دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

وكأنّه كلب مسعور!!.

ومع ذلك ، إنّ بضعة ملاحظات هنا من شأنها أن تخفف هذه الصّفة الّتي تصدمنا. ذلك أنّ القرآن من أوّل وهلة قد أحاط تشريع هتك العرض بعامة بعدة إحتياطات تجعل إثبات الجريمة أمرا في غاية العسر ، إن لم يكن مستحيلا من النّاحية العملية. فالمبلّغ الّذي لا يعتمد في تبليغه على شهادة أربعة رجال عدول صادقين ، يشهدون ، لا على معاشرة امرأة لرجل أجنبي في حجرة واحدة فحسب ، بل على وصف الواقع المحدد ـ هذا المبلغ ما لم يكن كذلك يعاقب هو نفسه بثمانين جلدة ، بتهمة البلاغ الكاذب.

ثمّ تردّ منذئذ شهادته أمام القضاء ، والله يقول : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (١).

كذلك لسنا نجد في السّنة مثالا واحد قامت فيه الإدانة بالزنا على الشّهادة ، بل إنّ الحكم صدر على أساس من الإقرار التّلقائي للمذنب نفسه.

وحتّى هذا الإقرار التّلقائي ـ وهو النّقطة الثّانية ـ لا يكفي في ذاته لكي يفرض إدانة ، بل يجب التّأكد من أنّ المعترف يدرك تماما ما يقول (أعني أنّ الأمر بالنسبة إليه لا يعني مطلقا تعبيرا مجازيا. زنا بالقلب ، أو بالعين .. إلخ أو فعلا زوجيا محرما في لحظة معينه ، كفترة الصّوم مثلا ..) ويجب أيضا أن يصر على هذا الإقرار حتّى النّهاية ، وألا يكذبه مطلقا بإنكار لا حق ، صريح ، أو ضمني.

__________________

(١) النّور : ٤.

٤٠١

وهناك أيضا نجد أنّ كثيرا من الفقهاء الّذين جعلوا من حالة «ماعز» قاعدة عامة ، لا يرتبون على هذا الإقرار أثرا إلّا بشرط أن يتكرر أربع مرات ، في موضع الشّهود الأربعة (١). وأيّا ما كان أمر هذا التّفصيل ، فإنّ قاعدة في الإجراءات العامة تظل دون مراء مسلما بها ، هي : أنّ براءة كلّ فرد هي الأساس الأوّل.

والواقع أنّ التّشريع الإسلامي يجعل من حياة الإنسان ، وبدنه ، وماله ، وعرضه ـ أشياء مقدسة ، أو حرمات ، وهو ما قرره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «إنّ دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ـ وفي رواية : وأبشاركم ـ بينكم حرام كحرمة يومكم هذا ...» (٢).

وإذن فلسنا نستطيع أن نخرج من هذا اليقين الأولي إلّا بيقين عكسي ، أي أنّه يجب أن نستنفد كلّ الفروض المعقولة لمصلحة المتهم ، وألّا ندينه هكذا إعتباطا ، على حين يمكن أن تثبت براءته بسبب صحيح (٣).

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٦ / ٢٤٨٧ ح ٦٣٩٠ ـ ٦٣٩٥ ، سنن البيهقي الكبرى : ٧ / ٣٥٩ ، سنن أبي داود : ٤ / ١٤٥ ح ٤٤٢٠ ، فتح الباري : ٣ / ١٩٩ ، عون المعبود : ٨ / ٣٣٠ ، تحفة الأحوذي : ٤ / ٥٧٣ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١١ / ١٨٩ ، تهذيب التّهذيب : ٥ / ٩٨ ح ١٩٠ ، تهذيب الكمال : ١٤ / ١٩٠ ، الإصابة : ٣ / ٢٩٩ ح ٣٨٠٠ ، نصب الرّاية : ٣ / ٢٣٢١ ، سبل السّلام : ٤ / ٤ ، المغني : ٩ / ٦١.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٣٧ ح ٦٧ وص : ٥٢ ح ١٠٥ و : ٢ / ٦١٩ ح ١٦٥٢ وص : ٦٢٠ ح ١٦٥٤ و : ٤ / ١٥٩٨ ح ٤١٤١ ، المهذب : ٢ / ٤٥٥ ، منته المطلب : ٢ / ٧١٣ ، صحيح ابن حبان : ٤ / ٣١١ و : ٩ / ٢٥٦ ، المستدرك على الصّحيحين : ١ / ٦٤٧ ح ١٧٤٢ ، الكافي : ٧ / ٢٧٣ ح ١٢ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٤٦١ ح ٢١٥٩ و : ٥ / ٢٧٣ ح ٣٠٨٧ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٦٩ ، مجمع الزّوائد : ١ / ١٣٩ ، مصباح الزّجاجة : ٤ / ١٦٣ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ٧٧ ، سنن البيهقي الكبرى : ٥ / ٨ ، سنن أبي داود : ٢ / ١٨٥ ، وسائل الشّيعة : ١٩ / ٣ ح ٣.

(٣) ونقول (صحيح) ، لأنّ أي إفتراض وهمي ، أو معارض بالوقائع لن يقوى ـ كما بين ابن حزم في كتابه ـ

٤٠٢

وإليك الملاحظة الثّالثة ، والأخيرة ، الّتي تمس أساس المشكلة ذاته ، فنحن إذا أكدنا أنّ التّشريع الإسلامي لا يسعى إلى كشف الجرائم الخاصة ، وأنّه لا يلزم أحدا ، ولا يدعوه أن يعترف بها ـ لم يكن هذا القول كافيا ، فالحقيقة هي أنّ المصدرين الرّئيسين للتشريع الإسلامي لا يكتفيان هنا بمجرد الإمتناع ، وإنّما يتخذان موقفا واضحا وصريحا. فالقرآن يحرم علينا صراحة أن نستطلع أسرار إخواننا ، فقال سبحانه وتعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا) (١) ، وهكذا يقطع نصف الطّريق على الواشين. وليس يخضع للقضاء سوى الرّذيلة الّتي تتفشى ، وتعرض نفسها ، وتتحدى ، أمّا حالة الإنسان الّذي يستتر ، وترتعد فرائصه حين يخضع لأهوائه ،

