّ سلوك يستمسك بالوسط هو سلوك فاضل ، وبالعكس ، كلّ ما يتجاوز هذا المقياس يرتد بمجرد هذا التّجاوز إلى الأعمال الموصومة بالرذيلة؟. إنّ الحبّ ، والبغض ، والإثبات ، والنّفي ، والعمل الّذي ينفع ، ويبني ، والعمل الّذي يضر ، ويهدم ـ كلّ هذه أنواع من التّطرف ، فهل لنا الحقّ في أن نقرر أنّ الفضيلة تتمثل هنا بخاصة في «اللامبالاة» ، و«الشّك» ، و«التّأمل البليد»؟ ..

ومن ناحية أخرى ، عند ما تصرح لنا الفلسفة الأثينية بأنّ الحد الوسط في نظرها هو نقطة التّعادل ، والتّساوي ، أفلا يخشى ألا تكون الفكرة الّتي كونتها لنفسها عن الفضيلة طبقا لهذا المقياس ـ شيئا سوى «العدالة الدّقيقة» ، الّتي إن لم تتجسد في شريعة القصاص ، إذ ينكرها أرسطو فعلى الأقل في شريعة التّناسب الّتي أحلها محلها؟ ..

فما ذا بقي منذئذ للإحسان ، والإخلاص ، والتّضحية ، تلك الفضائل الّتي لا تعدّ ، ولا تحسب؟ ..

وهكذا يبدو لنا التّعريف الأرسطي مخطئا ، تارة «بالزيادة» ، حين يضم حالات لا تناسب الشّيء المعرف ، وتارة «بالنقص» حين لا يشتمل على كلّ

٨٥٢

المعرف. فهو كما قيل عند الفلاسفة المدرسيين : ليس جامعا ولا مانعا ، وبحيث يمكن القول بأنّ الحكمة القرآنية وهي تتجنب الصّيغة الجامعة في هذا الموضوع ـ قد عرفت كيف تتوقف حيث ينبغي لها أن تتوقف.

فلنتقدم أيضا خطوة ، ولننظر إلى الحالة الّتي تتفق فيها النّظريتان على إيصائنا بالإعتدال ، ففيم يتمثل هذا الإعتدال؟.

هنالك أيضا تحتوي إجابة كلّ من النّظريتين على إختلافات طفيفة. إذ يكتفي فيلسوفنا ببعض العموميات المجردة على هذا النّحو ، والّتي يدع لكلّ منها في النّهاية مطلق الإهتمام بتحديد المراد من هذا (الوسط الممتاز).

إنّه يدلنا فقط على وسائل التّحديد ، فيقول : «يجب أن نظهر أعمالنا ، ومشاعرنا في اللحظة المناسبة ، بناء على أسباب مقنعة ، وحيث يوجد من يستحقها ، ولغايات ، لائقة ، وفي ظروف موافقة» (١).

عظيم جدا ، ولكن ما هذا (المناسب ، المقنع ، اللائق)؟ إنّ الّذي يدل عليه بكلّ تأكيد هو «العقل السّليم». وهكذا يبقى معيار الفضيلة عصيا على إدراك جمهور النّاس ، فهو يكمن تماما في ذهن الحكيم.

ولنأخذ مثال الكرم ، حيث يقول أرسطو : «إنّ الشّاق في الأمر هو أن أعرف : لمن يجب أن أعطي؟ وكم؟ ومتى؟ ولما ذا؟ وبأية طريقة؟ ولذلك فإنّ الإستعمال الطّيب للمال نادر .. ويجب على من يهدف إلى الإعتدال أن يبدأ بالإبتعاد عما يبعده عنه .. وأن يكتفي بأقل قدر من الشّرور» (٢) .. وهذه هي غاية التّحديد.*

__________________

(١) المرجع السّابق / الفصل السّادس.

(٢) المرجع السّابق / الفصل التّاسع.

٨٥٣

أمّا القرآن ، الّذي تكمله تعاليم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنّه يقدم على عكس ذلك لكلّ فضيلة مقياسا حسيا ، تسهل معرفته بدرجة كافية ، وتنعدم بفضله تقريبا فرص الخطأ ، والإلتباس.

وحسبنا لكي نقتنع بذلك أن نأخذ مجموعة الأسئلة الأرسطية الّتي سبق أن ذكرناها ، فنطرحها على الشّريعة القرآنية ، ولسوف نجد فيها إجابة محددة عن كلّ نقطة استفهام.

بل وأكثر من ذلك ، فإنّ هذه الشّريعة ـ بعد أن وضعت لكلّ فضيلة مقياسها النّوعي ـ قد دبرت إحكام مجموع الفضائل بالقاعدة العامّة ، الّتي تأمرنا بالتوفيق بين واجباتنا ، بعضها وبعض.

