دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

وليس يخرج عن هذا السّياق تلك العظة البليغة الّتي وجهها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم إلى متخاصمين قبل أن يفصل بينهما. قال صلوات الله عليه فيما روي عن أمّ سلمة : «إنّما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي نحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحقّ أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنّما أقطع له قطعة من النّار» (١).

__________________

ـ رجلا من الأنصار يقال له : طعمة بن أبيرق ، أحد بني ظفر بن الحارث سرق درعا من جار له يقال له : قتادة بن النّعمان ، وكانت الدّرع في جراب فيه دقيق ، فجعل الدّقيق ينتثر من خرق في الجراب ، حتّى انته إلى الدّار ، وفيها أثر الدّقيق ، ثمّ خبأها عند رجل من اليهود يقال له : زيد بن السّمين ، فالتمست الدّرع عند طعمة فلم توجد عنده ، وحلف لهم : والله ما أخذها وما له به من علم ، فقال أصحاب الدّرع : بلى والله قد أولج علينا فأخذها ، وطلبنا أثره حتّى دخل داره ، فرأينا أثر الدّقيق ، فلما أن حلف تركوه ، واتبعوا أثر الدّقيق حتّى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه ، فقال : دفعها إليّ طعمة بن أبيرق ، وشهد له أناس من اليهود على ذلك. فقالت بنو ظفر ، وهم قوم طعمة : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكلموه في ذلك ، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم ، وقالوا : إن لم تفعل هلك صاحبنا وأفتضح ، وبرىء اليهودي ، فهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يفعل ، وكان هواه معهم ، وأن يعاقب اليهودي ، حتّى أنزل الله تعالى الآيات. انته «المعرب».

لا نوافق المؤلف قدس‌سره ، والمعرب في هذا التّفسير ، أو التّأويل ، بل خلاصة أقوال علماء الإمامية : لا تخاصم اليهود لأجل المنافقين ، وإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كأن لم يفعل ذلك ، وإلّا لم يرد النّهي عنه ـ طعمة بن أبيرق بن عمرو بن حارثة بن ظفر الأنصاري ـ بل ثبت في الرّواية أنّ قوم طعمة لما التمسوا من الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يذب عن طعمه ، وأن يلحق السّرقة باليهودي توقف صلى‌الله‌عليه‌وآله وانتظر الوحي فنزلت الآية ، والأستغفار هنا يراد به لأولئك الذين يذبون عن طعمه ، ويريدون أن يظهروا براءته عن السّرقة ، لكن تبين بعد ذلك عكس ما يتصورون ، وكذلك المراد بالذين يختانون أنفسهم طعمة ، ومن عاونه من قومه ممن علم كونه سارقا. انظر ، بحار الأنوار : ١٧ / ٣٩ و : ٢٢ / ٧٤.

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٣ / ٢٣٥ ، سنن الدّارقطني : ٤ / ٢٣٩ ح ١٢٦ و ١٢٧ ، مسند أحمد : ٦ / ٣٠٧ ، ـ

١٢١

وفضلا عن ذلك كان يحدث له أحيانا ، وهو يؤم صلاة الجماعة أن ينسى ، أو يزيد فيها بعض التّفاصيل ، مما يخالف صحتها. وفي ذلك يروي البخاري : «فلما سلم قيل له : يا رسول الله ، أحدث في الصّلاة شيء؟ قال : وما ذاك؟ .. قالوا : صليت كذا ، وكذا ، فثنى رجليه ، واستقبل القبلة ، وسجد سجدتين ، ثمّ سلّم ، فلما أقبل علينا بوجهه قال : إنّه لو حدث في الصّلاة شيء لنبأتكم به ، ولكن إنّما أنا بشر مثلكم ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني» (١) ... إلخ.

__________________

ـ السّنن الكبرى : ١٠ / ١٤٣ و ١٤٩ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ٢٧٧ ح ٢٣١٧ ، سنن أبي داود : ٣ / ٣٠١ ح ٣٥٨٣ ، سنن التّرمذي : ٣ / ٦٢٤ ح ١٣٣٩ ، سنن النسائي : ٨ / ٢٣٣ ، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : (قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحكم بين الناس بالبينات والأيمان في الدّعاوى فكثرت المطالبات والمظالم فقال : أيّها الناس إنّما أنا بشر ...) ، كما جاء في كتاب وسائل الشّيعة : ١٨ / ١٦٩ ، والكتب الفقهية والحديثية.

(١) لا أدري كيف لا يلتفت المؤلف إلى الإختلاف بين العلماء ، والفقهاء وخاصة علماء الكلام في هذا الحديث وغيره ، لما فيه من اختلاف الألفاظ ، واختلاف النّسبة فتارة ينسب لذي اليدين ، وتارة أخرى لذي الشّمالين ، وثالثة ذكرا معا وفي رواية واحدة ، ورابعة للخرباق ، وخامسة لرجل من سليم ، وسادسة للسلمي ... إلخ ، ولذا ذهب بعضهم إلى رد الحديث أصلا لكثرة ألفاظه ، وإضطراب متنه ، فتارة القصة وقعت في صلاة العصر ، وأخرى في صلاة العشاء ، وثالثة في إحدى صلاتي العشي ، وكذا القول في سجدتي السّهو ، ولذا بعضهم ألف وكتب رسالة كاملة في سهو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعضهم ردّ عليه ، والخلاصة سهو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والخطأ منه كما يتصور البعض والعياذ بالله دونه خرط القتاد.

فالحديث ورد في صحيح البخاري : ١ / ١٢٢ و ١٧٣ و : ٢ / ٨٥ و : ٨ / ١٧٠ ، صحيح مسلم : ١ / ٤٠٣ ح ٩٧ ـ ١٠٢ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٣٤ ـ ٤٥٩ ، سنن الدّارمي : ١ / ٣٥١ ، الموطأ للإمام مالك : ١ / ٩٣ ح ٥٨ ـ ٦٠ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٣٨٣ ح ١٢١٣ ، سنن النّسائي : ٣ / ٢٠ ـ ٢٦ ، كتاب الأمّ للشافعي : ١ / ١٢٣ ـ ١٢٦ ، السّنن الكبرى : ٢ / ٣٣٥ ، إرشاد السّاري : ٢ / ٣٦٥ ، صحيح البخاري بشرح الكرماني : ٤ / ١٤٢ ، عمدة القاري : ٤ / ٢٦٢ ح ١٣٩ ، الفتح الرّباني : ٣ / ١٤٠ ، بالإضافة إلى الكتب الكلامية في عصمة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٢٢

فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلن في موقف معين أنّه معصوم ، حين يكون مبلغا ـ كما رأينا ـ أمرا ، بوصفه رسول الله ، فإذا ما بلغ رسالته ، وبيّنها للناس ، واستودعها ذاكرة الجماعة ، فإنّ النّقص الفطري الّذي لا يفتأ يصيب أنتباه الإنسان مهما يكن عقله قويا ذكيا ـ قد يجوز أن يظهر أحيانا عنده ، ولكن مع فارق هام هو : أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يمكن أن يستمر مطلقا على رأي خاطىء ، وإذا لم يعد إلى الصّواب بالطريق المعتادة فإنّ الوحي يتدخل حتما لتصحيح خطئه ، وإقامته على الصّراط المستقيم ، وإلا وقعت الجماعة كلّها في الخطأ ، وإلتّزمت بإتباعه في طريق الضّلال. والله سبحانه يقول : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) (١).

