دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

وإذن ، فالهدف من عقد المخاطرة تقديم النّقود المقترضة في صورة ثمن بيع ، وهاكم وصف العملية : فالمقرض يقدم أوّلا لمستقرضه سلعة يبيعه إياها بثمن مؤجل أعلى ، ثمّ هو بعد ذلك يشتريها منه نقدا وبثمن أدنى ، بحيث نجدنا ـ في نهاية العمليتين ـ في نفس حالة الرّبا الصّريح : فالمستقرض يقبض نقودا الآن ، ويتعهد بأن يرد فيما بعد أكثر مما قبض ، وقد استعمل خروج السّلعة ودخولها ، لتغطية ، وتلطيف الوقع الحاد للكسب غير المشروع.

ما قيمة هذه السّوق في الفقه الإسلامي؟ ..

إنّ الأمور إذا سارت علنية على نحو ما وصفنا ، أعني : إذا كان من المتفق عليه مسبقا بين الطّرفين إعادة بيع ما سبق شراؤه لنفس الشّخص ، فإن اتفاق الفقهاء إجماعي على إبطال هذا العقد ، بإعتباره عقدا ربويا ، ولكن إذا كنّا أمام عمليتين متتابعتين ، دون أن نلاحظ فيهما توطؤا ، فهل يجب أن نعتبر العمليتين وحدة واحدة؟ .. أليس من الممكن أن تكون هناك سوقان منفصلتان ، يجوز أن تكون ثانيتهما مفروضة ، على إثر رجوع المشتري عن رأيه فجأة ، بعد فوات الأوان ، ندما على إبرامه الأولى؟.

إنّ من الصّعب أن نحكم بيقين على النّيّة العميقة لدى النّاس ، ولكن كيف نحكم على قضية من هذا القبيل؟.

أمّا المالكية فيرون أنّ هذا الكسب غير مشروع ، وهو ربا.

وأمّا الشّافعية فيبيحونه ، ويقرونه شرعا.

فهما حكمان متعارضان ، ولكنهما في الحقيقة لا يحكمان في حالة واحدة ،

٧٢١

في نفس الظّروف.

والواقع أنّه لو كان ممكنا أن نكشف ما يجري في فكر المتعاقدين فلربما لم نشهد هذا الخلاف ، ذلك أنّ مالكا من ناحيته لا يمنع في الظّروف العادية أن يبيع المرء مرة أخرى نقدا ، وبسعر أقل ، ما سبق أن اشتراه غاليا وبأجل ، والشّافعي من جانبه لا يوافق على أن يجعل المرء من هاتين العمليتين مجموعا يستهدف به الرّبح الدّنس قصدا ونيّة.

والمشكلة الّتي طرحوها كانت على هذا النّحو فحسب :

لو أننا علمنا أن أجلي «العمليتين الحاصلتين» على وجه الإنفصال ـ لا غبار عليهما ، ولكن جمعهما هو الّذي يثير الإتهام بأنّ لدى صاحبيهما هدفا غير مشروع ، فهل يجب أن نحكم ببطلان عقد كهذا ، كأنّما سوء النّيّة ثابت فيه؟.

فالشافعية يرون أنّه لا يجوز حمل النّاس على التّهم (١) ، ولمّا كانت البراءة هي الأصل ، فيجب الّتمسك بها ، إلى أن يثبت العكس ، وهو ما رده المالكية فقالوا : ليس الأمر هنا أمر تهمة مطلقا ، ولكنه أمر ملاحظة ، وإدراك للواقع في مدلولها العقلي ، وهو المدلول الّذي يصير أيضا أشد وضوحا حين يتعلق بما هو من (أهل العينة) (٢).

وهكذا تدل الطّريقة الّتي يدور بها النّقاش ، دلالة واضحة على أنّ موضوعه لم يكن عملا افترضت فيه نيّة الرّيح عموما ، وأنّ المسألة رغم ذلك تنحصر في

__________________

(١) انظر ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، لابن رشد : ٢ / ١٥٣.

(٢) انظر ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، لابن رشد : ٢ / ١٥٣. ويقصد به الّذي يداين النّاس ، لأنّه عنده ذريعة لسلف في أكثر منه ، يتوصلان إليه بما ظهرا من البيع ، من غير أن تكون له حقيقة. «المعرب».

٧٢٢

التّسويغ ، أو التّأثيم ـ ولكن الموضوع انحصر في حالة ملتبسة ، يتعين تفسيرها ، لنعرف إن كانت تخفي ، أو لا تخفي هذه النّيّة الآثمة ، (وبعبارة أدق : إن كان يجب أن نعاملها على هذا النّحو أو لا). فالخلاف كلّه إذن يدور في خاتمة المطاف حول حكم وجود ، لا حكم قيمة ، فإنّ هذا الحكم الأخير لا يرتاب فيه أحد ، ولم يكن كذلك ، مما يدخل في اختصاص القضاء.

وإليك مثالا آخر من الأمثلة الّتي كانت موضوع نقاش من هذا القبيل ، ولسوف يكشف لنا الإتجاه العميق الّذي أدى إلى هذا الخلاف في النّظر ، وذلك هو الوجه الّذي يجب أن نفسر به يمينا ذات معان كثيرة. فبأي مقياس ، يتعين علينا ، أن نحكم على كذب يمين ، أو صدقها ، أقصد اليمين الّتي تأتي ضمن رغبة ، أو قرار شخصي ، بأن يقوم الحالف بفعل شيء ، أو تركه ، لا اليمين الّتي أديت أمام القضاة (١) ، ولا الّتي وردت في وعد خاص ، حيث يشبهها عدد من

__________________

(١) استثنينا اليمين المؤداة أمام المحكمة لأنّها كما قال ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد : ١ / ٤٢٨ ، من أنّهم اتفقوا على أن (اليمين على المستحلف) في الدّعاوى ، وهو مقياس ثابت عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبموجبه يصبح من العبث اللّجوء إلى ألفاظ غامضة ، أو إلى قيود ذات وجهين ، لتحاشي الكذب الصّريح. والواقع أنّ اليمين يجب أن تحمل على المعنى الّذي يقصده الطّرف الّذي يطلبه ، فإلى جانب الحديث : (اليمين على نيّة المستحلف) ، وقد رواه (شرح النّووي على صحيح مسلم : ١١ / ١١٧ ، وانظر ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٥ / ٥٥٠ ح ٩٠٥٦ ، فتح الباري : ١١ / ٥٧٢ ، تحفة الأحوذي : ٨ / ٢٩٧ ، الدّيباج : ٤ / ٢٥٠ ح ١٦٣٥ ، فيض القدير : ٦ / ٤٦٧ ، كشف الخفاء : ٢ / ٥٣٣ ح ٣٢٣٤ ، سبل السّلام : ٤ / ١٠٢ ، نيل الأوطار : ٩ / ١١١. نجد حديثا آخر في نفس المرجع (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) ، انظر ، تفسير القرطبي : ٦ / ٢٨٢ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٥ / ٤٨٨ ح ٨٨٤٩ ، فتح الباري : ١٢ / ٣٢٨ ، عون المعبود : ٩ / ٥٨ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١١ / ١١٧ ، التّأريخ الكبير : ٥ / ٨٣ ، ـ

٧٢٣

الفقهاء ، بيمين القضاء؟.