وأخيرا ، فإنّ الإعتدال الّذي يمدحه الإسلام ، فيما يتعلق بدرجة الجهد ، لا يتمثل في (الوسط الحسابي) ، ولا في (نقطة الذروة) ، وهما القولان اللذان يتردد بينهما الفكر الأرسطي ، وإنّما يتمثل الإعتدال في نبل يقترب بقدر الإمكان من الكمال ، مقرونا بالسرور ، وبالأمل ، وهو ما يعبر عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في توجيهاته إلى الرّفق ، ونحو ما هو عدل في ذاته : «إنّ الدّين يسر ، ولن يشادّ الدّين أحد إلّا غلبه ، فسددوا وقاربوا ، وأبشروا» (١).

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٣ / ١٩٩. «المعرب». وانظر ، سعد السّعود لابن طاووس : ٥٢ ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٦٣ ح ٣٥١ ، عوالي اللئالي : ١ / ٦٩ ، سنن البيهقي الكبرى : ٣ / ١٨ ح ٤٥١٨ ، بحار الأنوار : ٧٤ / ٤٠ ، سنن النّسائي (المجتبى) : ٨ / ١٢٢ ، مسند الشّهاب : ٢ / ١٠٤ ح ٩٧٦ ، التّمهيد لابن عبد البر : ٥ / ١٢١ ، كشف الخفاء : ٢ / ٣٧٦ ح ٢٦٤٩.

٨٥٤

خاتمة

إنّ تعليم النّاس واجباتهم الحسية مهمة عظيمة ، قام بها القرآن كاملة على خير وجه.

بيد أنّ هذه المهمة ، رغم كونها الهدف الرّئيسي من تعليمه ، لم تكن فيه الموضوع الوحيد ، فلقد اضطلع القرآن إلى جانب هذه المهمة العملية بمهمة أخرى ، ذات طابع نظري. لقد قدم لنا كلّ العناصر الضّرورية ، كيما تتكون لدينا فكرة دقيقة عن الطّريقة الّتي ينبغي أن نتصور بها معنى الأخلاق من أين تأتي القاعدة الأخلاقية؟ .. وبأي الشّروط تفرض نفسها؟ .. وما النّتائج الّتي تترتب على موقفنا منها؟ .. وما المبدأ الّذي يجب أن يلهم سلوكنا؟ .. وبأية وسيلة تنال الفضيلة؟ ..

والإلزام ، والمسئولية ، والجزاء ، والنّيّة ، والجهد ، تلكم هي العمد الرّئيسية لكلّ نظرية أخلاقية ، واعية بمراميها .. ولقد خصصنا أساس هذا البحث في القرآن لدراسة هذه الأجزاء التّكوينية للنظرية الأخلاقية.

فلنلق الآن نظرة سريعة تضم في رؤية شاملة مجموع النّتائج الّتي انتهت إليها

٨٥٥

أبحاثنا ، ولسوف نرى بعض السّمات المميزة لهذه الأخلاق تتجلى لأعيننا ، وهي السّمات الّتي سنحاول أن نبرزها في الأسطر التّالية.

أوّلا : بأي معنى ، وإلى أي مدى يمكن أن توصف الأخلاق القرآنية بأنّها دينية؟ ..

لا شك أنّ هذا المعنى لا يرجع فقط إلى أنّ القواعد الّتي تقررها هذه الأخلاق موضوعها الوحيد والجوهري ـ هو تنظيم العلاقات بين الإنسان ، وبين الله تبارك وتعالى ؛ إذ كان من اليسير التّأكد أنّ وجها من وجوه النّشاط الإنساني لم يفلت من تقنين تلك الأخلاق (١) ، ومن هذا الجانب لم تعرف الإنسانيّة أخلاقا أخرى أكمل من الأخلاق القرآنية.

ومن الممكن أيضا أن نقرر أنّ الشّعائر الدّينية المحضة لا تشغل في هذه الأخلاق سوى أقل مكان. والحقّ أنّه يجب أن نفرق هنا بين موقفين مختلفين : الإمتداد ، والعمق ، أو الظّاهر ، والباطن. فإذا كان النّشاط الّذي يمارسه المسلم في كلا الميدانين : الحيوي ، والإجتماعي ، يشغل بعامة ـ من حيث مظاهره الخارجية ـ مجالا أرحب من المجال الّذي يشغله بالعبادة ـ فإنّ حياته الباطنة تتميز ـ على العكس ـ بعمق التّدين : فهو يحبّ الله فوق كلّ شيء ، وهو يخضع كلّ شيء لإرادته ، وهو يستوحي في كلّ موقف أمر الله ورضاه.

