دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

كلّي يحرم به الفرد الرّئيسي في المسئولية من ثمرة جهوده ، أو يبرأ من نتائج عمله السّيء ، هيهات أن يحدث هذا.

والنّصوص الّتي عالجت هاتين الحالتين لم تكف عن تأكيد هذا الواقع.

أنّ ثواب صاحب العمل ، وعقابه لا يمكن أن ينقص بهذا : (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (١) ، (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) (٢). فالمسئوليات الفردية تبقى إذن كاملة ، وتلك نقطة مفروغ منها. وكلّ ما في الأمر أنّ تذييلا للثواب والعقاب يأتي ـ فيما يبدو ـ من خارج ، فضلا عما ينتج من العمل الفردي.

ولكن ، برغم تحديد المسألة على هذا النّحو ، فلا يزال هناك نوع من التّعارض ، مع النّصوص الكثيرة الّتي تنكر ـ فيما رأينا ـ إنكارا مطلقا ، أن ينسب للإنسان ما ليس من عمله.

فما وجه الحقيقة في هذه المسألة؟.

وقبل ذلك ، ما هذا الثّقل الإضافي الّذي ينضاف إلى حساب الظّالمين؟. ولئن كان النّص المذكور آنفا لم يذكر الظّروف الّتي تتم فيها هذه الإضافة ، فإنّ نصّا آخر يخصصه ببعض المتكبرين الذين أداروا ظهورهم للهدي الإلهي ، وسعوا في إضلال الآخرين. وهؤلاء الأشخاص ـ فيما يحدث القرآن ـ سوف يتحملون المسئولية الكاملة عن أعمالهم الخاصة ، ويشارون في مسئولية هؤلاء الذين أضلوهم : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) (٣).

__________________

(١) الطّور : ٢١.

(٢) العنكبوت : ١٢.

(٣) النّحل : ٢٥.

٢٦١

فما معنى هذا ، إن لم يكن أنّهم مسئولون عن الجرائم الّتي دعوا إليها ، مسئوليتهم عما ارتكبوا؟ ..

ونكرر كذلك أنّ ضحاياهم لن يعفوا مطلقا من خطيئتهم ، الّتي هي إستسلامهم للضلال. وقد أنذرنا القرآن في مواضع كثيرة بأنّ عبء الأتباع لن يصير أقل ثقلا ، وهو يعبر عن هذه الحقيقة في شكل مناقشة تنشب يوم القيامة بين طائفتي المذنبين ، وهي مناقشة يبقى مبدؤها ، وحلّها دائما ثابتا لا يتغير : فالضعفاء الّذين يريدون أن يتبرأوا من خطاياهم يلقونها على هؤلاء الّذين أوقعوهم في الضّلال ، على حين أنّ هؤلاء يبتعدون عنها ، ويتنصلون منها ، وتنتهي المناقشة دائما بإدانة الطّرفين (١). ولكن بما أنّ الرّعاة ـ فضلا عن مسلكهم الشّخصي ـ قد أسهموا بقدر معين في معصية القطيع ، فإنّهم يجدون أنفسهم ذوي مسئولية إضافية ، ناشئة عن علاقة السّببية الّتي يتحملونها بالنسبة إلى جرائم أخرى غير جرائمهم. فهم

__________________

(١) انظر قوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) البقرة : ١٦٦ ـ ١٦٧.

وقوله تعالى : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) الأعراف : ٣٨ ـ ٣٩.

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) سبأ : ٣١ ـ ٣٢.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) الزّخرف : ٣٦ ـ ٣٩.

٢٦٢

مسئولون من وجهين ، لأنّهم كذلك مذنبون من وجهين. والمجرم الّذي يقترف كثيرا من الفواحش لا يمكن بداهة أن يعامل بنفس الطّريقة الّتي يعامل بها من لم يرتكب سوى واحدة ، والله يقول : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) (١).

وفي مقابل ذلك ، كلّما عدمت علاقة السّببية ، أو التّوسط بين مسئولين كثيرين وجدنا المسئولية تنكمش ، وتتفرد ، بالمعنى الدّقيق للكلمة ، وهو قوله تعالى : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) (٢) ، وقوله : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) (٣) ، وقوله : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٤).

وإذا كان الأمر كذلك فليس هناك أثر من التّعارض ، حتّى ولا الإستثناء ، الّذي يرد على القاعدة العامة. ولسوف تقدم لنا دراسة هذه الحالة الأولى ـ بالعكس ـ بعض التّحديد للطريقة الّتي يتصور بها الإسلام المسئولية الفردية. إنّها فكرة واسعة جدا ، أكثر إتساعا من جميع النّصوص الّتي تثيرها. فالإنسان ليس مسئولا فقط عن الأعمال الّتي يدعو إليها في صورة تدخل إيجابي ومباشر لدى الآخرين ، حين يصدر إليهم أوامر ، أو نصائح ، أو ايحاءات ، وليست المسئولية فقط هي مسئولية القدوة الّتي تأتي من أعلى لتنتشر بين الجماهير ، بفضل مهابة صاحبها وحدها ، بل إنّ كلّ مبادرة ، حسنة ، أو سيئة ، من أية جهة كانت ، سيكون

__________________

(١) النّحل : ٨٨.

(٢) الشّورى : ١٥.

(٣) هود : ٣٥.

(٤) سبأ : ٢٥.

٢٦٣

لها أهمية لا تتوقف حدودها عند واقعها ، أو نتائجها المباشرة ، ما دامت صالحة لأن يقتدي بها الآخرون.