أمّا المالكية فيعتبرون أوّلا نيّة الحالف ، في الأيمان الّتي لا يقضي على حالفها بموجبها ، فإن لم يتضح المعنى الدّقيق الّذي صاغ به الحالف رغبته ، أو اتخذ به قراره ـ وجب الرّجوع إلى المعنى الّذي يعطيه العرف لهذه الصّيغة ، في بيئة الحالف ، وهم يأخذون الصّيغة بمعناها العادي الأكثر شيوعا ، وبذلك يحاولون ، من ناحية إلى أخرى ، أن يتعرفوا على نيّة الحالف بكلّ الوسائل المحتملة ، ليحكموا عليه نتيجة هذا التّعرف ، وهم لا ينتقلون إلى مرحلة أبعد إلّا عند استحالة الوقوف عند أخرى أقرب (١).

ويأتي الأحناف ، والشّافعية على النّقيض من ذلك تماما ، فهم قلما يعنون بمثل هذا التّفتيش عن المعنى ، الّذي لا بد أنّ الحالف أراد أن يعبر عنه ، وإنّما يدخلون مباشرة في الكلمات المنطوقة ، ويتمسكون بمعناه الحرفي ، ومن ثمّ

__________________

ـ كشف الخفاء : ٢ / ٥٣٣ ح ٣٢٣٤ ، فإذا تكلمت بلغة الآخرين ، وقصدت بكلامك معنى آخر ، فمعنى ذلك أنّك تغشهم ، وتغالطهم ، وحرام كما قال الغزالي : أن تلبس في أمر الدّنيا ، حتّى لو قضى دين جماعة ، وخيل للناس أنّه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثمّ ، لما فيه من التّلبيس وتملك القلوب الخداع ، والمكر. (إحياء علوم الدّين للغزالي : ٣ / ٢٩٣) ومع ذلك فقد يعفى عن استخدام هذه المعاريض في حالة ضرورة إنقاذ المرء نفسه من ملاحقة ظالمة.

(١) ذكر أبو الوليد ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد : ١ / ٤٢٨ ، قوله في هذا الصّدد : «وأمّا مالك فالمشهور من مذهبه أنّ المعتبر أوّلا عنده في الأيمان الّتي لا يقضي على حالفها بموجبها هو النّيّة ، فإن عدمت فقرينة الحال ، فإن عدمت فعرف اللفظ ، فإن عدم فدلالة اللّغة. وقيل ، لا يراعى إلّا النّيّة ، أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط. وقيل : يراعى النّيّة ، وبساط الحال ، ولا يراعى العرف» ـ وقد ذكرنا هذا النّص ليتضح أنّ المؤلف اجتزأ في تقديم رأي المالكية ببعض ما تذرعوا به إلى معرفة حقيقة اليمين ، ليمكن إصدار حكم معين على أساس نيّة الحالف ، وهذا في غير أيمان القضاء. (المعرب).

٧٢٤

كان على الأحناف أن يصوبوا شرعا جميع المنافذ ، والحيل ، ما دامت لا تصطدم بحرفية أقوالنّا. الأمر الّذي جعل ابن حنبل ، إمام المذهب السّلفي المتشدد ، يقول فيهم قولته المشهورة : «عجبت مما يقولون في الحيل ، والأيمان ، يبطلون الأيمان بالحيل» (١).

بيد أنّ أكثر ما يدهش في موقف الأحناف هو أنّه قليلا ما يتسق مع نظريتهم العامّة ، الكثيرة الإعتماد على العقل. ونحن نعلم كيف كانوا في مواجهة النّصوص المقدسة يمتازون بثاقب الفكر ، محاولين دائما أن يدركوا علتها ، ومستعملين غالبا التّعليل بالقياس ، وربما أفرطوا في استعماله. ولكنهم حين يتعرضون لتفسير عقد ، أو نذر ، وبصفة عامة كلّ ما يقتضي جزاء ، أو كفارة ، فإنّهم كانوا يمسكون عن كلّ تفسير ، ويقبلون جميع الوسائل الملتوية ، بشرط واحد فقط ، هو ألا تتعارض هذه الوسائل مع النّص الجامد للقاعدة المقررة.

ومن هنا نفهم الحدة ، والقسوة لدى أحد علماء المدرسة الظّاهرية وهو ابن حزم ، حين ذهب إلى حدّ اتهام أتباع المذهب الحنفي بأنّهم لا يشجعون بطريقهم هذه على الرّذيلة فحسب ، بل إنّهم يعلمون المجرمين كيف يرتكبون كلّ ما يريدون ، من السّرقة ، وهتك الأعراض ، والإرهاب ، وقتل النّفس ، وهم آمنون من إقامة الحدّ عليهم ، حتّى لو أنّهم أخذوا في حالة تلبس (٢).

__________________

(١) انظر ، الموافقات للشاطبي : ١ / ٢٩٠.

