دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

مُعْرِضُونَ) (١).

وموجز القول ، أنّ الله لا يضل إلّا الأشرار ، (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢) ، ولا يهدي غير من يرجع إليه : (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (٣).

والتّحفظ الثّاني : أنّه في كلّ هذه الظّروف الإيجابية والسّلبية لم يقل : إنّ الإرادة الإلهية تؤثر مباشرة على فعلنا الأخلاقي ، وإنّها تقيد الإرادة الإنسانية ، أو تحل محلها ، ذلك أنّ المنح الإيجابية لفضل الله تحتوي ـ بداهة ـ من المساندة قدرا يحفظ جهدنا. إنّها الأجنحة الّتي تساعد أنفسنا على التّحليق. ذلك أنّ الله عزوجل ييسر لعباده المختارين المهمة تيسيرا واضحا ، حين يريهم الأمور على ما هي عليه ، وحين يحبب إلى قلوبهم الحقيقة ، والفضيلة ، ولكنه لا يؤدي المهمة بالنيابة عنهم ، لأنّ الكلمة الأخيرة ، المنوطة بإرادتهم لم تصدر بعد.

وكذلك الحال حين يذر الله الظّالمين يتخبطون في الظّلماء ، وهم في قبضة بعض الصّعوبات ، وذلك ليبحثوا عن المخرج منها بمجهوداتهم الخاصة ، ولم يقل أحد : إنّ الله يقهر إرادتهم بالضرورة على أن تختار الجانب الأسهل.

والمسألة الّتي يبقى علينا أن نعرفها ، والّتي تفرقت المدارس الإسلامية بصددها بطريقة واضحة هي : عند ما يطلب الله منا أن نستخدم قدرتنا على الأختيار ، بعد أن يكون قد وضع رهن تصرفنا هذه الموارد العامة ، والخاصة هل يتخلى الله عنا تماما؟ ألا يتدخل لمصلحة أي جانب؟ أو أنّه يدخل هنا ـ دون علم

__________________

(١) الأنفال : ٢٣.

(٢) البقرة : ٢٦.

(٣) الشّورى : ١٣.

٣٤١

منا ـ دافعا معينا علويا ، ومباشرا ، وفوريا ، في صورة مساعدة ، أو ترك ، أو دعم ، أو قدر ضئيل من الطّاقة ، أو فعل لا يقاوم من باب الفضل ، أو الإبتلاء ، يوجه ـ على تنوع ـ مؤشر نشاطنا ، ويحدد حركته في اتجاه ، أو آخر ، دون أن نحدس به مطلقا؟

تلكم هي المسألة الّتي لم يفصح فيها القرآن عن نفسه بطريقة واضحة ، وكافية ، بل يبدو أنّه قد إلتزم من هذا الجانب نوعا من الحذر المقصود ، ذكر له الإجابة فيما بعد : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١).

ولهذا لم يقف المسلمون الأولون من السّلف ، والمعتدلون من الخلف ، عند بحث كهذا ، إذ يعدونه غير رشيد ولا مفيد ، ويبدو لنا في الواقع أنّ المشكلة بهذه الصّورة لا يمكن أن تحل حلا واضحا بأيّة وسيلة من وسائلنا العادية ، وبأنوار العقل وحدها ، إذ كان من الواجب دائما أن نتذكر التّناقض المذكور آنفا ، بين العدالة ، والقدرة الإلهية المطلقة. ولن تحلها كذلك التّعاليم الموحاة ، بقدر ما تكون صامتة ، أو محتملة لتفسيرين ؛ ولن تحلها التّجربة ، إذ كان أحد طرفي العلاقة لا سلطان لنا عليه.

كيف نسوغ مسئوليتنا على فرض غير مستبعد نهائيا ، وهو الفرض القائل بوجود نوع من التّحديد ، يتجاوز إرادتنا ، مهما كانت درجة فاعليتها؟ إن كان ما يمكن قوله هو : أنّ الإلتجاء إلى هذا التّحديد ، واتخاذه وسيلة للتخلص من المسئولية لا يفيد في شيء ، إذ أننا لا نعلم وجوده ، ولا في أي جانب يتحقق إن

__________________

(١) الأنعام : ١٤٩.

٣٤٢

وجد.

والحقّ أنّ مسألة الحتمية العلوية لا تطرح إلّا لأجل نوع من الفضول العقلي ، وبوساطته ، وما ينشأ عنه لا يهم الجانب الأخلاقي ، ولا الإيمان ، ولا التّقوى.

فأمّا فيما يتعلق بالجانب الأخلاقي بخاصة ـ وهو موضوع دراستنا ـ فإنّ ما تهم معرفته ليس هو ما يقع في الحقيقة ، من مؤثرات تؤدي إلى حدوث الفعل ، بل هو الطّريقة الّتي يتصور بها الإنسان عمله ، والعنوان الّذي يعمل تحته ، وفي كلمة واحدة : نيته ، وقصده. فلنفحص إذن ضميرنا في لحظة إتخاذ القرار ... ألدينا في هذه اللحظة بعض هم بمعرفة ما إذا كان شعورنا الّذي لا يتزعزع بحريتنا العلمية يطابق واقعا مطلقا ، أو لا يطابقه؟. إنّ الأهتمام الّذي نوجهه إلى موضوع عملنا لا يمتصنا إمتصاصا كاملا فحسب ، بحيث لا يدع مجالا لأي هم من هذا القبيل ، وكذلك ، المسألة المطروحة ، قد لا يقتصر أثرها فقط على أن تجعلنا غير مبالين ، وقد لا تغير شيئا من موقفنا ـ ليس هذا فحسب ، ولكن حتّى لو ثبت الطّابع الوهمي لإحساسنا ، فلا بد أن يكون لنا شأن في القضية المقررة ، فهل يكون القرار الّذي إتخذناه غريبا عنا في الواقع؟ .. وهل يكون هذا القرار موحى به ، أو مملى علينا ، أو مفروضا بوساطة قوة مختفية لا نستطيع تحديد كنهها؟ ... وهل الله هو محركها الأوّل؟ .. لا أهمية لكلّ هذه التّساؤلات إذ أننا بمجرد ما نلجأ ـ في لحظة ثانية ، وبنية ثانية ـ إلى تبني القرار ، وأعتماد تنفيذه ، فإننا نصبح بهذا متضامنين مع فاعله الحقيقي. فإذا لم نكن السّبب الأخلاقي للعمل في ذاته ، جوهرا ، وصفة ، فنحن هذا السّبب على الأقل من حيث تكييف هذه الصّفة ؛