__________________

ـ (المحلى) : ١١ / ٢٤٣ ـ على أنّه يفرض إدانة. أو يؤسس براءة ، وإذن فمن الواجب ألّا نحمل القولة القانونية المشهورة ، «إدرءوا الحدود بالشبهات» ـ على معنى شامل غير مسلم به ، وهى قولة معدودة غالبا على أنّها حديث ، مع أنّ أصلها في الواقع لا يرقى إلى أكثر من الجيل الثّاني من المسلمين ، ولكن حين قيدت القولة على هذا النّحو ، وفسرت كما هو مطلوب ، أصبح ممكنا قبولها ، بل قبلت فعلا من الجميع.

انظر ، المقنع للشيخ الصّدوق : ٤٣٧ ، الخلاف : ٣ / ٣٤٦ ، من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٥٣ ح ١٩٠ ، الجامع الصّغير : ١ / ٥٢ ح ٣١٤ ، فيض القدير : ١ / ٢٢٧ و : ٦ / ٤٥٣ ، نصب الرّاية : ٣ / ٣٣٣ ، تلخيص الحبير : ٤ / ٥٦ ح ١٧٥٥ ، كنز العمال : ٥ / ٣٠٥ ح ١٢٩٥٧ و ١٢٩٧٢ ، السّرائر لابن إدريس : ٣ / ٤٤٥ ، تفسير القرطبي : ٣ / ٢٩٨ ، مصباح الزّجاجة : ٣ / ١٠٣ ، حلية الأولياء : ٩ / ١٠ ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد : ٢ / ٢٩٧ ، الإحكام : ٢ / ١٣٠ ، المدونة : ٦ / ٢٣٦.

ومع ذلك يروي التّرمذي في سننه : ٤ / ٣٣ ح ١٤٢٤ قولة أخرى شبيهة بهذه ، ويرفعها إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إدرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم». انظر ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٤٢٦ ح ٨١٦٣ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ٢٣٨ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٥ / ٥١٢ ح ٢٨٥٠٢ ، المصنّف لعبد الرّزاق : ١٠ / ١٦٦ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ٨٢ ح ٢٥٦ ، سنن ابن ماجه : ١ / ١٨٣ ح ٢٥٥١.

(١) الحجرات : ١٢.

٤٠٣

وهو الواقع الّذي لا ينكشف لنا ، لا بذاته ، ولا بوساطة صاحبه فإنّه سوف يكون من إختصاص محكمة أخرى غير محكمة البشر ، والطّريقة الّتي سوف يحاكم بها تتجاوز معرفتنا الرّاهنة ، والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ومن أصاب من ذلك شيئا ثمّ ستره الله فهو إلى الله ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه» (١) ، وحتّى لو أنني فاجأت أحدا من النّاس ـ دون قصد مني ـ وكان يحاول أن يسرقني ، أو يرتكب خطأ أخلاقيا شخصيا ، بل لو قبضت عليه متلبسا بجرمه ، فلست ملزما بأن أقدمه للعدالة ، وقد كان من توجيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما روي عن سعيد بن المسيب أنّه قال : «بلغني أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل من أسلم ، يقال له : هزّال : «يا هزّال ، لو سترته بردائك لكان خيرا لك» (٢) ـ أي أننا في تقديمنا إياه إلى العدالة يجب أن نكون ـ في غالب الأمر ـ على بصيرة بأمره ، ومراعاة لجميع الظّروف الّتي أقدم فيها على فعلته ، فعلى حين أنّ من الأفضل لخير النّاس جميعا أن يسلم محترف الجريمة الشّرير إلى السّلطة الشّرعية ، نجد أنّ المسكين الّذي ربما أخطأ صدفة ، وبتأثير الضّعف ـ قد يستحق أن يشمله عفونا (٣).

__________________

(١) من حديث في صحيح البخاري : ١ / ١٥ ح ١٨ و : ٣ / ١٤١٣ ح ٣٦٧٩ و : ٦ / ٢٦٣٧ ح ٦٧٨٧ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٢٩٠ ح ٢٤٥٣ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ١٨ ، سنن الدّارقطني : ٣ / ٢١٤ ح ٤٠٠ ، فيض القدير : ٦ / ٤٥ ، المحلى : ٧ / ٤٩٥ ، وهو نصّ مبايعة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجماعة من أصحابه منهم عبادة بن الصّامت.

(٢) انظر ، الموطأ للإمام مالك : ٢ / ٨٢١ ح ١٤٩٩ ، الّتمهيد لابن عبد البر : ٢٣ / ١٢٥ ح ٧٠٧ ، مسند أحمد : ٥ / ٢١٧ ح ٢١٩٤١ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ٣٣٠ ، السّنن الكبرى : ٤ / ٢٧٧ وص : ٣٠٦ ح ٧٢٧٦ ، مسند الرّبيع : ١ / ١٣٧ ح ٣٣٥ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٥ / ٥٤٠ ح ٢٨٧٨٤.

(٣) قال ابن حزم في المحلى : ١١ / ١٨٥ : «فنظرنا في ذلك فوجدنا قد صح بالبراهين الّتي قد أوردنا قبل ، ـ

٤٠٤

ومن ناحية أخرى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستهجن ذلك الميل الخطير لدى بعض النّاس ، الّذي يقعون في الحرام خفية ، ثمّ إذا بهم يثرثرون بما فعلوا ، وينشرون قصة مغامرتهم هذه ، فرحين غير مبالين ، يقول الرّسول : «كلّ أمتي معافي إلّا المجاهرين ، وإنّ من المجانة أن يعمل الرّجل بالليل عملا ، ثمّ يصبح وقد ستره الله فيقول : عملت البارحة كذا ، وكذا ، وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عنه» (١).