ولقد أعلن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ مسئولية صاحب العمل المبتدع سوف تتضاعف بقدر ما يحتذي النّاس مثاله خلال القرون المقبلة ، إلى يوم القيامة ، قال : «من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ، وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ، ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (١).

وكذلك قال فيما رواه عبد الله بن مسعود : «ليس من نفس تقتل ظلما ، إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها» (٢). وذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى مؤكدا هذا المعنى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ

__________________

(١) انظر ، صحيح مسلم : ٣ / ٨٧ ، مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري : ح ٥٣٣ ، نشر إدارة الشّئون الإسلامية بوزارة الأوقاف والشّئون الإسلامية بالكويت ، تفسير القرطبي : ١٣ / ٣٣١ ، سنن النّسائي (المجتبى) : ٥ / ٧٦ ، الجامع لمعمر بن راشد : ١١ / ٤٦٦ ، المعجم الأوسط : ٨ / ٣٨٤ ح ٨٩٤٦ ، مستدرك الوسائل : ١٢ / ٢٢٩ ، الفصول المختارة للشيخ المفيد : ١٣٦ ، بحار الأنوار : ٧٧ / ١٠٤ ح ١ ، مسند أحمد : ٤ / ٣٥٧ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٧٤ ح ٢٠٣ ، مجمع الزّوائد : ١ / ١٦٨ ، روضة الطّالبين : ١ / ٧٣ ، فيض القدير : ١ / ٥٢٦ ، تهذيب الأسماء : ١ / ٢٤.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ٣ / ١٢١٣ ح ٣١٥٧ و : ٦ / ٢٦٦٩ ح ٦٨٩٠ ، فتح الباري : ١٢ / ١٦٩ ، المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي : ٦ / ٤٠٢ ح ٧ ، تفسير القرطبي : ٦ / ١٣٧ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٣٠٣ ح ١٣٧٧ ، السّنن الكبرى : ٢ / ٢٨٤ ح ٣٤٤٧ ، مجمع الزّوائد : ٧ / ٢٩٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٣ / ١٤٦.

ومن سنّ القتل : هو قابيل ، الكفل بالكسر : النّصيب كما جاء في النّهاية في غريب الحديث : ٤ / ١٩٢.

٢٦٤

جَمِيعاً) (١).

بل إنّ الأمر ليذهب إلى أبعد من هذا!! عمّا قدمت أيدينا فحسب ، بل سوف نسأل أيضا بصورة ما عن تصرفات الآخرين ، فنحن مسئولون عن إنحراف مسلك أقراننا ، حين نتركهم يسيئون دون أن نتدخل بجميع الوسائل المشروعة الّتي نطبقها ـ لنمنعهم من الإساءة. وشبيه بهذا أنّ العمل الإجتماعي السّلبي ، أو عدم المبالاة ـ تجرّم بنفس درجة العمل الإيجابي ، فالإمتناع هو المشاركة السّلبية في الجريمة. وإنّ القرآن ليحدثنا أنّ شعبا قديما قد تعرض للعنة على ألسنة الأنبياء ، وكان كلّ ذنبه ـ حتّى يستحق هذه اللّعنة ـ أنّ المجتمع لم ينكر على بعض أعضائه فعلهم للشر. فقال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) (٢).

وبهذا نرى أنّ المسئولية الفردية ، على هذه الدّرجة من الإمتداد تتاخم ، بل وتكاد تندمج في المسئولية الجماعية ، ولكنها ليست هي على وجه التّحديد ، لأنّ الجماعة هنا ليست سوى جملة من الضّمائر الفردية المعنية ، تعلم القاعدة الأخلاقية ، وتدرك في الوقت نفسه الأعمال الّتي إنتهكت بها هذه القاعدة ، فهي تترك المذنبين من أعضائها مطمئنين ، أي أنّها لا تبالي حتّى بأن تتخذ حيالهم موقف اللّوم الصّريح. وبعكس ذلك هؤلاء الّذين يقومون بأقل جهد ، سواء بتذكير المذنب بواجبه ، أو بمقاطعته ، فأولئك سوف ينجون : (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ

__________________

(١) المائدة : ٣٢.

(٢) المائدة : ٧٩.

٢٦٥

الظَّالِمُونَ) (١) ، (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) (٢).

وليس هذا هو كلّ شيء ، فليست الأعمال الواعية الّتي نثيرها في المجتمع بسلوكنا فحسب ، ولكن نتائجها الطّبيعية البعيدة سوف تدخل فيها ، وتضخم معناها. إنّ السّعادة ، أو الشّقاء اللذين يمكن أن يصيبا الإنسانية من عمل يتم عن غير قصد ، بل وقد لا يراه صاحبه مفصلا ، ولا يقدر قدره ـ سوف يضمآن إلى الرّصيد الإيجابي ، أو السّلبي لصاحبهما ، حتّى لو لم يحدثا إلّا بعد موته ، والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث ، صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له» (٣).

وهنا نصل إلى الحالة الثّانية ، الّتي تظل عصية على كلّ هذه التّفسيرات ، ذلك أننا قد نفهم ـ إذا لزم الأمر ـ أنّ أولادنا ، لما كانوا أعمالنا ، فإنّ نشاطهم يستمر ويكمل نشاطنا ، ومن ثمّ كانوا مضافين إلى حسابنا ، ولكن كيف نسوغ القضية العكسية؟ لسوف يكون خطأ زمنيا أن ننسب هنا علاقة سببية تشركهم في أعمال تمت قبل ميلادهم ، وهي تشرع مساواتهم مع أسلافهم أمام العدالة العلوية. ومع ذلك فلسنا ندري كيف نوفق بين النّص الّذي يبدو أنّه يعلن هذه المساواة ، وهو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ

__________________

(١) الأنعام : ٤٧.

