دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

عدم رد سباب المشركين.................................................... ٩٥٢

تجنب مجالسة الخائضين في آيات الله......................................... ٩٥٢

عدم الإكثار من الحلف بالله................................................. ٩٥٢

احترام اليمين متى حلف.................................................... ٩٥٣

دوام ذكر الله............................................................. ٩٥٣

تسبيحه ، وتكبيره......................................................... ٩٥٣

أداء الصّلاة ، والمفروضة.................................................... ٩٥٣

حجّ البيت (على الأقل مرة في العمر)........................................ ٩٥٤

دعاء الله بين الخوف ، والأمل............................................... ٩٥٥

التّوبة إلى الله ، وإلتماس مغفرته.............................................. ٩٥٥

وأخيرا حبّ الله........................................................... ٩٥٥

وأن يكون حبّه فوق كلّ شيء............................................... ٩٥٥

اجمال أمهات الفضائل الإسلاميّة............................................. ٩٥٧

«بعض أمهات الفضائل الّتي يميز بها القرآن المسلم الحقّ»....................... ٩٥٩

٢١
٢٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة المحقق

علم الأخلاق ، أو ما يسمى بعلم القلب ، هو أحد افراد العلوم ، بل هو أصلها ، واساسها الّذي عليه مدارها ، بل هو رأيها ، وهو الممدوح في الآيات ، والرّوايات ، فقد قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (١) وقال تعالى (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (٢) ، فإنّ الخشية ، والأنذار إنّما يترتب على علوم الآخرة لأنّ علم الأخلاق هو تحلية النّفس بالفضائل ، وتخليتها من الرّذائل ، ومراقبة النّفس ، ومحاسبتها ، زيادة على ما يتوقّف عليه تحصيل الأخلاق الواجبة ، فمزاولة علم الأخلاق هو العلاج النّفسي ، وهو الّذي يتكفل بدواء الرّوح ؛ ولذا شرفه بعض الحكماء على علم الطّب الّذي وضع لعلاج أمراض البدن ، فكما أنّ العقل يحكم بلزوم علاج أمراض البدن ، وحفظه عن الهلاك ، فكذلك يحكم بلزوم علاج أمراض النّفس ـ أي القلب ـ وحفظ سلامته بطريق أولى ؛ لأنّه هو

__________________

(١) فاطر : ٢٨.

(٢) التّوبة : ١٢٢.

٢٣

الباحث عن الملكات الإنسانية المتعلقة بقواه النّباتية ، والحيوانية ، والإنسانية ، وتميز الفضائل منها من الرّذائل ليستكمل الإنسان التّحلي ، والأتصاف بها سعادته العلمية ، فيصدر عنه من الفضائل ما يجلب الحمد العام ، والثّناء الجميل من المجتمع الإنساني ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (١).

وأعلم ، أنّ صاحب الأخلاق السّامية صاحبه هو الله الّذي لا يفارقه في حضره ، وسفره ، ونومه ، ويقظته ، بل في حياته ، وموته ، هو ربّه ، ومولاه ، وسيّده ، وخالقه. ومهما ذكره فهو جليسه إذ قال تعالى في الحديث القدسي : «أنا جليس من ذكرني» (٢). ومهما إنكسر قلبه حزنا على تقصيره في حقّ دينه فهو صاحبه ، وملازمه ، إذ قال أنّا عند المنكسرة قلوبهم (٣). فلو عرفه حقّ المعرفة لاتخذه صاحبا ، وجليسا ، وأنيسا ، وترك النّاس جانبا. فإن لم يقدر على ذلك في جميع أوقاته فايّاه أن يخلي ليله ، ونهاره عن وقت يخلو فيه بمولاه ، ويتلذذ بمناجاته. وأدى الصّحبة مع الله عزوجل على ما قاله بعض العلماء (٤).

__________________

(١) انظر ، كنز العمال : ٣ / ١٦ ح ٥٢١٧.

(٢) انظر ، الكافي : ٢ / ٤٩٦ ، تفسير القرطبي : ٤ / ٣١١ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ١ / ١٠٨ ح ١٢٢٤ ، الجامع الصّغير : ١ / ٣٠٤ ح ٥٥٧ ، صفوة الصّفوة : ٣ / ١٦٠ ، كتاب الزّهد لابن أبي عاصم : ١ / ٦٨.

(٣) انظر ، بحار الأنوار : ٧٠ / ١٥٧ باب ١٢٥ ، كتاب الزّهد الكبير : ٢ / ١٦٢ ح ٣٦٧ ، كتاب الزّهد : ١ / ٧٥ ، حلية الأولياء : ٢ / ٣٦٤ ، كشف الخفاء : ١ / ٢٣٤ ، صفوة الصّفوة : ٢ / ٢٩٣.