وليس ينبغي أن نعتقد أيضا أنّ الأخلاق القرآنية أخلاق دينية ، بمعنى أنّ رقابتها توجد فقط في السّماء ، وأنّ جزاءها فيما وراء الموت ، إذ أنّها تخول هذه

__________________

(١) انظر المختارات القرآنية الّتي سنصنفها بعد ذلك تحت عنوان : (الأخلاق العملية).

٨٥٦

الصّلاحيات في نفس الوقت لقوتين مؤثرتين أيضا هما : الضّمير الأخلاقي ، والسّلطة الشّرعية ، وليس ذلك فحسب ، بل إنّها تكلف كلّ فرد في الأمّة أن يحول بكلّ الوسائل المشروعة دون إنتصار الرّذيلة ، والظّلم.

وهي أيضا ليست دينية ، بمعنى أنّها لا تجد دافعا اليها إلّا في الخوف والرّجاء ، ولا تجد تسويغها إلّا في إرادة عليا تملي على وجه الإستعلاء أوامرها ، مستقلة عن كلّ ما يقتضيه العقل ، والشّعور الإنساني ، وهي إرادة يجب على الإنسان أن يطيعها ، دون مناقشة ، أو فهم.

إنّها ليست دينية بهذا المعنى ، لأنّ القرآن لم يزل يدعو إلى هذه المفاهيم الإنسانيّة على وجه التّحديد ، لتسويغ أوامره ، ومن هذه الوجهة نستطيع أن نقول إنّه قد زود تعليمه الأخلاقي بنظام تربوي غاية في الكمال ، بحيث يصلح لجميع مراتب الأخلاقية.

فالمبتدىء ، والطّيب ، والحكيم ، والقديس ، كلّ هؤلاء يجدون فيه ما يشبع حاجتهم إلى الإقتناع سواء على المستوى العقلي ، أو العاطفي ، الصّوفي ، أو الإنساني ، لدرجة أنّ أكثر أوامره حتمية في الظّاهر ، وهو الّذي نتلقاه دون أن يتضمن سببا محددا لتسويغ وضعه ـ هذا الأمر إنّما يقوم في الحقيقة على المفهوم العام للحكمة الإلهية ، وعلى مفهوم غير محدد للخير يرمي إليه.

ولا ريب أنّ العنصر الدّيني يعود في جزء منه ، في إعتبار المشرع ـ إلى هذه العلاقة الثّلاثية : سواء بإعتباره جانبا من الحياة الإنسانيّة يحتاج إلى قاعدة منظّمة ، أو بإعتباره ضمانة كبرى للنجاح في تطبيق القانون ، أو بإعتباره تسويغا

٨٥٧

لهذا التّحديد ، أو ذاك ، مما قد يبدو لنا غير ذي أهمية في ذاته ، أو قد لا تكفي أنوارنا ، وبصائرنا للكشف عنه ، أو تفسيره من النّاحية العقلية.

بيد أنّه في جميع الحالات «لا يتراكب العنصران : الدّينيّ ، والأخلاقيّ» ، ولا يستطيع أحدهما أن يعرّف الآخر.

ألا يمكن أن نحصل على هذا التّراكب من ناحية واحدة على الأقل ، حين ننظر إلى الأخلاق القرآنية من حيث مصدرها التّشريعي؟. فهل ينشأ النّفوذ الّذي يمارسه الواجب على كياننا ، من «سلطة دينية محضة» في نظر القرآن؟.

إننا نتردد في تأكيد ذلك بشكل قاطع ، دون تحفظ ، أو تقييد :

أوّلا : لأنّ شريعة الضّمير ـ طبقا للقرآن نفسه ـ سابقة في الوجود على شريعة الدّين الإيجابية ، فلقد نفخ الشّعور بالخير ، وبالشر ، وبالعدل ، وبالظلم ، في كلّ نفس إنسانية منذ كان الخلق.

أو لسنا نشهد في الواقع ظهور الحس الأخلاقي عند الأطفال ابتداء من عمر التّمييز ، واستمراره خلال جميع الأعمار ، حتّى لدى الملاحدة؟.

ثمّ ألسنا نشهد بين المذنبين أنفسهم من يعترفون بذنوبهم ، ويأسون عليها دون أن يملكوا الشّجاعة للتخلص منها ، أليس هؤلاء هم الجمهور الغفير؟.