(٢) الأعراف : ١٦٥.

(٣) انظر ، صحيح مسلم : ٣ / ١٢٥٥ ح ١٦٣١ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١ / ٩٠ ، المحلى : ٧ / ٣ ، الإنتصار للشريف المرتضى : ١٩٨ ، المعتبر للمحقق الحلي : ١ / ٣٤١ ، سنن التّرمذي : ٣ / ٦٦٠ ح ١٣٧٦ ، سنن البيهقي الكبرى : ٦ / ٢٧٨ ح ١٢٤١٥ ، سنن أبي داود : ٣ / ١١٧ ح ٢٨٨٠ ، مسند أحمد : ٢ / ٣٧٢ ح ٨٨٣١.

٢٦٦

مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (١) ، وبين النّصوص الأخرى ، وبخاصة قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) ، وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) (٣) ، وهي تقرر العكس تماما. واقرأ الحديث المشهور عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (٤).

لقد قال المفسرون ، كيما يتخلصوا من هذا التّعارض ، إنّ آية الطّور الأولى لا تتعلق مطلقا بمجازاة ، ولكنه محض فضل يسبغه الله عليهم ، غير الجزاء المستحق لهم ، وعليهم فهم يضيفون أنّ فضلا من هذا القبيل لا يصح أن يخضع لقاعدة. وكلّ ما تريده الأخلاق هو ألا يحرم شخص من حقوقه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٥) وقال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (٦) ، فإذا ما قدمت العدالة المطلقة لكلّ إنسان حقّه فلا شيء يحول دون أن ينعم الله على من يشاء بأكثر مما يستحق.

ولقد نستطيع أن نعترض أوّلا بأنّ مجرد رفع المقصر إلى درجة يستحقها

__________________

(١) الطّور : ٢١.

(٢) البقرة : ١٣٤.

(٣) لقمان : ٣٣.

(٤) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / ٢٠٧٤ ح ٢٦٩٩ ، شرح النووي على صحيح مسلم : ١٧ / ٢٢ ، الرّسالة السّعدية للحلي : ١٦٣ ، نهج البلاغة : ٤ / ٦ الحكمة (٢٣) ، عيون الحكم والمواعظ : ٤٥٤ ، صحيح ابن حبان : ١ / ٢٨٤ ح ٨٤ و : ٣ / ٤٥ ح ٧٦٨ ، سنن التّرمذي : ٥ / ١٩٥ ح ٢٩٤٥ ، سنن الدّارمي : ١ / ١١١ ح ٣٤٥ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٨٢ ح ٢٢٥ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٥٢ ح ٧٤٢١ ، مستدرك الوسائل للنوري : ٣ / ٢٦٣.

(٥) الزّلزلة : ٧ ـ ٨.

(٦) الأنبياء ٤٧.

٢٦٧

المتقدم ربما يخلق لدى هذا الأخير نوعا من المساس بكرامته ، إن صح التّعبير ، قد يتحرك في نفسه غضب مشروع ، حين يرى نفسه متساويا مع آخر أدنى منه أخلاقيا.

والحقّ أنّ الأعتراض من هذا الجانب العاطفي ليس دقيقا ، لأنّه ليس عسيرا أن نجيب عليه بأنّ مسألة المنافسة لا موضع لها في جنّة الله. وقلوب السّعداء منزوع منها كلّ حقد ، أو تحاسد فيما بينها : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) (١) ، وبأنّه ، حتّى في هذه الحياة ، يجب استبعاد كلّ أثرة بين السّلف ، والخلف ، وبخاصة من ناحية الأولين ؛ فإنّ الآباء يشهدون دائما أنّهم لا يجدون سوى الرّضا الكامل ، حين يرون أولادهم يتمتعون بمثل ما ذاقوا من سعادة ، إن لم يكن بأكثر منه.

ولكن ، لنفترض أنّ العالم كلّه قد حصل على هذا الرّضا ، أفترضى العدالة في ذاتها بهذا؟ .. ولما ذا الإحسان إلى بعض النّاس ، وعدم الإحسان إلى الآخرين بنفس القدر؟ ... ألم يكن للكرم أيضا حقّ في عدم المحاباة؟ ..

لقد كان هدف جميع محاولات المفسرين أن يسوغوا الحكم الإلهي الّذي يسوي «في الواقع» بين طرفين غير متساويين «في الحقّ» ، بحسب طبيعتهما الخاصة ، وبدا لنا أكثر مشروعية ـ قبل أن نحاول تقديم تسويغ ـ أن نسأل أنفسنا أوّلا عما إذا كانت مساواة من هذا القبيل مستفادة من النّص المذكور.

إننا حين نرجع إلى النّص العربي نلاحظ أنّ كلمة (ألحق) يمكن أن تفسر

__________________

(١) الحجر : ٤٧.

٢٦٨

بمعنى (شبّه) أو بمعنى (أتبع وضم) ، فإذا لم يكن في السّياق شيء يحتم أحد هذين المعنيين ، فإنّ هناك مع ذلك عدة اعتبارات لغوية ، وأخرى ذات طابع عقلي ، تدفعنا إلى أن نختار المعنى الأخير.

