دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

انتهائها في الخارج. وهكذا نجد أنّ النّيّة لا تقتصر على أنّها تدعو لعمل ، وتتوقع أن يتبعها فحسب ، بل إنّها تحتويه كنطفة ، إن لم يكن وليدا.

ولنمض إلى ما هو أبعد.

تصور عالما يكون الإنسان فيه منطويا على نفسه ، مقتصرا على تغذية آمال ، وصوغ مشروعات ، أو حتّى بذل جهود يائسة ، وافترض أنّه قضي عليه أن يدور في هذه الحلقة ، دون نظر ، أو قدرة على الواقع ـ فأيّة غاية عقلية يمكن أن نعزوها إلى خلق آلة كهذه من الأفكار غير المؤثرة ، والمشروعات المبتورة ، والمحاولات المخفقة؟.

أيكون هذا حقا هو الّنموذج المثالي لطبيعه عاقلة؟. إنّا لنعتقد على خلاف ذلك بأنّ كلّ كائن مزوّد بعقل ، مهمته على الأرض أن يخلق فيها وقائع موضوعية ممكنة ، ودوره الأخلاقي أن يطوع هذا الخلق لفكرة الخير ، حتّى يجعل الدّنيا من مرحلة إلى أخرى ـ أكثر كمالا.

ومما لا شك فيه أنّ هذه المهمة المزدوجة ، من العزم ، والتّحقيق ، والّتي ينظر إليها عموما على أنّها مقسمة بين سلطتين متميزتين في الإنسان ، يحتم الضّمير الأخلاقي الّذي لا يقبل الإنقسام وجودها في وحدة شاملة. وحتّى لو صادف جهدنا في التّنفيذ تعويقا ، أو اعترضته عقبات لا يستطاع تذليلها ، فإننا لا نتخلى عن الإحساس بهذه الضّرورة المزدوجة الدّاخلية.

والحقّ أنّه ينبغي أن نفرق هنا بين حالتين ممكنتين :

فإمّا أن يبدو لنا توقع هذه العقبات العصية في اللّحظة الّتي تتحفز فيها الإرادة

٦٠١

نحو التّنفيذ ، وبذلك يختنق عمل الإرادة في المهد ، إذ أنّه من التّناقض أن نريد ما لا يمكن إرادته.

وإمّا أن تفاجئنا هذه الإستحالة بعد أن اتخذنا القرار ، وحينئذ ، يا لها من خيبة أمل يشعر بها الإنسان الفاضل في انتظاره للقيمة الموضوعية الّتي جدّ في طلبها!! .. إنّ هذا «الدّش» (١) البارد الّذي يتعرض له حماسه أمام مشهد شرّ يريد منعه ، أو مشهد خير يرجو صنعه ـ سوف يكون مؤلما ، بقدر ما كان اهتمامه بتحقيق مثله الأعلى عظيما ، وبقدر ما كانت الحفاوة الّتي أعدّها له حارة.

ما ذا يمكن أن يقال غير أنّ الضّمير الأخلاقي في هذه الظّروف يعتبر أنّ مهمته لما تنته؟

ومهما يكن عدلا ذلك العفو الّذي يمنحه إياه مشاهد محايد ، يراعي القدرة المحدودة للطبيعة الإنسانيّة ، فإنّ الأسى الّذي يشعر به الإنسان في دخيلة نفسه هو وثيقة اتهام ضد ذاته. إنّ ذلك يعني في نظره أنّ الجهد الّذي بذله ما زالت فيه نقائص ، وكأنّما كان بوسعه أن يبذل أقصى جهده كيما يبلغ هدفه.

ولكن مهما يكن الإفتراض ، وحتّى في الحالة الّتي ينبغي فيها أن نعذر الإرادة الطّيبة المعوقة ـ هل يكون لنا الحقّ في أن نرى في هذه الحالة العاجزة نموذج العمل الأخلاقي الكامل؟ ..

الحقّ أنّه يجب علينا من وجهة نظر حقّ العفو أن نثبت فرقا في الدّرجة بين ضرورة العنصر الباطني ، وضرورة التّعبير المادي عنه. ذلك أنّ رضا الإرادة شرط

__________________

(١) الدّشّ : ليست بلغة ، ولكنها لكنه. انظر ، لسان العرب : ٦ / ٢٠٢.

٦٠٢

لازم للأخلاقية ، بحيث إنّ أقل تمرد باطني يكفي ، لا لينزع عن أصح الأعمال كلّ قيمة فحسب ، بل ليجعله إجراميا. فتلك ضرورة مطلقة ، وباطنة ، على حين أنّ عدم التّنفيذ ، أو عدم المطابقة الظّاهرية ، على الرّغم من أنّهما يبتران العمل الأخلاقي ، وينتقصان الفعل الّذي تمّ بحسن نيّة ، فإنّهما لا يدينانه إلّا حين تكون هنالك استحالة مادية ، أو جهالة لا تدفع ، وحينئذ يمكن أن يطلق عليها : ضرورة كمال مطلقة ، أو ضرورة شرطية لإستكمال مطلب الأخلاق.

لكن هذه ليست سوى وجهة نظر إضافية ، فإنّ الوضع المبدئي للواجب يقتضي عملا كاملا ، يلتزم به الإنسان بكليته ، ويمتزج فيه العنصر الأخلاقي بالمادي ، والملكة الّتي تبدع ، وتنظم بالقوة الّتي تحقق ، ويتلاقى فيه العقل الّذي يفكر ، والقلب الّذي يخلص ، واليد الّتي تعمل.