(٤) انظر ، في هذا المطلب كتب الآداب ، والعرفان الّتي ألّفها علماؤنا الأعلام في هذا المجال منها : الآداب المعنوية للسيد الإمام الخميني قدس‌سره ، الفصل الأوّل في التّوبة إلى عزّ الرّبوبية ، وذّل العبودية ، ففيه إن شاء الله تعالى ما يغني.

٢٤

عملنا في الكتاب

من حسن الحظ أنّ الكتاب الّذي قام عملنا عليه هذا ، يقع في (٧٨٠) صفحة من النّوع الكبير ، وقد طبعت النسخة الفرنسية من قبل مشيخة الأزهر الشّريف سنة (١٩٥٠ م) وقد طبع الطّبعة الأولى ، بعد أنّ عرب إلى العربية من قبل الدّكتور عبد الصّبور شاهين ، سنة (١٣٩٣ ه‍ ـ ١٩٧٣ م) ، في مؤسسة الرّسالة ، بيروت ، وطبع بالافست في دار البحوث العلمية بالكويت ، وكذلك طبع مرة ثالثة. انصرف جل همي في تدقيق النّص على تثبيته ، وإقامته بحيث يكون أقرب إلى الصّورة المتوافرة بين يدي ، وذلك بمقارنته بكلّ المصادر الّتي أمكنني الإطلاع عليها ، والّتي تبحث في نفس الموضوعات الّتي يبحثها المصنف.

وخرجت معظم الآيات القرآنية الّتي وردت في الكتاب ، وعرضتها على المصحف الشّريف معربة إعرابا قرآنيا ، علما بأنّي وجدت بعض الآيات القرآنية غير مخرجة أصلا ، وبعضها مخرج بصورة صحيحة ، والبعض الآخر بصورة غير صحيحة ، لا في نسبة الآية إلى السّورة ، ولا في ترتيبها ـ رقمها ـ ، بالإضافة إلى أنّ المؤلف قد أقتبس في بعض الأحيان عبارته من آية قرآنية فأشرت إليها في الهامش تحت عنوان أقتباسا من الآية الكريمة ، وذكرت اسم السّورة ورقم الآية.

وارجعت الأحاديث الشّريفة إلى كتب الصّحاح ، وكتب الحديث الأخرى ، حسب المنهج المعمول فيه في كتب التّحقيق بدءا باسم الكتاب ، والجزء ، والصّفحة ، ورقم الحديث ، علما بأنّ المحقق قد بذل جهدا كبيرا ، ولكنه لم يخرج الحديث بالصورة المتعارف عليها الآن ، بل اعتمد فقط على اسم الكتاب ، والباب ، فمثلا صحيح البخاري : الباب الرّابع ، أو الكتاب (كتاب الزّكاة مثلا) ، أو

٢٥

لم يخرج الحديث أصلا ، وقد أبقيت كلمة المعرب على حالها للأمانة العلمية ، رغم أنّي خرجت الجزء ، والصّفحة ، ورقم الحديث.

ثمّ إنّ تعليقي على بعض الموارد الّتي ذكرها المؤلف ، أو المعرب ، كان من باب المقارنة ، والمقايسة مع المذاهب الأخرى. وكذلك لم اكتف بمصدر واحد كما يذكر المؤلف ، بل حاولت استقصاء جهد أمكاني تثبيت المصادر الأخرى الواردة بهذا المعنى لأجل أن يتعرّف القارىء الكريم على مصادر الحديث عند المذاهب الأخرى ، وكانت لي وقفات مع المؤلف ، أو المعرب في المواقف الّتي تتطلّب ذلك ، كما في حروب الرّدة ، وغير ذلك كثير.

٢٦

المؤلف في سطور :

هو الشّيخ محمد بن عبد الله دراز (ت ١٣٧٧ ه‍) عالم ، أديب ، ولد في قرية محلة دياي بمصر ، وانتسب إلى معهد الأسكندرية الدّيني ، وحصل على الشّهادة الثّانوية الأزهرية ، وعلى شهادة العالمية ، ثم تعلم اللغة الفرنسية ، واختير للتدريس بالقسم العالي بالأزهر ، ثم أرسل في بعثة علمية إلى فرنسه ، وحصل على شهادة الدّكتوراه من السّوربون ، وعاد فاشتغل بالتدريس في جامعة القاهرة ، وفي دار العلوم ، وفي كلية اللغة العربية بالجامعة الأزهرية ، ونال عضوية هيأة كبار جماعة العلماء ، وكان عضوا في اللجنة العليا الأستشارية الثّقافية في الأزهر ، واشترك في المؤتمر العلمي الإسلامي بمدينة لاهور بالباكستان ، وتوفّي فيها فجأة في ١٦ جمادى الآخرة.

