دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١).

وتأتي آيات كثيرة لتكمل هذا الإعلان بأقوال أكثر تحديدا ، ومن ألفاظ هذه الأقوال نجد أنّ خضوع النّفس لأمر الله يجب أن يكون خالصا ، دون شرك : (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) (٢) ، (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٣) ، (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (٤).

ولكي نفهم جيدا ما يقصده القرآن بهذا الإخلاص ينبغي أن نضيف مجموعتين أخريين من الآيات الّتي قدم لنا بها تحديدا ـ هو في الحقيقة سلبي ـ ولكنه يعبر أصدق تعبير عن هذا الخضوع الخالص.

ففي المجموعة الأولى يلح القرآن على نقطة هي : أنّ سيطرة أهوائنا يجب أن تنتفي من أحكامنا ، فهي شرّ وثن يتبع : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) (٥) ، (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) (٦) (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٧).

وفي المجموعة الأخرى يريد القرآن أن يحرر أنفسنا من تأثير العالم الخارجي ، فهو يمنعنا من أن نلتمس طاقتنا الأخلاقية في آراء النّاس عنا ، أو في

__________________

(١) الذاريات : ٥٦.

(٢) البقرة : ١٣٩.

(٣) الأعراف : ٢٩.

(٤) الزّمر : ٢.

(٥) النّساء : ١٣٥.

(٦) القصص : ٥٠.

(٧) سورة ص : ٢٦.

٦٤١

المواقف الّتي يمكن أن يتخذوها حيالنا ، فرضاهم ، وسخطهم ، ومهابتهم ، وقدرتهم ـ يجب ألا نعبأ بها ، أو نبالي ، وحسبنا في ذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) (١) ، وقوله : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (٢) ـ في مقابل قوله تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) (٣) ، وقوله : (يُراؤُنَ النَّاسَ) (٤) ، ويريد القرآن أيضا ألا نبالي بجزاء النّاس ، أو عرفانهم : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) (٥) ، ومن قبل كان من الأوامر الجوهرية الموجهة إلى النّبي في بداية الوحي هذا الأمر الموجز المحكم : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٦).

فإين يقع إذن المبدأ المحدد للإرادة إذا كانت قد قطعت هكذا عن كلّ هذه الدّوافع؟.

إنّ القرآن يدلنا عليه في هذا التّحديد الّذي يصف به الإنسان التّقي ، فيقول :

__________________

(١) الأحزاب : ٣٩.

(٢) المائدة : ٥٤.

(٣) النّساء : ١٠٨.

(٤) النّساء : ١٤٢.

(٥) الدّهر : ٩.

(٦) المدثر : ٦ ـ وقد توسع كثير من المفسرين في هذا المنع ، حين حملوا هذا النّص على معناه الأوسع ، فجعلوه شاملا لكلّ حركة في النّفس ، مهما قلّ غرضها الدّنيوي حتّى ولو كان ذلك انتظارها لجزاء الله الواسع. ولسوف نناقش فيما بعد كون هذا التّوسع في مفهوم الأمر يتضمن تحريما دقيقا ، ومطلقا ، أو توجيها إلى الأمثل.

٦٤٢

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (١).

وإنّ القرآن ليمضي في هذا الإتجاه إلى حدّ القول بأنّ الّذي يأخذ الصّدقة ليس هو الفقير ، ولكنه الله سبحانه : (هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢) ، وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا المقام تعبير رائع ، حيث قال : «من تصدّق بصدقة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلّا طيبا ، كان إنّما يضعها في كف الرّحمن ، يربيها كما يربي أحدكم فلوّه ، أو فصيله ، حتّى تكون مثل الجبل» (٣).

فمن مجموع هذه النّصوص يستنتج تحديد كامل للنّيّة الحسنة ، طبقا لمفهوم القرآن ، فهي حركة تعدل بها الإرادة الطّائعة عن كلّ شيء ، طوعا أو كرها ، ظاهرا ، أو باطنا ، كيما تتوجه نحو الجانب الّذي تتلقى منه الأمر. إنّها انفصال عن النّاس ، وعن أنفسنا ، واتصال بالمثل الأعلى ، والأزكى ، والأكمل : الله جلّ وعلا.