ولم يبق بعد ذلك كلّه سوى مسألة تفرض نفسها من هذه الوجهة ، وهي أن نعرف إذا ما كان هذا الإقتضاء المزدوج يخص قيمة مساوية ، أو غير مساوية لهذين الجزءين المكونين للعمل الأخلاقي الكلّي ، وذلك هو ما تجيب عنه الفقرة التّالية :

ج ـ فضل النّيّة على العمل :

ها نحن أولاء ، قد قمنا ـ إن صح هذا التّعبير ـ بتشريح العمل القائم على النّيّة ، وميزنا فيه بين طبقتين : باطنة وظاهرة : (النّيّة ، والتّنفيذ) ، ثمّ إننا غيرنا شروط كلا العنصرين ، كلّ بدوره ، حتّى ندرك درجة أهميته الخاصة في البناء الأساسي للواجب.

٦٠٣

وقد استدعى هذا التّعديل انهيارا كلّيا ، أو جزئيا في صرح الواجب ، وانتهينا إلى ضرورة وجود هذه الشّروط لبناء عمل أخلاقي كامل.

بيد أنّ هذه الطّريقة ، الّتي هي نوع من الإستدلال بالمحال ، مع الإستعانة بتحليل للتجربة الأخلاقية ـ تقدم لنا بالأحرى جانبا سلبيا من المشكلة ، حين ترينا الآثار السّيئة ، الّتي قد يحدثها غياب أحد الجزءين ، أو انحرافه. إنّها لا تفيدنا شيئا من العلم بطبيعة إسهامه الإيجابي في تحقيق الخير. ومن أجل هذا الغرض سوف نعيد الآن وضع الأمور في تركيبها البدائي ، ولسوف نحاول ـ من خلال ملاحظتنا لهذه الطّبيعة المزدوجة للعمل الأخلاقي أثناء نشاطه ـ أن نقدر بقيمتها الحقة مختلف ضروب الخير الّتي يتعين على العمل الأخلاقي أن يوجدها في العالم ، أو في أنفسنا.

ومن المقرر عموما تقسيم الواجبات إلى : واجبات نحو النّفس ، وواجبات نحو الغير ، (والواجبات نحو الله ليست في نهاية الأمر سوى واجبات نحو أنفسنا ، فطاعتنا ، أو معصيتنا لا يمكن أن تزيدا ، أو تنقصا شيئا من العظمة الإلهية وقداستها). ولما كان هناك نوع من التّقارب بين مفهوم النّيّة ، ومفهوم الواجب الشّخصي ، كما يوجد ارتباط واضح بين العمل الظّاهر ، وعلاقاتنا الإجتماعية فإنّ من الممكن بادىء ذي بدء أن نقوم بنوع من توزيع الخصائص ، بأن نعين لهذين العاملين ، الدّاخلي ، والخارجي ، منطقتين مختلفتين من مناطق التّأثير ، ومن ثمّ نخرج إلى قيمة مساوية تقريبا ، للنّيّة ، وللعمل ، وإن كان ذلك من وجهتي نظر مختلفتين : فللنّيّة دورها في إثبات ، وتأكيد طهارة القلب ، وشرف النّفس ،

٦٠٤

وفي كلمة واحدة : كمال الذات. وللعمل غايته في تأمين العيش الرّغيد لإخواننا ، وتنميته.

هذه الطّريقة في النّظر ربما تكون خاطئة من ناحيتين ، فهي تعني ، من ناحية ، أننا ننسى أنّ واجباتنا الإجتماعية لا تنحصر فقط في الأعمال الظّاهرة ، كما أنّ واجباتنا الشّخصية ، هي الأخرى لا تنحصر في الأعمال الباطنة : فإنّ علينا أن نحبّ جارنا ، وألا نحسده ، أو نحتقره .. وعلينا أن نحفظ حياتنا ، وأن نكسب عيشنا اليومي بشرف ، وأن ننظم نفقاتنا تنظيما عقليا ، دون سرف ، أو شح .. ومن ناحية أخرى سوف يكون هذا إنكارا للتماسك الّذي أثبتناه بين النّيّة ، والعمل في جميع الظّروف ، وبمناسبة كلّ واجب ، أيّا كان ، روحيا ، أو بدنيا.

والواقع أنّه يجب علينا ـ حتّى عند ما نبذل جهدا لأنفسنا ، من أجل تحسين صفتنا الأخلاقية الخاصة ـ أن نميز بين لحظتين مختلفتين : لحظة القرار بالشروع في تلك المهمة ، بإعتبارها أمرا من الشّرع ، ولحظة وضع هذا القرار موضع التّنفيذ.

ولذلك لا يصح أن تقتصر أيّة دراسة كاملة لدور النّيّة الإيجابي على مقارنة العنصر النّفسي بالعنصر البدني ؛ مقارنة النّفس بالبدن ، على ما جرت به العادة ، بل يجب أن نتصور العلاقة بين ملكة اتخاذ القرار ، وبين القدرة على التّنفيذ في كلا جانبيها ، الباطني ، والظّاهري.

وكلّما كان الأمر يتعلق بمقارنة عمل القلب ، وحركة البدن ، فلا ريب في أنّ الأخلاق الإسلاميّة تغلب الواقع القلبي على تعبيره الحسي. والحقّ أنّ القرآن

٦٠٥

يلح غالبا على دور العاملين معا ، في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) (١). وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا) (٢). وقوله : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) (٣). وقوله : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) (٤). وقوله : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (٥).

ولكن ، على حين لا نجد القرآن مطلقا يمدح عملا حسنا لا يستمد منبعه من أعماق النّفس ـ فكثيرا ما نجده يبرز بخاصة عمل القلب وحده ، سواء بإعتباره قيمة في ذاته : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) (٦) ، (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٧) ، أو بإعتباره شرطا جوهريا للسلام النّهائي : (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (٨) ، (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٩).