مؤلفاته :

له عدد من المؤلفات منها :

١ ـ تأريخ آداب اللغة العربية.

٢ ـ منهل العرفان في تقويم البلدان.

٣ ـ كتاب في مبادىء علم الأخلاق.

٤ ـ كتاب الدّين.

٥ ـ تفسير آيات الأحكام بالأشتراك مع درويش.

٦ ـ وهذا الكتاب الّذي بين أيدينا «دستور الأخلاق في القران» (١).

المحقق سامي الغريري

__________________

(١) انظر ، معجم المؤلفين لرضا عمر كحالة : ١٠ / ٢١٣ ، الأعلام للزركلي : ٦ / ٢٤٦.

٢٧
٢٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذه ترجمة كتاب : [La Morale Du Coran]

وضعه بالفرنسية المغفور له الاستاذ الدّكتور محمّد عبد الله دراز ، وهو الرّسالة الأساسية الّتي نال بها درجة دكتوراه الدّولة من السّوربون. وقد طبعت النّسخة الفرنسية على حساب مشيخة الأزهر الشّريف عام ١٩٥٠ م ؛ وقام بتعريبه ، وتحقيق نصوصه ، والتّعليق عليه الاستاذ الدّكتور عبد الصّبور شاهين. وقام بمراجعته الاستاذ الدّكتور السّيد محمّد بدوي.

٢٩
٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تقديم الكتاب

للاستاذ الدّكتور السّيد محمّد بدوي

عشت مع هذه الرّسالة الجامعية مرتين : مرة أثناء تأليفها ، ومرة أثناء ترجمتها.

أمّا عن تأليفها فقد كان ذلك في أوائل الأربعينات ، وكانت الحرب العالمية الثّانية قد بدأت تشتد وطأتها في أوروبا بعد هزيمة فرنسا ، وصحوة الحلفاء لوقف طغيان النّازي. وكنت مع الطّلبة العرب في باريس نلتمس في رحاب الأستاذ الجليل ما نحتاج إليه من رعاية في وقت الشّدة ، وكان هو يجمعنا في منزله في المناسبات الدّينية ، والقومية ليشعرنا بما افتقدناه من جو عائلي بسبب بعدنا عن الأوطان. وكنّا نجد عنده كرم الضّيافة العربية ، ونستمتع بأحاديثه ومناقشاته في شئون الدّين ، والعلم ، والسّياسة. وكان رحمه‌الله لا يضيق بما نثيره من آراء متطرفة أحيانا ، بل يفندها بروح العالم المستنير ، وفي سماحة ورحابة صدر ، ولا يزال بنا حتّى يقنعنا بوجهة نظره المستندة إلى البرهان العلمي والمنطقي.

ثم حظيت بشرف مصاهرته ، فازدادت صلتي به وثوقا ، ولمست عن كثب الجهود ، والخطط الّتي رسمها منذ أمد بعيد لنشر رسالة الإسلام في العالم الغربي. فعرفت أنّه كان قد أتقن الفرنسية إبّان طلبه للعلم في الأزهر الشّريف استعدادا لذلك اليوم الّذي يقوم فيه بواجبه العلمي ، والدّيني. فما أن وطأت قدمه أرض فرنسا حتّى بدأ في تحقيق

٣١

خطته ؛ ولم ينتهج الطّريق السّهلة الّتي انتهجها غيره بالشروع في تحضير رسالة الدّكتوراه رأسا ، بل فضل أن يسير في الطّريق الأكاديمي من بدايته ، ويفعل ما يفعله طلاب العلم من الفرنسيين الذين يعدون أنفسهم إعدادا أكاديميا رصينا. فالتحق بالسوربون للتحضير لدرجة الليسانس ، ودرس الفلسفة ، والمنطق ، والأخلاق ، وعلم النّفس ، وعلم الاجتماع على أيدي أساتذة السّوربون ، والكوليج دي فرانس من أمثال ماسينيون ، وليفي بروفنسال ، ولوسن ، وفالون ، وفوكونيه. ونجد أثر هذا التّكوين العلمي الرّصين في رسالته حيث لم يكتف بتوضيح وجهة النّظر الإسلامية ، بل كان يجليها بمقارنتها بآراء المفكرين والفلاسفة ، وكان لا يترك مناسبة إلا استعرض فيها رأي عالم من علماء الغرب ، أو نظرية من النّظريات السّائدة ، ثمّ يبيّن ما في هذه النّظرية أو في ذلك الرّأي من قصور أو خطأ ، ويعقب ذلك ببيان كمال النّظرية الأخلاقية في القرآن الكريم.