فلو لا هذا التّقويم المستمر لنجمّ عن تخلفه أن تصبح كلّ أوامر النّبي ، وأحكامه الّتي لم يقومها الوحي ـ موافقا عليها ضمنا ، ولتلقاها النّاس ، ومعهم الحجة البالغة ، على أنّها أحكام إلهية. وقس على ذلك سائر أحواله. حين يعمل ، فهي معدودة من حيث المبدأ أمثلة يقتدي بها ، وينظم المسلمون على أساسها سلوكهم ، ما لم يصدر عنه ما ينقضها.

وموجز القول : أنّ كلّ حديث صحيح لم يرد ما ينسخه ، وكان موضوعه جزءا من رسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بحيث أصبح في نهاية الأمر تعبيرا عن الإرادة الإلهية ـ هذا الحديث له في نظر المسلمين نفس السّلطة الأخلاقية الّتي للنص القرآني. ولو أشتمل الحديث علاوة على ذلك ، تفصيلات ، وتحديدات ، أكثر مما أشتمل عليه

__________________

(١) التّوبة : ١١٥.

١٢٣

النّص القرآني ـ فإنّ هذا الحديث هو الّذي يحكم النّص القرآني (١) فهو يفسره ،

__________________

(١) «السّنة قاضية على الكتاب» ـ نصّ حديث أورده الدّارمي في السّنة ـ المقدمة : ١ / ١٥٣ ح ٥٨٧ ، تفسير القرطبي : ١ / ٣٩ ، مفتاح الجنة : ١ / ٤٤ ، الكفاية في علم الرّواية : ١ / ١٤ و ١٥. بيد أنّ أحمد بن حنبل حين سئل عن هذا الحديث قال : «لا أجرؤ أن أقول هذا ، وإنّما أقول : إنّ السّنة تفسر القرآن ، وتبينه» ، انظر ، الأعتبار للحازمي : ٣٧ طبعة الهند ، وقد ناقش الشّيخ المفيد هذا الحديث في كتابه أوائل المقالات : ٢١٩ ، والسّيد العاملي في كتابه الصّحيح من السّيرة : ١ / ٢٩٦ ، مناقشة لطيفة ودقيقة فراجع ذلك ، وراجع اصول السّرخسي : ١ / ٣٦٥ ، الكفاية في علم الرّواية للخطيب البغدادي : ٣٠ ، الموافقات للشاطبي : ٤ / ٢٦ ، تفسير القرطبي : ١ / ٣٩ ، الإصابة : ١ / ٣٥ ، تأويل مختلف الحديث : ١٩٩ ، جامع بيان العلم : ٢ / ٢٣٤ ، ولا شك أنّه يريد بهذا أن يقول : إذا كان راوي الحديث قد أورد الفكرة الأساسية فإنّه قد استخدم تعبيرا غريبا ، أو جريئا بعض الشّيء ، بحيث يبدو أنّه يقلب التّرتيب المعتاد بين السّنة والقرآن. والواقع أنّه لو حدث أن رويت عبارة منسوبة إلى النّبي ، وكانت غير متفقة مع مبدأ مقرر في القرآن ، فإننا نرفض هذه العبارة وجوبا ، على أنّها غير صحيحة. ومن ذلك عبارة : «إنّ الميت يعذب ببكاء أهله» ـ فقد ردتها عائشة ، ذاهبة إلى أنّها رواية مشوهة محرفة ، نظرا لتعارضها مع الآية القرآنية : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الأنعام : ١٦٤) الّتي تضع مبدأ هو : أنّ أحدا لا يمكن أن يتحمل وزر غيره. والرّواية عن عمر بن الخطاب ، كما جاء في صحيح البخاريّ : ١ / ١٠١ ، صحيح مسلم : ٢ / ٦٤١ ، سنن النسائي : ٤ / ١٥ ، سنن البيهقي : ٤ / ٧٣. وفهم عمر الحديث على أنّه عام ، وأنّ التّعذيب بسبب بكاء الأهل على الميت. وحملها القوم على ظاهرها ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول : وا جبلاه ، وا سيداه ، ... ونحو ذلك ، إلا وكل الله به ملكين يلهزانه ـ يضربانه ـ أهكذا كنت؟» ، ورد ذلك في سنن التّرمذي : ٣ / ٣٢٧ ح ١٠٠٣.

فقالت عائشة : يرحم الله عمر ، ما حدث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ، ولكن قال : «إنّ الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه». انظر ، المغني لابن قدامة : ٢ / ٤١٢ ، الشّرح الكبير لابن قدامة : ٢ / ٤٣١.

ثم قالت : حسبكم القرآن : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.) الأنعام : ١٦٤. والحديث أخرجه البخاريّ : ١ / ٤٣٢ ، كتاب الجنائز باب ٣٢ ح ١٢٢٦ ، صحيح مسلم باب الجنائز وهو باب : الميت يعذب ببكاء أهله عليه : ٢ / ٦٣٨ ح ٩٢٧. ـ

١٢٤

__________________

ـ وفي رواية : أنّه ذكر لها أنّ ابن عمر يقول : إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه بلفظ : «إنّ الميت ليعذب ببكاء الحي ...» راجع الجامع الصّغير : ح ٢١٣٣ ، الموطأ : ح ٣١٨ ، سنن أبي داود : ح ٣١٢٧ ، حاشية السّندي على النسائي : ح ١٨٣٩ ، رياض الصّالحين للنووي : ح ١٥٣ ، سنن ابن ماجه : ح ١٥٩٤ ، سنن التّرمذي : ح ١٠٠٧ ، صحيح البخاريّ : ح ٩٩٦ ، صحيح مسلم : ح ٩٢٧ ، فيض القدير : ح ٢١٣٣. فقالت : يغفر الله لأبي عبد الرّحمن أما أنّه لم يكذب ، ولكنه نسى أو أخطأ المجموع في شرح المهذب للنووي : ٥ / ٣٠٨ ، الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصّحابة ، لبدر الدّين الزّركشي : ٧٦ إنّما مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على يهودية يبكى عليها فقال : «إنّها ليبكى عليها ، وإنّها لتعذب في قبرها» أنكرت عائشة على عمر ، أو ابنه ، هذه الرّواية ، وقالت : «إنّما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في يهودية أنّها تعذب ، وهم يبكون عليها ، يعني تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها ، لا بسبب البكاء». فتح العزيز في شرح الوجيز : ٥ / ٢٧٢ ، المجموع في شرح المهذب : ٥ / ٣٠٨ ، مسند أحمد : ٦ / ١٠٧ ، صحيح البخاريّ : ٢ / ٨١ ، سنن التّرمذي : ٢ / ٢٣٦ ، السّنن الكبرى : ٤ / ٧٢ ، اختلاف الحديث للشافعي : ٥٣٧ ، كتاب المسند للشافعي : ٤٠١ ، والنسائي فتح الباري في شرح صحيح البخاريّ : ٣ / ١٥١ وج : ٧ / ٣٠١ ، صحيح مسلم : ٢ / ٦٤١ ، وقد ثبت هذا الصّحيح في صحيح البخاريّ ، وغيره من طريق المغيرة المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب مالك بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس الثّقفي. وأمّه امرأة من بني نصر بن معاوية.

قصة المغيرة بن شعبة وخلاصتها أنّه ـ المغيرة ـ زنا بأمّ جميل بنت عمر ، وهي امرأة من قيس ، وشهد عليه بذلك : أبو بكرة ، ونافع بن الحارث ، وشبل ابن معبد. ولما جاء الرّابع وهو زياد بن سمية أو زياد بن أبيه ليشهد أفهمه عمر بن الخطاب رغبته في أن يدلي بشهادته بحيث لا تكون صريحة في الموضوع حتّى لا يلحق المغيرة خزي بإقامة الحد عليه ، ثم سأله عما رآه قائلا : أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال : لا فقال عمر : الله أكبر ، قم يا مغيرة إليهم فاضربهم ... فقام يقيم الحد على الشّهود الثّلاثة. وفيات الأعيان : ٢ / ٤٥٥ ، ابن كثير : ٧ / ٨١ ، الطّبري : ٤ / ٢٠٧ ، (بتصرف).