ما الفائدة الّتي يجنيها امرؤ في الواقع من أن يجعل الآخرين شهودا على سقوطه؟ ... ولما ذا يضم إلى فساده ، ومجونه وقاحة الإستعلان به ، بدلا من أن يستره حياء ، كما يستر عورته؟ وأي جنون أن يجلب امرؤ على نفسه إحتقار النّاس ، فضلا عن إحتقار الله له ، وإحتقار ضميره ذاته؟ وأي جنون أن يضيف في

__________________

ـ أنّ الحدّ لا يجب إلّا بعد بلوغه إلى الإمام ، وصحته عنده ، فإذا الأمر كذلك فالترك لطلب صاحبه قبل ذلك مباح ، لأنّه لم يجب عليه فيما فعل حدّ بعد ، ورفعه أيضا مباح ، إذ لم يمنع من ذلك نصّ ، ولا إجماع ، فإذ كلا الأمرين مباح فالأحب إلينا ، دون أن يفتى به ، أن يعفى عنه ما كان وهلة ومستورا ، فإن آذى صاحبه وجاهر فرفعه أحبّ إلينا» ، وغرض الظّاهرية من هذا الموقف أن يرجح دائما الجانب الّذي يحقق مصلحة الجماعة والفرد معا ، فإن تعارضت المصلحتان قدمت مصلحة الجماعة ، وأدب الفرد تأديبا بقدر ما يستحق بإنحرافه ، وفي ذلك أيضا تربية لمن تقع له عورة مسلم ، أن يسترها ، إيثارا وترفعا عن التّعرض لأعراض النّاس ، حتّى من يقعون تحت طائلة القانون. فأين هذا ممن يلغون في أعراض الأبرياء ، ومن حرفتهم تلفيق التّهم للعباد ، ونشر الأكاذيب لتدمير أخلاقيات المجتمع ، وهدم سمعة الأفراد؟! .. (المعرب).

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٥ / ٢٢٥٤ ح ٥٧٢١ ، صحيح مسلم : ٤ / ٣٢٩١ ح ٢٩٩٠ ، تفسير القرطبي : ١٤ / ٦١ ، مجمع الزّوائد : ١٠ / ١٩٢ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ٣٢٩ ، المعجم الأوسط : ٤ / ٣٨٣ ح ٤٤٩٨ ، المعجم الصّغير : ١ / ٣٧٨ ح ٦٣٢ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٣ / ٢٦٧ ح ٤٧٩٥ ، فيض القدير : ٥ / ١٢ ، التّذكرة : ٢ / ٤٥٦.

٤٠٥

النّهاية إلى شقائه الأخلاقي شرا ماديا على جانب من القساوة كبير؟ ...

ومع ذلك فهناك من يفعلون ذلك قصدا ، وهم على بصيرة من الأمر ، هناك من يجيئون يطلبون عقابهم ، كيما يشبعوا حاجة طاهرة إلى التّوبة ، ويتحملون في ثبات أشد الآلام فظاعة ، دون أن يجدوا في ذلك شقاء ، بل إنّهم يستشعرون فيه سعادة عميقة ، وشافية ، ويرونه وسيلة إلى أن يتخلصوا نهائيا من دنسهم الأخلاقي.

إننا نتخذ تجاه هؤلاء ـ على العكس ـ موقفا فيه الكثير من التّعاطف معهم ، ونستشعر إعجابا عميقا بلمحتهم البطولية.

بل إنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على الرّغم من أنّه تباطأ ـ إبتداء ـ في تقبل إعتراف ماعز ، لم يكتف ـ إنتهاء ـ بالنزول على إلحاحه ، ولكنه أكبر شجاعته ، وعرف لرجوعه إلى الله قيمته العليا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد تاب توبة لو قسمت على أمّة لوسعتها» (١) ، وأثنى كذلك على ما قاسته المرأة الجهينية فقال : «لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لو سعتهم ، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله ..؟» (٢).

__________________

(١) انظر صحيح مسلم : ٣ / ١٣٢٢ ، معتصر المختصر : ١ / ١٠٦ ، فتح الباري : ١٢ / ١٣٠ ، عون المعبود : ١٢ / ٢٩ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٥٦ ح ١٤٥٤ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ٢٦٨ ، سنن البيهقي الكبرى : ٦ / ٨٣ ح ١١٢٣١ ، سنن الدّارقطني : ٣ / ٩١ ، سنن أبي داود : ٤ / ١٣٤ ح ٤٣٧٩ ، مسند أحمد : ٦ / ٣٩٩ ح ٢٧٢٨٣ ، المعجم الكبير : ١١ / ٣٦٩ ح ١٢١١١.

(٢) انظر ، صحيح مسلم : ٣ / ١٣٢٣ ح ١٦٩٥ و ١٦٩٦ ، المنتقى لابن الجارود : ١ / ٢٠٧ ح ٨١٥ ، صحيح ابن حبان : ١٠ / ٢٥١ و ٢٨٩ ح ٤٤٤١ و ٤٤٤٢ ، موارد الظّمآن : ١ / ٣٦٣ ح ١٥١٢ ، سنن التّرمذي : ـ

٤٠٦

وإذن فليس لنا أن نلوم الشّرع ، بل إنّه الفرد ، في نهاية الأمر ، الّذي ربما يعد قاسيا ، أو متهاونا في حقّ نفسه.

فإذا ما نحينا جانبا تلك الجرائم ، والجنايات الّتي أتينا على ذكرها فإنّ ما تبقى من مخالفات للقانون الأخلاقي ، أو القانون الإجتماعي يستوجب عقوبة تأديبية متنوعة ، ولكن الشّريعة الإسلامية لم تقدم لهذه العقوبات التّأديبية جدولا يختلف بإختلافها ، ولم تحرص على تقديمه.