وقد استغرقت كتابة هذه الرّسالة ما يقرب من ست سنوات. ويبدو أنّ العالم الجليل قد شرع فيها في عام (١٩٤١ م) بعد أن انتهت حملة فرنسا ، وعاد إلى باريس بعد سنة أمضاها في بوردو (بجنوب غرب فرنسا) حين اقتربت الجيوش النّازية من العاصمة الفرنسية ، وأصبح سقوطها وشيكا ، وإذا أضفنا إلى هذه السّنوات السّت خمس سنوات قبلها أمضاها الاستاذ في التّعرف على مناهج العلوم في الغرب ، وتحضير درجة الليسانس ، فإنّه يكون قد أمضى ما بين إعداد العدة ، وتنفيذ مشروعه حوالي أحد عشر عاما. ولم تكن هذه بالفترة الطّويلة إذا قدرنا ما اكتنفها من سنوات الحرب العصيبة ، وما أثارته هذه الحرب من مشكلات مادية ، ونفسية كان الاستاذ يتحمل عبئها ، ويحاول إبعادها عن أسرته الكبيرة الّتي صحبته في غربته. وأذكر أنّه اضطر ـ أثناء هجوم الحلفاء لتحرير فرنسا ـ لقضاء أيام طويلة مع أسرته في مخبأ تحت الأرض ، كان

٣٢

يجمع فيه أوراقه الّتي يحرص عليها ، ويشتغل وسط القنابل الّتي كانت تدوي من حوله ، على ضوء شمعة ، أو مصباح خافت.

وتمت مناقشة الرّسالة أمام لجنة مكونة من خمسة من أساتذة السّوربون والكوليج دي فرانس في (١٥ / ١٢ / ١٩٤٧ م).

وظل جمهور المثقفين من العرب ، والمسلمين يسمعون عن هذا العمل القيم دون أن يستطيعوا قراءته ، والاستفادة منه ، حتّى قيض الله له أستاذا شابا من خيرة شباب العرب ، والمسلمين هو الدّكتور عبد الصّبور شاهين الّذي ندب نفسه طيلة أعوام ثلاثة ، لترجمة النّص الفرنسي إلى العربية. وقد جمع صفات ، وميزات قلمّا تتوافر لمن يتصدى لمثل هذا العمل الضّخم : فهو إلى جانب تكوينه ، وثقافته الدّينية العميقة ، أستاذ للغة العربية ، كما أنّه يتقن اللغة الفرنسية الّتي درسها دراسة جادة ، وترجم منها إلى العربية عدة كتب لعدد من العلماء والفلاسفة.

ولم يأل المترجم جهدا في أن يضع في خدمة النّص كلّ ما يستطيع من أساليب التّوثيق ، والإيضاح الّتي تخدم قارىء العربية ، وتعمق ثقافته الدّينية. من ذلك أنّه لم يكتف ـ كما فعل المؤلف ـ بالإشارة إلى الآيات القرآنية في الهامش بذكر رقم الآية ، والسّورة ، بل أخذ على عاتقه كتابة الآيات الكريمة كاملة ، وإدماجها في النّص نفسه ، وبذلك كفى القارىء مؤونة البحث في المصحف الشّريف عن تلك الآيات الّتي لا غنى عنها لتدعيم الفكرة الّتي يشرحها المؤلف. ومن ذلك أيضا ما قام به من الرّجوع إلى كتب الفقه ، والحديث ، والتّفسير ، وعلم الكلام ، لتوثيق بعض النّصوص الّتي لخصها المؤلف بالفرنسية ، وحرص المترجم على وضعها في نصها الأصلي الّذي ورد في كتب التّراث الإسلامي. وفي بعض المواضع الّتي كان المؤلف يكتفي فيها بالإشارة إلى واقعة ما ، كان المترجم يجهد نفسه للبحث عن ظروف هذه الواقعة ، ويثبتها كاملة.

٣٣

وأشهد أنّه قد بذل في التّرجمة نفسها جهدا كبيرا ، وذلك لصعوبة النّص في بعض المواضع ، ودقة الأفكار الفلسفية الّتي تعرض لها. ولا بد أنّه قد وقف ـ مثلما وقفت عند مراجعة التّرجمة ـ ساعات طويلة أمام عبارة من العبارات حتّى يطمئن إلى دقة التّرجمة ، وإلى التّعبير عن المعنى الّذي قصد إليه المؤلف.