اسلم عام الخندق وهاجر إلى المدينة وشهد الحديبيّة ، وقد أرسله الرّسول مع أبي سفيان لهدم صنم ثقيف بالطائف وأصيبت عينه يوم اليرموك. ولّاه عمر البصرة ، ولّما شهدوا عليه بالزنا عزله عنها وولّاه الكوفة ، وتوفي أميرا عليها من قبل معاوية سنة ٥٠ ه‍ ، ترجمته في الاستيعاب : ٣ / ٣٦٨ ، الإصابة : ٣ / ٤٣٢ ، أسد الغابة : ٤ / ٤٠٦. بلفظ : «من ينح عليه يعذب بما نيح عليه» فتح الباري في شرح صحيح ـ

١٢٥

__________________

ـ البخاريّ : ٣ / ١٦٠ ، صحيح مسلم : ٣ / ٤٥ ، مسند أحمد : ٤ / ٢٤٥. والجواب : يحمل هذا النوح على نوح الجاهلية ، وعلى البكاء الّذي ليس بمشروع ؛ كالذي معه اللطم ، والخدش ، والقول السّيء ؛ أمّا الّذي ليس فيه ذلك فهو مشروع لقول الإمام الصّادق عليه‌السلام ، كما جاء في التّهذيب : ١ / ٤٦٥ ح ١٥٢٤ : «إنّ إبراهيم خليل الرّحمن سأل ربه أن يرزقه ابنة تبكيه بعد موته» ، هذا أولا.

وثانيا : لا بأس بالنوح والندب بتعداد فضائله ، واعتماد الصّدق ، وهو قول أحمد ، كما جاء في المغني : ٢ / ٤١١ ، الشّرح الكبير : ٢ / ٤٢٩.

وثالثا : إنّ فاطمة عليها‌السلام كانت تنوح على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما جاء في سنن النسائي : ٤ / ١٣ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٥٢٢ ح ١٦٣٠ ، قولها : «يا أبتاه! من ربه ما أدناه ، يا أبتاه! إلى جبرائيل أنعاه ، يا أبتاه! أجاب ربا دعاه».

نحن نعلم جميعا أنّه لما قبض صلى‌الله‌عليه‌وآله افتجع به الصّغير والكبير ، وكثر عليه البكاء ، وقلّ العزاء ، وعظم رزؤه على الأقرباء والأصحاب ، والأولياء ، والأحباب ، والغرباء ، والأنساب ، ولم تلق إلّا كلّ باك وباكية ، ونادب ونادبة ، ولم يكن أهل الأرض فقط ، بل أهل السّماء ، وكان أشد حزنا وأعظم بكاء وانتحابا مولاتنا فاطمة الزّهراء عليها‌السلام ، وكان حزنها يتجدد ويزيد ، وبكاؤها أكثر من اليوم الأوّل ، ولذا لم تطق صبرا ، إذ خرجت في اليوم الثّامن وصرخت فكأنّها من فم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تنطق ، فتبادرت النسوان ، وخرجت الولائد والولدان ، وضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وجاء الناس من كلّ مكان واطفئت المصابيح ، لكيلا تتبين صفحات النّساء ، وخيّل إلى النسوان أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قام من قبره وصار الناس في دهشة وحيرة لما قد رهقهم ، وهي عليها‌السلام تنادي وتندب أباها : وا أبتاه ، وا صفيّاه ، وا محمّداه ، وا أبا القاسماه ، وا ربيع الأرامل ، واليتامى ، من للقبلة والمصلى ، ومن لابنتك الوالهة الثّكلى. إذا الحزن والبكاء من لوازم العاطفة البشرية ، ومن مقتضيات رحمته سبحانه وتعالى ما لم يصحبها شيء من منكر القول والفعل. فقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسند أحمد : ١ / ٣٣٥ ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرّحمة ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشّيطان».

وقد بكى آدم عليه‌السلام على ابنه هابيل ، حيث قال :

ومالي لا أجود بسكب دمع

وهابيل تضمنه الضّريح

وقد بكى إبراهيم عليه‌السلام على إسماعيل عليه‌السلام كما جاء في المصادر ، وبكى يعقوب عليه‌السلام على يوسف عليه‌السلام ، ـ

١٢٦

__________________

ـ وبكى زكريا عليه‌السلام على يحيى عليه‌السلام ، وبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على جدّه عبد المطلب ، وبكاؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمّه وأهل بيته.

ولسنا بصدد بيان كل من بكى على أمّه وأبيه ، وأخيه ، وصاحبته ، وبنيه ، وصديقه ، وجاره ، فمن شاء فليراجع المصادر التّالية : الطّبقات الكبرى : ١ / ١٢٣ ، فرائد السّمطين : ١ / ١٥٢ ، المناقب للخوارزمي : ٢٦ ، كنز العمال : ٦ / ٢٢٣ و : ١٣ / ١١٢ ، و : ١٥ / ١٤٦ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١٣٦٦ ، ذخائر العقبى : ١٧ ، سنن البيهقي : ٤ / ٧٠ ، الصّواعق : ١١٥ و ١٩٠ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١٨٧.

بينما جماعة من أصحاب الحديث من الجمهور حرموه ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنه ، كما ورد في صحيح البخاريّ : ٢ / ١٠٦ ، ويحمل هذا النهي على النوح المقترن بالكذب ، والدّعاء بالويل والثّبور ، فقد روى ابن قدامة في المغني : ٢ / ٤١١ : (أنّ أهل البيت إذا دعوا بالويل والثّبور ، وقف ملك الموت في عتبة الباب ، وقال : «إن كانت صيحتكم عليّ ، فإنّي مأمور ، وإن كانت على ميتكم ، فإنّه مقبور ، وإن كانت على ربكم ، فالويل لكم والثّبور ، وإن ليّ فيكم عودات ثم عودات».

ورابعا : فقد روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما انصرف من وقعة احد إلى المدينة سمع من كلّ دار قتل أهلها قتيل نوحا وبكاء ، ولم يسمع من دار عمّه حمزة فقال : «لكن حمزة لا بواكي له» ، فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميت ولا يبكوه حتّى يبدؤوا بحمزة فينوحوا عليه ويبكوه ، فهم إلى اليوم على ذلك» ، راجع اسد الغابة والطّبقات الكبرى : ٢ / ٤٤ ، السّيرة النبوية لابن هشام : ٣ / ١٠٤ ، الكامل في التّاريخ : ٢ / ١١٣ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ١٢٠ ، وسائل الشّيعة : ٢ / ٩٢٢ ، السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٤٦ ، الإمتاع للمقريزي : ١٥٤ ، المصنّف لابن أبي شيبة ج ٦ و ١٢ ، كنز العمال : ٦ / ٢٢٣ و : ١٣ / ١١٢ .. فهذا الحديث قد ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. من طريق ثلاثة من الصّحابة ، ثم إنّ عائشة رضى الله عنه ردت ذلك متمسكة بما تحفظه ، وبعموم القرآن.