وثانيا : لأنّ الشّريعة الأيجابية لم تأت لنسخ الشّريعة الطّبيعية ، ولكي تعزل السّلطة الخاصة الّتي ثبّتت هذه دعائمها. فهي لم تبطل الشّريعة القديمة ، وإنّما صدقتها ، ومدت في عمرها ، وحددتها. أمّا فيما يتعلق بالضمير ، فهي لا تكتفي بأن تستلزمه فحسب ، بل إنّها بعد أن تغذيه ، وتنوره ، تعتمد عليه من جديد لدعم

٨٥٨

سلطانها الخاص.

والواقع أنّ الشّريعة الإيجابية ، لا تستطيع أكثر مما تستطيع الشّريعة الطّبيعية في أن تكون إكراها يفرض نفسه علينا ، دون مراعاة لقبولنا ، وموافقتنا. فإنّ الأمر الإلهي لا يمكن أن يصبح بالنسبة إلينا تكليفا أخلاقيا إلّا برضانا. ولا يعتبر الإنسان أنّه قد أطاع واجبه الدّيني إذا كان يؤديه دون إيمان بطابعه التّكليفي ، كأساس في نظام الأشياء الثّابتة.

(فالواجب الأوّل هو الإيمان بالواجب) ، ويجب أن أتلقى من ذاتي الباطنة الأمر بطاعة هذا الأمر الأعلى.

ولذلك نجد القرآن يذكر المؤمنين بإلتزامهم العام ، بموجب عقد الإيمان ـ قبل أن يطلب منهم طاعتهم المخلصة. وهكذا لا تكون الصّفة الإلهية للأمر القرآني سوى لحظة وسيطة ، بين شعورين إنسانيين يستحثهما دائما.

فمن الوجهة التّحليلية نجد أنّ «العنصر الدّيني» ، و«العنصر الأخلاقي» مفهومان مستقلان ، لا رابطة بينهما ضرورية ، وهما إجابة عن نوعين من المثل الأعلى مختلفين : أحدهما يتعلق «بالكينونة» ، والآخر «بالمصير» ، ففي المجال الأوّل يكون المثل الأعلى هو الكائن الكامل ، الحقّ ، الجميل في ذاته ، وهو موضوع المعرفة ، والتّأمل ، والحبّ. وفي المجال الثّاني يكون المثل الأعلى هو العمل الكامل ، الّذي نسميه : الفضيلة ، موضوع الطّموح ، والإبداع.

وإنّما نقرب بين هذين المفهومين نتيجة اتفاق منطقي ، وحكم تركيبي ـ كما يقول كانت ـ حين نجعل من الله الخالق سيّدا مشرعا ، وحين نتخذ من توجيهه

٨٥٩

أمرا أخلاقيا. ولكي نبلغ هذه النّتيجة يجب أن نمر ضرورة بمجموعة ثالثة من الأفكار الوسيطة. فنحن لا نميز فقط لدى الخالق صفات أخلاقية بوجه خاص : كالعدالة ، والحكمة ، والكرم ، ولكننا أيضا نتخذ من شرعه «شرعا لنا» ، ونجعل أمره «أمرنا» ، وبدون ذلك يظل المفهومان بالنسبة إلينا منفصلين لا يمكن وصلهما.

وثالثا ، وأخيرا : فإنّ المتأمل في الأخلاق القرآنية لا يجد فقط أنّ هنالك واجبات أسرية ، وإجتماعية كثيرة قد تركت دون تحديد من النّاحية الكمية ، وعهد بها إلى تقدير الضّمير المشترك ، بل إنّ كلّ تكليف قرآني يجعل شرط تطبيقه مجموعة من الإعتبارات ، تحترم الوسع الإنساني ، وتحسب حساب الواقع المادي ، والتّوافق بين الواجبات. ومن هنا فهو يخول كلّ ضمير فردي جزءا من النّشاط التّشريعي ، وهو جزء ضروري لصوغ واجبه المادي في كلّ لحظة.

وعند ما يعلن القرآن أنّ قيده لطيف ، وحمله خفيف ، فإنّ هذا اللطف يأتي بلا شك في جانب كبير منه ـ نتيجة هذا التّدخل الثّلاثي للضمير الإنساني ، في الإعتراف بالواجب ، وتنظيمه.

ومن هنا نرى أنّ هذا التّدخل لم يقتصر على أن أحاط بالعامل الدّيني ، حين استبقه ، وأصحبه ، وألحقه بعناصر إنسانية ، ولكنه حوّله إلى عامل أخلاقي بالمعنى الصّحيح.

وهكذا لا نستطيع أن نخلع على هذه الأخلاق نعتا دينيا فحسب ، سواء من حيث التّشريع ، أو الجزاء ، أو التّسويغ ، أو المادة الّتي هي موضوع تعليمها ، إذ

٨٦٠