وإنّا لنجد هذه الميزة ، وقد فاضت على الموقف الباطني في الحديث الشّريف بخاصة ، وفي نصوص المفسرين ، وهي في هذا المجال أكثر صراحة. ولنأخذ

__________________

(١) البقرة : ٦٢.

(٢) البقرة : ٢١٨.

(٣) الأنعام : ١٢٠.

(٤) الأنعام : ١٥١.

(٥) الإسراء : ١٩.

(٦) الحجرات : ٣.

(٧) الحجّ : ٣٢.

(٨) سورة ق : ٣٣.

(٩) الشّعراء : ٨٩.

٦٠٦

على سبيل المثال فكرة : (تقوى الله) الّتي تكاثرت حولها جميع الأحكام القرآنية تقريبا ، والّتي ورد ذكرها أكثر من مئتين وعشرين مرة في القرآن.

إنّ القرآن يعني بهذه اللّفظة موقفا طائعا يحترم الأمر الإلهي ، وأنّ هذا الأمر مسموع ملبّى على أوسع معانيه : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) (١) ، وبخاصة حين يقترن بالأمر التّحريمي ، في مقابل (البرّ) : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (٢).

وهو في كلتا الحالين يبدو غالبا أنّه يستهدف طاعة كاملة ، تشترك فيها القوتان : البدنية ، والأخلاقية ، ولكن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ركز بكلّ وضوح على العامل القلبي ، الّذي يعيّنه على أنّه جوهر الفضيلة ذاته ، فقال : «إنّ التّقوى ههنا» (٣) ، وأشار إلى صدره ، مكررا قولته ثلاثا. فحين جاء من بعد ذلك مجموعة من الأخلاقيين ، مثل : الحكيم التّرمذي ، والغزالي ساروا على نهجه ، وجعلوا من هذا العنصر الباطني التّحديد الدّقيق للتقوى ، فكتب الحكيم التّرمذي يقول : «التّقوى طهارة القلب ، وطهارة الصّدر مما ذكرنا بدئا من الإزراء بالخلق ، والإحتقار لهم ، وقلة العطف عليهم ، والإحتياط لأحوالهم ، ومنح النّصيحة لهم ، والعون لهم على

__________________

(١) البقرة : ١٨٩.

(٢) المائدة : ٢.

(٣) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / ١٩٨٦ ح ٢٥٦٤ ، بحار الأنوار : ٧٠ / ١٩٩ ، جامع العلوم والحكم : ١ / ٣٢٥ ، الجرح والتعديل : ٩ / ٣٧٥ ح ١٧٣٧ ، مجمع الزّوائد : ١ / ٥٢ و : ٤ / ١٧٢ ، مكارم الأخلاق : ٤٦٩ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ٢٤٩ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٧٧ ح ٧٧١٣ و ٨٧٠٧ ، شعب الإيمان : ٥ / ٢٨١ ح ٦٦٦٠ ، فتح الباري : ١٠ / ٤٨٣ ، الدّيباج : ٥ / ٥٠٨ ح ٢٥٦٤ ، وفي بعض المصادر : (وأشار إلى صدره ثلاث مرات).

٦٠٧

عبوديتهم لله ، وأن يحدوهم على الخيرات ، ولا يدعوهم إليها ، فصاحب التّقوى بمنزلة رجل خرج من الحمام ، وقد تطهّر من الأدناس ، والأوساخ ، ولبس ثيابا بيضا ، فإذا رأى غبارا ، أو هاجت رياح ، توقّى على رأسه ، ولحيته ، وثيابه أشدّ التّوقي» (١).

ويقول الإمام الغزالي : «التّقوى صفة قلب مال عن حبّ الدّنيا ، وبذلها إيثارا لوجه الله تعالى» (٢).

ولقد يبدو غريبا أن نخص بالصدارة جانبا ذاتيا من الواجب ، وهو جانب لا يعتبر سوى مرحلة بعيدة من مراحل الخير الفعلي. والواقع أنني لا أستطيع أن أنقذ حياة جاري ، أو أوفر له حقّه في العيش الرّغيد لمجرد حبّي الباطني له. هذا صحيح. ولكن ، يجب ـ أوّلا ـ ألا نبالغ إلى غير ما حدّ ـ في دور النّتيجة النّهائية في أداء الواجب. فمن المعلوم أنّ هذه النّتيجة النّهائية لا تصدر فقط عن جهدنا الأخلاقي ، ولا عن نشاطنا البدني ، ولكنها تتطلب تعاون مجموعة كبيرة من الظّروف الطّبيعية ، وحتّى ما فوق الطّبيعية. وحينئذ يصبح واجبنا محصورا في أضيق الحدود ، فهو يقتصر على استعمال الوسائل الّتي في حوزتنا ، وليس عليه أن يوصلها إلى غايتها. ومن ثمّ فإنّ العقل ، والقلب ، والبدن ، تبدو لنا كلّها أسبابا ،

__________________

(١) انظر ، الحكيم التّرمذي ، الأكياس ، والمغترين : ٩٩ ـ ١٠٠ من المخطوطة ١٠٤ تصوف بالمكتبة الظّاهرية بدمشق ، وقد نقل المؤلف النّص بمعناه ، ورجعنا إلى الأصل فنقلناه بحرفه ، وربما التّبست عبارة التّرمذي : (وأن يحدوهم على الخيرات ، ولا يدعوهم إليها) ـ على فهم القارىء ، وأهل المراد : أنّ التّقي يحمل النّاس على الخيرات حملا بفعله ، ويدفعهم إليها ، ولا يكتفي بمجرد الدّعوة اللّسانية. والله أعلم. «المعرب».

(٢) انظر ، إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٣٥٧.