ولسنا بصدد بيان جواز أو حرمة البكاء على الميت ولكن نترك للقارىء الكريم مجال التّفكير عند مراجعة المصادر التّالية على سبيل المثال لا الحصر منذ بكاء آدم عليه‌السلام على ابنه هابيل إلى اليوم لأنّ البكاء سنّة طبيعية.

انظر ، العرائس للثعالبي : ٦٤ طبعة بمبي و ١٣٠ و ١٥٥ ، الطّبقات الكبرى لابن سعد : ١ / ١٢٣ ، و : ٢ / ٦٠ الطّبعة الثّانية طبعة بيروت ، فرائد السّمطين : ١ / ١٥٢ ح ١١٤ ، و : ٢ / ٣٤ ح ٢٧١ ، والمصنّف لابن ـ

١٢٧

ويحدد أهميته ، ويبين نماذج تطبيقه.

ثالثا : الإجماع :

وهكذا رأينا من كلّ وجه ، وفي أي ظرف ، يمكن لسنة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تكون مبدأ للإلزام. فما الظّن إذن بتلك السّلطة الرّفيعة الّتي خصّ بها المصدر الآخر للتشريع ، والمسمى بالإجماع ، أو الحكم المجتمع عليه في الأمّة ..؟.

الحقّ أنّ سلطة الإجماع يمكن أن تستقى من بعض النّصوص القرآنية ، مثل قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (١).

__________________

ـ أبي شيبة : ٦ و ١٢ ، كنز العمّال : ١٣ / ١١٢ الطّبعة الثّانية ، و : ١٥ / ١٤٦ ، و : ٦ / ٢٢٣ الطّبعة الأولى ، تأريخ دمشق : ٢ / ٢٢٩ ح ٣٦٧ و ٣٢٧ ح ٨٣١ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١١٨ و ١٧٩ و ١٨٩ الفضائل لأحمد بن حنبل : ح ٢٣١ ، المستدرك للحاكم : ٣ / ١٣٩ ، و : ٤ / ٤٦٤ ، تأريغ بغداد : ١٢ / ٣٩٨ ، و : ٧ / ٢٧٩ ، المناقب للخوارزمي : ٢٦ ، ينابيع المودّة : ٥٣ و ١٣٥ ، سنن البيهقي : ٤ / ٧٠ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ٥١٨ ، ذخائر العقبى : ١١٩ و ١٤٧ و ١٤٨ ، دلائل النبوّة للبيهقي في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام من تأريخ دمشق : ح ٦٢٢ و ٦١٢ ـ ٦١٤ و ٦٢٦ ـ ٦٣٠ ، المعجم الكبير للطبراني حياة الإمام الحسين عليه‌السلام : ١٢٢ ح ٤٥ و ٤٨ و ٩٥ ، كفاية الطّالب : ٢٧٩ ، أعلام النبوّة للماوردي : ٨٣ باب ١٢ ، نظم درر السّمطين : ٢١٥ ، البداية والنهاية لابن كثير : ٦ / ٢٣٠ ، و : ٨ / ١٩٩ ، الرّوض النضير : ١ / ٨٩ و ٩٢ و ٩٣ ، و : ٣ / ٢٤ ، مروج الذهب : ٢ / ٢٩٨ ، اسد الغابة ١ / ٢٠٨ ، معراج الوصول للزرندي ، حلية الأولياء : ٣ / ١٣٥ ، الرّياض النضرة : ٢ / ٥٤ الطّبعة الاولى.

(١) آل عمران : ١١٠.

لا يمكن حقا أن يكون رأي الجميع حجّة؟ ولا يمكن أن تكون قواعد الفقه الإسلامي صحيحة سديدة تماما ولا مجال للشك أو الأشتباه فيها ؛ لأنّها وضعت من الجميع؟ ولا يمكن مقصود الآية كما يدعي المدعي هم كلّ الذين هاجروا مع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة إلى المدينة ، بل يمكن القول : بأنّ رأي ـ

١٢٨

وليس يهمنا أن يقال : إنّ هذه الآية موجهة إلى الأمّة المحمدية بعامة ، أو هي موجهة إلى الجيل الأوّل الّذي شهد الوحي ، وهو قول أكثر إحتمالا ، فهناك دائما ، أنّى توجهنا ، جماعة من النّاس ، رأيهم مجتمع ، وقد يصدقه الكتاب الكريم ، ليصبح ـ رأيا منزها من النّاحية الأخلاقية ، يجل عن أن يرضى شرّا ، أو يمنع خيرا.

وهناك استدلال مماثل يفيد مزية الإجماع ، ويمكن أن يستقى من آية أخرى ، فبعد أن قرر القرآن لأولي الأمر من المسلمين نفس حقّ الطّاعة الّذي قرره لله ورسوله ـ نجده يضيف مباشرة تحفظا ، هو أنّه في حال النّزاع يجب الرّجوع إلى السّلطتين الرّئيستين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١). ومن هذا النّص يؤخذ أنّه طالما وجد أتفاق مشترك فلن يكون هنالك مقتض للجوء إلى أي معيار آخر ، لإقرار العدالة ، فيما يواجه أولي الأمر من ظروف.

فإذا ما رجعنا إلى الوثائق الّتي ترويها السّنة فسوف نرى أنّ هذا الإمتياز غير

__________________

ـ الجميع حجّة إذا دخل فيه قول المعصوم عليه‌السلام وهذا أيضا دونه خرط القتاد ، ولا يمكن أن تكون كلّ قواعد الفقه الإسلامي صحيحة ما لم تكن مبنية على أسس وقواعد مستنبطة من الكتاب والسّنة النّبوية بما فيها قول المعصوم عليه‌السلام ، ولا يمكن مراد الآية كلّ الذين هاجروا معه صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة إلى المدينة ، وهذا يشمل الكلّ السّورية وهي الّتي خرقها كثير منهم ، بشرب الخمر ، والقتل والأرتداد ، بل المقصود هم أهل البيت عليهم‌السلام كما ورد ذلك في المناقشة الدّقيقة ، واللطيفة في كتاب دعائم الإسلام للقاضي النّعمان المغربي : ١ / ٣٥ ، وكمال الدّين وتمام النّعمة للشيخ الصّدوق : ٩٧ ، وتفضيل أمير المؤمنين عليه‌السلام للشيخ المفيد : ٣٧ ، وأمالي السّيد المرتضى : ٤ / ١٠٧ ، وتفسير مجمع البيان للطبرسي : ٢ / ٣٦٢ ، وغير ذلك كثير.

(١) النّساء : ٥٩.

١٢٩

مقتصر مطلقا على عصر الصّحابة ، على ما قد يفهم من هذه النّصوص القرآنية ، ولكنه ممتد بلا نهاية إلى جميع الأجيال المسلمة (١).

وحسبنا هنا أن نذكر نصا منها ، معترفا بصحته ، وهو غاية في الصّراحة في هذا

__________________

(١) لا ندري كيف يشمل كلّ العصور ، والأزمان ، وكلّ الأمّة ، وكلّ أولي الأمر حتّى الطّلقاء.

ولكن نورد الحديث الّذي رواه جابر بن يزيد الجعفيّ ، وهو الّذي يبين ما المراد ب أولي الأمر؟ قال : سمعت جابر بن عبد الله الأنصاريّ يقول : «لما أنزل الله عزوجل على نبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ..) النّساء : ٥٩.