وقد أسهمت في هذا الجهد بقدر ما أستطيع ، معتمدا على خبرتي بما عرفته من أسلوب المؤلف ، وطريقة تفكيره ، ودقته في إختيار اللفظ الّذي يعبر عن الفكرة. وأدى هذا التّعاون الوثيق بيني وبين المترجم إلى خروج التّرجمة على الصّورة الّتي نرضاها لها ، والّتي نضعها اليوم بين يدي القارىء العربي آملين في حسن تقديره.

والآن هل يسمح لنا القارىء بأن نقدم له خلاصة سريعة للأفكار الرّئيسية في الكتاب؟

إنّ الهدف الرّئيسي من هذا البحث هو إبراز الطّابع العام للأخلاق الّتي تستمد من كتاب الله الحكيم ، وذلك من النّاحيتين النّظرية ، والعملية.

أمّا عن البحث في الأسس النّظرية الّتي تقوم عليها المبادىء الأخلاقية في القرآن الكريم ، فإنّ المؤلف يعبر لنا ، دون مواربة ، عن شعوره بأنّه كان يضع قدميه لأوّل مرة على أرض لم تطأها قدم من قبل. لكن وعورة المسالك الّتي عزم ـ بمشيئة الله ـ على الخوض فيها لم تضعف من عزيمته ، بل كانت حافزا له على تحدي الصّعاب في سبيل خدمة دين الله الحنيف.

وهو لا ينكر أنّ عددا من فقهاء المسلمين قد بحثوا في مقاييس الخير والشّر ؛ وأنّ عددا من رجال الشّرع قد تكلموا في شروط المسئولية ؛ وأنّ بعض الأخلاقيين قد ناقشوا جدوى «الجهد الإنساني» وضرورة «النّيّة الطّيبة» غير أنّ هذه الجهود الّتي لا ينكر أحد قيمتها ظلت مبعثرة في بطون الكتب الّتي لم تقتصر على معالجة الأخلاق ،

٣٤

بل غلبت عليها آراء أخرى في الفقه ، والشّريعة ، وعلوم الدّين ، واللغة. كما أنّ النّظرية الّتي أراد هؤلاء المفكرون أن يبرزوها كانت تعتمد إلى حد كبير على الرّأي الشّخصي ، أو كانت تعبر عن اتجاه المدرسة الفكرية الّتي ينتمي إليها صاحب النّظرية ، ولم تكن الاستعانة بالآيات القرآنية إلّا من قبيل الاستشهاد بها في تأييد هذا المبدأ ، أو ذاك.

أمّا مؤلفنا فقد وضع نفسه منذ اللحظة الأولى على أرض الأخلاق ، وأخذ يعالج المسائل الأخلاقية الواحدة بعد الأخرى ، بحسب المفاهيم ، والمعايير الّتي تعالج بها عند علماء الأخلاق المحدثين. ومن ناحية أخرى نجده يعني بمناقشة الحلول الّتي جاء بها بعض المفكرين في الشّرق ، أو الغرب ، متخذا من آرائهم ، ومبادئهم ، وسيلة للمقارنة. وهو أثناء ذلك كلّه يجعل من القرآن دائما نقطة ارتكازه ، ويعتمد في استخلاصه للإجابة الشّافية على المسائل المطروحة ، اعتمادا مباشرا على النّصوص القرآنية.

وهنا ، في الحقيقة ، وجد الصّعوبة. إذ أنّ القرآن الكريم ـ كما نعرف ـ ليس كتاب فلسفة ، إذا كنّا نقصد بالفلسفة مجموعة من الأفكار نابعة من العقل ، وتتسلسل وفق منهج معين ، ويكون الغرض منها تكوين نسق من المبادىء لتفسير طائفة من ظواهر الطّبيعة ، أو الكون. إذا كنّا لا نستطيع أن نجد في القرآن هذا النّسق لأوّل وهلة ، ألّا توجد ، مع ذلك ، وسيلة لجمع العناصر والمواد الأولية اللازمة لبنائه؟ لقد سأل المؤلف نفسه هذا السّؤال بالنسبة «للمشكلة الأخلاقية» ، ووجد له من خلال بحثه الحل الإيجابي. فبعد أن نحّى جانبا الأحكام الأخلاقية الخاصة ، أخذ يتأمل في النّص القرآني الكريم باحثا عن سمات «الواجب» ، وعن طبيعة «السّلطة» الّتي ينبعث عنها «الإلزام» أو التّكليف ، وعن درجة «المسئولية» الإنسانية وشروطها ، وعن طبيعة «الجهد» المطلوب للعمل الأخلاقي ، والمبدأ الأسمى الّذي يجب أن يحفز «الإرادة» للعمل.