٦٠٨

يتفاوت بعدها ، أو قربها بالنسبة إلى المرحلة النّهائية ، الّتي يتمثل فيها الخير الموضوعي.

والحقّ أنّ النّشاط المادي يمكن أن يعتبر أقرب مراحل هذه الفترة في النّظام الزّمني. بيد أنّ هذا القرب الزّمني على وجه التّحديد لا يؤدي أي دور في تقديرنا الأخلاقي ، أللهمّ إلّا البرهنة على أنّه يتمتع بسببية مستقلة ، بالنسبة إلى فترة سابقة.

أمّا في حالة العكس ، فيجب أن يختلف تقديرنا ، حتّى يكون مرتبطا بهذه السّابقة الّتي أشهرت وجود هذه المجموعة كلّها من السّببية.

وبعبارة أخرى : إذا كان العنصر الأخلاقي يؤثر تأثيرا فعالا بالخير ، وبالشر ، على العنصر المادي ، فإنّ تأثيره يجب أن يقدمه على هذا الأخير ، وإن كان أكثر منه اتصالا مباشرا فيما يتعلق بالنتيجة ، وهذه فعلا هي الطّريقة الّتي ينظر بها إلى الأشياء في الأخلاق الإسلاميّة.

والواقع أنّ لحظتي نشاطنا لا تمثلان داخل هذا النّشاط مجرد علاقة تتابع في الزّمن ، بل ينظر إليهما على أنّهما مرتبطتان ارتباط السّبب بالنتيجة ، وقصار النّظر وحدهم ـ أي : أولئك الّذين لا يمتد نظرهم إلى أبعد من السّبب المباشر ـ هم الّذين يعزون إلى أقرب الأسباب كلّ الفضل في إحداث النّتيجة. ولكن ، أيكون المرء مصيبا إذا هو غلا في تقدير دور الآلة في الحضارة الحديثة ، حتّى لقدمها على العقل الّذي أبدعها ، والذراع الّتي تديرها ، والإرادة الّتي تنظمها ، وتكيفها تبعا للحالات ..؟ ..

على هذا القياس فاحكم على دور الآلة البشرية الّتي تتكون من اللّحم

٦٠٩

والعظم ، فإنّ صحة القلب تؤمّن صحة البدن ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سواء في جانبه المادي ، أم في جانبه الأخلاقي ، قال فيما رواه النّعمان بن بشير : «ألا وإنّ في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كلّه ، وإذا فسدت فسد ، ألا وهي القلب» (١).

وقال أيضا : «القلب ملك ، وله جنود ، (أو الجوارح جنوده) ، فإذا صلح الملك صلحت جنوده ، وإذا فسد الملك فسدت جنوده» (٢).

وقد علق حكيم ترمذ على هذا فكتب ، يقول : «فكذلك القلب إذا فسد ، لا يغرنّك صلاته ، وصومه ، وعمل جوارحه ، فلو أنّ جميع جوارحه تزينت بجميع الطّاعات ، ثمّ دامت تلك الطّاعات على الجوارح ، وامتدت المدة في ذلك ، فقرّت الجوارح على الطّاعات ، ولم يكن في قلبه من الغنى ما يمد الجوارح ـ بقيت الجوارح معطلة ، والقلب مغترّ ، فما ذا أغنى هذا الظّاهر على الجوارح ، وإذا كان القلب غنيا ، والجوارح معطلة ، ففي أدنى حركة من القلب يوسع الجوارح خيرا ، وبرّا» (٣).

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٢٨ ح ٥٢ ، بحار الأنوار : ٥٨ / ٢٣ ، صحيح مسلم : ١٥٩٩ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٣١٩ ح ٢٥٣١ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١٣١٨ ح ٣٩٨٤ ، حلية الأولياء : ٤ / ٣٣٦ ، منية المريد : ٢٢٤ ، تهذيب الكمال : ٢٩ / ٤١٢ ، المدونة الكبرى : ٨ / ٤٤١ ، شرح كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام لعبد الوهاب : ٦٦.

(٢) انظر ، الجامع الصّغير : ٢ / ١٩٧ ح ٥٧٥٢ و ٦١٩١ ، والرّواية المذكورة هى رواية السّيوطي. (المعرب). انظر ، الجامع لمعمر بن راشد : ١١ / ٢٢١ ، شعب الإيمان : ١ / ١٣٣ ، نوادر الاصول في أحاديث الرّسول : ٢ / ١٩٣ ، فيض القدير : ٤ / ٥٣٨ ، المصنّف لعبد الرّزاق : ١١ / ٢٢١ ح ٢٠٣٧٥ ، كنز العمال : ١ / ٢٤٠ ح ١٢٠٥ ، ميزان الإعتدال : ١ / ٥٧٨ ح ٢١٩٥ ، الكامل لابن عدي : ٢١٥.

(٣) انظر ، التّرمذي : جواب المسائل : ١٩٥ ـ ١٩٦ ـ وقد نقل المؤلف موجز النّص بمعناه. (المعرب).

٦١٠

ذلكم هو الجانب الّذي يعود إلى العمل الباطني في تحقيق الخير الموضوعي ، فهو ليس شرطا ضروريا فيه وحسب ، ولكنه سبب مؤثر بوساطة العمل الظّاهري ، الّذي ليس سوى (مكمل ، وانعكاس) للأوّل.

أضف إلى ذلك أنّ أوامر القانون الأخلاقي ليس هدفها الوحيد أن تثبت العدالة في الدّنيا ، وإنّما هدفها كذلك تقويم شخصنا ، بأن ترفعنا فوق الأشياء الأرضية ، والحياة الحيوانية.