ولا ريب أنّ عقوبتي الموت ، والقطع ـ من حيث الشّعور العام ـ مستبعدتان من الجزاء التّأديبي ، فالأولى خاصة بالقتلة ، والزّناة ، والثّانية خاصة بالسرقة وقطاع الطّرق ، بيد أنّه فيما خلا هذا التّحديد السّلبي ليس هناك أي تحديد إيجابي للإجراء الّذي يتخذ بالنسبة إلى كلّ حالة نوعية ، ولا بالنسبة إلى كلّ حالة خاصة.

فعلى حين أنّه بالنسبة إلى الجزاء المحدد (أو إقامة الحدود) تكون مهمة العدالة محددة تحديدا دقيقا ، بإثبات الوقائع ، الّتي متى أتضحت تستدعي بصورة ما ـ عقوباتها تلقائيا ، فإنّ إهتمام المحكمة هنا يتجه بعد ذلك إلى مرحلة ثانية ليست بأقل أهمية : هي إختيار العقوبة الّتي ينبغي تطبيقها ، وفي هذا الإختيار سوف يتحرك ذكاء القاضي ، وفطنته ـ في الظّاهر ـ حركة بالغة الحرية ، ولكن هذه الحرية في الواقع ليست سوى مرادف للمسئولية الثّقيلة. إذ لما كان هنالك إعتبارات مختلفة تجب مراعاتها ، وكان على عنصر النّسبية أن يتدخل فإنّ

__________________

ـ ٤ / ٤٢ ح ١٤٣٥ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٢٣٤ ح ٢٣٢٤ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ٢٥٢ ، بالإضافة إلى المصادر السّابقة.

٤٠٧

القاضي سوف يؤدي هنا دور الطّبيب المعالج تماما ، فكما أنّ الطّبيب يجب أن يرعى مزاج المريض ، والخصائص النّفسية الكيمائية للدواء ، والظّروف الزّمانية ، والمكانية للعلاج. قبل أن يصف الدّواء الأكثر فاعلية ، والأقل إزعاجا ، في كلّ حالة تعرض عليه ؛ فكذلك الأمر هنا ، تتأثر العقوبة تبعا لثقل الواجب المختان ، وطبيعة المجرم ، والظّروف الّتي خالف فيها القاعدة ، ومشاعر أصحاب الحقّ (حين تتصل الجريمة بأضرار ترتكب في حقّ الغير) ، إنّ العقوبة حينئذ يجب أن تتنوع بدقة ، إبتداء من مجرد التّأنيب على إنفراد ، أو التّعنيف أمام العامة ، على تفاوت في قساوته ، حتّى السّجن ، زمنا يطول أو يقصر ؛ والجلد ، عددا يقل أو يكثر ، ولكنه لا يصح بعامة أن يبلغ عدد الجلد المنصوص عليه في الحدود (وهذه النّقطة موضع خلاف).

هذه الطّرق في العقوبة لا تقتصر على كونها قابلة لمختلف الأشكال المخففة على تفاوت تبعا للحالة المعروضة ، بل إنّ التّعنيف ذاته يمكن أن يهبط إلى درجة نصيحة خيرة ، أو تعليم خالص منزه ، ـ ليس هذا فحسب ، بل إنّ من حقّ القاضي ، وربما من واجبه ـ أن يغضي بكلّ بساطة عن بعض الأخطاء القليلة حين تقع من إنسان ذي خلق ، وقد ورد في ذلك أثر منسوب إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه لا يرقى إلى مرتبة الصّحة العالية ، قال : «أقيلوا ذوي الهيئات (أو ذوي الصّلاح) عثراتهم ، إلّا الحدود» (١).

__________________

(١) انظر ، سنن أبي داود : ٤ / ١٣٣ ح ٤٣٧٥ ، الجامع الصّغير : ١ / ٤٨ ، طبعة دار الكاتب العربي. والحديث ـ

٤٠٨

٣ ـ نظام التّوجيه القرآني ، ومكان الجزاء الإلهي :

لقد تناولنا حتّى الآن التّشريع القرآني في الجزاء الأخلاقي ، والجزاء الشّرعي ، وعلى الرّغم من اختلاف طبيعتهما ، وتعارض مجالات تأثيرهما ، ومناهجهما ، وأهدافهما ، حيث يؤثر أحدهما مباشرة على النّفس الإنسانية ، ويستهدف المطلق ، على حين لا يبلغ الآخر مباشرة سوى الحواس الظّاهرة ، ولا يرى أمامه سوى النّظام الإجتماعي. على الرّغم من هذا كلّه ، فإنّ بين نوعي الجزاء اللذين درسناهما آنفا حظا مشتركا ، هو أنّهما ينتميان إلى مجال الواقع ، وأنّهما يمارسان في هذه الدّنيا.

وعلينا أن ندرس الآن طبيعة الجزاء الإلهي ، وإمتداده ، ثمّ نحدد مكانته في نظام التّربية الأخلاقية القرآنية.

إنّ في العالم غير الإسلامي فكرة ذائعة تقول بأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يلق عنتا في هداية الشّعب العربي ، لأنّ الحرارة المحرقة ، وظروف الحياة القاسية كانا لديه وسيلتين مؤثرتين لإجتذاب قومه ، ودعوتهم إلى حياة أفضل ، لقد قال لهم : إفعلوا ما آمركم به ، ولسوف يعطيكم الله أنهارا وجنات ، تأكلون فيها وتشربون ما تشاءون (١).

ولم يكن من شأن الأدب الشّعبي وحده أن يدور حول هذه الفكرة : «جنّة

__________________

ـ مروي عن عائشة في مسند أحمد : ٦ / ١٨١ ح ٢٥٥١٣ ، حلية الأولياء : ٩ / ٤٣ ، المعجم الأوسط : ٣ / ٢٧٧ ح ٣١٣٩ ، السّنن الكبرى : ٤ / ٣١٠ ح ٧٢٩٣ ، سنن الدّارقطني : ٣ / ٢٠٧ ح ٣٧٠ ، صحيح ابن حبان : ١ / ٢٩٦ ح ٩٤ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ٢٨٢ ، سنن البيهقي الكبرى : ٨ / ١٦١ و ٢٦٧ و ٣٣٤.