قلت : يا رسول الله عرفنا الله ورسوله فمن أولو الأمر الّذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال : هم خلفائي يا جابر ، وأئمّة المسلمين من بعدي ، أوّلهم عليّ بن أبي طالب ، ثمّ الحسن والحسين ، ثمّ عليّ بن الحسين ، ثمّ محمّد بن عليّ المعروف في التّوراة ب «الباقر» ، وستدركه يا جابر ، فإذا لقيته فأقرئه مني السّلام ، ثمّ الصّادق جعفر بن محمّد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ عليّ بن موسى ، ثمّ محمّد بن عليّ ، ثمّ عليّ بن محمّد ، ثمّ الحسن بن عليّ ، ثمّ سميي وكنيتي ، حجّة الله في أرضه وبقيته في عباده ، ابن الحسن بن عليّ ، ذلك الّذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها ، ذاك يغيب عن شيعته ، وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من إمتحن الله قلبه للإيمان».

انظر ، كمال الدّين : ٣٥٣ ح ٣ ، المناقب لابن شهرآشوب : ١ / ٢٨٢ ، تأويل الآيات الطّاهرة : ١٤١ ، كفاية الأثر : ٥٣ ، قريب من هذا في ينابيع المودة : ٣ / ٢٨٣ ح ٢ ، وفرائد السّمطين : ٢ / ١٣٣ ، ١٣٤ ح ٤٣٠ ، الكافيّ : ١ / ٤٦٦ ح ١٠.

ونحن نسأل هؤلاء أيضا أيصدق على معاوية وابنه يزيد ومن سبقهما على أن نسميهم ب «أولي الأمر» ، وهو المصطلح الشّرعي الّذي يراد به الإمام بعد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحتّى في لغة العرب إنّما أريد من الأمر هو أمر الإمامة والحكم على المسلمين.

وهل تقبل مدرسة الخلافة أن يكون معاوية ممن تشملهم الآية ؛ لأنّها ترى أولى الأمر من بايعه المسلمون بالحكم ويرون وجوب طاعة كلّ من بايعوه؟ وهل تقبل هذه المدرسة أن يكون خليفتها يزيد بن معاوية الّذي قتل سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته في كربلاء ، وأباح المدينة ثلاثة أيام ، ورمى الكعبة بالمنجنيق و... و...؟ وهل يقبلون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ترك أمّته هملا ، ولم يعين المرجع من بعده حتّى يصل الأمر إلى الطلقاء وأبناء الطّلقاء ، أن يعينوا المرجع من بعدهم؟

١٣٠

الصّدد ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ ، لا يضرهم من خذلهم ، حتّى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ، وفي رواية : حتّى تقوم السّاعة» (١).

وإذا كانت عصبة الحقّ لا تزال باقية في العالم الإسلامي فإنّ فكرة الإتفاق الأجماعي على الضّلالة سوف تكون إذن مستبعدة ، على أنّها أمر محال من الوجهة العملية في العالم الإسلامي.

فقد انته الرّأي إلى اعتبار الإجماع في أي عصر سلطة عليا لا معقب لها ، وهي تستطيع أن تحكم على نصوص القرآن ، والحديث ذاتها ، ولا يمكن أن تحكم بهما ، ولا أن تبطل برأي آخر ، سابق أو لاحق. وعامة المسلمين يخضعون في الواقع لهذه السّلطة دون مناقشة ، أللهمّ فيما خلا بعض الخوارج ، والمعتزلة ، والشّيعة (٢).

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٦ / ٢٦٦٧ ح ٦٨٨١ و : ٩ / ١٢٤ ، وقد فسر البخاري هذا الحديث ذاهبا إلى أنّ الطّائفة المذكورة في النّص «هم أهل العلم». صحيح مسلم : ١ / ١٣٧ ح ١٥٦ و : ٣ / ١٥٢٣ ح ١٧٠ و ١٧٤ و ١٩٢٠ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٤ ح ٦ ـ ١٠ ، الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي : ١ / ٥ ـ ٦ ، المغني : ١٠ / ٣٧٧ ، نيل الأوطار : ٨ / ٣١ ، كنز العمال : ١ / ١٨٥ ح ١٠٣٠ ، الدّر المنثور : ٢ / ٢٢٢ ، الدّيباج على مسلم : ٤ / ٥١١ ، تفسير القرطبي : ٧ / ٢٢٢ ، تفسير ابن كثير : ١ / ١٦٤ ، المستدرك على الصّحيحين : ٢ / ٨١ ح ٢٣٩٢ و : ٤ / ٤٩٦ ح ٨٣٨٩ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٤٨٥ ح ٢١٩٢ وص : ٥٠٤ ح ٢٢٢٩ ، مجمع الزّوائد : ٧ / ٢٨٨ ، المعجم الأوسط : ٨ / ٥٨ ح ٧٩٥٧ ، المعجم الكبير : ٧ / ٥٣ ح ٦٣٦٠ ، تهذيب البارع للقاضي ابن البراج : ١ / ١٩.

(٢) لا أدري ما ذا يقصد المؤلف قدس‌سره بدعوى الإجماع الّتي وردت في عبارته هذه ، هل هو اتّفاق أهل المدينة؟ أم اتّفاق أهل مكّة والمدينة؟ أم أهل المصرين ـ الكوفة والبصرة ـ أم اتّفاق الشيخين؟ أم اتّفاق الخلفاء الأربعة؟ أم اتّفاق خصوص المجتهدين؟ أم هو إجماع الصّحابة؟ والّذي يعدهم خيرة الأجيال؟ أم إجماع السّقيفة؟ أم إجماع قتل أهل بيت النّبوّة؟ أم إجماع استباحة المدينة ثلاثة أيام؟ أم إجماع ـ

١٣١

__________________

ـ رمي الكعبة بالمنجنيق؟ أم إجماع ابناء الطّلقاء؟ لا أدي ، حقا لا أدري؟ وكل هذه الإجماعات ، يكذبها قول جماعة من كبار العلماء ، ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر رأي العلماء في الصّحابة : قال ابن الحاجب : «الأكثر على عدالة الصّحابة ، وقيل : كغيرهم ، وقيل : إلى حين الفتن فلا يقبل الدّاخلون ؛ لأنّ الفاسق غير معين ، وقالت المعتزلة : عدول إلّا من قاتل عليّا ...» المختصر : ٢ / ٦٧.

وانظر ، النّصائح الكافية لمن يتولى معاوية : ١٦٠ ، شرح المقاصد : ٥ / ٣١٠ ، الإصابة : ١ / ١٩ ، إرشاد الفحول : ٢١٦ ، طبعة القاهرة. ومن المتأخرين أبو ريّة في شيخ المضيرة : ١٠١. ، والشّيخ محمّد عبدة في أضواء على السّنة المحمدية : ٣٥٥. ، والسّيد محمّد بن عقيل العلويّ في النّصائح الكافية : ٦٣ ، والسّيد محمّد رشيد رضا في المنار : ٤ / ٣١٠ ، والشّيخ مصطفى الرّافعي في إعجاز القرآن : ٢ / ٢٢٦. ، وآخرون. صرح هؤلاء جميعا : «بأنّ الصّحابة غير معصومين وفيهم العدول ، وغير العدول».

٢. كيف يجب تعظيم الصّحابة كلّهم والكف عن القدح بهم ، ومنهم المنافق ، والفاسق ، والباغي ، والزّاني كما في قصة المغيرة بن شعبة وخلاصتها أنّه ـ المغيرة ـ زنا بأمّ جميل بنت عمرو ، وهي امرأة من قيس ، وشهد عليه بذلك : أبو بكرة ، ونافع بن الحارث ، وشبل بن معبد. ولما جاء الرّابع وهو زياد بن سمية أو زياد بن أبيه ليشهد أفهمه عمر بن الخطاب رغبته في أن يدلي بشهادته بحيث لا تكون صريحة في الموضوع حتّى لا يلحق المغيرة خزي بإقامة الحد عليه ، ثمّ سأله عما رآه قائلا : أرايته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال : لا. فقال عمر : الله أكبر ، قم يا مغيرة إليهم فاضربهم ... فقام يقيم الحد على الشّهود الثّلاثة. انظر ، وفيات الأعيان : ٦ / ٣٦٨ ، ابن كثير : ٧ / ٨١ ، الطّبريّ : ٤ / ٢٠٧ (بتصرف).