والعمل الباطني من وجهة النّظر العامّة لم يكن سوى وسيلة بعيدة ، وسبب غير مباشر. وهو من هذه الوجهة الجديدة إمّا أن يكون غاية في ذاته ، وإمّا أن يكون المرحلة الأخيرة في السّلسلة السّببية ، فهو يتصل بالغاية النّهائية الّتي يتحقق بها هدف الواجب على وجه الكمال.

وليس معنى هذا أنّ النّشاط المادي تتوقف الحاجة إليه عند هذه النّقطة ، ولكنه يغير دوره فحسب ، أو بعبارة أدق : يصبح دوره مزدوجا : فبدلا من أن يجنح بنتائجه إلى الخارج فقط ، يستدير في الوقت نفسه إلى الدّاخل ، ليقوي استعداداتنا الفطرية ، ويزيد في تأصيلها.

ألم يؤكد القرآن أنّ الإحسان يثبت النّفس ، فقال جلّ ذكره : (يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (١) ، ويطهر الإنسان ، ويزيد في قيمته : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (٢). وهذا هو شأن الأعمال الصّالحة كلّها ، كما قال الإمام الغزالي ، فالهدف منها أساسا تغيير صفات أنفسنا : «فلا تظننّ أنّ في وضع

__________________

(١) البقرة : ٢٦٥.

(٢) البقرة : ٢٦٥.

٦١١

الجبهة على الأرض غرضا ، من حيث إنّه جمع بين الجبهة ، والأرض ، بل من حيث إنّه بحكم العادة يؤكد صفة التّواضع في القلب ، فإنّ من يجد في نفسه تواضعا ، فإذا استكان بأعضائه ، وصورها بصورة التّواضع تأكد تواضعه ، ومن وجد في قلبه رقة على يتيم فإذا مسح رأسه ، وقبله تأكدت الرّقة في قلبه». ويقول قبل ذلك الموضع : «وإذا حصل أصل الميل بالمعرفة فإنّما يقوى بالعمل بمقتضى الميل ، والمواظبة عليه ، فإنّ المواظبة على مقتضى صفات القلب ، وإرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء ، والقوت لتلك الصّفة ، حتّى تترشح الصّفة ، وتقوى بسببها ... وإن خالف مقتضى ميله ، ضعف ميله ، وإنكسر ، وربما زال ، وانمحق ، بل الّذي ينظر إلى وجه حسن مثلا ، فيميل إليه طبعا ميلا ضعيفا ، لو تبعه ، وعمل بمقتضاه ، فداوم على النّظر ، والمجالسة ، والمخالطة ، والمحاورة ، تأكد ميله ، حتّى يخرج أمره عن إختياره ، فلا يقدر على النّزوع عنه ، ولو فطم نفسه ابتداء ، وخالف مقتضى ميله لكان كقطع القوت ، والغذاء عن صفة الميل ، ولن يتأكد ذلك إلّا بالمواظبة على أعمال الطّاعة ، وترك المعاصي بالجوارح ، لأنّ بين الجوارح وبين القلب علاقة ، حتّى إنّه يتأثر كلّ واحد منهما بالآخر ، فالقلب هو المقصود ، والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود» (١).

فهذا تحليل سريع للمفهوم الإسلامي للعلاقة بين العنصر الباطن ، والعنصر الظّاهر ، ودور كلّ منهما في أي فعل أخلاقي تام. وقد استطعنا خلال هذا التّحليل أن نشهد نوعا من الحركة الدّائرية ، الّتي تصعد أوّلا من المركز إلى المحيط ،

__________________

(١) انظر ، إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧ ، طبعة الحلبي.

٦١٢

لتتجلى في صورة خير موضوعي ، ثمّ تهبط بعد ذلك من المحيط إلى المركز لتتحول إلى خير شخصي.

ولكن ، قد يقال لنا : بما أنّ «الفعل» و«رد الفعل» يتقاصان بالتبادر على هذا النّحو ، وإن اختلفت نقطتا بدئهما ، فلما ذا إذن هذا الّتميز الّذي تريد أن تخص به منهجيا العمل الباطني؟.

ونجيب عن ذلك : بأنّ الدّورين ليسا متشابهين قط. إذ أنّ العامل الباطني يصل في أهميته إلى درجة يصبح معها التّحقق المادي للعمل مدينا له مطلقا بوجوده الأخلاقي ؛ على حين أنّ الأثر الّذي يمارسه الجانب المادي على الأخلاقي ليس إلّا مكملا له ، ودعامة يمكنه أن يستغني عنها إذا لزم الأمر. فالعمل الباطني يمكنه أن يكتفي بنفسه إلى حدّ كبير.

وهناك فرق آخر ليس بأقل أهمية ، هو أنّ نشاطنا الظّاهر ، الّذي هو مرحلة وسيطة بيننا ، وبين النّاس ـ قلما يتجاوز دوره كوسيلة للوصول إلى شيء آخر ، في الخارج ، أو في الدّاخل. على حين أنّ عمل القلب ، الّذي يستطيع أن يكون وسيلة ذات فاعلية من أجل خير النّاس ـ هو في الوقت نفسه ، وفي كلّ حال ، إمّا «غاية في ذاته» ، وإمّا السّبب المباشر ، والموصل لهذه الغاية من حيث إنّه يعتبر جوهر خيرنا الشّخصي.

وبذلك نرى عيب جميع النّظريات الأخرى ، الّتي ترى أنّ العمل الأخلاقي من شأنه أن يتوجه إلى هدف معين خاص ، سواء بأن يحبس الإنسان في داخل نفسه ، أو بأن يستخدمه فقط لغايات خارجية غريبة عنه.