٣٤٣

فليس بسبب أنّ الله قد «أراد» لنا أن «نريد» هذا أو ذاك ، إننا قد أردناه في واقع الأمر ، لأننا لا نقصد مطلقا ، أثناء عملنا ، إلى أن يتخذنا الله سبحانه أداة الإنجاز إرادته المقدسة ، ما دمنا لا ندري شيئا عن هذه الإرادة الإلهية مقدما.

ولكنا ـ بغض النّظر عن أي إعتبار آخر ـ نرتضي فقط ، وبكلّ بساطة أن تكون تلك الإرادة في حسابنا الخاص ، ونوقع بهذا إلتزامنا. وهكذا يصبح الإنسان مسئولا ، وهو يحقق ذاته بنفسه ، كما يصبح مدينا منذ جعل من نفسه كفيلا.

وهكذا نفهم أن القرآن قد إلتزم أن يعلن مسئوليتنا أمام الله ، في نفس الآيات الّتي يبدو فيها أنّه يلحق الإرادة الإنسانية بالإرادة الإلهية بصورة كاملة. قال تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١).

وإذن فإنّ مبدأ المسئولية يظل في جميع الفروض مبدأ صحيحا دون مساس.

٣ ـ الجانب الإجتماعي للمسئولية :

وإذن ، فالشروط الضّرورية ، والكافية لمسئوليتنا أمام الله ، وأمام أنفسنا هي : أن يكون العمل شخصيا ، إراديا ، تم اداؤه بحرية (أقصد دون إكراه) ، وأن نكون على وعي كامل ، وعلى معرفة بالشرع ، أو القانون. فهل تظل هذه الشّروط صادقة مقبولة بالنسبة إلى مسئوليتنا أمام المجتمع الإسلامي ، الّذي نظمه القرآن؟ ...

لسوف نرى كيف يتجه الموقف القرآني إلى أن يتغير تغيرا محسوسا متى كان موضوعه المسئولية نحو النّاس ، وليس معنى هذا أنّ أي إنسان يستطيع أن يكون

__________________

(١) النّحل : ٩٣.

٣٤٤

مسئولا عن أي شيء ، ولكن العلاقة بين الواقع الخاضع للحكم ، والفرد المسئول تفقد هذه الدّقة في التّحديد على الفور ، فلا تعود تقتضي هذه المجموعة من الشّروط.

ومع ذلك ، فإنّ علينا أن نفرق في المجال القانوني بين المسئولية الإصلاحية (المعروفة بالمدنية) ، والمسئولية الجزائية (أو العقابية) ، فهذه الأخيرة تظل وثيقة الصّلة بالمسئولية الأخلاقية بتحديدها ، وقصرها على الإنسان البالغ ، السّوي ، عند ما يعمل عن قصد ونية.

لقد حاول بول فوكونيه [Paul Fauconnet] في دراسته الإجتماعية عن المسئولية ـ أن يبين أنّ هذا التّحديد الدّقيق الّذي نجده في المجتمعات الأوربية المعاصرة ـ هو من النّاحية التّأريخية ذو أصل قريب.

وقد بحث المؤلف أوّلا الظّروف الّتي يمكن لفرد أن يعد فيها مسئولا على سبيل الأفتراض ، فأثبت بالوقائع (المأخوذة لا عن الشّعوب البدائية فحسب ، بل عن مجتمعات أكثر إرتقاء في التّنظيم ، وحتّى وقت قريب من عصرنا) ـ أثبت أنّ الأطفال ، والمعتوهين ، وحتّى الحيوانات ، والأشياء ، كانت تعامل غالبا على أنّها مسئولة عقابيا ، وكانت تدان بهذه الصّفة.

وكتب المؤلف يقول : «فمسئولية الحيوان العقابية ليست ظاهرة بدائية ، قد تمحي أمام الحضارة ، بل إنّ العكس تقريبا هو الصّحيح ، ولقد نجد هذه المسئولية في المجتمعات الثّلاثة الّتي خرجت منها حضارتنا ، في بني إسرائيل ، واليونان ،

٣٤٥

وروما» (١) ؛ ولذلك وجدنا طبقا لأوامر التّوراة أنّ الثّور القاتل يرجم ، ولا يؤكلّ لحمه ، وهذا الأجراء مطبق حتّى لو أقر المالك بأنّه مذنب ، وعوقب بالموت (٢).

وقال لنا أفلاطون في [القوانين Les Lois] : «لو أنّ حيوانا يقتل إنسانا فإنّه يقتل ، ويرمى خارج الحدود ، ولو أنّ شيئا من الجماد يقتل إنسانا فإنّه يرمى كذلك خارج الحدود» (٣).

والأمر كذلك في روما ـ ما قبل التّأريخ ، فقد كان الجزاء المعد لنقل حدود الحقول ـ واجب التّطبيق على الثّور ، في الوقت الّذي يطبق فيه على الإنسان (٤).

ولم يبلغ الجزاء العقابي للحيوان أقصى مداه إلّا في أوروبا المسيحية بخاصة ، حين ظهرت الدّعاوى ضد الحيوانات ـ أوّلا ـ في فرنسا ، في القرن الثّالث عشر ، ثمّ تفشت كبقعة زيت في وسط أوربا واستمرت حتّى القرن الثّامن عشر ، بل حتّى القرن التّاسع عشر عند السّلافيين في الجنوب (٥).