(٢) يحسن بنا أن نورد هنا حديث ابن حزم في هذا الموضوع بنصه ، فهو معبر عن أقصى درجات القسوة في تناوله لمسائل الفقه ، وخلافياته ، فكأنّه ممسك بسوط ، يهوي به على ظهور السّابقين عليه من الفقهاء ـ

٧٢٥

ولكي ننصف هذا الفقه ، الّذي هوجم بشدة ـ نلاحظ أوّلا أنّه يقوم على وجهة نظر شرعية خالصة. والواقع أنّ ابن حزم في حدة اعتراضاته لم يمض إلى حدّ اتهام الحنفية بالرغبة في تسويغ تحايل متعمد على الشّرع ، فكل ما يأخذه عليهم هو أنّهم يفوتون بعض الوقائع الإجرامية دون عقاب ، حيث لا وجود ـ في رأيهم ـ لبعض شروط العقوبة ، وأمّا كون هذا النّقص قد حدث بطريقة طبيعية ، أو صناعية

__________________

ـ الأجلاء ، حتّى ليبلغ أحيانا درجة الإسفاف في نعتهم ، وتلك هي في رأينا نقطة الضّعف في فقهه ، على الرّغم من فقهه ، قال (المحلى ١١ / ٣٠٣) : «وأمّا الحنفيون ، المقلدون لأبي حنيفة في هذا ، فمن عجائب الدّنيا الّتي لا يكاد يوجد لها نظير ، أن يقلدوا عمر في إسقاط الحد ههنا ، بأنّ ثلاث حثيات من تمر مهر ، وقد خالفوا هذه القضية بعينها ، فلم يجيزوها في النّكاح الصّحيح مثل هذا وأضعافه مهرا ، بل منعوا من أقل من عشرة دراهم في ذلك ، فهذا هو الإستخفاف حقا ، والأخذ بما اشتهوا من قول الصّاحب حيث اشتهوا ، وتركوا ما اشتهوا من قول الصّاحب إذا اشتهوا ، فما أسوأ هذا دينا ، وأف لهذا عملا ، إذ يرون المهر في الحلال لا يكون إلّا عشرة دراهم لا أقل ، ويرون الدّرهم فأقل مهرا في الحرام ، ألا إنّ هذا هو التّطريق إلى الزّنا ، وإباحة الفروج المحرمة ، وعون لإبليس على تسهيل الكبائر ، وعلى هذا لا يشاء زان ولا زانية أن يزنيا علانية إلّا فعلا ، وهما في أمن من الحد ، بأن يعطيها درهما يستأجرها به للزنا ، فقد علّموا الفساق حيلة في قطع الطّريق ، بأن يحضروا مع أنفسهم امرأة سوء زانية ، وصبيا بغاء ، ثمّ يقتلوا المسلمين كيف شاؤوا ، ولا قتل عليهم ، من أجل المرأة الزّانية ، والصّبي البغاء ، فكلما استوقروا من الفسق خفت أوزارهم ، وسقط الخزي ، والعذاب عنهم ، ثمّ علموهم وجه الحيلة في الزّنا ، وذلك أن يستأجرها بتمرتين وكسرة خبز ليزني بها ، ثمّ يزنيان في أمن وذمام من العذاب بالحد الّذي افترضه الله تعالى ، ثمّ علموهم الحيلة في وطء الأمّهات والبنات ، بأن يعقدوا معهن نكاحا ، ثمّ يطؤونهن علانية ، آمنين من الحدود ، ثمّ علّموهم الحيلة في السّرقة ، أن ينقب أحدهم نقبا في الحائط ، ويقف الواحد داخل الدّار ، والآخر خارج الدّار ، ثمّ يأخذ كلّ ما في الدّار ، فيضعه في النّقب ، ثمّ يأخذه الآخر من النّقب ، ويخرجان آمنين من القطع ، ثمّ علموهم الحيلة في قتل النّفس المحرمة ، بأن يأخذ عودا صحيحا فيكسر به رأس من أحبّ ، حتّى يسيل دماغه ويموت ، ويمضي آمنا من القود ، ومن غرم الدّية من ماله ، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذه الأقوال الملعونة ... إلخ» ـ ولا شك أنّ حديث المؤلف يوضح موقف الأحناف دون تحامل. (المعرب).

٧٢٦

فشيء لا دليل عليه بداهة ، والحنفية لا يريدون أن يفتشوا عنه. وربما كانت هذه نقطة ضعفهم.

بيد أنّ هذا الرّفق فيما يتعلق بتطبيق الجزاءآت ، في الحالات المشتبهة ، يتضح مع ذلك بسهولة ، من خلال الشّريعة الإسلاميّة ذاتها.

ألم يحرم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهاك الحقّ المقدس لكلّ امرىء في الأمن ، إلّا بسبب صحيح؟ .. وكان من قوله فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما : «فإنّ دماءكم وأموالكم ، وأعراضكم عليكم حرام» (١) ؛. وإذا كانت هذه المدرسة الحنفية قد شجعها شعور إسلامي عارم ، بإحترام شخص الإنسان ، فقد أرادت إذن أن تلتزم بالبراءة الظّاهرة ، تاركة مسألة الباطن إلى الضّمير الفردي.

أليس كلّ ما يؤخذ على موقفها هذا هو أنّها تمنح مزيدا من الحرية إلى أولئك الّذين لا يحسنون استعمالها؟.

٤ ـ نيّة إرضاء النّاس (الرّياء):

بقي أمامنا أن نصف نوعا آخر من الدّوافع الأنانية ، سيكون بالنسبة إلينا آخر ما نتحدث عنه ، إنّه نموذج آخر من الأنانية الجشعة ، ولكن هذه الأنانية ليست معتدية ، ولا جاحدة ، ولا مادية ، فهي أكثر نعومة ، وإلفة. إنّها تنبع من (حبّ

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٣٧ ح ٦٧ وص : ٥٢ ح ١٠٥ و : ٢ / ٦١٩ ح ١٦٥٢ وص : ٦٢٠ ح ١٦٥٤ و : ٤ / ١٥٩٨ ح ٤١٤١ ، المهذب : ٢ / ٤٥٥ ، منته المطلب : ٢ / ٧١٣ ، صحيح ابن حبان : ٤ / ٣١١ و : ٩ / ٢٥٦ ، المستدرك على الصّحيحين : ١ / ٦٤٧ ح ١٧٤٢ ، الكافي : ٧ / ٢٧٣ ح ١٢ ، سنن التّرمذي : ٤ / ٤٦١ ح ٢١٥٩ و : ٥ / ٢٧٣ ح ٣٠٨٧ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٦٩ ، مجمع الزّوائد : ١ / ١٣٩ ، مصباح الزّجاجه : ٤ / ١٦٣ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ٧٧ ، سنن البيهقي الكبرى : ٥ / ٨ ، سنن أبي داود : ٢ / ١٨٥ ، وسائل الشّيعة : ١٩ / ٣ ح ٣.

٧٢٧

الذّات) ، ذلك الإحساس الطّبيعي ، الّذي يكون في بعض الظّروف مشروعا ؛ على تفاوت في قدر هذه المشروعية ، ولكن عيبه هنا هو أنّه لا يفرض واجبا ، ومن ثمّ كان في غير محله.