ومن المقرر ، كقاعدة عامة ، فيما يتعلق بتفسير الألفاظ الملتبسة ، أنّه يجب أن نحملها بقدر الإمكان على المعنى الحقيقي ، وهو أقل التباسا. فإذا كان حقا أنّ أحد المعنيين مادي محسوس ، والآخر مجرّد ، ذو طابع أخلاقي ، وهو لا يكون غالبا إلا بوساطة القياس ، فإنّ المعنى الأولي بأن نأخذ به في حالتنا سوف يكون هو (الضّم) ، وهو في الوقت نفسه ، أكثر تأكدا ، بما أنّ التّفسيرين يتفقان في مضمونه ، على حين أنّ معنى التّشبيه لا يحتمل سوى شيء وأحد.

بيد أنّ لدينا من وراء هذه الأعتبارات العامة ـ نصوصا تعالج حالات شبيهة ، ولم يحدث أن تعرضت لذكر المعاملة على قدم المساواة ، وإنّما ذكرت مجرد الأشتراك المعبر عنه بلفظة (مع) ، وقد ورد هذا في القرآن : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) (١) ، كما ورد في كثير من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الّذي يقرر أنّ المتحابّين في الله سوف يجتمعان في الجنّة : «أنت مع من أحببت» (٢) ، و«المرء مع من أحبّ» (٣). فنحن نرى إذن أنّ المثال الّذي نتناوله بالبحث ليس سوى حالة

__________________

(١) النّساء : ٦٩.

(٢) انظر ، الكافي : ٨ / ٨٠ ح ٣٥ ، دعائم الإسلام : ١ / ٧٢ ، أمالي المفيد : ٣٣٩ ، صحيح ابن حبان : ١ / ٣٠٨ ح ١٠٥ ، مسند أحمد : ٣ / ١١٠ ح ١٢٠٩٦ و ١٢٧٩٢ و ١٣٤١١ ، فتح الباري : ١٠ / ٥٦٠ ، تحفة الأحوذي : ٧ / ٥١ ، فيض القدير : ٤ / ٣٢٠ ، كشف الخفاء : ٢ / ٢٦٥ ح ٢٢٨٤ ، إعانة الطّالبين : ٤ / ٣٨٥.

(٣) انظر ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري : ١٠ / ٥٥٩ ح ٥٨١٨ ، علل الشّرائع : ١ / ١٤٠ ح ٢ ، أمالي ـ

٢٦٩

خاصة لهذا المفهوم العام ، الّذي هو الحبّ في الله ، فهؤلاء الأولاد الذين لا يكتفون ببنوتهم الطّبيعية ، حتّى يضيفوا إليها بنوة روحية ، لما ذا لا يستطيعون أن يعملوا على تحقيق مثلهم الأعلى بإجتماعهم في الله ، كيما يحرزوا حقّ الاجتماع في نفس المنزلة مع من أتخذوهم قدوة ، حين أتبعوهم في الواقع بصورة تتفاوت في درجة كمالها؟ أليس فصلهم عنهم إنكارا لقيمة هذا الحبّ؟ .. وعليه ، فإنّ هذا الإتحاد في جنّة الله لا ينفي مطلقا التّدرج في الجزاء ، ولا يستتبع بالضرورة إختلاطا في القيم ؛ فنحن ندرك جيدا أنّ أعضاء جمعية واحدة متدرجون في مناصبهم ، مختلفون في وظائفهم ، متفاوتون في استحقاقهم ، شأن القطار الّذي يقل مجموعة مختلفة من طوائف المسافرين.

فإذا فسرنا الآية على هذا النّحو ، وقابلناها كما ينبغي بمجموع النّصوص الأخرى ، فإنّها لا تحتوي أدنى تضارب مع المبدأ العام ، مبدأ المسئولية الّتي تظل فردية ، على وجه الخصوص.

وهنالك اعتراض أخير ، قد يثار ضد هذا المبدأ ، وهو ما يمكن أن يستقى من فكرة (الشّفاعة) بمعنى (التّوسط عند الله يوم القيامة ، سواء من ناحية الملائكة ، أو الأنبياء ، من أجل الصّالحين ، أو من ناحية المؤمنين من أجل إخوانهم). وهي فكرة نجد أصلها في كثير من الأحاديث الّتي عرفت بأنّها صحيحة (١).

__________________

ـ الطّوسي : ٦٢١ ، أمالي الصّدوق : ٢٥٢ ، صحيح مسلم : ٤ / ٢٠٣٢ ح ٢٦٣٩ ، صحيح ابن حبان : ٢ / ٣١٦ ح ٥٥٧ ، موارد الظّمآن : ١ / ٦٢١ ح ٢٥٠٦ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٥٩٥ ح ٢٣٨٥ ، مسند أحمد : ٣ / ٢٦٨ ح ١٣٨٥٤ ، مسند أبي يعلى : ٥ / ٢٧٠ ح ٢٨٨٨.

(١) لقد أرسل الله الأنبياء ، والرّسل مبشرين ، ومنذرين ، وبعثهم للخلق رحمة ، وهداة للناس أجمعين ، ثم ـ