٣٥

وفي كلّ من هذه المسائل استطاع المؤلف أن يستخلص عددا من الصّيغ العامة الّتي تحدد رأي القرآن ، وتستوفي النّاحية النّظرية. وكان هدفه الإجابة على هذا السّؤال الجوهري : كيف يصور القرآن عناصر الحياة الأخلاقية؟ وعند ما يحتدم النّزاع بين المدارس الفكرية كان الإحتكام في جميع الحالات إلى نصوص الكتاب المنزل للإهتداء بها في الأخذ برأي معين دون سواه.

وتهيمن على الكتاب من أوّله إلى آخره فكرة رئيسية ، وهي أنّ الحاسة الخلقية انبعاث داخلي فطري ، وأنّ القانون الأخلاقي قد طبع في النّفس الإنسانية منذ نشأتها (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (١) ، والواقع أنّ الإنسان العادي يستطيع أن يميز إلى حد ما ، وفي كلّ ما يقوم به من أنواع السّلوك ، بين ما هو «خير» ، وما هو «شرّ» ، وبين ما هو «محايد» لا ينفع ، ولا يضر ؛ وذلك مثلما يميز في عالم المحسوس بين «الجميل» و«القبيح» ، و«المجرد» من كلّ تعبير. ولا يقتصر الأمر فقط على «المعرفة» بل إنّ مظهر الفعل الحسن ، أو الفعل القبيح يثير فينا مشاعر جد مختلفة ، فنمتدح بعض أنواع من السّلوك ، ونستهجن بعضها الآخر.

غير أنّ هذا القانون الأخلاقي المطبوع فينا ناقص ، وغير كاف. ليس فقط لأنّ العادة ، والوراثة ، وأثر البيئة ، والمصالح المباشرة تفسد نوازعنا التّلقائية ، وتلقي أنواعا من الظّلال على نور بصيرتنا الفطرية ، وليس فقط لأنّ شواغل الحياة في الدّنيا تستوعب الجزء الأكبر من نشاطنا الواعي ؛ بل إنّ ممارسة الأخلاق في أحسن الظّروف الملائمة تواجه صعوبة أخرى رئيسية : وهي أنّ الضّمير إذا اقتصر على مصادره الفطرية وحدها ، وجد نفسه عاجزا ، في غالب الأحيان ، عن أن يقدم في جميع الظّروف ،

__________________

(١) الشّمس : ٧ ـ ٨.

٣٦

«قاعدة» ذات طابع عام ، تستأثر باعتراف الجميع. فإذا تجاوزنا حدا معينا نجد أنّ «اليقين» الأخلاقي قد ترك مكانه للإحتمالات ، والتّردد ، والمتاهات.

وهذا هو السّبب الّذي من أجله بعث الله في النّاس ، من حين لآخر ، نفوسا متميزة ملهمة بالوحي الرّباني ، وتستطيع على مدى التّاريخ الإنساني أن تضطلع برسالة إيقاظ الضّمائر ، وإزالة الغشاوة عن النّور الفطري الّذي أودعه الله فينا. وهذه النّفوس المصطفاة ، بتعاليمها الدّقيقة الّتي تلقنها للناس ، تعمل على حصر الإختلافات بينهم في أضيق نطاق ممكن ، وخاصة بالنسبة لتقدير الحكم الأخلاقي. وهكذا يجد النّور الفطري ما يكمله ويقويه من وحي النّور الإلهي (نُورٌ عَلى نُورٍ) (١).

غير أنّ هذا التّعليم الايجابي لا يلقى علينا كأمر تعسفي ، أو تحكمي مجرد عن كلّ ما يبرره ، ويكسبه الصّيغة الشّرعية ؛ بل نجده على العكس يقدم إلينا مدعما بميزتين : فهو من ناحية يخاطب ضمائرنا ليحصل على موافقتها ، ومن ناحية أخرى يبرز «المثل الأعلى» في ذاته ليدعم به شرعيته. وهاتان الميزتان شرط مزدوج ، وضروري لتأسيس مفهوم «القانون الأخلاقي». ذلك أنّ القانون ـ أي قانون ـ إذا لم يحصل على موافقة

__________________

(١) النّور : ٣٥.