وإنّما تتفاوت مشروعيته في ذاته ، لأنّ من الضّروري ، لكي يعيش الإنسان في مجتمع ، أن يطمئن إلى حدّ أدنى من محبّة قلوب الآخرين ، حدّ أدنى من الإعتبار في نظرهم ، بقدر ما هو ضروري أن يتنفس لكي يعيش بدنيا ... أليس من المسموح به ، بل من الموافق للسّنة الحسنة أن يكون المرء أكثر حرصا على هيئته الظّاهرة ، وطريقة لباسه في المجتمع ، من حرصه على ذلك مع من يألفهم ، وهو أمر أكدته السّنّة ، فلقد «كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلبس رداء إذا خرج» (١).

كما ينبغي على المرء أن يكون أحرص على ذلك في المجتمعات منه في العمل ، وهي سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الّذي قال : «ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته ، سوى ثوبي مهنته» (٢).

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٣ / ١١٢٥ ح ٢٩٢٥ و : ٥ / ٢١٨٤ ح ٥٤٥٧ ، ونصّ رواية البخاري : أنّ حسين بن عليّ أخبر أنّ عليّا رضى الله عنه ، قال : «فدعا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بردائه ، ثمّ انطلق يمشي ... إلخ» ومفهوم ذلك أنّه كان إذا خرج يلبس رداءه. «المعرب». وانظر ، صحيح مسلم : ٣ / ١٥٦٩ ح ١٩٧٩ ، الكافي : ٣ / ٢٠٤ ، مسند أبي عوانة : ٥ / ٩١ ح ٧٩٠٢ ، السنن الكبرى : ٦ / ١٢٤ ح ١١٤٥٦ وص : ٣٤١ ح ١٢٧٣٥ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٥١ ، سنن أبي داود : ٣ / ١٤٩ ، الخصال : ١٩١.

(٢) انظر ، موطأ مالك : ١ / ١٣٣ ح ٢٤٢ ، وفي لفظ : (إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته) ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٦٧ ، المعتبر : ٢ / ٣١٦ ، صحيح ابن حبان : ٧ / ١٥ ح ٢٧٧٧ ، موارد الظّمآن : ١ / ١٤٩ ح ٥٦٨ ، مصباح الزّجاجة : ١ / ١٣١ باب ٤٧ ، منته المطلب : ١ / ٣٢٩ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٣٤٩ ح ١٠٩٦ ، تأويل مختلف الحديث : ١ / ٢٠٠ ، شعب الإمان : ٣ / ٩٨ ح ٣٩٩٢ ، بحار ـ

٧٢٨

ولكن أداء المرء لواجبه نحو الله ، ونحو الأقربين ، بنّيّة أن يكون شخصا بارزا في النّاس ، ينظرون إليه بإعجاب ، ويقولون فيه خيرا ـ فتلكم هي الأنانية المنكرة ، وإن ارتدت ثوبا مفرطا في الرّقة.

وليس المرائي ، كما ينبغي أن نوضح ، من يتخذ هيئة متكلفة ، ويقوم بحركات ظاهرة لا تتفق مع ما في قلبه ، وفكره ، وبإختصار : من يظهر خلاف ما يبطن ، ليخدع النّاس ، ففي هذه الحالة يتخذ الرّياء اسما آخر أكثر إجراما هو (النّفاق) ، والنّيّة السّيئة الّتي تحركة أكثر عمقا ، هي تلون المنافقين.

فرذيلة «النّفاق» مركبة ؛ أمّا رذيلة «الرّياء» فبسيطة. فالمرائي يبسط للناس مفاخره ، دون تلبيس لفكره ، أو إخفاء لمشاعره الخاصة تحت ظواهر خادعة ، إنّه يبسطها حتّى يراها النّاس ، ويعجبوا بها ؛ فهو يشعر بالحاجة إلى تشجيع خارجي يستثير جهوده ، وهو لا يجد لديه من القوة الخاصة المحركة ما يكفي لحفزه إلى أداء واجباته. ولا يجد هذا الحافز إلّا حيث يوجد الإستحسان ، والإعجاب ، والمدح ، والتّصفيق ، وسائر ردود الفعل المماثلة ، الّتي يتنفس بعدها الصّعداء.

هذا النّوع من التّطفل الأخلاقي ، لا ينبغي أن نتوقع له شيئا من الإغضاء ، على الرّغم من مظهره الوادع ؛ ولقد حكم القرآن على الأنفس الّتي تنشد ثمن الفضيلة في تقدير النّاس ـ حكما قاسيا ، غاية في القسوة ، فأعلن أنّ أعمالهم هباء ،

__________________

ـ الأنوار : ٨٦ / ٢١٥ ، فتح الباري : ٢ / ٣٧٤ ح ٨٤٥ ، الّتمهيد لابن عبد البر : ٢٤ / ٩٥٧ ، شرح الزّرقاني : ١ / ٣٢٩ ، تنوير الحوالك : ١ / ١٠٢ ح ٢٤٢ ، علل ابن أبي حاتم : ١ / ٢٠٤ ح ٥٨٨ ، الكامل في ضعفاء الرّجال : ٧ / ١٤٨.

٧٢٩

وباطل. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) (١) ، فهم (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) (٢) ، وأعلن أنّ أشخاصهم مستحقون للويل : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) (٣).

ويعد الحديث بين أوائل من تسعر بهم النّار يوم القيامة ثلاثة :

أوّلهم : «رجل استشهد ، فأتي به ، فعرفه نعمه ، فعرفها ، قال : فما عملت فيها؟ قال : قاتلت فيك حتّى استشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال : جريء ، فقد قيل ، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار» (٤).

وثانيهم : «رجل تعلم العلم ، وعلمه ، وقرأ القرآن ، فأتي به ، فعرفه نعمه ، فعرفها ، قال : فما فعلت فيها؟. قال : تعلمت العلم ، وعلمته ، وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال : عالم ، وقرأت القرآن ليقال : هو قارىء ، فقد قيل ، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار» (٥).

وثالثهم : «رجل وسع الله عليه ، وأعطاه من أصناف المال كلّه ، فأتي به ، فعرفه

__________________

(١) البقرة : ٢٦٤.

(٢) البقرة : ٢٦٤.

(٣) الماعون : ٤ ـ ٦.