٢٧٠

__________________

ـ أرسل على فترة منهم رسولا عظيما ، ونبيا رحيما ، يحرص على هداهم رحمة بهم ، ويدعوهم إلى ما فيه سعادتهم ، وحياتهم شفقة عليهم : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) التّوبة : ١٢٨ ، وما كانت هذه الشّفقة ولا تلك الرّحمة إلّا من فيض العطايا الرّبانية ، والمنح الإلهية الّتي جاد بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لخير الإنسانية وسعادة البشرية (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) الإسراء : ٢٠ ، ولذلك فإنّها تضاعف وتزداد في الآخرة إكراما لنبيه ، وتقديرا لسمو منزلته ، ورحمة منه لعباده عزوجل (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) الأحزاب : ٤٣ ، وإذا كان يوم القضاء ، واشتد الكرب ، وهال الأمر ، وعظم الموقف ، وتمنى الخلائق أن لو انصرفوا من شدة هذا الهول ، وجلال القيامة ، وزلزلة السّاعة ، وفزع النّاس إلى الأنبياء ، والرّسل وأحالوهم بدورهم على نبي الرّحمة ، وشفيع الأمّة ، ومغيث الخلائق ، تجلت الرّأفة ، وتدفقت الشّفقة ، وتحركت العواطف للأخذ بيد المتوسلين ، وإنقاذ المستشفعين ، والإستجابة للمستغيثين ، ولا عجب فإنّه كعبة الفضل ، وقبلة الرّجاء ، وغاية الأمم ، ومحط الآمال ، فالتوجه والإستغاثة والإستشفاع به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبغيره من الأنبياء ، والأولياء ، والصّالحين ليس له عند المسلمين ، وفي قلوبهم غير ذلك المعنى المشار إليه : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) الزّمر : ٤٤ ، إنّه لم يعطها لما عبد من دونه ، ولا لمن عبد وكان راضيا ، فالقصر في هذه الآية إضافي ، المراد منه نفي شفاعة الأوثان في عابديها ، ونفي شفاعة جميع المعبودين في عابديهم.

فقد روى أحمد ، والتّرمذيّ ، وابن ماجه عن أبي سعيد الخدريّ قدس‌سره قال : «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» ، كما جاء في المعجم الأوسط : ٥ / ٢٠٣ ح ٥٠٨٢ ، شرح سنن ابن ماجه : ١ / ٧٦ ح ٢٤٤٥ ، العلل المتناهية : ٢ / ٩٢١ ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله «وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ ، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي ، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفع ولا فخر» ، انظر ، تفسر القرطبي : ٤ / ٨٤ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٥٦١ و : ١٤ / ١٣٥ ، صحيح ابن حبان : ١٤ / ٣٩٢ ح ٦٤٧٥ ، المستدرك على الصّحيحين : ١ / ٨٣ ح ٨٢ ، موارد الظّمآن : ١ / ٥٢٣ ح ٢١٢٧ ، وروى البزار ، والطّبرانيّ عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أشفع لامتي حتّى ينادي ربي تبارك تعالى فيقول : قد رضيت يا محمّد؟ فيقول : إي ربي رضيت». انظر صحيح مسلم : ١ / ١٣٤ مطبعة محمّد عليّ صبيح وأولاده ط ، مصر ، والمستدرك على الصّحيحين للإمام الحافظ أبي عبد الله الحاكم النّيسابوريّ ، وبذيله التّلخيص للحافظ الذهبيّ : ١ / ٦٦ ط دار المعرفة ـ بيروت لتجد الكثير عن بحث الشّفاعة ، سنن التّرمذي : ٥ / ٣٠٨ ح ٣١٤٨ و ٣٦١٠ وص : ـ

٢٧١

فما دور هذا التّدخل ، وما أهميته؟ إذا حكمنا عليه قياسا على ما يحدث أمامنا في هذه الدّنيا فسوف نقول بأنّ مصير المشفوع له يمكن أن يتعرض لتغيير جذري أو لتعديل ، تحت إلحاح الشّفيع ، أو ضغطه. وأنّ هذا المصير سوف يكون شيئا آخر غير ما يستحق ، وغير ما كان قد قدر بدون هذا التّدخل. وإذن ، فهو فضل غير مستحق ، أو جزاء يأتي من خارج. وفكرة الشّفاعة بهذه الصّورة تتضمن أخطاء فادحة ، إنّها من صميم الوثنية العربية الّتي كانت مهمة الإسلام الأولى أن يجاهدها ، والّتي وقف القرآن ضدها من أوله إلى آخره. واقرأ معي هذه الآيات الكريمة :

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (١).

(ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (٢).

(وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (٣).

(لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (٤).

(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٥).

__________________

ـ ٥٨٥ ح ٣٦١٥ ، سنن الدّارمي : ١ / ٣٩ ح ٤٧ ، مجمع الزّوائد : ٨ / ٢١٥ ، السّنن الكبرى : ٤ / ٤٠١ ح ٧٦٩٠ ، مسند أحمد : ١ / ٤ ح ١٥ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ٤٥ ح ١١١ ، التّأريخ الكبير : ٧ / ٤٠٠ ح ١٧٤٨.

(١) البقرة : ٢٢٥.

(٢) يونس : ٣.

(٣) الرّعد : ٤١.

(٤) طه : ١٠٩.

(٥) الأنبياء : ٢٨.

٢٧٢

(وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) (١).

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (٢).

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (٣).

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٤).

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٥).

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٦).

ومجموع هذه النّصوص يستخلص منه تعريف يحدد مفهوم الشّفاعة ، الّذي يختلف كثيرا عن المفهوم الّذي ذكرنا آنفا. فللشفاعة في هذه النّصوص ثلاثة شروط :

١ ـ أنّ الشّفيع لا يقترح التّدخل ، ولا يسمح لنفسه بأن يتدخل من تلقاء نفسه ، وإنّما الله هو الّذي بيده الأمر ، فهو الّذي يأذن له بالكلام.

٢ ـ أنّ الشّفيع لا يتدخل إلّا من أجل من يرتضي الله سبحانه قبوله.

٣ ـ أنّ الشّفيع لا يتصرف على أساس جاهه عند الحاكم الأعلى ، بل إنّه يدافع

__________________

(١) المؤمنون : ٨٨.