وفيهم شارب الخمر ، وقاتل النّفس المحترمة ... وقد ذمهم القرآن الكريم في مواطن كثيرة أشرنا إليها سابقا. ومنها سورة براءة ... ومنها : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) التّوبة : ١٠١. وفيهم من أخبر الله عنهم بالإفك كما في سورة النّور : ١١ ـ ١٧. ومنهم : من حاول اغتيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عند رجوعه من غزوة تبوك كما في مسند أحمد : ٥ / ٣٩٠ ـ ٤٥٣ ، صحيح مسلم : ٨ / ١٣٢ ، مجمع الزّوائد : ١ / ١١٠ و : ٦ / ١٩٥ ، مغازي الواقديّ : ٣ / ١٠٤٢ ، إمتاع الأسماع : ٤٧٧ ، الدّر المنثور : ٣ / ٢٥٨ ، والآية : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ،) التّوبة : ٧٤. ـ

١٣٢

__________________

ـ ٣. كيف يجب تعظيمهم جميعا وفيهم من أرتد كما صرح به القرآن الكريم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ ... ،) المائدة : ٥٤. وجاء في السّيرة : «أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد أسلم وهاجر إلى المدينة وكتب الوحي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأرتد في النّهاية مشركا» الإستيعاب : ١ / ٩١٨ ، الإصابة : ٤ / ١٠٩ ، المعارف : ١٣١ و ١٤١.

٤. وبمثل هذا جاءت السّنة النّبوية مبينة ومفصلة ، فقد روى البخاريّ عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما من نبي إلّا كانت له بطانتان ، بطانة تأمره بالمعروف ، وبطانة تأمره بالشر» ، ونحوه في مسند أحمد : ٢ / ٢٨٩. ، وروى البخاريّ أيضا : «أنّهم أرتدوا جميعا على أدبارهم القهقرى ، وأنّهم إلى النّار ولا يخلص منهم إلّا مثل همل النّعم» انظر ، دلائل الصّدق للشيخ محمّد حسن المظفر م ٣ المطلب : ٥ / ٤ ، نقلا عن البخاريّ وانظر ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٤ / ٤٥٤ ، فكيف نعظم هؤلاء أيها المؤرخون الكرام؟

٥. كيف نعظم ونقدس ونأخذ بروايات من قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أللهمّ إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد» مرتين رواه البخاريّ في المغازي باب بعثة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خالد بن الوليد إلى جذيمة ، ورواه في كتاب الأحكام إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد ، وفي الصّحيح : ٣ / ٧١ ، والطّبريّ في تأريخه : ٣ / ١٢٢ ، والكامل في التّأريخ لابن الأثير : ٢ / ١٢٣. ، ولو كان ما فعله خالد صوابا لما تبرأ الرّسول منه ، وإذا كان خالد قد خالفه في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله فتبرأ منه ، فكيف نقتدي به بعد مماته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل الأجدر بنا أن نتبرأ من كلّ عمل يصدر من هذا الرّجل طبقا لقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ...) الأحزاب : ٢١.

٦. كيف نعظم ونقتدي بمن أسلم وفي نفس اليوم أمّره الخليفة الثّاني وولاه على المسلمين ، وهو لم يصلّ ركعة واحدة ، فقد روى صاحب الأغانيّ : «أسلم أمرؤ القيس على يد عمر وولاه قبل أن يصلي لله ركعة واحدة» الأغاني : ١٤ / ١٥٨ ، طبعة ساسي ، جمهرة أنساب العرب : ٢٨٤.

ومثله علقمة بن علاثة الكلبيّ أسلم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأدرك صحبته ، ثم أرتد على عهد أبي بكر ، فبعث أبو بكر إليه خالدا ففر منه. قالوا : ثمّ رجع فأسلم. المصدر السّابق : ١٥ / ٥٠ ، وفي الجمهرة : ٢٨٤ ، وفي الإصابة : «... شرب الخمر على عهد عمر فحده ، فأرتد ولحق بالروم .. ، ثمّ رجع وأسلم ...» والقصة طويلة. وبالتالي ولاه الخليفة عمر بن الخطاب حوران ـ كورة من أعمال دمشق ـ انظر القصة كاملة في المصدرين السّابقين ، والإصابة : ٢ / ٤٩٦ و ٤٩٨ ترجمته. ـ

١٣٣

ولكن ، كيف نوفق بين موقف كهذا وبين الخضوع المطلق ، والولاء العميق الّذي يضمره المسلم لله ، ولكتابه ، ولرسوله الّذي هو المبلغ عن الله ، والمبين

__________________

ـ ٧. كيف نعظم ونقتدي ونهتدي بمن قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «... فأقول سحقا سحقا»؟ سنن ابن ماجة : ٢ / ١٤٣٩ ح ٤٣٠٦ باب الحوض ، مسند أحمد : ٦ / ٢٩٧ ، مصابيح السّنة : ٣ / ٥٣٧ ح ٤٣١٥. وفي حديث الحوض المشهور : «فأقول : يا رب ، أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»؟ صحيح البخاريّ : ٩ / ٨٣ ح ٣ ـ الفتن ، صحيح مسلم : ٤ / ١٧٩٦ ح ٢٢٩٧ ، مسند أحمد : ٣ / ١٤٠ ، ٢٨١ ، الموطأ : ٢ / ٤٦٢ ح ٣٢.

٨. كيف نعظم ونقدس ونقتدي ونهتدي بمن شرب الخمر من الصّحابة الّذين ادعى بعض منهم أنهم من كتّاب الوحي؟ فقد جاء في مسند أحمد : «عن عبد الله بن بريدة الأسلمي قال : دخلت أنا وأبي على معاوية بن أبي سفيان فأجلسنا على الفرش ، ثمّ أتينا بالطعام فأكلنا ، ثمّ أتينا بالشراب فشرب معاوية ، ثمّ ناول أبي ، قال : ما شربته منذ حرمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... مسند أحمد : ٥ / ٣٤٧.

٩. كيف نهتدي ونقتدي بمن لا يستطيع أن يمتثل لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو مرة واحدة في عمره ، حتّى ولو في أبسط الأشياء ، كتغيير اسمه مثلا؟ فقد ورد أنّ سعيد ابن المسيب حدث أنّ جده حزن ، قدم على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ما اسمك؟ قال اسمي حزن ، قال : بل أنت سهل ، قال : ما أنا بمغير اسما سمانيه أبي. وفي رواية : قلت : لا أغير اسما سمانيه أبي ، قال ابن المسيب : فما زالت فينا الحزونة ... رواه البخاريّ على نحو ورقتين من آخر كتاب الأدب في باب اسم حزن .. أفبعد هذه العجرفة توجد عجرفة؟

١٠. كيف نعظم ونقتدي بمن كان منافقا لا يعلمه إلّا الله؟ وقد أخبر نبيه بأنّ عليّا لا يحبه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق ، كما روى ذلك أبو سعيد الخدريّ قال : «إنّا كنّا لنعرف المنافقين نحن معشر الأنصار ببغضهم عليّ بن أبي طالب».