(٤) انظر ، تفسير القرطبي : ١ / ١٨ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٥١٣ ح ١٩٠٥ ، المستدرك على الصّحيحين : ٢ / ١٢٠ ح ٢٥٢٤ ، السّنن الكبرى : ٣ / ١٧ ح ٤٣٤٥ ، مسند أحمد : ٢ / ٣٢١ ح ٨٢٦٠ ، جامع العلوم والحكم : ١ / ١٥ ، التّرغيب والتّرهيب : ١ / ٢٨ ح ٢٨ ، نيل الأوطار : ٨ / ٣٤.

(٥) انظر ، تفسير القرطبي : ١ / ١٨ ، سنن النسائي (المجتبى) : ٦ / ٢٣ ح ٣١٣٧ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٥١٣ ح ١٩٠٥ ، السّنن الكبرى : ٣ / ١٧ ح ٤٣٤٥ ، جامع العلوم والحكم : ١ / ١٥ ، التّرغيب والتّرهيب : ١ / ٢٨ ح ٢٨ و ١٧٧ ، نيل الأوطار : ٨ / ٣٤.

٧٣٠

نعمه فعرفها ، قال فما عملت فيها؟. قال ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها ، إلّا أنفقت فيها لك ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ، فقد قيل ، ثمّ أمر به فسحب على وجهه ، ثمّ ألقي في النّار» (١) ، «أولئك أوّل خلق الله تسعر بهم نار جهنم» (٢).

ومن الواضح أنّ النّاس ، في هذه النّيّات الخربة ، قد أصبحوا موضوع عبادة مشترك مع الله سبحانه ، وقد شبّه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الرّذيلة بعبادة الأوثان ، وأسماها : «الشّرك الأصغر» (٣).

وقد خصص الأخلاقيون المسلمون ، وبخاصة المحاسبي. والغزالي فصولا ممتازة لبحث منابع هذا الفساد القلبي ، وأشكاله ، وأدويته. ولما كان هدفنا الجوهري أن نستنبط المبادىء العامّة الموجودة في القرآن فإننا نحيل القارىء إلى هذين المؤلفين بالنسبة إلى كلّ المسائل التّفصيلية.

__________________

(١) انظر ، صحيح مسلم : ٣ / ١٥١٣ ح ١٩٠٥ ، منية المريد : ١٣٤ ، تفسير القرطبي : ١ / ١٨ ، سنن النسائي (المجتبى) : ٦ / ٢٣ ح ٣١٣٧ السّنن الكبرى : ٣ / ١٧ ح ٤٣٤٥ و : ٥ / ٣٠ ح ٨٠٨٣ ، و : ٦ / ٤٧٧ ح ١١٥٥٩ ، مسند أحمد : ٢ / ٣٢١ ح ٨٢٦٠ ، بحار الأنوار : ٦٧ / ٢٤٩ ، التّرغيب والتّرهيب : ١ / ٢٩ ، نيل الأوطار : ٨ / ٣٤.

(٢) انظر ، المصادر السّابقة ، وصحيح ابن حبّان : ٢ / ١٣٧ ، المستدرك على الصّحيحين : ١ / ٥٧٩ ح ١٥٢٧ ، موارد الظّمآن : ١ / ٦١٩ ، التّخويف من النّار : ١ / ٢٠٥ ، سنن النّسائي (المجتبى) : ٤ / ٥٩١ ، بحار الأنوار : ٦٩ / ٣٠٥.

(٣) انظر ، مسند أحمد : ٥ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩ من حديث محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأوسي الأشهلي.

(المعرب). انظر ، زبدة البيان : ١٣٦ ، الّثمر الدّاني : ٦٧٨ ، مستدرك الوسائل : ١ / ١٠٧ ، حاشية رد المحتار : ٦ / ٧٤٧ ، عوالي اللئالي : ٢ / ٧٤ ، سبل السّلام : ٤ / ١٨٥ ، بحار الأنوار : ٦٩ / ٢٦٦ ، عدة الدّاعي : ٢١٤ ، منية المريد : ٣١٧.

٧٣١

ه ـ إخلاص النّيّة واختلاط البواعث :

وإذن ، فالنّيّة توصف بأنّها حسنة ، أو عادية ، أو سيئة ، تبعا لما إذا كانت طاعة الإنسان لله من أجل ذاته ، أو كانت ذات هدف نفعي ، مشروع ، أو غير مشروع.

هذا التّشريع يفترض أن تحكم الإرادة بمبدأ وحيد ، صحيح ، أو غير صحيح ، وليس بوسعنا أن ننكر الإمكان النّظري لهذا الإفراد ، ولكن أدنى ما يمكن أن نقوله هو أنّه نادر إلى أقصى حدّ.

وأكثر الحالات ورودا هي الحالة الّتي تصطرع فيها أسباب كثيرة لصالح قرارنا ، فما ذا يمكن ـ تبعا للمبادىء القرآنية ـ أن تكون القيمة الأخلاقية لقرار معين تشترك فيه مجموعة من البواعث؟؟

لنذكر أوّلا النّصوص الّتي سبق ذكرناها (١) ، والّتي لا يمجد القرآن فيها فحسب ، بل يطلب منا بقوة ، أن يكون لنا قلب خالص من تأثير الدّنيا ، ومن أهوائه الخاصة ، قلب يتخذ من الله عزوجل الهدف الوحيد لأعماله. وهذا هو مجموع الشّروط الّتي تتحدد بها صفة «الخضوع الخالص» ، والّتي قال الله عنها بأنّ وجود الإنسان على الأرض ليس له من سبب آخر سواها (٢).

ولقد يحاول امرؤ أن يبدو مترددا بصدد المدلول الحقيقي لهذه الأقوال ، فيقول لنا : ربما كان الغرض إقصاء الوثنية السّفيهة ، الّتي هي إدخال بعض المخلوقات هدفا للتعبد في العمل العبادي ، وهو ما لا يستتبع بالضرورة إدانة هذا الإنحراف الدّقيق للإرادة ، الّذي يتمثل في خليط من الدّوافع إلى طاعة الله.

__________________

(١) انظر فيما سبق : (٢ ، ب).

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات : ٥٦.

٧٣٢

ولسوف نجيب عن ذلك بأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بوصفه المفسر الأوّل للقرآن ، قد فهم النّصوص المذكورة على التّحديد ، بمعناها الشّامل ، وتدل الظّروف الّتي بدأ فيها نزول بعض الآيات ـ أيضا ـ على أنّ الإهتمام كان في المقام الأوّل بهذا الخلط من الدّوافع ، أكثر من أي شيء آخر. وتلك هي الحالة الّتي نزل بمناسبتها آخر آية من سورة الكهف ، وإليك القصة : «أخرج ابن أبي حاتم ، وابن أبي الدّنيا في كتاب الإخلاص عن طاووس قال : قال رجل : «يا رسول الله ، إنّي أقف أريد وجه الله ، وأحبّ أن يرى موطني» (١) ، فلم يرد عليه شيئا حتّى نزلت هذه الآية : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (٢).