أمّا فيما يتعلق بالأطفال (٦) والمجانين (٧) ، فإنّ الضّمير الإنساني لم ينظر إليهم دائما نظرة ظلم ، بإخضاعهم لجزاء يتفاوت في خطورته ، لا سيما في حالة قتل الإنسان ، أو الثّأر الخاص الّذي يستهدف أسرة بعينها.

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٩٥

(٢) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٩٥

(٣) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٠٦

(٤) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ١٦

(٥) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٣٦

(٦) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ١٣

(٧) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ١٤

٣٤٦

ففي قانون الألواح الإثني عشر (١) نجد أنّ مسئولية الطّفل غير البالغ مخففة بالنسبة إلى بعض الجنايات ، ولكنها ليست باطلة مطلقا (٢) ، وقد وضع جميع الذين لم يبلغوا الحلم في هذا القانون على قدم المساواة ، أمّا بعد الألواح الإثني عشر ، فقد حدث تطور أعفى الأطفال الصّغار ، ولكن هذا التّطور متأخر ، وربما كان معاصرا لهادريان [Hadrien] (٣). وفي القرن الثّامن عشر أيضا أعدم طفل في الثّامنة من عمره في إنجلترا ، من أجل القتل ، أو الحريق (٤). وقد كان على القضاة في فرنسا أن يصدروا العقوبة العادية ضد المجنون ، ثم يختص البرلمان بتخفيف هذه العقوبة ، أو إلغائها ، أمّا فيما يتعلق بجريمة الأعتداء على الذات الملكية فلا تخفيف فيها (٥). ومن هنا كانت النّتيجة الأولى القائلة : بأنّ قصر العقوبة على الإنسان البالغ السّوي يبدو نهاية ما بلغته حقبة من التّطور ، أخذت المسئولية خلالها تنحسر شيئا فشيئا (٦).

ثم يمضي المؤلف بعد ذلك يبحث ، في مجتمعات مختلفة ، الظّروف الّتي تتولد

__________________

(١) أول شريعة مكتوبة لدى الرّومان ، وضعها الحكام العشرة ، الذين سنوا شرائع الرّومان خلال القرن الخامس قبل الميلاد (٤٥٠ ق م) ، وقد نقشوها على إثني عشر لوحا من البرونز. «المعرب».

(٢) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٤٣

(٣) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٥٣ وهادريان إمبراطور روماني ، ولد في إيطاليا (٧٦ ـ ١٣٨ م) وقد شجع الآداب ، والفنون ، وأصلح الإدارة ، واتجه إلى توحيد التّشريع. «المعرب».

(٤) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٧٣

(٥) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٧٣

(٦) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٠٣

٣٤٧

عنها المسئولية العقابية من حيث الواقع ـ فيعرض أمامنا تطورا تأريخيا ثانيا لهذه الفكرة عن المسئولية ، الّتي تحولت من كونها فكرة موضوعية في البداية ، إلى فكرة ذاتية أكثر فأكثر. ثم نجده يختم بحثه قائلا ـ بعد أن صاغ عدة تحفظات فرضتها الأحداث الملحوظة ـ : عند ما يحتفظ الجزاء بصفات القصاص ، أي عند ما يكون قودا منظما ، أو بصفات الدّية [Wergeld] (١) ، أو بصفات كفارة دينية. في هذه الظّروف كلّها يكفي العمل المادي الخاطىء وحده في خلق مسئولية المتهم الّذي يتحملها ، حتّى لو كان ناشئا عن إهمال ، أو كان ذا صبغة عرضية عن طريق الصّدقة المحضة.

ولا ريب أنّ مؤلفنا لكي ينتهي إلى هذه النّتيجة العامة ـ كان عليه أن يدرس النّظام العقابي خلال حقبة من التّأريخ ، وعلى جزء من سطح الأرض رحب الإمتداد ، يضم مجتمعات ذات تكوين متنوع إلى أقصى حدّ ، ابتداء من القبائل الأسترالية ، وقبائل شمالي إفريقية ، حتّى أوربا الحديثة ، مارا بالصين ، والهند البرهمية ، وفارس ، وبني إسرائيل ، واليونان ، والجرمانيين ، والرّومان ، ومجموعة الشّعوب المسيحية ، حتّى ليقول المؤلف : ولذلك وجدنا في نظام دراكون (٢) الّذي بقي في أثينا حتّى الغزو الرّوماني ـ أنّ عقوبة القتل الخطأ (اللاإرادي) كانت النّفي المؤقت (٣).

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٧١١

(٢) دراكون : شرع في أثينا ، في القرن السّابع قبل الميلاد ، وقد أشتهر القانون الّذي وضعه بصرامة عقوباته. «المعرب».

(٣) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٠١١

٣٤٨

أمّا في أقدم القوانين الرّومانية (قانون الألواح الإثني عشر) فإنّ الضّحية ، الّذي يبتر له عضو من أعضائه ، على إثر جناية غير متعمدة ، كان يستطيع أن يجري القصاص ، إذا لم يقبل (١) الدّية.

وفي القانون الصّيني كان القاتل بطريق السّهو ، أو الصّدفة يعاقب بالجلد مئة جلدة ، وبالنفي (٢).

وفي التّوراة عوقب القاتل غير العامد بنوع من النّفي ، ومن الممكن شرعا لصاحب الدّم أن يقتله لو أنّه غادر منفاه قبل المدة المحددة (٣).

وفي القانون الكنسي كانت الكفارات القاسية تفرض خلال سنوات كثيرة للتكفير عن خطايا لا إدارية ، أرتكبت بسبب الجهل (٤).

وفي إنجلترا ، حتّى أوائل القرن التّاسع عشر ـ لم يكن القاتل غير المتعمد يفلت من الإدانة ـ علاوة على مصادرة أمواله ـ إلّا بفضل رحمة الأمير ، ويبرز هذا الوضع الأخير أيضا في القانون الفرنسي القديم (٥).