وانظر ، الحديث القدسي المروي عن ابن عباس رضى الله عنه ، في قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) ، قال كذلك قلب المؤمن يعرف الله عزوجل ، ويستدل عليه بقلبه ، فإذا عرفه ازداد نورا على نور» كما جاء في تفسير القرطبي : ٧ / ٢٦ و : ١٢ / ٢٦٣ ، أو هو (تشبيه عبد المطلب بالمشكاة ، وعبد الله والد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالزجاجة ، والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمصباح) أو المؤمن يتقلب في خمسة من النّور ، فكلامه نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى نور يوم القيامة إلى الجنة) كما جاء في تفسير ابن كثير : ٣ / ٢٩٢ ، تفسير الطّبري : ١٨ / ١٣٤ ـ ١٣٨ ، فتح الباري : ١١ / ١١٨ ، تحفة الاحوذي : ٥ / ٤٧٥ و : ٩ / ٢٦٢ ، فيض القدير : ٢ / ١٣٧ ـ ١٣٨ ، أو الحديث الوضوء المروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (الوضوء نور على نور) ، انظر ، الذكرى للسشهيد الأوّل : ٦٦ ، وسائل الشّيعة : ١ / ٣٧٧ ح ٨ ، جامع المقاصد : ١ / ٧٠.

٣٧

النّاس فإنّه يظل غريبا عنهم ، ولا يعترفون به. مثل هذا القانون يستطيع أن «يرغمهم» ؛ ولكنه لا يستطيع أن «يلزمهم» أخلاقيا. ومن ناحية أخرى إذا لم تكن موافقتنا تقوم أساسا على «الحقيقة في ذاتها» ، فإنّ القانون الّذي نخضع له لا يكون إلا حالة «شخصية» ، أو «نسبية» ؛ وكأننا بذلك نجري وراء ظل القانون ، أو نستسلم لعبادة وثن.

وهكذا نرى أنّ «الواجب» يقوم على فكرة «القيمة» الّتي نستمدها من «مثل أعلى» ؛ وأنّ «العقل» و«الوحي» مظهران لتلك الحقيقة الأساسية الّتي تعتبر المصدر الحقيقي «للإلزام الخلقي».

ننتقل الآن إلى فكرة رئيسية أخرى ألح عليها المؤلف ، وأبرزها بكل وضوح في ثنايا مؤلفه وهي : أنّه لا مكان للأخلاق بدون عقيدة. والعقيدة هنا تتصل بالأخلاق ذاتها ، ومعناها الإيمان بالحقيقة الأخلاقية كحقيقة قائمة بذاتها «تسمو» على الفرد ، «وتفرض» نفسها عليه بغض النّظر عن أهوائه ، ومصالحه ورغباته. غير أنّ موضوع هذه العقيدة يمكن تصوره بطريقتين مختلفتين : فعلى حين أنّ الملحد العقلاني يقف نظره عند فكرة جامدة ، أو عند مفهوم مجرد ، أو عند كيان أخرس لا حياة فيه ـ نجد أنّ المؤمن يتعرف في هذا النّداء الدّاخلي على صوت معبوده ، ويترجم في ثنايا قلبه الرّسالة السّماوية لخالقه. ونجده خلف الفكرة يلمح حقيقة حيّة ومؤثرة ، ويشعر أنّه مرتبط بها ارتباطا عضويا ، ويستمد منها على الدّوام القوة ، والنّور ، ويشعر نحوها بأعمق مشاعر الإحترام ممزوجة بأرق مشاعر الحبّ. هذه الشّعلة العاطفية الّتي تحرك «إيمانه العقلي» ، تغذي في الوقت نفسه «طاقاته الخلاقة». وهو حين يتوقف أو يسقط لا ييأس منه ، أنّه سيعاود الوقوف على قدميه ، ومتابعة المسيرة ، معتمدا على تلك القوة الهائلة الّتي يستمد منها العون. وبذلك يمكن القول إنّ الأخلاق لا تجد مكانا أكثر خصوبة تزدهر فيه من ضمير المؤمن. ويمكن القول ، حقيقة لا مجازا ، إنّ «الواجب

٣٨

مقدس».