(١) انظر ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ٨ / ١٥٠ و ١٦٧.

٤٠٩

محمّد». ولكن مؤرخين وفلاسفة كثيرين (١) قد رددوا نفس المقالة ، ولم يتخلصوا من تأثير هذه الأفكار الجارية ، المقتبسة عن أفكار سابقة ، هي في أغلب الأحيان منقولة سماعا.

إنّ أولئك الّذين ألفوا دراسة التّأريخ العربي الإسلامي يدهشون من هذه الطّريقة في تصور الأمور ، ويستطيعون ، على الأقل أن يقولوا : أنّها تستند إلى معطيات مبتورة ، فالصورة الّتي يقدمونها إليهم ، وهم يصفون الشّعب العربي في هذا الضّوء المادي المسرف ـ تبتعد فعلا عن الواقع نهارا جهارا ، حقّ إنّها تتجاهل السّمة الجوهرية لهذا الشّعب ، الّذي عرف في كلّ زمان بزهده ، وقناعته المفرطة ، كما عرف بروحه الأبية ، والشّعرية المتحمسة ، وإنّ ما تقدمه هذه الصّورة من المثالية الإسلامية ، ورؤاها المنزهة ـ لجد قليل.

أمّا نحن ، فلسنا نريد أن نتوقف عند إعتبارات عامة على هذا النّحو ، معتقدين أنّ الفصل في هذه المسألة يقتضي في أبسط حالاته ، وأعدلها ، أن نرجع بها إلى النّص ذاته. والواقع أننا حين نقرأ القرآن ندرك جيدا الطّريقة الّتي يفرض بها تكليفه الأخلاقي ، ونقتنع بأنّ القول الّذي يصدر عنه هذا التّكليف هو أشد تركيبا من أن ينتهي إلى هذه الصّورة الفجة ، الّتي يريد بعض النّاس أن يعطيناها.

بيد أننا لو قمنا قبل ذلك بمقارنة مع بعض نصوص الكتاب المقدس الّذي إستطاع التّراث المسيحي أن يستبقيه لنا ، فإنّ ذلك سوف يكون مفيدا ، إذ يعين

__________________

(١) انظر في ذلك مثلا ، ١ ـ Kant ,critique de la Raison pratique ,p.٠٣١

G. ـ Demombynes, Institution Musulmanes, P. ٢٦ ـ ٣

٤١٠

على إستخراج المفهوم القرآني في هذا الموضوع ، بما يتميز به من تركيب وغناء. «طرق التّوجيه الكتابية»

ولنرجع أوّلا إلى العهد القديم ، ولننظر نوع العقوبات ، والمكافآت الّتي أقرت فيه جزاء على الوصايا الإلهية (١) ، ولننح جانبا بعض الفقرات النّادرة جدا ، والّتي نجد فيها إشارة إلى الخير الأخلاقي لذاته ، ثمّ ننظر إلى الكيفية الّتي كان بها تعليل الأوامر :

فحين توجه الله سبحانه إلى الأسرة الإنسانية الأولى بشأن الفاكهة المحرمة ، قال : «وأمّا ثمر الشّجرة الّتي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ، ولا تمساه ، لئلا تموتا» (٢) ، وحين خاطب ولدها الأكبر قابيل قاتل أخيه هابيل قال : «فالآن ملعون أنت من الأرض ... متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها» (٣).

وعند ما فسدت الأرض بعد ذلك بحين من الدّهر فعوقبت بالطوفان بارك الله نوحا وبنيه ، فقال : «أثمروا وأكثروا ، وأملأوا الأرض» (٤).

وهل قوبل إذعان إبراهيم للإرادة الإلهية بغير الخيرات الأرضية على سبيل

__________________

(١) في مثل : «وإنّه يكون لنا برّ إذا حفظنا جميع هذه الوصايا ..» (سفر التّثنية إصحاح : ٦ ـ جملة ٢٥). ومثل : «إحترز من أنّ تسوء عينك بأخيك الفقير. فتكون عليك خطية» (سفر التّثنية ـ إصحاح ١٥ ـ جملة ٩).

(٢) التّكوين ـ الإصحاح الثّالث ، جملة : ٣ ، وقارن ذلك بما ورد في القرآن ، البقرة : ٣٥ والأعراف : ١٩ من قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ.)

(٣) المرجع السّابق : ٤ / ١١ ـ ١٢.

(٤) المرجع السّابق : ٩ / ١.

٤١١

الثّواب؟. «بذاتي أقسمت ، يقول الرّب ، إنّي من أجل أنّك فعلت هذا الأمر ، ولم تمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة ، وأكثر نسلك تكثيرا كنجوم السّماء ، وكالرمل الّذي على شاطىء البحر ، ويرث نسلك باب أعدائه» (١) ، ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه الأفكار مألوفة لدى ذرية إبراهيم ، فهي تعد جوهر صيغة السّلام ، والمباركة ، فإنّ إسحاق يبارك يعقوب بهذه الكلمات :

فليعطك الله من ندى السّماء ، ومن دسم الأرض ، وكثرة حنطة ، وخمر. ليستعبد لك شعوب ، وتسجد لك قبائل» (٢).

ويقول الرّب أيضا لإسرائل (يعقوب) : «أثمر وأكثر ، أمّة ، وجماعة أمّم تكون منك ، وملوك سيخرجون من صلبك ، والأرض الّتي أعطيت إبراهيم ، وإسحاق لك أعطيها ، ولنسلك من بعدك أعطى الأرض» (٣).

ونصل أخيرا إلى موسى ، الّذين لن يفعل سوى تنمية نفس الهدف ليعظ أبناء إسرائيل وهو ينقل إليهم هذه الدّعوة الإلهية : «وتعبدون الرّب إلهكم ، فيبارك خبزك ، وماءك ، وأزيل المرض من بينكم ، لا تكون مسقطة ولا عاقر في أرضك ، وأكمل عدد أيامك ، أرسل هيبتي أمامك ، وأزعج جميع الشّعوب الّذين تأتي عليهم ...» (٤). ثمّ يقول بعد ذلك ، في مرحلة أخرى :

«إذا سلكتم في فرائضي ، وحفظتم وصاياي ، وعملتم بها ، وأعطي مطركم في

__________________

(١) المرجع السّابق : ٢٢ / ١٦ ـ ١٧.