فإذا تركنا تفسير القرآن ، إلى أقوال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجدنا الكثير من هذه الأقوال ، فقد روى البخاري ، ومسلم ، واللّفظ له ـ «عن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه : أنّ رجلا أعرابيا أتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله : الرّجل يقاتل للمغنم ، والرّجل يقاتل ليذكر ، والرّجل يقاتل ليرى مكانه ، فمن في سبيل الله؟. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله» ، وفي رواية : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (٣).

__________________

(١) مرسل ، أخرجه الحاكم في المستدرك موصولا : ٢ / ١٢٢ ح ٢٥٢٧ و : ٤ / ٣٦٦ ح ٧٩٣٩ ، السّيوطي لباب النّقول في أسباب النّزول : ١٤٦ ، جامع العلوم والحكم : ١ / ١٧ ، الجهاد لابن المبارك : ١ / ٣٤ ح ١٢ ، شعب الإيمان : ٥ / ٣٤ ح ٦٨٥٤ ، التّرغيب والتّرهيب : ١ / ٣١ ح ٣٢ و : ٢ / ١٩٥ ح ٢٠٧٨ ، تفسير الطّبري : ١٦ / ٤٠ ، تفسير ابن كثير : ٣ / ١٠٩.

(٢) الكهف : ١١٠.

(٣) انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٥٨ ح ١٢٣ و : ٣ / ١٠٣٤ ح ٢٦٥٥ ، جامع المدارك : ٥ / ٤١٠ ، صحيح ـ

٧٣٣

قال المحاسبي : «وأكثر العلماء يرون أنّه أشد الحديث ، إذ لم يجعل في سبيل الله إلّا من أخلص ، لتعلو الكلمة وحدها ، ولم يضم إليها إرادة غيرها» (١).

وروى النّسائي عن أبي أمامة الباهلي قال : جاء رجل إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر ، والذكر ماله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا شيء له ، ثمّ قال : إنّ الله لا يقبل من العمل إلّا ما كان له خالصا ، وابتغي به وجهه» (٢).

وأكثر من ذلك صراحة أيضا ذلك الإعلان الإلهي الّذي نقرؤه في حديث قدسي ، عن أبي هريرة رضى الله عنه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (٣).

وهكذا نرى تبعا لهذه النّصوص أنّ جميع البواعث الّتي تنضاف إلى إرادة الطّاعة تعرض قيمة العمل للخطر ، وتحرمه من رضا الله تبارك وتعالى.

بيد أننا ينبغي أن نسأل أنفسنا إذا كانت النّفس حين تواجه هكذا بأشكال

__________________

ـ مسلم : ٣ / ١٥١٢ ح ١٩٠٤ ، المستدرك على الصّحيحين : ٢ / ١١٩ ح ٢٥٢٠ ، صحيح ابن حبّان : ١٠ / ٤٩٣ ح ٤٦٣٦ ، سنن التّرمذي : ٤ / ١٧٩ ح ١٦٤٦ ، جواهر الكلام : ٢١ / ٣٨٤ ، سنن البيهقي الكبرى : ٩ / ١٦٧ ، سنن أبي داود : ٣ / ١٤ ح ٢٥١٦ ، مسند أحمد : ٤ / ٣٩٢ ، وسائل الشّيعة : باب ٣ ح ٨.

(١) انظر ، الرّعاية الحقوق الله : ١٩٧ ، وفيه فيما يبدو خطأ مطبعي في قوله : (إذا لم يجعل) وما ذكرناه أنسب لأنّه تعليل. (المعرب).

(٢) انظر ، سنن النّسائي (المجتبى) : ٦ / ٢٥ ح ٣١٤٠ ، فتح الباري : ٦ / ٢٨ ، تحفة الأحوذي : ٥ / ٢٣١ ، فيض القدير : ٢ / ٢٧٥ ، السّنن الكبرى : ٣ / ١٨ ح ٤٣٤٨ ، الإصابة : ٥ / ٦٧١ ح ٧٥٣٩ ، التّرغيب والتّرهيب : ١ / ٢٣ ، المعجم الأوسط : ٢ / ٢٥ ح ١١١٢ ، المعجم الكبير : ٨ / ١٤٠ ح ٧٦٢٨.

(٣) انظر صحيح مسلم : ٤ / ٣٢٨٩ ح ٢٩٨٥ ، ونقله المؤلف : (تركته ، وشريكه) وهو مخالف لنصّ مسلم كما حققناه. (المعرب). وانظر ، جامع العلوم والحكم : ١ / ١٦ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١٨ / ١١٥ ، كشف الخفاء : ٢ / ١٣٢ ح ١٨٩٥ ، نيل الأوطار : ٨ / ٣٥ ، تفسير القرطبي : ٥ / ١٨٠ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٣٢١ ح ٤٣٢٣.

٧٣٤

مختلفة من الواجب ، فتنقاد لسلطان الأمر ، ولنهزته معا ـ أتكون مستحقة للذم شأن النّفس الخاضعة لأهوائها خضوعا محضا ، ومجردا ..؟ ..

إنّ هنالك حالة ، مجمعا عليها ، لا يقلل تدخل الشّعور الحسي فيها من قيمة الإرادة في شيء ، وذلك عند ما يكون القرار قد اتخذ بمقتضى الشّرع ، ولكنا على إثر استحسان غيرنا له ـ نرتضيه أكثر ، فالفائدة الّتي ننالها حينئذ في رأينا ليست السّبب في عملنا ، بل هي نتيجة له بصورة ما. وتلك هي الحالة الواردة في الحديث ، حالة الرّجل الّذي قال : «يا رسول الله ، أسرّ العمل ، لا أحبّ أن يطّلع عليه ، فيطلع عليه ، فيسرني ذلك» ـ لقد قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذا الرّجل : «له أجران ، أجر السّر ، وأجر العلانية» (١).

إنّ المفسرين متفقون على أنّ هذا القول يصدق في حالة افتراض أنّ انكشاف السّر لم يحدث إلّا بعد أن تم العمل ، فهل يصدق أيضا في حالة ما إذا فوجىء الإنسان ، وهو يؤديه؟ ..