بيد أننا حين نستعرض دراسة على هذا القدر من الرّحابة (لا نهتم بتحديد زمني ، أو جغرافي ، أو عنصري) ـ تبدو لنا ملاحظة تفرض نفسها علينا ، فنتساءل : ما الفكرة الّتي سيطرت على هذا الإختيار للوثائق؟ .. ولما ذا كان الإختيار لمجتمع دون آخر ، ولعصر دون آخر ، ولجزء من مقاطعة معينة دون

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٣١١

(٢) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٠٣١

(٣) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٧٠١

(٤) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٣٣١

(٥) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie, P. ٥٣١

٣٤٩

آخر؟. وهل كان من عمل الصّدفة أن نختار فارس ، لا مصر وجزيرة العرب مثلا؟ ... ولما ذا إختيرت الهند البرهمية ، دون غيرها؟ ..

ويجيب المؤلف في مقدمته أنّه حدد حقل ملاحظاته ، بحيث لا يشمل سوى مجتمعات أمكنه بالنسبة إليها أن يؤيد الأحداث بالوثائق المؤكدة.

ولكن ، هل نحن أكثر إطمئنانا لوثائقنا عن القواعد العرفية لقبائل إفريقية الشّمالية منا عن النّظم المكتوبة لمواطنيهم؟. وعن القبائل الإسترالية منا عن جيرانهم في جزر الهند الشّرقية (أندونيسيا)؟ ، وعن «الأفستا» أو «الفيدا» ، أو قانون حمورابي منا عن القرآن؟. والحقّ أننا مندهشون مما حدث ، من أن المؤلف على طول مسيرته من الصّين إلى مراكش ، ومنذ القرن السّابع حتّى الآن ، قد سار في كلّ خطوة بمحاذاة مجتمعات إسلامية ، دون أن يقف عندها ، فكان كلّ همه أن يدور حولها ، ويتجاوزها. ومع ذلك ، فإنّ دراسة هذه المجتمعات ، الّتي لا تمثل عددا يمكن تجاهله على سطح الكرة الأرضية ، لا تحمل كثيرا من الصّعوبات ، أو التّعقيدات ، إنّهم عدة مئات من ملايين النّاس ، لديهم توافق معين فيما يتعلق بقانونهم الأساسي ، ويعيشون تحت أعيننا ، وقد عقدت أوربا معهم علاقات إقتصادية ، وسياسية دائمة.

وربما كان فوكونيه [Fauconnet] شخصيا على جهل بما يأمر به الشّرع الإسلامي في هذا الموضوع ، على الرّغم من أنّه أشار إليه إشارة غير مباشرة (١).

وقليلا ما يهمنا أن نعرف الدّافع الّذي حتم هذا الإغفال المقصود ، لكنا نلاحظ فحسب أنّ النّقص الخطير الّذي نشأ عن هذا الأغفال يقدم إلينا النّتيجتين اللتين

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Fauconnet, La Responsabilite, Etude de Sociologie,. ٢٢١ هامش : ١.

٣٥٠

أراد المؤلف تقديمهما في صورة قانون عام ـ على أنّهما صادرتان عن إستقراء غير كامل.

والواقع ـ من ناحية ـ أنّ قصر الجزاء العقابي على الإنسان البالغ السّوي ليس ذا أصل حديث مطلقا ـ في العالم الإسلامي ، فهو قديم منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ، ولم يتحرك قيد أنملة منذ إقراره ، فقد قال مؤسس الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع القلم عن ثلاثة : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن المجنون حتّى يبرأ ، وعن الصّبي حتّى يكبر» (١) ، أي أنّ الأطفال ليسوا مطلقا مسئولين حتّى يبلغوا سن الزّواج ، وكذلك المجانين حتّى يستردوا عقولهم ، فمن باب أولى الحيوانات الّتي قال فيها رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العجماء جبار» (٢). بل إنّ المدرسة الظّاهرية لتمضي إلى ما هو أبعد

__________________

(١) انظر ، سنن أبي داود : ٤ / ١٤١ ح ٤٤٠٣ ـ كتاب الحدود ـ باب ١٧ ، وصحيح البخاري : ٨ / ٢٠٤ ـ كتاب المحاربين من أهل الكفر والرّدة ـ باب ٧ ، وقد ذكره البخاري على هذا النّحو : (باب لا يرجم المجنون ، والمجنونة ـ وقال عليّ لعمر : (أما علمت أنّ القلم رفع عن المجنون حتّى يفيق ، وعن الصّبي حتّى يدرك ، وعن النّائم حتّى يستيقظ؟) «المعرب». وانظر ، مسند أحمد : ١ / ١١٨ ح ٩٥٦ وص : ١٤٠ ح ١١٨٣ وص : ١٥٥ ح ١٣٢٧ وص : ١٥٨ ح ١٣٦٠ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٢ / ٢٧٧ ح ٣٢٨٥ ، كشف الخفاء : ١ / ٥٢٣ ح ١٣٩٤ ، كتاب السّنن : ٢ / ٩٥ ح ٢٠٧٩ و ٢٠٨٠ ، المصنف لابن أبي شيبة : ٤ / ١٩٤ ، موارد الظّمآن : ١ / ٣٥٩ ح ١٤٩٦ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٢٢٥ ح ٢٢٦٩ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ٢٥١ ، سنن البيهقي الكبرى : ٤ / ٢٦٩ ح ٨٠٩١ و : ٦ / ٨٤ ح ١١٢٣٥.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٥٤٥ ح ١٤٢٨ و : ٦ / ٢٥٣٣ ح ٦٥١٤ ، رسائل المرتضى : ١ / ٤٢٥ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٣٣٤ ح ١٧١٠ ، الخلاف : ٥ / ٥٠٩ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١١ / ٢٢٥ ، (العجماء جرحها جبار). انظر ، تفسير القرطبي : ١١ / ٣١٥ ، المبسوط للطوسي : ٣ / ٩٢ ، صحيح ابن خزيمة : ٤ / ٤٦ ح ٢٣٢٦ ، سنن الدّارمي : ١ / ٤٨٣ ح ١٦٦٨ و : ٢ / ٢٥٧ ح ٢٣٧٨ ، السّرائر : ٣ / ٤٢٤ ، مجمع الزّوائد : ٣ / ٧٨ ، سنن البيهقي الكبرى : ٤ / ١٥٥ ح ٧٤٣٦ و : ٨ / ٣٤٢ ، موطأ مالك : ٢ / ٨٦٩ ، المصنّف لعبد الرّزاق : ١٠ / ٦٦ ، المعجم الأوسط : ٣ / ٣٥٥ ح ٣٣٩٠ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٧٤ ح ٧٦٩٠.