(٢) سبأ : ٢٣.

(٣) الزّمر : ٤٤.

(٤) الزّخرف : ٨٦.

(٥) النّجم : ٢٦.

(٦) النّبأ : ٣٨.

٢٧٣

عن المشفوع له متوسلا ببعض فضائله ، وهو توسل ينبغي أن يطابق الواقع ، فها نحن أولاء نرى أنّ دور الشّفيع لا يعدو أن يكون دور شاهد نفي ، أو مدره موثوق به ، مهمة إكمال جهاز العدالة المعقد ، وعمل الشّفيع في هذه المهمة الجليلة أن يعلن الصّفات ، والحسنات الصّالحة الّتي تعوض سيئات المؤمنين ، وأن يبرر العفو عنهم ، أو استحقاقهم للمثوبة (١).

وهكذا نرى أنّ الشّفاعة بهذا المعنى ، تسبغ شرفا مزدوجا على المدافع والمدافع عنه. ولكن هيهات أن تكون القضية دائما رابحة. ذلك أنّ أحاديث الشّفاعة نفسها تذكر لنا حالات أخطأ فيها الشّفيع في صحة الوقائع المروية ، وحينئذ ينسحب الدّفاع ، ويتنازل عن مسعاه بمجرد علمه بالحقيقة.

__________________

(١) وهكذا نرى أنّ أحاديث الشّفاعة تضمنت خمسة أنواع من الشّفاعة كما أشرنا إليها سابقا ، وهي :

«١» الشّفاعة العامة الّتي يرغب فيها النّاس إلى الأنبياء ، نبيا بعد نبي حتّى يريحهم الله من مقامهم.

«٢» الشّفاعة في فتح الجنة لأهلها.

«٣» الشّفاعة في دخول من لا حساب عليهم الجنة.

«٤» الشّفاعة في إخراج قوم من أهل التّوحيد من النّار.

«٥» الشّفاعة في تخفيف العذاب عن بعض أهل النّار.

ويبقى نوعان يذكرهما كثير من النّاس :

«آ» الشّفاعة في قوم استوجبوا النّار فيشفع فيهم أن لا يدخلوها. وهذا النّوع لم أقف إلى الآن على حديث يدل عليه ، وأكثر الأحاديث صريحة في أنّ الشّفاعة في أهل التّوحيد من أرباب الكبائر ، إنّما تكون بعد دخولهم النّار ، وأمّا أن يشفع فيهم قبل الدّخول فلا يدخلون ، فلم أظفر فيه بنصّ.

«ب» شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله لقوم من المؤمنين في زيادة الثّواب ، ورفعة الدّرجات ، وهذا قد يستدل عليه بدعاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي سلمة وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أللهمّ أغفر لأبي سلمة ، وأرفع درجته في المهديين».

انظر ، السّيرة النّبوية لابن هشام : ٢ / ٥٩ ، دار إحياء التّراث العربي بيروت ، تهذيب سنن أبي داود : باب الشّفاعة ، ح ٤٧٣٠.

٢٧٤

وهذا هو ما قاله الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه من أنّه في ذلك اليوم سوف يطلب تبرئة بعض النّاس الذين يعرفهم كأصحابه ، خلال حياته في الدّنيا ، فيقال له : «إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فيقول : سحقا سحقا» (١).

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاريّ : ٥ / ٢٤٠٦ ح ٦٢١٢ و : ٦ / ٥٨٧ ح ٦٦٤٣ ، صحيح مسلم : ١ / ٢١٨ ح ٢٤٨ و : ٤ / ١٧٩٣ ح ٢٢٩٠ ، مسند أحمد : ٢ / ٣٠٠ ح ٧٩٨٠ وص : ٤٠٨ ح ٩٢٨١ ، و : ٣ / ٢٨ ح ١١٢٣٦ و : ٥ / ٣٣٣ ح ٢٢٨٧٣ و ٢٢٩٢٤ ، الموطأ للإمام مالك : ٢ / ٤٦٢ ح ٣٢ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١٤٣٩ ح ٤٣٠٦ ، مسند الرّوياني : ٢ / ١٩٢ ح ١٠٢٢ و ١٠٥٤ ، مسند أبي يعلى : ١١ / ٣٨٨ ، المعجم الكبير : ٢٣ / ٤١٣ ح ٩٩٧ ، التّرغيب والتّرهيب : ٤ / ٢٠٦ ح ٥٤١٩ ، البيان والتّعريف : ١ / ٢٩٦ ، فتح الباري : ١١ / ٣٨٥ ، مصابيح السّنة : ٣ / ٥٣٧ ح ٤٣١٥ ، تفسير القرطبي : ٤ / ١٦٨ ، صحيح ابن خزيمة : ١ / ٦ ح ٦ ، سنن البيهقي الكبرى : ٤ / ٧٨ ح ٣٦٢ ، مسند عمر بن الخطاب : ١ / ٨٧ ، المعجم الأوسط : ٨ / ٣٠٧ ح ٨٧١٤ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ٣ / ١٩ و ١٣٦ ـ ١٤٠ و : ١٥ / ٣١٠ ح ٢٢٩١ ، فيض القدير : ٣ / ٤٥ و : ٥ / ٣٥٣ ، السّنن الأبين : ١ / ١٧٦ ، مسند أبي عوانة : ١ / ١٢٢ ح ٣٦٢.

وهذا لا يعني كلّ الصّحابة قد أحدثوا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل منهم من تشتاق إليه الجنّة ، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى عليهم ، والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في أحاديثه ، وأنّهم المقصودون في الثّناء : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) الفتح : ٢٩.