والقرآن لا يقتصر على النّصوص المحددة ، الّتي غالبا ما تأتي في ألفاظ مستوعبة ، لتقدم لنا المثل الأعلى على أنّه الموضوع الوحيد الّذي يجب أن يضعه الإنسان نصب عينيه ، وهو يعمل : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) (٤) ، (وَمَنْ

__________________

(١) اللّيل : ١٧ ـ ٢٠.

(٢) التّوبة : ١٠٤.

(٣) انظر ، موطأ الإمام مالك : ٢ / ٩٩٥ ح ١٨٠٦ ، وسائل الشّيعة : ٦ / ٢٦٥ ح ٥ ، صحيح مسلم : ٢ / ٧٠٢ ح ١٠١٤ ، المسند المستخرج على صحيح مسلم : ٣ / ٩٠ ح ٢٢٦٧ ، أمالي الطّوسي : ٤٥٨ ، الجواهر السّنية للحر العاملي : ٣٥٥ ، سنن التّرمذي : ٣ / ٤٩ ح ٦٦١ ، بحار الأنوار : ٧١ / ٤١٠ ح ١٦ ، سنن الدّارمي : ١ / ٤٨٥ ح ١٦٧٥ ، السّنن الكبرى : ٢ / ٣١ ح ٢٣٠٤ ، مسند أحمد : ٢ / ٤١٨ ح ٩٤١٣ ، الّتمهيد لابن عبد البر : ٢٣ / ١٧٢ ح ١٢٧.

(٤) البقرة : ٢٧٢.

٦٤٣

يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١) ، (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٢) ، (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (٣) ... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة ـ ولكن القرآن من أوّله إلى آخره يوجهنا نحو هذا الهدف. إنّه مشروع عظيم ينتزع الأنفس من هذا الجو الأرضي ، ويجذب أنظارها إلى السّموات ، بحيث يمكن القول بأنّ سيطرة هذه الفكرة الإلهية هي الّتي تحكم الخطاب القرآني.

ولكي نقتنع بذلك ما علينا إلّا أن نفتح هذا الكتاب كيفما اتفق ، لا أقول : إنّه لا توجد صفحة واحدة فحسب ، بل إنّه لا يوجد سطر واحد ، في المتوسط ، لا نجد فيه ذكر الله ، سواء باسمه ، أو بضميره ، أو ببعض صفاته (٤).

وإذن ، فليس هناك بالنسبة إلى نفس قارىء القرآن إمكانة النّسيان العميق ، أو حتّى الغفلة الطّويلة ، ما دامت دقات هذا العالم الرّوحي ترن في أذنيه ، وتعاوده بلا انقطاع ، كيما ترده إلى المنبع الأوّل للقوة ، والنّور ، ولا نظن أنّ هناك تدريبا أبلغ تأثيرا من هذا ، حتّى نبقى على انتباهنا يقظا ، وحتّى نجعل نيتنا طاهرة ، ونزيهة.

__________________

(١) النّساء : ١١٤.

(٢) طه : ١٤.

(٣) الرّوم : ٣٩.

(٤) الواقع أنّ هذا الكتاب في صفحاته الخمسمائة الّتي يتألف منها عادة ـ بلغت القائمة الّتي أحصيناها لذكر الله فيه عددا : (١٠٦٢٠) مرّة ، أي أنّ الله مذكور في الصّفحة المكونة من (١٥) سطرا عشرين مرة ـ في المتوسط ، وليس سوى (٣٢) صفحة يقل في كلّ منها ذكر الله عن عشر مرات.

٦٤٤

ومع ذلك ، فمما تجدر ملاحظته أنّ هذا القرآن لا يخلط مطلقا في موضوع التّنزه عن الغرض ما بين النّيّة ، والعمل.

فالقرآن ، على الرّغم من أنّه وصم أشياء هذه الدّنيا بالإنحطاط ، لم يرد فيه أي توجيه ، أو وعظ يوجب على معتنقيه أن يتنازلوا عن الحياة زهدا ، وتقشفا. إنّه بكلّ تأكيد يذم التّطرف في كلّ شيء ، ولكنه لا يحرم مطلقا الرّفاهية الفردية ، ولا الإزدهار الجماعي.