(٢) انظر ، سفر التّكوين ـ إصحاح : ٢٧ ، جملة ٢٨ ـ ٢٩.

(٣) انظر ، المرجع السّابق : ٣٥ / ١١ ـ ١٢.

(٤) انظر ، سفر الخروج : ٢٣ / ٢٥ ـ ٢٧.

٤١٢

حينه ، وتعطي الأرض غلتها ، وتعطي أشجار الحقل أثمارها ، ويلحق دراسكم بالقطاف ، ويلحق القطاف بالزرع ، فتأكلون خبزكم للشبع ، وتسكنون في أرضكم آمنين ، وأجعل سلاما في الأرض فتنامون ، وليس من يزعجكم ، وأبيد الوحوش الرّديئة من الأرض ، ولا يعبر سيف في أرضكم ، وتطردون أعداءكم فيسقطون أمامكم بالسيف ، ... لكن إن لم تسمعوا لي ، ولم تعملوا كلّ هذه الوصايا ... فإنّي أعمل هذه بكم ، أسلط عليكم رعبا ، وسلا ، وحمى ... وتزرعون باطلا زرعكم ، فيأكله أعداؤكم ، وأجعل وجهي ضدكم فتنهزمون أمام أعدائكم» (١).

ويقول في موضع آخر كذلك : «ومن أجل أنّكم تسمعون هذه الأحكام ، وتحفظون ، وتعملونها يحفظ لك الرّب إلهك العهد ، والإحسان ، اللذين أقسم لآبائك ، ويحبك ، ويباركك ، ويكثرك ... لا يكون عقيم ، ولا عاقر فيك ، ولا في بهائمك ، ويرد الرّب عنك كلّ مرض ... وتأكل كلّ الشّعوب الّذين الرّبّ إلهك يدفع إليك» (٢).

ولنا أن نتساءل ـ أمام غزارة هذا الأمر ذي الفكرة الوحيدة ـ عما إذا كان موسى وهو يصرخ بترتيله :

«ترشد برأفتك الشّعب الّذي فديته

تهديه بقوتك إلى مسكن قدسك» (٣).

__________________

(١) انظر ، سفر الأحبار اللاويين : ٢٦ / ٣ ـ ١٧.

(٢) انظر ، سفر التّثنية ـ الإصحاح السّابع : / ١٢ ـ ١٦ ، وانظر كذلك الإصحاح الحادي عشر : ١٣ وما بعدها.

(٣) انظر ، الخروج : ١٥ ـ ١٣.

٤١٣

ـ قد قصد أصلا بهذا «المسكن» شيئا آخر غير الأرض الموعودة وراء نهر الأردن ، بلد الكنعانيين ... إلخ ... ومع ذلك فهذا هو التّفسير الّذي تقدمه لنا الفقرة الأخرى : «سكناه تطلبون ، وإلى هناك تأتون ، وتقدمون إلى هناك محترقاتكم ، وذبائحكم ، وعشوركم ...» (١).

وهكذا لإنصادف منذ آدم حتّى موسى ، إلى آخر عهده ، أية إشارة في أي مكان ـ إلى حياة بعد الموت ، كأنّما لم يكن لعقيدة الحياة الأخرى مكان في أديانهم (٢).

ولكن لنقلب الصّفحات ، ولنصل بطفرة واحدة إلى «العهد الجديد» ، ولسوف نستمع هنا إلى نغمة جديدة كلّ الجدة ، هنا يحس المرء بشعور جلي بأنّه قد أنتقل من طرف إلى أقصى طرف مقابل له ، إنّ صلاتنا بالعالم الرّاهن بكلّ ما فيها من غنى ، وعظمة سوف تتقطع ، فهي بالنسبة إلينا قيود ينبغي أن نتحرر منها ، نظراتنا لا تعود مثبتة على الأرض ، بل إنّها دائما موجهة إلى السّماء ، لقد كان من قول يسوع المسيح لأحد المؤمنين الجدد : «إن أردت أن تكون كاملا فأذهب وبع أملاكك ، وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السّماء ، وتعالى أتبعني» (٣) ، وقال لتلاميذه : «فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون ، وما تشربون ، ولا تقلقوا ، فإنّ هذه كلّها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنّكم تحتاجون إلى هذه ، بل اطلبوا

__________________

(١) انظر ، التّثنية : ١٢ / ٥ ـ ٦.

(٢) هذا بخلاف ما يقوله لنا القرآن عنهم في سورة الشّعراء : ٨٧ (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ،) وفي الأعراف : ١٥٦ (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ.)

(٣) انظر ، إنجيل متى : ١٩ / ٢١ ، ومرقص : ١٠ / ٢١.

٤١٤

ملكوت الله ، وهذه كلّها تزاد لكم ... بيعوا مالكم وأعطوا صدقة ، أعملوا لكم أكياسا لا تفنى ، وكنزا لا ينفذ في السّموات ... لأنّه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضا» (١).

هذه التّعاليم ذاتها سوف يقدمها كذلك تلاميذ المسيح ، كتب القديس بولس في رسالته إلى تيموثاوس : «أوص الأغنياء في الدّهر الحاضر ألا يستكبروا ، ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى ، بل على الله الحي ، الّذي يمنحنا كلّ شيء بغنى للتمتع ... مدخرين لأنفسهم أساسا حسنا للمستقبل لكي يمسكوا بالحياة الأبدية» (٢) ، «ولا تحبوا العالم ، ولا الأشياء الّتي في العالم ... وهذا هو الوعد الّذي وعدنا هو به ، الحياة الأبدية» (٣)

وهكذا نجد أنّ الأمل الإنجيلي مكانه دائما هو الآخرة ، في حياة ما بعد الموت ، أللهمّ فيما عدا موضع واحد (٤) ، وعد فيه المسيح بمكافأة مزدوجة : في الحياة المقبلة ، وفي هذه الحياة (وهي إضافة نجدها في إنجيل مرقص ، الإصحاح العاشر الجملة : ٣٠ ، ولكنها غير موجودة في إنجيل متى ، الإصحاح التّاسع

__________________

(١) انظر ، إنجيل لوقا : ١٢ / ٢٩ ـ ٣٤.