٦١٣

لقد بدأنا بأن ميزنا في الفعل الأخلاقي الكامل بين لحظتين : لحظة النّيّة ، ولحظة العمل ، وميزنا في هذه بين : العمل الباطني ، والعمل الظّاهري. ولقد ذكرنا حتّى الآن ما تخص به الأخلاق الإسلامية النّشاط الأخلاقي الباطني من تفوق ، وكانت مهمتنا ميسرة نسبيا ، لوفرة النّصوص الّتي تقرر هذه الحقيقة ، ولطبيعة الموضوع ذاتها. والقصد الآن أن نعرف إن كانت توجد علاقة رتيبة في الأخلاق الإسلامية بين (النّيّة) و(العمل بعامة).

فأن تكون للنّيّة قيمة امتياز بالنسبة إلى العمل الظّاهر ، فذلك ما يستخرج منطقيا من التّدرج الّذي سبق إقراره بين القلب ، والجسد. ولكن أيمكن أن يكون هذا الإمتياز ثابتا لها في مواجهة العمل الباطني؟

ليس لدينا في هذا الصّدد سوى نصّ وحيد ، هو حديث مشهور ، على الرّغم من أنّ السّند الّذي يعتمد عليه الطّبراني (١) والبيهقي ، ليصلا بالنصّ إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليس قويا ، والحديث هو : «نيّة المؤمن خير من عمله ، وعمل المنافق خير من نيته» (٢) وبعد أن ذكر أبو طالب المكي هذا النّص قال : إنّه فسر بعشرة أوجه ، كلّها مقبول ، ويتناول الغزالي في (إحيائه) أكثر هذه التّفسيرات ، فيرفضها جميعا ، ما عدا واحدا ، يعتبره الوحيد الّذي يتفق مع الهدف الحقيقي للشرع الإسلامي. وكان

__________________

(١) رواية الطّبراني هذه عن سهل بن سعد السّاعدي مرفوعا. (المعرب).

(٢) انظر ، كشف الخفاء ومزيل الالباس ، عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة النّاس للمحدث العجلوني : ٣ / ٤٣٠ ح ٢٨٣٦ ـ مكتبة القدسي. (المعرب). انظر ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٤ / ٢٨٥ ح ٦٨٤٢ ، فقه الرّضا : ٣٧٨ ، السّنن الصّغرى : ١ / ٢٠ ح ٤ ، الكافي للشيخ الكليني : ٢ / ٦٩ ح ٢ ، مجمع الزّوائد : ١ / ٦١ ، بحار الأنوار : ٧٠ / ٢١٢ ح ٤٠ ، المعجم الكبير : ٦ / ١٨٥ ح ٥٩٤٢ ، المحاسن : ٢٦٠ ح ٣١٥ ، شرح الزّرقاني : ١ / ٣٤٥ ، علل الشّرائع : ٥٢٤ ح ٢ ، فيض القدير : ٢ / ٤٥ ، أمالي الطّوسي : ٢ / ٦٩.

٦١٤

من بين ما رفضه من الآراء أن قال : «وقد يقال : إنّ النّيّة بمجردها خير من العمل بمجرده دون النّيّة ، وهو كذلك ، ولكنه بعيد أن يكون هو المراد ، إذ العمل بلا نيّة ، أو على الغفلة لا خير فيه ، والنّيّة بمجردها خير». واستطرد يقول : «بل المعنى به أنّ كلّ طاعة تنتظم بنّيّة ، وعمل ، وكانت النّيّة من جملة الخيرات ، وكان العمل من جملة الخيرات ، ولكن النّيّة من جملة الطّاعة خير من العمل ، أي لكلّ واحد منهما أثر في المقصود ، وأثر النّيّة أكثر من أثر العمل ، فمعناه : نيّة المؤمن من جملة طاعته خير من عمله الّذي هو من جملة طاعته» (١).

وإنّا لمتفقون مع الغزالي على قوة هذا التّفسير ، ولكنا حين تابعنا تعليله لم نتقدم في حلّ المشكلة الّتي تشغلنا ، فهو يقتصر في الواقع على هذا الإعتبار المشترك ، المسلم به من وجهة نظر معينة ، أعني : أنّ الغاية الأخيرة الّتي يقصدها الشّرع الإسلامي هي صحة النّفس ، وما تبقى ليس سوى وسائل لبلوغ هذا الهدف. ونحن نقول : ليكن!! .. ولكن هذا الرّجحان لو صحّ بالنسبة إلى الأعمال البدنية ، وهو صحيح ، فهل يكون كذلك في مواجهة العمل القلبي؟ .. وهل النّيّة خير من الجهد الباطني ذاته أو لا؟ ... ولما ذا هذه الأفضلية؟ .. ذلك ما لم يقله.

وعلى الرّغم مما يبدو من تناقض في تأكيد هذا الرّأي ، فإننا نرى ، مع ذلك ، أنّه مما يمكن إثباته ، أوّلا : لأنّ الشّرّاح قد حملونا على الظّن بأنّ هذه هي وجهة نظر الفقه الإسلامي ، لا بالرجوع إلى هذا النّص الّذي ضعف سنده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فحسب ، ولكن إلى القولة الأخرى الأكثر شهرة ، والأقوى إثباتا ، وهي

__________________

(١) انظر إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٣٥٥.

٦١٥

قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما الأعمال بالنّيّات» (١) ، قالوا : إنّ كلّ الأعمال ، أقوالها ، وأفعالها ، فرضها ، ونفلها ، قليلها ، وكثيرها ، الصّادرة من المكلفين المؤمنين ، صحيحة ، أو مجزئة بالنّيّات ... فلا عمل إلّا بنّيّة ... إلّا ما يستحيل دخولها فيه كالنّيّة ، ومعرفة الله تعالى ، فإنّ النّيّة فيهما محال» ... وربما أطلق (العمل) على حركة النّفس ، فعلى هذا يقال : «العمل إحداث أمر قولا كان ، أو فعلا بالجارحة ، أو بالقلب» (٢).