ففيما يتعلق بالرفاهية الشّخصية نجده يقول في كلمات صريحة : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟) (١).

وفيما يتعلق بنمو الزّراعة ، والتّجارة ، والصّناعة ، وتطور الكشف ، والحضارة بعامة ـ نجده يدعونا دائما إلى تحقيقه ، دون أن يمنع شيئا منه. ولا حاجة قط إلى تكرار النّصوص في هذا الموضوع ، بل يكفي أن نعطي منها نصا واحدا ، ذا أهمية لا حدّ لها ، وذا ألفاظ تجعل من كلّ ما يوجد في الأرض ، وعليها ، وكلّ ما يوجد في البحر ، وفي الهواء ، مسخرا للناس من لدن العناية الإلهية ، قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (٢).

وكلّ ما في الأمر أنّ القرآن قد أخضع اكتساب هذه الموارد ، وتوزيعها ، واستعمالها لبعض القواعد العامّة الّتي تكفل خير الجميع في عدالة ، وجعل ـ فيما عدا ذلك ـ من هذا العالم معبرا ، ومنزلا مؤقتا : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ

__________________

(١) الأعراف : ٣١ ـ ٣٢.

(٢) الجاثية : ١٣.

٦٤٥

النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (١).

وهو لم يجعل من اهتمامات الدّنيا كلّها ، ومن متعها ، غاية ، بل وسيلة لبلوغ أشياء أخرى ، يقول القرآن : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (٢).

وإذن ، ففيم تنحصر النّزاهة الّتي علّمنا إياها القرآن ، إن لم تكن في الفكر ، وفي النّيّة؟. ذلك أنّه إذا كان الشّر الأخلاقي لا يمكن في الممارسة المادية لنشاط معين ، يستهدف إنتاج الطّيبات ، وحيازتها ، فلا يمكن أن يوجد إلّا في الرّوح الّتي تملي هذه الممارسة. وما علينا إلّا أن نستنبط ، ثمّ نصوغ رأي الأخلاق الإسلاميّة في هذا الصّدد ، مميزين ست حالات ، تختلف قيمتها أحيانا اختلاف الليل ، والنّهار :

أوّلا : الحالة الأولى ، الّتي تصف الأخلاقية الصّريحة ، وهى الحالة الّتي يكب الإنسان فيها على الإستيلاء على المادة ، بدافع من حبّ الّتملك الغريزي الغشوم ، دون تمييز ، أو تحرج. وبدهي أنّ هذه هي الحالة الّتي يكون الإنسان فيها مذنبا ، قانونا ، وأخلاقا ، وهي ما يطلق عليه صراحة : «عبادة الهوى» في قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (الفرقان : ٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَ

__________________

(١) آل عمران : ١٤.

(٢) الزّخرف : ١٢ ـ ١٣.

٦٤٦

أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (١).

ثانيا : بيد أنّ الذنب الأخلاقي لن يكون أدنى ، إذا كان الجهد الّذي يبذل لتحاشي هذه الطّريقة المنحرفة ، أو تلك ـ مفروضا فقط ؛ بالإكراه ، أو بالإرهاب ، يمارسه الآخرون ضدنا ، وبحيث إنّه لو لا وجود هذا المنع الخارجي لكنّا قد تجاوزنا الحدّ ، وخالفنا الشّرع بإتيان هذه الطّريقة ، على الرّغم من كونها منكرة. ففي هذه الحالة أيضا يكون المرء تحت حكم الهوى ، ما دام يخضع مكرها لتنفيذ حرفية الشّرع ، والقرآن يسجل من هذا النّوع مواقف ، في قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) (٢) ، وقوله : (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) (٣).

ثالثا : لنفترض الآن أنّ هذا الخبث الرّوحي غير موجود ، ولكن ها هو ذا رجل توفر له مهنته العادية أن يعيش شريفا أمينا ، فلنفترض أنّ ارتباط هذا الرّجل بنوع حياته كان بحيث يستشعر كراهية عميقة لكلّ كسب خبيث ، لا لأنّه يعتبره مذموما من النّاحية الأخلاقية ، لأنّ مسألة من هذا القبيل لم تخطر له قط ، ولكن لأنّه ضد مزاجه ، أو عاداته. فهذه الحالة المسالمة الّتي لا تضر ، هذه الغيبة التّلقائية للشرّ ـ إنّما تنشىء براءة الغريزة الصّبيانية ، لا انتصار الإرادة العاقلة (٤).