٣٥١

من ذلك في تفسير هذه النّصوص ، فهي تتجه لا إلى تخليص هذه الكائنات من العقوبة المؤلمة فحسب ، ولكن أيضا إلى إعفاء مالك الحيوان من كلّ غرم على سبيل الجزاء ، وكذلك من يحملون همّ الأطفال ، والمعتوهين (١).

ومن ناحية أخرى ، نجد أنّ تعميم صيغة فوكونيه الثّانية ـ على الرّغم من كلّ القيود الّتي أوردها ـ يبدو منهارا أمام الشّرع القرآني ، لأنّ القرآن حين يأمر بالدية ، والكفارة في حالة القتل الخطأ ـ إنّما يحمي القاتل الّذي لا إرادة له من أية عقوبة بدنية.

وبصرف النّظر عن القانون الرّوماني ، الّذي يبدو أن تطوره قد تحقق في هذا الإتجاء ، ألم يكن من الواجب على الأقل أن يستثني المؤلف ذلك النّظام الإسلامي الّذي استبعد بضربة واحدة ، وبدون تردد ، أو تحرج ، جميع الضّلالات المذكورة حول المسئولية العقابية؟.

إنّ صياغة هذا التّحفظ حول نتيجتي فوكونية ، المعممتين ـ معناه في نفس الوقت أننا نعترف للشريعة الإسلامية بصفتها الثّورية ، الّتي لا تدع نفسها للتفسير الطّبيعي بوساطة السّوابق التّأريخية ، أللهمّ إلّا إذا افترضنا بلا داع في التّأريخ العربي القديم ، الّذي لا ندري عنه شيئا ـ تطورا معينا ، كان الإسلام غايته : وهو ما يؤدي إلى تلك المناقضة القائلة بأنّ الصّحراء العربية كانت متميزة بالطبيعة ، وأنّها بدأت ، وأنهت تقدمها الإجتماعي قبل الأوان ، متقدمة في ذلك على بقية أجزاء الكرة الأرضية.

__________________

(١) انظر : ٢٩٦.

٣٥٢

ولقد قلنا دائما من وجهة نظر الشّريعة الإسلامية : إنّ المسئولية العقابية تبقى شبيهة بالمسئولية الأخلاقية ، وهو قول صحيح في كثير من الوجوه ، ومع ذلك فهي تتميز عنها بسمات جوهرية.

وأوّلها : أنّه بالرغم من أنّ العمل الدّاخلي ، والواقع الخارجي مختلطان في العقل بطريقة لا تنفصم ، فيما يتعلق بأي حكم بالمسئولية ، سواء أكانت أخلاقية أم عقابية ، إلّا أن العنصر المتحكم ، أو مركز الثّقل يغير مكانه تبعا لوجهة النّظر الّتي يؤخذ بها. فحركة الضّمير هي الّتي تهمنا بصفة أساسية في مجال المسئولية الأخلاقية ، وهي لازمة لها بصورة مطلقة.

فالعمل البدني المحض لا يمكن مطلقا أن ينشىء مسئولية أخلاقية. والعمل الإرادي لا يمكن أن ينشئها إلا متجاوبا مع نيته. وبعكس ذلك نجد أنّ العقوبة تعترض مقدما واقعا خارجيا ، وتستهدفه دائما. ذلك أنّ أشد النّوايا سوادا ، كأشدها نقاء ، كلاهما عاجز عن أن يفرض حكما بالمسئولية القانونية حين يكون مفردا ، غير مصحوب بتعبيره المادي.

وقد حدث في الحالات القصوى ، أنّ العنصر المتفوق يمكن أن يصبح العنصر الوحيد ، وهو أمر لا ريبة معه في الإطار الأخلاقي ، وإذا ما اقتضى الأمر هنا إظهار الإرادة ، فليس معنى ذلك أنّ القرار الّذي أتخذ داخليا قرار قاصر في ذاته عن أن ينشىء الواقع الأخلاقي ، ولكن ، بما أنّ التّنفيذ لا يحقق إلا امتداد القرار ، والإبقاء عليه ، وتعزيزه (كما يقيس من وجهة نظر المشاهد درجة التّصميم والفاعلية). فإنّ هذا التّنفيذ يسبب بذلك مسئوليات جديدة ، أو على وجه الدّقة

٣٥٣

يدعم ، ويفخم المسئولية المقررة من قبل (١).

فهل نجد ما يقابل ذلك في الإسلام؟. وهل يمكن الحدث الموضوعي الخالص أن يستتبع العقوبة؟. لا شك أنّ الحكم العقابي ـ كما رأينا من قبل يحتاج دائما أن يستند إلى عمل الإرادة المضاد للقانون ، كيما يسوغ صفته الجزائية. ولكن هل لنا أن نفحص الأمر بنظرة أكثر دقة؟ حينئذ سنجد أنّ القاضي عند ما يستند إلى العنصر الشّخصي بإعتباره شرطا ضروريا للإدانة فإنّه لا يفعل في الواقع سوى أن يفترض سوء النّيّة لدى المتهم ، مستنبطا إياه من بعض الإمارات الخارجية ، ومتخذا لنفسه دائما وجهة نظر موضوعية ، ذلك أنّ القاضي ، حتّى لو كان رسولا ، لا يدعي مطلقا أنّه يدرك أسرار الضّمير مباشرة ، وهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّما أنا بشر ، وإنّكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي نحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحقّ أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنّما

__________________

(١) لنذكر هنا فقط أنّه في مجال الجزاء الإلهي يبدو أنّ الأخلاق الإسلامية تفرق هنا بين الفعل الحسن ، والفعل القبيح ، فعلى حين يزيد تنفيذ الإرادة الطّيبة في أجرها ، ويضاعف لها المكافأة ، نجد أنّ تخطي الخطيئة لا تعدان عند الله سوى وجهين لعمل واحد فقط ، قال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الأنعام : ١٦٠. وروى البخاري : ٧ / ١٨٧ «فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة ، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه». وانظر أيضا في تفسير هذا الحديث ـ إحياء علوم الدّين ـ للغزالي : ٣ / ٣٩ وما بعدها ، الكافي : ٢ / ٢٧٢ ح ١٧ ، تفسير القرطبي : ١ / ٤٨٤ ، صحيح مسلم : ١ / ١١٧ ح ١٢٨ ، صحيح ابن حبان : ١٤ / ٤٥ ، تفسير ابن كثير : ١ / ١٥٣ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٧ / ٣٣٤ ، المعجم الأوسط : ٤ / ٣٤٥ ح ٤٣٩٠ ، مسند أحمد : ٣ / ١٤٨ ح ١٢٥٢٧ ، بحار الأنوار : ٧٠ / ٣٣١ ح ١٤ ، مسند الشّاميين : ١ / ٨٧ ، مسند أبي يعلى : ٦ / ٢١٨ ، المعجم الكبير : ٤ / ٢٠٦ ح ٤١٥٢ ، فتح الباري : ٧ / ٢١٦ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ٢ / ١٥١ ، الدّيباج : ١ / ١٤٥ ح ١٣٠ ، عدة الدّاعي لابن فهد الحلي : ١٩٨.

٣٥٤

أقطع له قطعة من النّار» (١).

وأخيرا ، فإنّ نوعي المسئولية (العقابية ، والأخلاقية) يختلفان كذلك ، بصورة أوضح في آثارهما ، أكثر مما يختلفان في نقطة إنطلاقهما. وإذا كان الشّر يكمن أساسا في مبدأ الإرادة ، فمن البدهي أنّ المذنب ينبغي أن تبرأ ساحته بمجرد تغييره لموقفه من القانون ، ولسوف يكون بالفعل بريئا في نظر الحكم الأعظم. ولقد أفاض القرآن وعودا جميلة لأولئك الذين يرجعون عن ذنوبهم ، فهل الأمر كذلك بالنسبة إلى الحدود الّتي تفرض في الحياة الدّنيا؟ هل تكفي التّوبة ، والنّدم ، والعدول عن الذنب لتخليص المذنب من العقوبة الّتي كان يجب أن يتعرض لها؟.

لقد واجه القرآن بالنسبة إلى حالة واحدة هذا السّؤال ، وأجاب عنه بالإيجاب ، وتلك هي حالة الّتمرد على العدالة بالقوة السّافرة (الحرابة) ، فتبعا لخطورة الحالة ـ وقد ترك القرآن للقاضي ، أو المشرع أمر تقديرها ـ يستحق المحاربون حدّ الموت ، أو تقطيع الأعضاء ، أو النّفي : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢). ولكن يجب أن نلاحظ أنّ هذه هي الحالة الوحيدة في الشّريعة الإسلامية ، برغم النّقاش الّذي أثاره هذا النّص بين

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٣ / ٢٣٥ ، سنن الدّارقطني : ٤ / ٢٣٩ ح ١٢٦ و ١٢٧ ، مسند أحمد : ٦ / ٣٠٧ ، السّنن الكبرى : ١٠ / ١٤٣ و ١٤٩ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ٢٧٧ ح ٢٣١٧ ، سنن أبي داود : ٣ / ٣٠١ ح ٣٥٨٣ ، سنن التّرمذي : ٣ / ٦٢٤ ح ١٣٣٩ ، سنن النسائي : ٨ / ٢٣٣ ، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : (قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحكم بين الناس بالبينات والأيمان في الدّعاوى فكثرت المطالبات والمظالم فقال : أيّها الناس إنّما أنا بشر ...) ، كما جاء في كتاب وسائل الشّيعة : ١٨ / ١٦٩ ، والكتب الفقهية والحديثية.

(٢) المائدة : ٣٣ ـ ٣٤.

٣٥٥

الفقهاء (١) ، فيما يتعلق بتحديد الحقوق الّتي تسقط بهذا الأعفاء.

وقد لاحظ ابن حزم بحقّ أنّ الإمام الشّافعي في مذهبه القديم الّذي كان يعلمه في العراق ـ كان يعتقد أنّه يستطيع تعميم هذه الحالة الخاصة ، وأن يجعلها مبدأ عاما يقرر أنّ التّوبة تجبّ الحدود ، ولكنه حين جاء إلى مصر وأقام بها ، وعرف من السّنة قدرا أفضل من ذي قبل تخلى عن هذه الفكرة ، فعاد ، في مذهبه الجديد إلى النّظرية العامة ، الّتي تميز في هذا الصّدد نوعين من المسئولية ، تابعتين ، كلّ على حدة ، لنظامين إسلاميين مختلفين : أحدهما ينظم الحياة الدّنيا ، والآخر يخص الحكم العلوي في الآخرة. وبذلك تظل فاعلية التّوبة في الأطار الدّيني ،

__________________

(١) على حين مدّ بعضهم هذا الإبطال إلى جميع الجزاءات المتعلقة بالحقوق العامة ، الّتي ينتهكها العصاة المحاربون ، بصرف النّظر عن ردّ الأشياء الّتي ما زالت في أيديهم ـ يستثني آخرون أيضا القاتل الّذي لم تعف عنه أسرة الضّحايا ، وفريق ثالث يتحفظ أيضا بالنسبة إلى جميع الأضرار الّتي لم يتنازل عنها أصحاب الحقّ فيها. وفريق رابع ، ومنهم الإمام مالك ، لا يخلعون على هذه التّوبة سوى أهمية ضئيلة ، ويعلقون بخاصة على أنّ هناك نوعية واستثناء في جزاء المحاربين (أعني تطبيقه على قطاع الطّرق غير القتلة ، أو اللّصوص) ، وترى هذه المدرسة الأخيرة أنّ المحاربين الذين يعودون إلى كنف المجتمع بإختيارهم يستحقون أيضا جميع العقوبات المتصلة بالحقّ العام العادي ، وكذلك بالأحوال الشّخصية ، الّتي يطلق عليها : حقّ الله ، ومثال ذلك عقوبة الخمر. «المؤلف».