(٢) انظر ، رسالة بولس الرّسول الأولى إلى ثيموثاوس : ٦ / ١٧ ـ ١٩.

(٣) انظر ، رسالة يوحنا الرّسول الأولى : ٢ / ١٥ ـ ٢٥.

(٤) ربما كان من المناسب أن نستثني أيضا بعض الفقرات في رسائل القديس بولس ، حيث وعد الأولاد المطيعين بالأعمار الطّوال على الأرض [رسالة بولس الرّسول إلى أهل أفسس ـ ٣] ، ووعد عامة النّاس بأن يزيدهم الله كلّ نعمة (مادية) لكي يكونوا ولهم كلّ إكتفاء ، كلّ حين ، في كلّ شيء ، يزدادون في كلّ عمل صالح ، فيعطوا المساكين ، [رسالة بولس الرّسول الثّانية إلى أهل كورنثوس ، الإصحاح التّاسع : / ٨ ـ ١١] ، وحيث يفسر كثرة الوفيات ، والعدد الكبير من المرضى ، والضّعفاء بالإخلال ببعض الواجب الدّيني ، (انظر ٢ ، رسالته الأولى إلى كورنثوس ، الإصحاح الحادي عشر : / ٢٩ ـ ٣٠).

٤١٥

عشر : ٢٩).

«نظام التّوجيه القرآني»

نحن الآن في موقف نستطيع أن نواجه من خلاله بطريقة أفضل ـ دراسة التّبليغ القرآني ، وأن نثبت علاقته بتبشير الكتاب المقدس ، ولسوف نرى ، أنّ النّظرية اليهودية : ونقيضتها المسيحية يتصالحان في تركيب متوافق ، ليس هذا فحسب ، بل سوف نرى فضلا عن ذلك أنّ عناصر جديدة تندمج في هذا التّركيب ، لتزيده غنى ، ورحابة.

لقد قمنا بنوع من الإحصاء العام (١) ، فأدهشتنا ندرة التّعاليم القرآنية الّتي اقتصرت في تعليل حكمتها على سلطة الأمر وحده ، فهذه الصّيغة الكانتية الّتي تقيم الإلزام على أساس ، «شكله المحض» ، المجرد عن مادته : «إفعل هذا ، لأنّه هكذا فرض» ـ ليست مألوفة كثيرا في كتاب الإسلام المقدس. ومع ذلك نجدها في عشر آيات ، كلّها بعد الهجرة (ـ ١٠ ب) (٢).

بيد أنّ عدم وجود علة مصرح بها لا ينفي بالضررة وجود مضمون لها. والحقّ أنّ الإيمان يقتضي خضوعا غير مشروط للأوامر الإلهية ، مهما بدا ذلك غاية في القسوة ، والتّحكم ، والله سبحانه وتعالى يقول : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا

__________________

(١) في نهاية كلّ مجموعة نرجع إليها من الآيات الّتي تعبر عن فكرة واحدة سوف نضيف حرف (آ) لتعيين النّصوص المكية ، وحرف (ب) لتعيين النّصوص المدنية.

(٢) البقرة : ٢٧٥ ، والنّساء : ٧ و ١١ و ١٢ و ٢٤ ـ مكررة ـ و ١٠٣ ، والتّوبة : ٦٠ ، والمجادلة : ٣ ، والممتحنة : ١٠.

«فهذه عشر آيات مدنية ـ (ب ١٠)».

٤١٦

قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١) ، ويقول : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) (٢).

ومع ذلك فباسم هذا الإيمان نفسه ، نستطيع أن نستشف سببا مختفيا تحت هذا المظهر ، ونسلم ببعض الآثار الطّيبة ، وإن كانت قليلة التّحديد : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (٣).

والأمر الإلهي غير المسبب لا يأخذ في أعيننا نغمة تحكمية ، أو ديكتاتورية ، بل يتمثل لنا بصفات من العلم ، والحكمة ، جدا مقنعة ، حتّى تبلغ الرّضا الكلي لضميرنا (٤).

فإذا نحينا هذا النّوع من الأوامر المطلقة جانبا فسوف نرى أنّ الوصايا القرآنية تقوم على أسس مختلفة ، ولكنها يمكن أن ترتد إلى ثلاث مجموعات كبيرة هي : المسوغات الباطنة ، وإعتبارات الظّروف المحيطة ، وموقف الإنسان ، وإعتبارات النّتائج المترتبة على العمل.

فلنبحث على التّوالي هذه الطّوائف الثّلاث ، ولنحاول أن نرى فيم تتمثل ، وما المكان الّذي تحتله كلّ منها في المجموع؟

آ ـ المسوغات الباطنة

وأقصد بعبارة (المسوغات الباطنة) ـ الرّجوع في دعم التّكليف عقليا إلى

__________________

(١) الأحزاب : ٣٦.

(٢) النّساء : ٦٦.

(٣) النّساء : ٦٦.

(٤) انظر ، بخاصة (النّساء : ١١ و ١٢ و ٢٤ ، والتّوبة : ٦٠ ، والممتحنة : ١٠.

٤١٧

قيمة أخلاقية مرتبطة بهذا التّكليف ، وهي قيمة «إيجابية» حين تدل على أمر ، والعمل به ، و«سلبية» حين تتصل بنهي ، أو عصيان.

وهي قيمة موضوعية ، كالحقّ ، والباطل ، والعدل ، والظّلم في ذاته ، أو قيمة ذاتية كبصر القلوب ، وعماها ، وطهارتها ودنسها.