__________________

(١) الفرقان : ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) التّوبة : ٩٨.

(٣) التّوبة : ٥٤.

(٤) تشبه حال هذا الرّجل حال من يقاتل في صفوف المؤمنين ، مدفوعا بعاطفة الشّجاعة وحدها ، أو بدافع ـ

٦٤٧

وإنّما تبدأ الحياة الأخلاقية عند ما يكون سعينا إلى العيش المشروع نتيجة إختيار واع ، منطلقه الّتمييز بين الخير ، والشّر ، وقاعدته الإمتناع عما هو محرّم ، والإلتزام بإستعمال المباح وحده. ومع ذلك فهذه ليست سوى بداية ، لأنّه إذا كان مستحبا بلا ريب أن يمتنع المرء إراديا عن الشّر عند ما يعرض له ، فليس الأمر كذلك حين يبيح لنفسه استعمال شيء لم يذمه القانون الأخلاقي ، فالإباحة ليست الوصية ، وهذه أدنى من التّكلف.

إنّ الإباحة بالمعنى الواسع للكلمة هي عدم التّعارض مع الشّرع ، ولكنها بالمعنى الدّقيق الّذي نريده هنا هي : الإمكان الأخلاقي للعمل ، أو عدم العمل ، غير أنّ الممكن لا يحمل في ذاته كلّ سبب وجوده. فهو وإن كان «شرطا ضروريا» لكلّ وجود ـ إلّا أنّه ليس «بالشرط الكافي».

وإذن ، يجب أن نبحث في مكان آخر عن المبدأ الّذي يضطرنا إلى استعمال حقنا بدلا من أن نهمله ، ففي هذا المبدأ تكمن قيمة إختيارنا.

فما ذا يكون هذا المبدأ؟ .. إنّ الحالات الثّلاث الآتية تجيب عن هذا السّؤال.

رابعا : عند ما نسأل أنفسنا : لما ذا نبحث عن رفاهيتنا المشروعة؟ .. فإننا نقتصر أحيانا على أن نقول لأنفسنا : لأنّه غير محرّم ، دون إعتبار للبواعث

__________________

ـ (الوطنية) المحدودة ، وهو الّذي لا يستحق مطلقا لقب (المجاهد في سبيل الله) ـ انظر البخاري : ٦ / ٧١٤ ح ٢٠٧٠ (الرّجل يقاتل شجاعة ، والرّجل يقاتل حمية) ـ فهؤلاء الرّجال يبقون على هامش الأخلاقية.انظر ، تفسير ابن كثير : ١ / ٢٢٨ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٥١٣ ح ١٩٠٤ ، سنن الترمذي : ٤ / ١٧٩ ح ١٦٤٦ ، المصنّف لعبد الرّزاق : ٥ / ٢٦٨ ح ٩٥٦٧ ، مسند أحمد : ٤ / ٣٩٧ ، مسند أبي يعلى : ١٣ / ٢٣٤ ح ٧٢٥٣ ، المستدرك على الصحيحين : ٢ / ١٢١ ح ٢٥٢٥ ، صحيح ابن حبّان : ١٠ / ٤٩٣ ح ٤٦٣٦.

٦٤٨

الأخرى المكملة.

فقد رأينا في هذه الحالة أنّ الدّافع الحقيقي لعملنا لا يمكن أن يكون هو القانون من حيث هو قانون ، لأنّ هذا القانون يصلح للنقيضين على سواء ، ومن ثمّ فهو عاجز عن تفسير أيهما.

ولما لم يكن وراء «القانون» ، و«المنفعة» بالمعنى العام مبدأ آخر محتم للإرادة. فإنّ الدّافع الحقيقي لعملنا هنا هو إذن وبالضرورة ، «الهوى» الّذي نجده لإشباع حاجاتنا الفطرية. ولا ريب أنّه ليس الهوى الأعمى المستعبد للعاطفة ، ولكنه هوى مستنير خاضع للعقل. ولكن ما أهمية ذلك ، إذ أنّ المصلحة دائما ، لا القانون ، تظل في هذه الحالة أساس إختيارنا الخاص. وقد كان دور القانون أن يزيح العقبة أمام طريق مزدوج ، ولكن الفطرة هي الّتي أعطت الأمر بأن لا يختار سوى واحد منهما ، كما لو كانت هذه الفطرة تترقب هذه اللّحظة المواتية ، الّتي بدا لها فيها أنّ القانون لا يبالي ، فإختارت ما تفضله عليه.