والآن ، كيف نسوغ هذا الرّأي؟. أو ليس من التّناقض أن نثبت في الأخلاق أشياء تتجاوز في قيمتها النّشاط الأخلاقي ذاته؟.

ـ إنّ وضع المشكلة على هذا النّحو تزييف لها ، وإحالة. فكلّ ما ندعيه هو أنّ في هذا النّشاط مجالا للتفرقة بين مرحلتين مختلفتين ، فقبل أن نلتزم بعمل ما ينبغي أن نؤكد له المبدأ ، ونضع له الخطة ، ونحدد له الوسائل ، ونرسم له الهدف. وفي كلمة واحدة : ينبغي قبل التّنفيذ أن نصله بالشريعة ، فالجانب الشّرعي يشرط ، ويسبق جانب التّنفيذ ، في الأخلاق ، أو في السّياسة.

وإذا كان دور النّيّة الحسنة على وجه التّحديد هو إختيار الحل ، من حيث هو حسن أخلاقيا ، فإنّ معنى ذلك أنّها تلتزم بالواجب بوصفه واجبا ، وبهذا الوصف صراحة.

إنّ كلّ نشاط ، حتّى أدخله في الطّوية ، وأكثره تطابقا مع القاعدة هو في ذاته نشاط محايد ، مبهم ، يمكن أن يرتدي صفة القداسة ، أو الدّنس ، الطّاعة ، أو العصيان ، الحسن ، أو القبح ، أو اللامبالاة ، تبعا للطريقة الّتي يتصوّر بها. ولقد

__________________

(١) تقدم إستخراج ذلك.

(٢) انظر ، إرشاد السّاري للقسطلاني : ١ / ٥٢ ـ ٥٣.

٦١٦

طالما ألحّ الأخلاقيون المسلمون ، حتّى فقهاء العبادات ـ على هذه الفكرة ، كما أنّ القولة المتواترة بلا شك عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليس لها من معنى غير هذا. وعليه ، فإنّ ما يصدق على إلتباس الأعمال الظّاهرة يصدق تماما على جهودنا الباطنة. فعند ما يغفل الإنسان عن أمر الشّرع ، ثمّ هو يحس تلقائيا أنّه مدفوع إلى أن يتطلب من نفسه تجردا عن المنافع الأنانية في هذه الدّنيا ، وحبّا للأقربين ، وكرما ، وإخلاصا للإنسانية ، ـ فيجب ألّا ينخدع بهذه المشاعر النّبيلة ، لأنّ هذا الإقتضاء الّذي نشعر به ، من رغبة في تحسين صفتنا ، ربما كان مفروضا علينا بتأثير نوع من النّداء الفطري ، أو بتذوقنا للكمال ، أو بمجرد الرّغبة في ممارسة قدراتنا الخلاقة ، أو لكي ننال لأنفسنا نوعا من التّطابق النّزيه في سلوكنا الظّاهري ، وبذلك نطمئن إلى أننا لن نتعثر أمام النّاس ، أو لأسباب أخرى أقل ، أو أكثر تسويغا.

والنّيّة الّتي أصطحبها في أدائي لهذه المهمة هي الّتي تعطي لجهدي الباطن معنى ، وهي الّتي تطبعه بصفته النّوعية ، وتسمه بسمتها المميزة. إنّها عصبه ، وحياته ، وهي أشبه بروح الرّوح.

د ـ هل تكتفي النّيّة بنفسها

لقد عالجنا على التّوالي ثلاث حالات :

في الحالة الأولى : كان العمل يحدث بلا نيّة ـ وهي حالة (البطلان الأخلاقي).

وفي الحالة الثّانية : كان العمل ، والنّيّة حاضرين ، ولكن يعتورهما بعض النّقص فإمّا أن تكون النّيّة سيئة ـ وهي حالة «اللاأخلاقية» ، وإمّا أن يكون العمل غير مطابق للنّيّة ـ وهي حالة «الإنحراف» الّذي يحتمل الإدانة ، أو العفو.

٦١٧

وفي الحالة الثّالثة : كان العمل ، والنّيّة حاضرين ، ومتطابقين ، ـ وهي «الأخلاقية الكاملة» ، مع أفضلية النّيّة.

والحالة الّتي بقي علينا أن نبحثها هي مقابل الحالة الأولى ، وهي الّتي تكون فيها النّيّة الأخلاقية وحدها ، غير مترجمة إلى عمل ، ونتساءل إذا ما كان للنّيّة في هذه الحال أن تكتفي بنفسها ، أعني : إن كانت تستطيع أن تؤدي دور فعل أخلاقي متكامل.

ولنذكر أوّلا المعنيين اللّذين تنطوي عليهما كلمة «نيّة» [intention] ، وهما المعنيان اللّذان أهتم أخلاقيونا بالتمييز بينهما. فقد تعني هذه الكلمة أحيانا العزم الثّابت ، الّذي لا يتوقف إلّا أمام عقبة واقعية كؤود ، ولكن الغالب أن يقصد بها مشروع في مرحلة التّدبر ، والتّردد ؛ رغبة ، أو ميل (١).