لقد أراد المحاسبي ـ بعد أن ذكر الخلاف في هذه النّقطة ـ أن يحسم النّقاش ، فأحدث تفرقة نوافقه عليها ، فهو يلاحظ في الواقع أنّ السّرور الّذي يحس به المرء حين يرى في طريق الخير ، قد تكون له أسباب مختلفة ، ليس لها كلّها نفس القيمة ، فمثلا : قد يكون منبعا للسرور الأخلاقي الحقيقي أن يعطي المرء القدوة الصّالحة من نفسه للآخرين ، لا لكي ينال الحظوة عندهم ، بل لكي تجد الفضيلة

__________________

(١) انظر ، صحيح التّرمذي : ٤ / ٥٩٤ ح ٢٣٨٤ ، المحاسبي في الرّعاية : ١٩٢ تحقيق الدّكتور عبد الحليم محمود وطه سرور. وانظر ، صحيح ابن حبّان : ٢ / ٩٩ ح ٣٧٤ ، موارد الظّمآن : ١ / ١٧١ ح ٦٥٥ ، مجمع الزّوائد : ٢ / ٢٧٠ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ١٤١٢ ح ٤٢٢٦ ، المعجم الأوسط : ٥ / ٧١ ح ٤٧٠٢ ، المعجم الكبير : ١٧ / ٢٦٣ ح ٧٢٣ ، سبل السّلام : ٤ / ١٨٦ ، حلية الأولياء : ٨ / ٢٥٠.

٧٣٥

بهذه الوسيلة أكبر عدد من المشايعين لها ، والعاملين بها. ولكنه ليس محظورا أن يرتضي المرء هذا الإنكشاف غير المتوقع ، والّذي لم يحاوله ، حين يرى فيه نوعا من الأجر الإلهي ، أو دليلا على أنّ مآثره الصّالحة أهل لإستحقاق رضوان الله.

أمّا فيما يتعلق بسرور الإنسان الطّبيعي بأن يكون مقدرا في النّاس ، فذلك معدود دائما نقصا بالنسبة إلينا ، ولكنه لا يعتبر محرما إلّا إذا توقفنا عنده وقنعنا به ، فإذا ما اختزل إلى شعور لا إرادي ، وعابر ، ترددنا في المبالغة في خطورته ، وهو ما لم يمنع الأنفس الكبيرة من أن تتألم منه ، وتود لو أفلتت من إساره تماما (١).

فإذا ما نحيت هذه الحالات ، فإنّ المشكلة الحقيقية تكون حين تسبق النّظرات النّفعية العمل ، ثمّ تصبح إلى حدّ معين من بين الأسباب الّتي تفرضه ، فذلك هو ما يطلق عليه بالمعنى الصّحيح : (اختلاط البواعث).

ولقد سبق أن قلنا : إنّ النّيّة المسبقة يجب أساسا أن تكون خالصة ، ليصدق عليها أنّها حسنة. ولكن أهذا الصّفاء المطلق واجب محتم ، لا يتضمن درجات ، ويعتبر إهماله حراما يتساوى في خطورته مع السّعي الخالص ، والمجرد إلى المنفعة؟. ثمّ نسأل أوّلا : هل الفطرة الإنسانيّة قادرة دائما على نوع من التّجرد كهذا ، وهل هي تضحي بنفسها تضحية كاملة من أجل مثلها الأعلى ، دون أن تجد فيه في الوقت نفسه ما يجذبها إليه؟.

__________________

(١) ومن ثمّ نقرأ في دعاء من أدعية السّنّة : «وأستغفرك لكلّ خير أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك».

انظر ، قريب من هذا في جامع العلوم والحكم : ١ / ١٧ ، حلية الأولياء : ٢ / ٢٠٧.

٧٣٦

وأيّا ما كانت الطّريقة الّتي سوف يجاب بها عن هذا السّؤال ، فإننا نبادر إلى القول بأننا نعتقد أنّ المبادىء القرآنية تدعونا إلى أن نكون أقل تشددا بالنسبة إلى المواقف المتوسطة ، منا بالنسبة إلى الطّرف المقابل.

والواقع أنّه إذا لم يكن الشّيء داخلا في نطاق قدرة النّفس ، وإذا كان من المقرر الثّابت ـ من ناحية أخرى ـ أنّه لا أحد يمكن أن يكلّف إلّا في حدود وسائله ، فيجب بداهة أن نفسر جميع الأقوال الّتي تتطلب هذا الإخلاص المطلق على أنّها بناء لنقطة الذروة في القيمة ، الّتي يجب أن تسعى جهودنا نحوها ، دون أن تبلغها أبدا.

ولسوف يكون الإبتعاد عن هذا المثل الأعلى بلا شك «عيبا» ، ولكنه لن يكون «ذنبا» ، سوف يكون نقصا ولكنه لن يكون فسادا وخروجا عن الأخلاق.

ولا حاجة مطلقا إلى أن نكره النّصوص لتفسيرها على هذا النّحو ، إذ يكفي أن ننظر إلى الفروق في اللهجة الّتي يصدر بها الحكم بسوء النّيّة ، والحكم بالنّيّة المختلطة. فمتى ما بدا اختلاط البواعث لاحظنا الإختفاء المنهجي لذلك النّذير بالعقاب ، الّذي تستتبعه النّوايا الآثمة ، ورأينا النّصوص تقتصر على القول بأنّ ذلك لا يستحق أن يوصف بأنّه «في سبيل الله» ، أو أنّه «لا يرضي الله» ، أو أنّه «لا يستحق لديه أجرا» ، أو أن «الله غني عنه» .. إلخ. وما أشبه ذلك من الصّيغ المخففة ، الّتي لا تثبت للعمل صفة الإثمّ ، وإن كانت قد خلعت عنه القيمة الإيجابية.

فأمّا إذا ثبت أنّ الفكرة المحضة للواجب تستطيع أن تتقدم وحدها في قراراتنا ، على جميع الأفكار سواء أكان ذلك بنوع من الإستعداد الفطري ، أم كان

٧٣٧

بوساطة تكرار الجهد ، وإذا ثبت أنّ كلّ تشويه يخالط نقاءها لا ينتج إلّا عن إهمال ناشيء عن خطأ ـ فهذه نقطة يجب أن تؤخذ حينئذ في الإعتبار ، ويتعين أن ننظر في درجة الذنب.