واستقلال القاعدة الأخلاقية بالنسبة للفرد قد يجعل من الحياة الأخلاقية «خضوعا». غير أنّ الخضوع المطلق يعتبر نفيا «للحرية» ، وهو تبعا لذلك نفي للأخلاق ذاتها. هذه إحدى النّقاط الشّائكة الّتي تعرض لها المؤلف بالتحليل في فصله الأوّل عن «الإلزام الخلقي». وهو يؤكد أنّه لا عذر لنا في القول بأنّ ذلك الخضوع «شعوري» و«مقبول» منا بحرية تامة. إذ أننا لو سلمنا أنفسنا عن طواعية للرق ، فلا يمنع ذلك ، أو يقلل من كوننا عبيدا. وإذن فإنّ الأخلاق الحقيقية هي الّتي تضع الضّمير الإنساني في وضع متوسط بين «المثالي» و«الواقعي» ، وتجعله يدمج بينهما. وهذا الدّمج يؤدي إلى تغيير مزدوج في كليهما : ففي عالم الواقع يحدث جديد هو الإتجاه نحو الأفضل ، كما أنّ القاعدة المثالية هي الأخرى بإحتكاكها بالحقيقة الحسية تعدل نفسها لتلائم الواقع. فإذا احتدم النّزاع بين واجبين فقد يتعين أن يخلي أحدهما السّبيل أمام الآخر ؛ أو تحتم طبيعة العلاقات المركبة بين الأشياء إيجاد نوع من التّوفيق بينهما ؛ أو قد يسمح الجانب غير المحدد من القاعدة بإختيار حرّ يؤكد إنسانية الإنسان.

وهكذا نرى أنّ الإلزام الخلقي يستبعد «الخضوع المطلق» مثلما يستبعد «الحرية الفوضوية» ويضع الإنسان في موضعه الحقيقي بين «المادة» الصّرف و«الرّوح» الصّرف.

وتنبثق عن فكرة الإلزام فكرة «المسئولية» ، وهي موضوع الفصل الثّاني. وقد شرح المؤلف جوانبها الأخلاقية ، والدّينية والإجتماعية ، ثم أخذ يدرس بالتفصيل المظهر الأخلاقي لفكرة المسئولية. ونلاحظ منذ البداية أنّه عني بتأكيد فكرة رئيسية تعتبر محور البحث في هذا الموضوع ؛ وهي أنّ المسئولية ، كما أقرها القرآن الكريم تتعلق «بالشخصية الإنسانية» في معناها الكامل. فالمسئول ، حسب الشّريعة القرآنية ، «هو

٣٩

الشّخص البالغ ، العاقل ، الّذي بلغته قواعد الدّين بشأن التّكاليف ، وكان واعيا لها أثناء سلوكه». وهو مسئول عن أفعاله الخاصة الشّعورية ، والإرادية ، والّتي عقد النّيّة على القيام بها. فليس هناك مجال إذن لتحويل فضل العمل ، أو جزائه من إنسان إلى آخر ؛ وليست هناك مسئولية وراثية ، أو جماعية بمعنى أنّ الجماعة لا يمكن أن تكون مسئولة عن أفعال اقترفها عضو من أعضائها دون أن تشارك في هذه الأفعال بطريقة ما.

ومع ذلك فكلّ مواطن يعيش في مجتمع معين يحمل جانبا من المسئولية في وجود بعض الشّرور الإجتماعية. ولا يقتصر ذلك على تدخله الإيجابي في إحداث هذه الشّرور ، أو على القدوة السّيئة ؛ بل إنّ مسئولية الفرد تمتد إلى الحالة الّتي يترك فيها الشّرور تنتشر دون أن يتدخل لمنعها ، أو على الأقل لفضحها وإعلان سخطه عليها. فاللامبالاة الإجتماعية تتساوى في التّجريم مع الفعل الإيجابي ؛ والإمتناع عن إعلان الرّأي بشأن المخالف للشرع يعتبر نوعا من الإشتراك في المخالفة.

غير أنّ المسئولية تفترض قدرة التّحكم في الفعل ، أو الإمتناع عن الفعل. وهنا يثور سؤال هام : هل الإرادة الإنسانية لها بحقّ حرية الإختيار؟ لسنا في حاجة للتعرض للجدل الّذي أثارته المدارس المختلفة حول هذا الموضوع ، ويكفي في هذا المجال أن نقرر حقيقة لا جدال فيها ، وهي أنّ كلّ إنسان عاقل يعتبر دائما مسئولا عن أفعاله الإرادية ، وأساس مسئوليته هو تأكيد «حريته». وقد عبّر الفيلسوف «كانت» أحسن تعبير عن هذه الفكرة حين قال في مؤلفه «أسس متيافيزيقا الأخلاق» : «يستحيل علينا أن نتصور عقلا ، في أكمل حالات شعوره ، يتلقى بشأن أحكامه توجيها من الخارج ... فإرادة الكائن العاقل لا تكون إرادته الّتي تخصه بالمعنى الحقيقي ، إلا تحت فكرة الحرية».

غير أننا نجد الفكرة أكثر وضوحا في القرآن الكريم : فليس هناك شيء في الطّبيعة

٤٠