إنّ توقع الإختيار العام ، والخضوع له ، أمران لهما قيمة ثمينة ، ولكن الإختيار الخاص لا معنى له من النّاحية الأخلاقية ، فهو ليس جديرا بذم ، أو بمدح من حيث هو في ذاته ، وذلكم هو الموقف الّذي أطلقنا عليه «الموقف السّطحي» ، والّذي يعبر في هذا المجال عن أدنى درجة في سلم الأخلاقية.

خامسا : إننا لم نواجه حتّى الآن الحالات الّتي تستحق أن تذكر على سبيل الإستحسان. فالنّيّة الحسنة ليست هي النّيّة الّتي تكتفي بتحذيرنا من المحرمات ، وإخضاع رغباتنا لما هو مباح ، إنّها أكثر اقتضاء ، ويجب فضلا عن ذلك أن تتوفر لها اعتبارات أخلاقية إيجابية ، صالحة لتسويغ إختيارها للموضوع المرغوب.

٦٤٩

وهكذا نجد أنّ كسب الإنسان عيشه ، وأكله حتّى يشبع جوعه ، وارتداءه لباسا نظيفا ، واستخدامه للرفاهية ، ومسامراته البريئة ـ كلّ ذلك وغيره من الأعمال الكثيرة المماثلة ـ خال مطلقا من أي معنى أخلاقي ما دام هدفه الوحيد أن يمتعنا متاعا حسنا بالحياة ، حتّى ولو لم نقع في الإفراط المعيب.

وإذا كنّا نقضّي عمرنا في هذا ـ وهذه بكلّ أسف حالة الجمهرة من الصّالحين ـ فإنّ جملة متاعنا سوف تكون بلا وزن ، ولا قيمة ، ولن يكون لنا أي رصيد أخلاقي ، كما أنّ وجودنا الثّاني سوف يكون مفتقرا بنفس النّسبة. في حين أنّ هذه الأعمال ذاتها يمكن أن تصير ثروات أخلاقية ، إذا ما تدخلت أسباب شرعية مرضية لتسد النّقص في وجهتها ، مثلا ، حين أحافظ على بدني ، من أجل أن أطيق بشجاعة تحمل الواجبات الّتي كلفت بها ، وحين أقصد بأحاديثي العادية المحضة أن أوثق صداقة نزيهة مع إخواني ، وحين أمارس نشاطي في الميدان الإقتصادي فأتصور شيئا آخر غير مجرد المتعة بالتملك ، سواء أكنت أريد أن أجنب أسرتي ، أو أجنب نفسي مغبة العيش عالة على المجتمع ، أم كنت أحبّ أن أنشر السّعادة بين هؤلاء الّذين هم أقل حظا ، أن أتيح لجماعات من النّاس أن يكسبوا عيشهم بشرف ، أن أزيد في ازدهار بلدي ، أو أزيد في قيمة هذا الصّنع الإلهي بصورة أعم ، هذه الكرة الأرضية الّتي استخلفنا الله فيها ، كيما يتيح لجميع المخلوقات الّتي تسكنها أن تعيش ، وتتنعم ، وتمجد خالقها.

وهكذا نجد أنّ الحكمة الإسلامية لم تعين حدّا إجباريا لكسبنا الشّريف ، وإنّما فرضت على عقلنا تلك الطّريقة في رؤية أعراض هذه الدّنيا على أنّها غير جديرة بأن نطلبها ، لا من أجل ذاتها ، ولا من أجل ما قد تجلبه لنا من متعة ، ولكن نطلبها

٦٥٠

لغايات معقولة ، تصبح بها الأشياء المباحة مستحبة أخلاقيا ، أو مأمورا بها.