ولا حاجة بنا أن نمضي إلى تقويم المعنى الثّاني ، فإنّ الإنسان المشدود إلى عاداته اللّينة ، والّذي لا يحاول تحطيم العقبات الّتي تعترض كلّ جهد جاد ، الإنسان الّذي يجعل من كلّ ما يقلق الرّاحة عائقا ـ هذا الإنسان لا حقّ له بداهة في أن يفيد من تعاطفه مع الأعمال الطّيبة كصفة أخلاقية حميدة ، أو كإعتذار

__________________

(١) ذكر المحاسبي في كتابه (الرّعاية لحقوق الله) تحقيق الدّكتور عبد الحليم محمود ، وطه عبد الباقي سرور أنّ النّيّة على وجهين : «أحدهما قد نويت أن تخلص ، وأن لا تريد بشيء مما تفعله إلّا الله وحده ، ونويت أن تقوم فتصلي ، وأن تصبح صائما ، وأن لا تعصي الله عزوجل ، وإن عرضت لك معصية تركتها من خوف الله عزوجل ، فتلك الإرادة الّتي هي نيّة لك هي نيّة الله عزوجل.

ومعنى آخر تريد ، أو تحبّ أن تكون مخلصا ، وأنت مضيع للإخلاص ، وتحبّ أن تكون صائما ، ومن نيّتك الإفطار ، وتحبّ أن تكون مصليا ، وأنت كسلان عنها ، أو مؤثر عليها الشّغل بالدّنيا ، وتحبّ أن تدع المعاصي من خوف الله عزوجل ، والنّفس لا تسخو بالتّوبة ، فتلك إرادة محبة منك للشيء». (المعرب).

٦١٨

مقبول عن ضعفه.

ولنستفد في هذه النّقطة من الطّريقة الّتي حكم بها القرآن على بعض المتخلفين عن الهجرة من مكّة ، فقد دعي هؤلاء إلى أن يتركوا بلدهم ، حيث كان العدو مسيطرا ، ويلحقوا بإخوانهم الّذين هاجروا إلى المدينة ، ولكنهم لم يستجيبوا للدعوة ، وظلوا على مقامهم بحجة أنّهم كانوا (مستضعفين في الأرض) ولكن القرآن يعقب على ذلك بقوله : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (١) ، ثمّ يستثني منهم : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٢).

كما أنّ أحاديث النّفس ، والميل الطّبيعي الّذي يشعر به المرء تجاه لذة معينة ، حسية ، أو خيالية ، ليست أكثر حظا من النّيّة الحسنة البليدة ، فهي كلّها لا تنشيء بالنسبة إلينا عملا نحاسب عليه ، ما دامت الإرادة لم تعزم عليه ، والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فيما رواه أبو هريرة : «إنّ الله تجاوز لي عن أمّتي ، ما وسوست به صدورها ، ما لم تعمل به ، أو تكلّم» (٣).

أمّا فيما يتعلق بالنّيّة ، بالمعنى الدّقيق للكلمة ، وهي الّتي لم تترجم إلى عمل لأنّ الأحداث خالفتها ، فليست المسألة أن نعرف إن كانت لها وحدها قيمة

__________________

(١) النّساء : ٩٧.

(٢) النّساء : ٩٨ ـ ٩٩.

(٣) انظر ، صحيح البخاري : ٦ / ٢٤٥٤ ح ٦٢٨٧ ، وفي الأصل اختلاف عن هذا قال : (تجاوز لأمّتي عمّا وسوست ... أو تتكلم) ـ المعرب. انظر ، تفسير القرطبي : ٨ / ٢١١ ، سنن البيهقي الكبرى : ٢ / ٣٤٩ ح ٣٦٨٥ ، المعجم الأوسط : ٤ / ٧٤ ح ٣٦٤٨ ، شعب الإيمان : ١ / ٢٩٩ ح ٣٣١ ، فتح الباري : ١١ / ٥٥٢.

٦١٩

أخلاقية ، أو إن كانت كافية لتستوجب المثوبة ، أو العقوبة. فلا ريب مطلقا في أنّ المسئولية الأخلاقية تكون كاملة متى ما اتخذ القرار ، وذلك قوله تعالى :

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (١).

وحتّى لو أننا رجعنا في قرارنا ، وأخذنا بعكسه تماما ـ فإنّ النّيّة الأولى تكون قد أنتجت آثارها الأخلاقية ، أللهمّ إلّا إذا قابلناها بعزم مضاد.

ولكن المسألة الحقيقية هي أن نعرف إذا ما كان لقرار يتحقق كاملا ، ولقرار آخر حيل بينه ، وبين التّحقق ـ نفس القيمة الأخلاقية تماما؟. ولنترك جانبا الحالة الّتي تكون فيها هذه الحيلولة نتيجة عجز من جانبنا ؛ نتيجة ضعف الجهد ، وقصور العزم.

ومن الواضح في هذه الظّروف ، أنّ النّيّة لا ينبغي أن تعتبر بالقياس إلى الفعل في نفس الدّرجة. ولننظر في الحالة الّتي يفترض فيها أنّ طالبي الأخلاقية يستعملان استعمالا كاملا سببيتهما الإنسانيّة ، وأنّهما لا يهملان أيّة وسيلة في طاقتهما لتحقيق عمل إرادتهما. ولما كان نجاح أحدهما ، وإخفاق الآخر لا يمكن أن يعزى إلّا إلى فرصة خارجية ، مستقلة عن إرادتهما ـ فمن الممكن أن نقر بلا ريب فيما بينهما تماثلا كاملا.

بيد أننا لا نستطيع من ناحية أخرى أن ننكر ما قد تؤدي إليه ممارسة قدرتنا التّنفيذية من قيم إيجابية ، أو سلبية ، في العالم من حولنا ، وفي أنفسنا.

ومهما قلنا : إنّ هذه الممارسة قد حظيت بظروف خارجية ، فإنّ الواقع أمامنا يؤكد : أنّها على الرّغم من أنّها أصبحت ممكنة بفضل الطّبيعة ، فإنّها ما زالت

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

٦٢٠