وقد أعتمد المؤلف في تعديد هذه الأقوال على ما ذكره ابن رشد في (بداية المجتهد ونهاية المقتصد : ٢ / ٤٩٧) ، قال : «وأمّا ما تسقط عنه التّوبة فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال ، أحدها : أنّ التّوبة إنّما تسقط عنه حدّ الحرابة فقط ، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله ، وحقوق الآدميين ، وهو قول مالك. والقول الثّاني : أنّ التّوبة تسقط عنه حدّ الحرابة ، وجميع حقوق الله من الزّنا ، والشّراب ، والقطع في السّرقة ، ويتبع بحقوق النّاس ، من الأموال ، والدّماء ، إلّا أن يعفو أولياء المقتول. والثّالث : أنّ التّوبة ترفع جميع حقوق الله ، ويؤخذ بالدماء ، وفي الأموال بما وجد .. والقول الرّابع : أنّ التّوبة تسقط جميع حقوق الله ، وحقوق الآدميين من مال ، ودم ، إلّا ما كان من الأموال قائم العين بيده» ، وبذلك يتضح أنّ المؤلف قد خالف فقط في ترتيب الآراء المختلفة ، مع أنّه قد أحال قارئه إلى نفس المرجع. «المعرب».

٣٥٦

دون أن تتجاوزها بالضرورة إلى المجال الإجتماعي (١).

والواقع أنّ السّنة تقدم لنا حالات زنا ، يتقدم المذنبون فيها ليقروا تلقائيا بجريمتهم ، وليطلبوا بإلحاح تطبيق العقوبة عليهم ، وعليه فإنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع علمه بعظمة هذه اللّمحة منهم ، وروعة القيمة في توبتهم ـ لم يتردد في أن يوقع عليهم الجزاء المنصوص عليه في الشّرع ، وكذلك الحال في كل أعتداء يرتكب ضد شخص الغير ، أو ماله ، أو عرضه ، ثم يتوب المعتدي قبل أن يعاقب.

فالموقف الدّاخلي الّذي كان يعتمد عليه في تجريم الفعل لا قيمة له إذن حين يكون المطلوب إيقاف الآثار السّيئة الّتي حدثت من قبل ، إذ تتدخل هنا بالذات إعتبارات مختلفة ، فوق الإعتبارات الشّخصية [extraـpersonnelles] هي الّتي تفرض الجزاء ، أمّا النّدم ، والتّوبة ، والإرادة الطّيبة الّتي عادت مرة أخرى ، فربما تكفي لتحسين حال المذنب ، وتأكيد إحترامه للقانون ، ولكنها لا تكفي لتهدئة المشاعر الأليمة الّتي آثارها المذنب لدى الأشخاص الذين إنتهك حقهم المقدس

__________________

(١) نصّ هذا الموضوع كما جاء في المحلى لابن حزم : ١١ / ١٥٢ ـ ١٥٨ ـ بتصحيح من خليل الهراس : «قال أبو محمّد : قال قوم : إنّ الحدود كلّها تسقط بالتوبة ، وهذه رواية رواها أبو عبد الرّحمن الأشعري عن الشّافعي ، قالها بالعراق ، ورجع عنها بمصر ... ثم نظرنا أيضا في إحتجاجهم على هؤلاء المذكورين بأنّهم قد أجمعوا على أنّ التّوبة تسقط عذاب الآخرة ، وهذا العذاب الأكبر ، فأحرى وأوجب أن تسقط العذاب الأقل ، الّذي هو الحد في الدّنيا ... وعذاب الآخرة غير عذاب الدّنيا ، وليس إذا سقط أحدهما وجب أن يسقط الآخر ، إذ لم يوجب ذلك نصّ قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، وكثير من المعاصي ليس فيها في الدّنيا حدّ ، كالغصب ، ومن قال لآخر : يا كافر ، وكأكل لحم الخنزير ، وعقوق الوالدّين ، وغير ذلك ، وليس ذلك بموجب أن يكون فيها في الآخرة عقاب ، بل فيها أعظم العقاب في الآخرة ، فصح أنّ أحكام الدّنيا غير متعلقة بأحكام الآخرة». وبذلك نرى أنّ المؤلف لخص وجهة نظر الفقه الظّاهري في المشكلة ، كما زاد كلام ابن حزم تفسيرا. «المعرب».

٣٥٧

في الحياة ، وفي الأمن. سوف تضمن لنا هذه المعاني ـ على الأكثر ـ إنّه لن يعود إلى الجريمة ، ولكنها لا تستطيع أن تضمن إنّه لن يكون قدوة تحتذى من أولئك الذين يعملون على أتباعه ، وإذن فإنّ هناك ضرورة مزدوجة ، خارج الأمر الأخلاقي ، أو مبدأ العدالة المجرد ، هذه الضّرورة تفرض نفسها على أنّها محتومة ، وهي تنظر إلى الماضي وإلى المستقبل معا ، وتتطلب تطبيق العقوبة ، حتّى عند ما يصبح جانب المبدأ الأخلاقي مستوفي راضيا بطريقة أخرى. هذه الضّرورة المزدوجة هي ـ من ناحية ـ إقتضاء شرعي من الأفراد ذوي الشّأن في العمل ، وهم الذين أهينت مشاعرهم نتيجة الشّر الحادث ، وهي من ناحية أخرى : حفاظا على النّظام العام ، وصيانة للمجتمع ضد العدوى الأخلاقية ، حين لا يعاقب الشّر بمثله ، وتوقيا من تشجيع الشّر ، إذا ما بقي المذنب دون عقاب.