كيف لا نفرق ـ في الواقع ـ في حكمنا على نفس حالكة السّواد ، شديدة الفساد ، وأخرى تحاول في صراعها مع الاغراءات الخاصة ـ أن تخفف ، أو توازن ، أو تمحو الشّر بالخير؟. أو لم يحدثنا القرآن عن أولئك الّذين (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (١)؟.

والحقّ أنّ هذه الآية تتحدث عن عملين منفصلين ، أوّلهما : سيّىء ، والثّاني : وهو الّذي يتمثل بخاصة في الإعتراف بالذنب ، وفي التّوبة عنه ؛ وظيفته أن يكفر عنه ، على حين أنّ الحالة الّتي تشغلنا هنا ، كما يجب أن نعترف ، مختلفة عن ذلك : فهي لا تتصل إلّا بعمل وحيد ، هو نفس العمل ، مدفوعا بنّيّة مختلطة ، تأخذ من الحسن ، والقبح معا. لكن ذلك فيما نعتقد ليس سوى تفصيل ، فالتماثل جوهري بين الحالين ، بحيث توجد فيهما دائما عناصر متنافرة في مجموع العمل ، وبحيث أنّ وجود بعض الأشياء المقبولة بين هذه العناصر يجعلنا نأمل في رد فعل أكثر رحمة ، لدى الحكم الأعظم ، عزوجل. وأمّا أن يظهر هذا الإختلاط في جزء واحد ، أو في أجزاء مختلفة فقليلا ما يهم : ذلك أنّ التّحليل الدّقيق الّذي يقوم به الحكم لن يكون أكثر تدقيقا في حالة منه في حالة أخرى ، لكي يميز فيها الظّروف المخففة ، أو الملطفة. فإنّ القرآن يؤكد لنا في مواضع كثيرة أنّ الحكم

__________________

(١) التّوبة : ١٠٢.

٧٣٨

الأخير سوف يصدر في ظروف توزن فيها أقل التّفاصيل الّتي للإنسان أو عليه ، أي أنّ شيئا مما يكون في صالحنا لن يضيع ، حتّى لو كان مثقال ذرة.

ولقد استطاع الغزالي ، إنطلاقا من هذا المبدأ القرآني أن يضع في هذا الموضوع نظرية راعت إلى حدّ كبير تنوع المواقف ، وهي جديرة أن يوقف عندها.

يرى هذا المؤلف أنّ من الواجب أن ندرس درجة تأثير كلّ عنصر من هذا الخليط ، مأخوذا أوّلا على حدة ، كما لو كان موجودا وحده في مجال الضّمير ، ثمّ يؤخذ بعد ذلك في علاقته بالعنصر الآخر ، ومن هذا الدّرس ، وتلك المقارنة تنتج ثلاث حالات ممكنة : فإمّا أن يكون كلّ من الباعثين قويا ، حتّى ليستطيع أن يدفعنا إلى العمل لو كان منفردا (١) ، وإمّا أنّهما لا يكسبان هذه القوة إلّا بإجتماعهما ، وإمّا أنّ أحدهما فقط يملك هذه الطّاقة ، والآخر ليس سوى قوة مكملة ، عاضدة ، ومعاونة ، تجعل مهمة الأوّل أكثر يسرا.

ويمضي في تصوير هذه الحالات ، بتسمية الحالة الأولى : مرافقة ، والثّانية : مشاركة ، والثّالثة : معاونة.

وعلى الرّغم من اختلاف هذه الحالات في طبيعتها ، فإنّ الأولى ، والثّانية يجب أن يندرجا في مجموعة واحدة ، هي : حالة المساواة (سواء أكانت مساواة في الفعل أم في التّرك). وبعكس ذلك تنقسم الحالة الثّالثة إلى نوعين مختلفين ، تبعا لما إذا كانت السّيطرة ، والتّفوق من حظ القوة الأخلاقية ، أو من حظ قوة

__________________

(١) أو بتعبير الغزالي : «بحيث لو انفرد لكان مليّا بإنهاض القدرة» إحياء علوم الدّين : ٤ / ٣٥٤.

٧٣٩

الهوى ، والعاطفة ، فلم يبق للحكم على هذه المجموعات الثّلاث ، بعد تحديدها سوى أن ننصب الميزان ، ثمّ نرى أي الكفتين سوف يرجح.

ومثال ذلك ـ على ما ذكر هذا الأخلاقي ـ أنّ زيدا من النّاس سألك حاجة ، ولنفترض أنّه يستحقها بوصفين : الفقر الّذي أصابه ، ووشيجة القرابة الّتي تربطه بك ، فقضيت حاجته.

فلكي تقيس قيمة عملك ليس أمامك سوى أن ترجع إلى التّجربة الّتي تجريها على نفسك ، فإن كنت متأكدا أنّك حين يتقدم إليك أجنبي في حال الفقر ذاتها ، أو حين يتقدم إليك أحد أقربائك الموسرين ـ يسألك نفس الحاجة ، فإنّك تحس نفس الهزة ، والأريحية ، ففي هذه الظّروف نحكم بأنّ في كلّ من الباعثين ، إذا انفرد ، سلطة متساوية على نفسك ، وقد إجتمعا جميعا ، فأقدمت على الفعل ، وكان الباعث الثّاني رفيق الأوّل (١).

وكذلك الأمر في حالة العكس ، حين لا يظفر الأجنبي الفقير ، ولا القريب الغني بإحسانك ، فإنّ الأسباب المنفردة تكون عديمة الفاعلية بدرجة متساوية.

فأمّا إذا كنت تعرف مثلا أنّ فكرة شقاء الغير تكفي ـ منفصلة عن أي إعتبار ـ لغرض إحسانك ، وأنّ رباط القرابة لا أثر له سوى تسريع حركتك ، دون أن يطيق إثارتها ، وتفجيرها ـ حينئذ تجب التّفرقة بين جانبين في نيتك ، جانب رئيسي

__________________

(١) قدم الغزالي مثالا آخر من ترافق البواعث بالصورة الّتي حددها ، فقال : «وكذلك من أمره الطّبيب بترك الطّعام ، ودخل عليه يوم عرفة فصام ، وهو يعلم أنّه لو لم يكن يوم عرفة لكان يترك الطّعام حمية ، ولو لا الحمية لكان يتركه لأجل أنّه يوم عرفة ، وقد إجتمعا جميعا ، فأقدم على الفعل ...» انظر ، إحياء علوم الدّين : ٤ / ٣٥٤. (المعرب).

٧٤٠