هؤلاء قاموا بمعالم الرّسالة ، وبذلوا النّصيحة ، وهذّبوا الطّرق ، وأذلّ الله بهم الكفر ، والشّرك ، وصارت بهم كلمة الله هي العليا ، وكلمة الّذين كفروا السّفلى. فصلوات الله عليهم ، وعلى أرواحهم الطّاهرة بعد ما كانوا في الحياة أولياء ، وبعد الممات أحياء.

وها هو دعاء الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لهم حيث يقول : لقد رأيت أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فما أرى أحدا يشبههم منكم ، لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا ، وقد باتوا سجّدا وقياما ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم ، كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم ، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف ، خوفا من ـ

٢٧٥

وهكذا نجد أنّ الحكم يصدر دائما تبعا لفضائل المحكوم عليه ، لا على أساس التّوسلات. ومهما بذلنا من جهود مضاعفة ، ودعوات ورجوات من أجل من نحبهم ، أو نعطف عليهم ، فلا يعدو ذلك أن يكون لفتة جميلة ، وهو واجب علينا ، ولكن ليس هذا هو الّذي سينقذهم. فإذا ما بلغت جهودنا غايتها ، واستجيبت دعواتنا ، فذلك لأنّهم يستحقون رضا الله ، تبعا لشرائعه ، ولم تكن دعواتنا سوى فرصة تتجلى فيها الإرادة المقدسة ، الّتي كانت حتّى ذلك الحين محتجبة.

ولسنا نجد في أي مكان في القرآن الكريم ثوابا مستعارا ، أو زينة مزيفة ، أو عنوانا على فراغ جواني ، فليس ثوابا إلّا ما كان ثمرة ناضجة لموقفنا المتعاطف تجاه شرع الله.

ومع ذلك فلا ننسى أنّ هذا الموقف قائم على الكيف ، أكثر منه على الكم ، فالله يقول : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (١) ، ولما كانت هذه القيمة الكيفية متعلقة بألف شرط ، فإنّ العمل الجواني بخاصة هو الّذي يصل إلى أعلى درجاتها ، ولذلك قال الرّسول : «التّقوى ههنا» ، وهو يشير بإصبعه إلى قلبه (٢) ، ومن أجل هذا لا نملك القول مسبقا بأنّ عملا معينا ستكون له هذه الميزة

__________________

ـ العقاب ، ورجاء للثواب. (نهج البلاغة تحقيق الدّكتور صبحي الصّالح : ١٤٣).

ويقول عليه‌السلام : أين إخواني الّذين ركبوا الطّريق ، ومضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟ وأين ابن التّيّهان [أبو الهيثم مالك بن التّيّهان]؟ وأين ذو الشّهادتين [خزيمة بن ثابت الأنصاري]؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم ... الّذين تلوا القرآن فأحكموه؟ وتدبّروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السّنّة ، وأماتوا البدعة ، ودعوا إلى الجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه. (المصدر السّابق : ٢٦٤).

(١) المائدة : ١٠٠.

(٢) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / ١٩٨٦ ح ٢٥٦٤ ، مكارم الأخلاق للطبرسي : ٤٦٩ ، جامع العلوم والحكم : ـ

٢٧٦

الّتي تجبّ خطأ معينا ، إذ لما كنّا لا نتصرف في نظام الموازين ، والمقاييس الّذي سيزن الله سبحانه به القلوب ، فنحن عاجزون عن أن نحكم على النّاس بنفس الطّريقة الّتي سوف يحكم الله بها عليهم ، عجزنا عن أن نحكم على أنفسنا بأنفسنا : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (١).

بيد أنّ جهلنا بالتفاصيل لا يمتد إلى المبدأ الّذي يجعل من السّلوك الفردي الأساس الوحيد للتقدير الأخلاقي وما يتبعه من أنواع الجزاء : فالله سبحانه يقول : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٢).

ولا يقولن أحد : إننا بهذه الطّريقة ننظم الكرم العلوي على نحو صارم ، فلسنا نحن ، ولكن القرآن الّذي يقول ذلك ، حين يفرق في الحقيقة بين نوعين من الفضل ، أحدهما عام ، والآخر محدود. وحين يتحدث القرآن عن النّوع الأوّل يستعمل الفعل في الماضي : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (٣) ، وهو يقدمها واقعا ضم جميع الأشياء في الدّنيا ، ولذا فإن النّاس جميعا يتمتعون بها بنفس القدر ، الطّيبون منهم ، والأشرار. هذا الفضل العام يتبع نظام الوجود ، وهو شرط في المسئولية ، وبمقتضاه يملك كلّ إنسان ، من النّاحيتين الأخلاقية ، والمادية ،

__________________

ـ ١ / ٣٢٥ ، الجرح والتّعديل : ٩ / ٣٧٥ ح ١٧٣٧ ، بحار الأنوار : ٧٠ / ١٩٩ ، مجمع الزّوائد : ١ / ٥٢ و : ٤ / ١٧٢ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ٢٤٩ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٧٧ ح ٧٧١٣ و ٨٧٠٧ ، شعب الإيمان : ٥ / ٢٨١ ح ٦٦٦٠ ، فتح الباري : ١٠ / ٤٨٣ ، الدّيباج : ٥ / ٥٠٨ ح ٢٥٦٤ ، وفي بعض المصادر : (وأشار إلى صدره ثلاث مرات).

(١) النّجم : ٣٢.

(٢) النّجم : ٣٩.

(٣) الأعراف : ١٥٦.