وقال في سنن التّرمذيّ : ٥ / ٦٣٥ ح ٣٧١٧ ، حلية أبي نعيم : ٦ / ٢٨٤ ، تأريخ دمشق (ترجمة الإمام عليّ) : ٢ / ٢٢ ح ٧١٨ ، تأريخ الخلفاء : ٢٠٢ ، المعجم الأوسط : ٤ / ٢٦٤ ح ٤١٥١ ، ومثله في مناقب الخوارزميّ عن طريق آخر : ١ / ٣٣٢ ح ٣٥٣ ، والفضائل لأحمد بن حنبل : ٢ / ٦٣٩ ح ١٠٨٦ ، وتذكرة الخواص : ٢٨ ، وعيون أخبار الرّضا : ٢ / ٦٧ ح ٣٠٥ ، وكفاية الأثر : ١٠٢ ، والعمدة : ٢١٦ ح ٣٣٤ ، المناقب لابن شهرآشوب : ٣ / ٢٠٧ ، قرب الأسناد : ٢٦ ح ٨٦. رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أبغضنا ـ أهل البيت ـ فهو منافق» الفضائل لأحمد : ٢ / ٦٦١ ح ١١٢٦ ، الدّر المنثور : ٧ / ٣٤٩ ، المناقب لابن شهرآشوب : ٣ / ٢٠٥.

١٣٤

لكتابه؟ .. وكيف يمكن أن يكون هذا الموقف بخاصة متوافقا مع منطق الإسلام ، الّذي يبغض أشد البغض كلّ إنقياد أعمى ، ولا يفتأ يمجد العقل ، والرّأي النّاضج ، حتّى في عقائده الأساسية؟

من هنا نفهم إلى أي حدّ أثارت هذه النّظرية رجلا من العقليين ، هو النّظام ، فدفعته إلى أن يعلن أنّ : «الإجماع عبارة عن كلّ قول قامت حجته ، وإن كان قول واحد» (١) ، ولا قيمة لإجماع لا يقوم على حجّة (٢).

فإذا تأملنا من قريب رأي النّظام فسوف نجد أنّه لم يكن مصيبا مطلقا ، ولا مخطئا مطلقا ، فهو محق لأنّه يدافع عن مبدأ سام اعترف به القرآن ، ولكنه أخطأ حين اعتقد أنّه كشف عن شرط أولي جهله كلّ النّاس قبله.

فلا بد إذن من إيضاح لتحديد هذا الإجماع ، الّذي يمكن أن يعتمد عليه المسلم ، كسلطة تشريعية مؤكدة ، ومعتمدة عند القضاء.

فكلمة (إجماع) تترجم عموما بكلمة (٣) [Consensus] ، [Consensus]

__________________

(١) انظر : الغزالي في المستصفى : ١٣٧.

(٢) إنّ حجية الإجماع منحصرة عند الشّيعة الإمامية بما إذا كان مشتملا على قول المعصوم أو رأيه أو رضاه قطعا ، ويقسم إجماع الفقهاء إلى قسمين : إتفاقهم في المسائل التّفريعية الّتي يكون للنظر والإجتهاد فيها دخل في إثباتها.

وبعبارة أخرى : ما لا يكون دليلها منحصرا في السّمع ، وبمثل هذا الإتفاق لا يكشف عن قول الإمام عليه‌السلام. وثانيا : أنّ طريقها منحصرا في السّمع كمسألة العول مثلا بشرط أن يتصل إلى زمن المعصوم عليه‌السلام .. انظر ، تقريرات في أصول الفقه للسيد البروجردي : ٢٨٥ ، الهداية للشيخ الصّدوق : ٢٢ ، رسائل المرتضى : ١ / ١١ ، غنية النّزوع لابن زهرة : ٢٨ ، وراجع الاصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم ، المبحث الثّالث : ٢٥٣.

(٣) كلمة لا تينية معناه : الإتفاق بين عدة أشخاص ، أو عدة هيئات. «المعرب».

١٣٥

[Ominium] ، وهى ترجمة غير كاملة تماما ، والواقع أنّه لا يجب أن نتصور هذا الإتفاق على طريقة تصويت شامل ، ناشيء عن استفتاء مفروض على شعب بأكمله ، أو على جميع الشّعوب الإسلامية ، بحيث يشترك فيه أجهل النّاس ، وغير المختصين ، على قدم المساواة مع أعلم النّاس. كما لا يجب أن نتمثل المجموعة المقترحة على هيئة مجمع ديني ، أو جمعية عامة ، أعضاؤها منتخبون أو معينون ، تجتمع تحت سقف وأحد لمناقشة بعض المسائل العقيدية ، أو الإقتصادية ، أو السّياسية ، فالإجماع لا يشبه شيئا من هذه المنظمات الغربية ، لا في شكله ، ولا في موضوعه.

أمّا من ناحية الموضوع فإنّ دور الإجماع هو حسم مشكلة جديدة (١). ذات طابع أخلاقي أو فقهي : أو عبادي ، دون أن يكون من شأنه أن ينظر في مسائل الحياة التّطبيقية ، أو في مسائل الدّين النّظرية.

فأمّا الحياة المادية فلأنّ أي نصّ لا يعصمنا من أن نرتكب خطأ يتوقع أن يحدث في أي قرار مشترك بهذا الصّدد. وأمّا المسألة الأعتقادية فلسبب يختلف عن هذا ، والواقع أنّه إذا كان إحتمال خطأ الأمّة بأسرها في موضوع ديني ، ذي

__________________

(١) نقول : (جديدة) ، لأنّه إذا كانت المشكلة قد درست من قبل فلذلك حالتان : أن تكون المناقشة قد انتهت إلى اتّفاق أو اختلاف. ففي حالة الإتفاق لا تكون إعادة دراستها عديمة الجدوى فحسب ، بل ينبغي ألّا يكون لها موضع ، وهي أشبه بما إذا كانت المشكلة قد حلت بوساطة الوحي المباشر. وفي حالة الإختلاف سوف يكون للحصول على اتّفاق لا حق بعض الفائدة بلا شك ، ولكنه لن ينشىء إجماعا مؤكدا وحاسما ، لأنّ الرّأي ـ تبعا لكثير من الاصوليين ـ لا يموت بموت أصحابه ، وبذلك لن يكون الإتفاق إجماعيا.

١٣٦

طابع عملي ـ أمرا ينبغي أن يستبعد من الأفتراض ، فمن الأولى أن يستبعد ذلك فيما يتعلق بموضوع الإيمان. وغاية الأمر أن يقال : إنّ الرّجوع إلى الإجماع في هذا المجال لا تلتقي عنده بالرضى كلّ المشاعر ، والقلوب (١).

وإذا كان بعضهم قد أجازه في المسائل الثّانوية ، فإنّ أحدا لم يوافق عليه فيما يتصل بالعقائد الأساسية ، فليس لمسلم الحقّ مطلقا في أن يلجأ إلى سلطة الآخرين ليؤسس إيمانه ، فإنّ بناء الدّين على أساس لا يوضع إلّا بوساطة الدّين نفسه هو أشبه بالدوران في حلقة مفرغة.

وأمّا من حيث الشّروط الّتي ينبغي أن يتم بها التّصويت لإنشاء سلطة تشريعية قطعية الأحكام ـ فإنّ القاعدة الثّابتة تبدي إلحاحا شديدا على جوهر الموضوع ، وإن ظلت غير عابئة مطلقا بالشكل الخارجي ، الّذي يمكن أن يتولاه تنظيم الهيئة المقترعة. وكون الأعضاء معينين ، أو غير معينين بوساطة الدّولة ، منتخبين ، أو غير منتخبين بوساطة الشّعب ، وإجتماعهم في جلسة عامة ، أو تفرقهم في أنحاء الأرض ـ كلّ ذلك لا يؤثر في شيء على قيمة النّتيجة ، بشرط أن تكون صادرة في دقة ، وإحكام.