ولدينا ثلاثة نماذج ممكنة لهذا الأرتباط بين القيمة ، والموضوع ، ولن يكون من العسير أن نتعرف في العمل على الجانب الّذي يرجع إلى كلّ منها ، في الأسانيد الّتي سوف نجمعها تحت هذا العنوان ، فإمّا أن يأخذ الموضوع هذه القيمة من طبيعته الخاصة ، وإمّا أن يستقيها من حالة سابقة هو أثر لها ، أو حالة لا حقة هو سبب فيها.

وبعبارة أخرى ، نحن نقدر الموضوع ، ونخصه بثمن معين ، سواء أكان ذلك بسبب ما يحتوي من قيم تتصل بمعناه الخاص ، أم بسبب القيم الّتي يعكسها حين نتذكر أصله ، أم بسبب القيم الّتي يأتي بها ، ويحققها.

والواقع أننا نستطيع ـ بفضل ما نقوم به من تحليل في العمق ، وفي الإمتداد ، لكلا الجانبين ـ أن نحكم على قيمة فعل ، أو قاعدة ، أو موقف ، أو نظرية ، فتارة ننظر إلى الشّيء في حالته الرّاهنة ، وفي معناه المحدد ، وتارة ننظر إليه مترقين في مجري نشوئه ، وتكونه ، وتارة هابطين إلى آثاره القريبة ، أو البعيدة ، ولما كان المراد هنا في جميع الحالات هو التّوصل إلى حكم أخلاقي ، فيجب ـ من ناحية ـ أن تكون للقيمة الملتمسة نفس الصّفة ، ومن ناحية أخرى أن تبدو رابطتها

٤١٨

بالموضوع في صورة علاقة طبيعية ، وأوشك أن أقول : تحليلية ، لا أن تكون علاقة إصطلاحية ، يقدمها التّشريع.

والنّصوص الّتي سوف نرجع إليها الآن مختارة بطريقة تجيب عن هذا الشّرط المزدوج ، فهي تكون القسط الأوفى ، والأكثر تجردا ، وتنزها عن الغرض ، في المنهج التّبليغي للقرآن ، ففيها إلحاح على النّزعة الأخلاقية ، بوسائل أخلاقية ، ومن أجل غايات أخلاقية ، بل إنّ هذه النّصوص لا تشير إلى ما نجده في مواضع أخرى من أنّ الباطل ، والشّر يمران ، وينتهيان إلى عدم ، وأنّ الحقّ ، والخير يبقيان ، ويحملان ثمرات خالدة ، لا تفنى ، وذلك كما ورد في قوله تعالى على سبيل الرّمز : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١) ، وقوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ* تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) (٢).

فقد جذب الإنتباه هنا أساسا ، إلى الصّفات الذاتية بخاصة ، من حيث هي. ولو لا أننا قد أجرينا إختيارا دقيقا ، لكان في وسعنا تطويل قائمة أسانيدنا ، ولذلك ألزمنا أنفسنا ـ أوّلا ـ ألا نختار من القرآن سوى ما يتصل بالتعليم القرآني ، بالمعنى الدّقيق للكلمة ، أعني : مستقلا عن التّعاليم السّابقة عليه ، والمذكورة

__________________

(١) الرّعد : ١٧.

(٢) إبراهيم : ٢٤ ـ ٢٦.

٤١٩

فيه (١) ، ثمّ إننا لم نقف إلّا عند النّصوص الّتي لا تحمل في نظرنا أدنى نبس ، أو غموض (٢).

وأخيرا ، عند ما يكون المسوغ الباطن غير مانع للإعتبارات الأخرى ، فإننا لم نقبل سوى النّصوص الّتي يحتل فيها العنصر الباطن المكان الأوّل.

وغالبا ما نجد أنّ المبادىء المسوغة الّتي ذكر القرآن أنّه يعتمد عليها مستعملة في صورة تفسير ، وأحيانا تكون هي موضوع الأمر ، حتّى إننا لو دعونا الأشياء بأسمائها لقلنا إنّها تستعمل كعلة ، وكأمر معلول.

والآن بعد هذا التّوضيح لننظر أوّلا كيف أنّ القرآن ، وهو يوجه نظريته العامة ، يحرص هنا على أن يرينا ما تكون هذه النّظرية ، وما لا تكون في ذاتها ، وأن ينفي عنها النّقائص الّتي تعيب كلّ نظرية باطلة ، أو ذات غرض ، وأن يثبت لها الصّفات الخاصة القادرة على إقناع العقول المغرمة بالحقيقة.

إنّه يعلن أنّه ليس بقضية تكسب ، ولا هو بنظام يبتغي مؤسسه أن ينال عليه أجرا ، ففي قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٣).

__________________

(١) لنذكر على هامش الحديث أنّ القرآن لم يقصر عن تقديم ما سبقه من الوحي ، بنفس النّغمة النّزيهة ، وهو وحي لا يدعي القرآن إلّا أنّه جاء مصدقا له ، ومكملا.

(٢) ولكي نتجنب شكا كهذا إستبعدنا من هذه الطّائفة جميع الأحكام الّتي تشتمل على القول : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) البقرة : ٥٤ ، وهو تعبير يقبل تفسيرين مختلفين ، فإمّا أن يكون : ذلك أكثر نفعا لكم ، بما في ذلك المكافأة ، وإمّا أنّ في ذلك خيرا كبيرا لأنفسكم ، من أجل إكتمال وجودكم الخاص ، ولهذا السّبب أغفلنا من بين الأحكام الّتي تدين ظلم الإنسان لنفسه الأحكام الّتي لا يتجه سياقها إلى تفسير تدنيسه لها ، وإفسادها أخلاقيا ، فحسب ، ولكن كذلك الأحكام الّتي يفسر سياقها تعويض المرء نفسه للعقاب.

(٣) الأنعام : ٩٠. ـ

٤٢٠