٢٧٧

الوسائل الضّرورية لفهم الشّرع ، والخضوع له. ولكن القرآن حين يتحدث عن النّوع الثّاني يتناوله في المستقبل : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١) ، إنّه يتبع نظام القيم ، وهو ثمن للمسئولية ، فينبغي أن يضمن إذن لأولئك الذين رعوا تكاليفهم بإخلاص ، وهو أمر طبيعي. وعلى هذا المبدأ تعتمد الحكمة القرآنية المشهورة : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٢).

ب ـ الأساس القانوني

هذا هو الشّرط الثّاني للمسئولية ، فالقرآن يعلمنا أنّ أحدا لن يحاسب على أفعاله دون أن يكون قد علم مسبقا أحكامها.

وهذا الإعلام يأتي من طريقين مختلفتين : داخلية ، وخارجية ، فقواعد القانون الأخلاقي في أكثر صورها شمولا مسجلة بشكل ما في أنفسنا ، وليس علينا ، لكي ندرك مغزاها ، سوى أن نستخدم قدراتنا ، وملكاتنا الفطرية : فنستشير عقلنا ، ونستبطن قلبنا ، أو نتبع غرائزنا الخيرة. ولما كانت معرفة هذا القانون الفطري في وسع كلّ إنسان ، على تفاوت بين الأفراد ، فإنّ هذه المعرفة تكفي قطعا لتأكيد مسئوليتنا نحو أنفسنا. ولم تنازع أكثر المدارس الإسلامية تشددا في أنّ هنالك نوعا من المسئولية الشّاملة القائمة على هذا التّكليف الفطري ، فهل يكفي هذا أيضا لإقرار مسئوليتنا عند الله؟ .. هنا تفترق المدارس. فعلى حين أنّ المعتزلة يرون ذلك ويقرونه بلا إستثناء ، وعلى حين أنّ الماتريدية

__________________

(١) الأعراف : ١٥٦.

(٢) الحجرات : ١٣.

٢٧٨

يوافقون عليه جزئيا (فيما يتعلق بالواجبات الأولية) ، فإنّ أكثر مدارس أهل السّنة ينكرونه مطلقا.

ويقولون : إننا لسنا مسئولين أمام الله ، حتّى عن واجباتنا الأساسية إلّا إذا أعلمنا بواجباتنا ، هو نفسه ، وبطريقة خاصة وإيجابية. وهؤلاء المفكرون يتمسكون بحرفية القرآن حيث يقول : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) (١) ، (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢) ، (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) (٣).

ومن المفيد جدا أن نبحث عن الأسباب في أنّ القرآن يضع هذه الشّروط المفيدة ، فلما ذا أوجب الله مطلقا على نفسه أن يعلم الشّعوب بواجباتها بوساطة الرّسل ، الوسطاء بينه وبينهم؟. ولما ذا لم يتركهم لنورهم الفطري وحده؟ .. والجواب كما يبينه القرآن : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٤). والواقع أنّ أكثرية النّاس ينتمون إلى إحدى فئتين : فإمّا أنّهم رجال أعمال مشغولون بلقمة العيش ، أو يكونون فارغين عاكفين على ملذاتهم. وعليه ، أفلا يكون من النّادر إلى أقصى حدّ أن تسنح لحظات يخطر لهؤلاء وهؤلاء فيها أن يرفعوا أبصارهم نحو السّماء ، أو أن يحولوها نحو أنفسهم؟ .. كم رجلا منا يسائل نفسه عن خير الوسائل لتثقيف الرّوح ، وتغذية القلب ، بله أن يشرع لها؟؟ وهذه

__________________

(١) التّوبة : ١١٥.

(٢) الإسراء : ١٥.

(٣) القصص : ٥٩.

(٤) النّساء : ١٦٥.

٢٧٩

الآلاف المؤلفة من شواغل الحياة اليومية الّتي تصرفنا عن هذه الأمور العلوية أليست عذرا بالنسبة لنا؟.

إنّ هذه الحجّة سوف تكون أكثر قبولا إذا ما استشهدت بضعف سلطاننا الأخلاقي. وهل كانت العقائد الزّائفة ، والعادات السّيئة الموروثة سوى طبقات سميكة تغلف ، وتحجب بصائرنا؟ ... فمن أجل أستباق هذا الأعتراض المزدوج أراد الله سبحانه أن يقوي أنوارنا الفطرية بأنوار الوحي المنزل : (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) (١).

والحقيقة أنّ الله سبحانه أوجب على نفسه أن يعلم النّاس قبل أن يحملهم مسئوليتهم ، لأنّه يرى من الظّلم تعذيب القرى الّتي تغفل عن واجباتها ، لأنّها لم تعرفها : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) (٢) ، (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) (٣).

ولكن إذا كان الأمر كذلك ، أعني إذا كان يكفي مجرد الغفلة الطّارئة ، سواء أكانت نقص أنتباه ، أو أستعصاء عادات ، لكي نعلن عدم مسئولية أناس أسوياء بصورة كاملة ، وإذا كانت العدالة الإلهية قد إلتزمت بإيقاظهم أوّلا من سباتهم بوساطة تعليم إيجابي ، فما القول إذن في الضّمائر الّتي ما زالت غائبة أو محجوبة كلية بحوادث طبيعية؟. ألا يجدر بالأحرى أن ننتظر أنتباهها ، أو يقظتها العادية ،

__________________

(١) الأعراف : ١٧٢ ـ ١٧٣.

(٢) الأنعام : ١٣١.

(٣) الشّعراء : ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

٢٨٠