فجوهر القضية أن يكون كلّ عضو مدركا لإستقلاله الأدبي ، ولمسئوليته الأخلاقية ، وأن يعبر عن رأيه في حرية ، بعد تأمل ناضج في المشكلة المعروضة.

__________________

(١) انظر ، ابن عبد الشّكور في (مسلم الثّبوت) : ٢ / ٢٤٦ هامش المستصفى ، ورسائل السّيد المرتضى : ٣ / ٣١٣ ، لتجد بحثا مفصلا.

١٣٧

بيد أنّ الأمر الجدير حقا بأن يشدّ أهتمامنا هو : أنّ أحدا لا يمكن أن يعتبر عضوا في هذه الجماعة إلّا إذا حاز من قبل صفة العالم المتخصص في المادة ، أعني : أن يحقق الشّروط المطلوبة فيمن يكون له حقّ الرّجوع مباشرة إلى المصادر ، ليستقي منها الأحكام على منهج العلماء. وبعبارة أخرى : يجب ألا يقتصر جهد جميع الأعضاء على أن يضعوا تحت أيديهم الوثائق اللازمة لحلّ هذه المشكلة أو تلك ، بل يلزمهم أيضا أن يكونوا متمرسين بنقد النّصوص الّتي تحتاج إلى إثبات ، عند ما لا يكون لديهم نقد موثق. ويلزمهم بعد ذلك أن يعرفوا اللّغة معرفة عميقة ، في أسلوبها الحقيقي ، وفي أسلوبها المجازي ، وأن يحسنوا إدراك الأفكار الأساسية ، والأفكار الثّانوية ، سواء أكانت هذه الأفكار ملفوظة أم ملحوظة ، ويلزمهم فضلا عن ذلك أن يكونوا على قدم راسخة في تأريخ التّشريع الإسلامي للمسألة ، وأن يحيطوا بأسباب النّزول ، وبالناسخ ، والمنسوخ إن وجد. وأخيرا يجب أن يتعمقوا روح الشّرع ، وغاياته الّتي يهدف إليها ، من خلال تطبيقاته على عهد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصحابته.

فالإجماع على هذا أبعد شيء من أن يكون تلفيقا لآراء معتسفة ، ذاتية ، طائشة ، ناتجة آليا عن التّقليد ، أو مدفوعة بروح المحاباة المغرضة. إنّه يتجلى لأعيننا على أنّه وحدة اليقين الرّاسخ ، وحقيقته ، اليقين الّذي تفرضه حقيقة الأشياء على كلّ الأنفس المستنيرة.

وإنّا لنعلم كم تفرق الظّروف الذاتية آراءنا الشّخصية ، وندرك إلى أي مدى تعمل هذه الظّروف على تفرقها ، وإختلافها غالبا. وعلى هذا ، فلو حدث في ظروف كهذه ، يبذل فيها كلّ فرد جهده العقلي ، تبعا لطريقته الخاصة في التّفكير ،

١٣٨

ومستقلا عن كلّ تأثير خارجي. ـ لو حدث أن انته هذا الجهد إلى نفس الحل الّذي انتهت إليه جهود الآخرين. فما ذلك إلّا لأنّ هذا الحل قد تجلى من خلال الضّمائر كلّها في وضوح وصدق لا يقبلان المناقشة.

فعصمة الإجماع ، الّتي هي موضوعنا هنا ، ليست في حقيقة الأمر منسوبة إلى المفكرين أنفسهم ، ولا إلى هذا النّص الخاص ، أو ذاك ، مما يمكن أن ترفض صحته ، أو يختلف تأويله وتفسيره ، ولكنها تكمن في ذلك الرّجوع إلى مجموع الوثائق القرآنية ، والنّبويّة الصّحيحة ، ودراستها دراسة ناضجة ، وبناء عليها يؤسس مفكرونا ما يصدرن من أحكام.

رابعا : القياس :

على حين آمنت المدّرسة الظّاهرية ، أو التّفسيرية ، بوجوب الإقتصار على المصادر الثّلاثة السّابقة : (الكتاب ، والسّنة ، والإجماع) ـ فقد مضت المذاهب الأخرى ـ إستنادا إلى ما فعله صحابة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى رأي أكثر تابعيهم ـ إلى مصدر رابع وأخير ، أطلق عليه : القياس (١).

أيجب أن نعتقد أنّ نظريتهم هذه تنزع إلى أن تخلع على هذا النّوع من التّشريع صفة الإستقلال العقلي الّذي سبق أن رفضناه بالنسبة إلى القرار الإجماعي ، وبالنسبة إلى النّبي نفسه ..؟ ..

__________________

(١) لسنا بصدد دراسة الأصول حتّى نبين ما هو القياس ، بل بصدد تحقيق كتاب دستور الأخلاق ، لذا نحيل القارىء الكريم إلى بعض المصادر لكي يتعرف على حقيقة القياس ، وتعريفه ، وحجيته ، ومن يؤمن به ، ومن لا يؤمن به. انظر ، اصول الفقه للشيخ محمد رضا المظفر : ٢ / ١٦٤ ، اصول الفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم : ٣٠١ المبحث الخامس ، المحصول للرازي : ٢٨ ... إلخ.

١٣٩

ـ كلا ... فهذا الإستدلال بمقتضى تعريفه ، نفسه يفترض وجود حالة نقيس عليها ، تمثل بها الحالة الجديدة ، وعليه فالحالة الّنموذج ينبغي أن يسبق ذكرها في القرآن ، أو في الحديث ، أو في الإجماع. وفضلا عن ذلك فإنّ الطّابع المشترك بين الحالتين يجب : إمّا أن ينشىء (١) علة التّشريع ، وإمّا أن ينطوي (٢) عليها. والمراد بالعلة : السّبب الّذي من أجله طبق حل الحالة الأولى.

وبناء على ذلك فإذا كان هذا الطّابع المشترك قد عين صراحة في النّص ، أو أعترف به الإجماع ، على أنّه سبب وجود الحل الأصلي. فليس هنالك أية صعوبة ، حتّى من قبل المدرسة الظّاهرية ، لكي نجعل هذا الطّابع دليلا ، بل شرطا ضروريا ، وكافيا للحكم الصّادر من قبل ، ومن ثمّ لا صعوبة أيضا في تعميم هذا الحكم ، وتطبيقه أينما توفرت العلة الثّابتة.

بيد أنّه في الحال الّتي لا يمكن فيها إستخراج هذا التّعليل ، أو هذه العلاقة السّببية ، إلّا بواسطة جهد دقيق في البرهنة ، قلّ أو كثرّ ـ أيجب في هذه الحال أن نعد هذا التّعليل بما يستقى منه من نتائج ـ مما تقتضيه روح الشّريعة المنزلة؟ ..

في رأينا أنّ الإجابة عن هذا السّؤال ينبغي أن تشتمل درجات ، ولكن سكوت المدرسة الظّاهرية عنه لا يعد على الأقل مانعا من إساءة استعمال بعض الفقهاء للحرية العقلية.

وبعكس ذلك مذهب المالكية ، الّذي مضى إلى ما هو أبعد من ذلك في الإتجاه المتحرر ، مستندا إلى ما حدث من أمثلة على عهد المسلمين الأوائل.

__________________

(١) انظر : قياس العلة.

(٢) انظر : قياس الشّبه.

١٤٠