بيد أنّ البون بين الجانب الأخلاقي ، والجانب القانوني ـ يصبح شاسعا ، بمجرد إنتقالنا من المسئولية العقابية إلى المسئولية المدنية.

ولا شك أنّ ذلك غير ناشىء عن أنّ الطّابع الشّخصي قد إختفي تماما ، ولا عن أنّ النّشاط الإرادي لم يعد شرطا ضروريا في المسئولية ، ليس هذا مطلقا هو الموقف في الشّريعة الإسلامية ، ولا ينبغي أن يعترض علينا بمثال المغتصب الّذي يستحل شيئا لا يخصه ، ويستخدمه مخالفا بذلك القانون ، ثم يعتبر مسئولا عن كلّ ما يحدث لهذا الشّيء ، حتّى لو كان طارئا ، ووقع بمحض الصّدفة. ذلك أنّ عمله الأولي ـ ما دام قد اتسم بسمة العدوان ، وسوء النّيّة .. فمن العادي جدا أن تكون جميع نتائجه الطّبيعية داخلة فيه.

ولكن إذا ما نحينا هذه الحالة جانبا ، فإنّ كلّ مسئولية مباشرة تتطلب من جهة

٣٥٨

صاحبها تدخلا إراديا معينا فيما يسبب من ضرر .. ولا فرق حتّى الآن بين شروط المسئولية الأصلاحية المدنية ، وشروط المسئولية الجزائية العقابية ، فالحادثة الّتي تقع بواسطتنا ، ولكن مستقلة عن إرادتنا ، وبموجب قوة قاهرة (في مثل ما قد يحدث من تصادم سفينتين بسبب الرّيح ، أو سقوط لاعب حتمه إنقطاع الحبل الّذي كان يمسك به مع رفيقه) ـ مثل هذه الحادثة لا يمكن أن تنشىء ضدنا أي إجراء تأديبي ، أو تعويضي ، وحدث من هذا النّوع يصبح هدرا (١).

وهكذا نجد أنّ الخلط الّذي أشار إليه فوكونيه [Fauconnet] في الشّرائع الإغريقية ، والرّومانية ، والعبرية .. إلخ. بين الحالة العارضة ، وحالة الخطأ بحسن نية ـ هذا الخلط لا موضع له في الشّريعة الإسلامية ، بل الأمر ، على ما ذكرنا آنفا. هو أنّ العمل الإرادي ، ليس من الضّروري أن يكون مقصودا. وإذن ، فعلى حين تفترض المسئولية العقابية النّيّة المضادة للقانون ، تماما كالمسئولية الأخلاقية ، نجد أنّ المسئولية المدنية ، سوف تكتفي بمجرد وجود الإرادة. وهنا يمكن أحد الفروق الرّئيسية بين هذه المجالات المختلفة ، فإذا كان الضّرر النّاتج عن الخطأ ، أو الغفلة ، أو عدم الحذق ـ لا يحتم أن يعزر صاحبه ، فإنّه يخضعه في مقابل ذلك لتكليف مالي لمصلحة الضّحية.

وقد وضع القرآن التّشريع الأساسي للقتل النّاشىء عن الخطأ ، فقال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) (٢). وقد مثلت السّنة بهذا كلّ ضرر يرتكب

__________________

(١) انظر ، المجموع للأمير : ٢ / ٣٥٨.

(٢) النّساء : ٩٢.

٣٥٩

عن غفلة ، ضد نفس الغير ، أو ماله. يقول ابن حزم : «ولا يختلف إثنان من الأمّة في أنّ من رمى سهما يريد صيدا ، فأصاب إنسانا ، أو مالا ، فأتلفه ، فإنّه يضمن ، ولو أنّه صادف حمار وحش يجري ، فقتل إنسانا ، أو سقط الحمار إذ أصابه السّهم ، فقتل إنسانا ، فإنّه لا يضمن شيئا» (١).

ومن هنا كانت المسئولية المدنية على الطّبيب ، أو كما يعبر حديث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مسئولية من يمارس الطّب ولم يكن من قبل معروفا أنّه طبيب ، فقال : «من تطبب ، ولم يعلم منه قبل ذلك الطّب فهو ضامن» (٢).

ومن هنا أيضا ـ تبعا لأغلب المذاهب ـ كانت مسئولية مالك الماشية الّذي يهمل في حبس قطيعه ، أو حفظه ، حين ينتج عن هذا الأهمال أن تهرب الحيوانات ، وتتلف حقول الجيران ، وهي حالة معروفة كذلك في تأريخ ما قبل الإسلام ، وأشار إليها القرآن في قوله تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (٣).

__________________

(١) انظر ، المحلى : ١١ / ٣.

(٢) انظر ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد : ٢ / ٤٥٤ طبعة مكتبة الكليات الأزهرية ١٩٦٦ م ـ قال : وقد ورد في ذلك مع الإجماع حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ـ وذكر الحديث. انظر ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٢٣٦ ح ٧٤٨٤ ، سنن البيهقي : ٨ / ١٤١ ، سنن الدّارقطني : ٣ / ١٩٥ ح ٣٣٥ و ٣٣٦ و : ٤ / ٢١٥ ح ٤٢ و ٤٣ ، سنن أبي داود : ٤ / ١٩٥ ح ٤٥٨٦ ، السّنن الكبرى : ٤ / ٢٤١ ح ٧٠٣٤ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١١٨٤ ح ٣٤٦٦ ، عون المعبود : ١٢ / ٢١٥ ، شرح سن ابن ماجه : ١ / ٢٤٨ ، فيض القدير : ٦ / ١٠٦ ، حاشية السّندي : ٨ / ٥٣ ح ٤٨٣٠ ، سبل السّلام : ٣ / ٢٥٠ ، نيل الأوطار : ٦ / ٣٦.

(٣) الأنبياء : ٧٨ ـ ٧٩.

٣٦٠