ولذلك فإنّ الحكماء المسلمين لم يتميزوا بنوع خاص من الحياة ، وإنّما تجدهم يبرزون في كلّ مكان ، وفرصة ظهورهم في الحقل ، والمصنع ، والدّكان ، لا تقل عن فرصة ظهورهم في خلوة الزّهاد ، وصومعة الرّهبان.

سادسا : والواقع أنّ هنالك أمثلة نلمس فيها أجمل الشّواهد على البعد عن الغرض ، وهي أمثلة لا يهتم أصحابها بالحياة المادية إلّا لماما ، وفي مناسبات نادرة ، بقدر ما يصلح للقيام بحاجاتهم العاجلة ، دون الإحتفاظ بشيء إلّا ما يكفي للفترة ما بين عملين.

هناك رجال خلوا من أعبائهم الأسرية فعكفوا عكوفا كاملا على تثقيف قلوبهم ، وعقولهم. ومع أنّهم كانوا ملتزمين في الوقت نفسه بخدمة الدّولة ، في الجهاد العام ، وكانوا بذلك في كفالة الأمّة ـ فإنّهم لم يكونوا يلمسون من عطائها غير القوت الضّروري الّذي يضمن بقائهم ، ثمّ يهبون كلّ فائض بعد ذلك.

كانت هذه حال جماعة معروفة باسم (أهل الصّفة) (١) ، الّذين أشار إليهم القرآن في قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (٢) ، ومن الحالات الّنموذجية بين هؤلاء حالة أبي هريرة. وقد كان منهم أيضا من تتاح لهم فرصة الحصول على نصيبهم في توزيع عام ، وهم الّذين

__________________

(١) هو فقراء المهاجرين ، ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه ، فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه. انظر ، لسان العرب : ٩ / ١٩٥ ، مجمع البحرين : ١ / ٧٠ ، تاج العروس : ٣ / ٤٧٣.

(٢) البقرة : ٢٧٣.

٦٥١

يقومون بتوزيعه ، ولكن عدم الإهتمام بمثل هذه الأشياء جعلهم ينسون أنفسهم ، وهو ما حدث مع عائشة أمّ المؤمنين.

وكان منهم أخيرا أناس لم يترددوا ، وهم على علم تام بنتيجة عملهم ، أن يهبوا إخوانهم ما كانوا هم بحاجة إليه ، ونزل فيهم قوله تبارك وتعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) (١) ، وقد قدمت لنا أيضا عائشة مثالا رائعا على هذا الإيثار ، وهذه الغيرية ، فيما رواه مالك في موطئه قال : «بلغني عن عائشة زوج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ مسكينا سألها وهي صائمة ، وليس في بيتها إلّا رغيف ، فقالت لمولاة لها : أعطيه إياه ، فقالت : ليس لك ما تفطرين عليه ، فقالت : أعطيه إياه ، قالت : ففعلت ... إلخ ..» (٢).

وبذلك نرى ما كانت تستهدفه هذه الأنفس الشّريفة ، فما كان لإغراء المنافع المشروعة ، في الحياة المادية ، أن يستميلهم ، ويضطرهم إلى طلبها ، أو استعمالها عند ما تكون في متناول أيديهم. لقد اقتعدوا قمّة السّلم الأخلاقي ، بحيث ما كان لأمر ينشأ عن ذلك ألهم المادي أن يحملهم على الهبوط منها ، حتّى لو كان في صورة موافقة ، أو دعوة إلى الخير الأخلاقي الشّائع ، المفضل ، أللهمّ إلّا أن تصبح هذه الدّعوة تكليفا ، بمعنى أن يكون أمرها أمر حفاظ على الحياة بالمعنى الدّقيق للكلمة ، فحينئذ يكون لهم فضل النّزول في النّهاية ، ولكن بقدر ما يؤدون هذا الواجب المحدد ، الملح إلى أقصى حدّ ، ثمّ يصعدون مرة أخرى إلى مكانهم

__________________

(١) الحشر : ٩.

(٢) انظر ، موطأ الإمام مالك : ٢ / ٩٩٧ ح ١٨١٠ ، تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٦ ، شعب الإيمان : ٣ / ٢٦٠ ح ٣٤٨٢ ، التّرغيب والتّرهيب : ٢ / ٨ ح ١٢٨٦ ، شرح الزّرقاني : ٤ / ٥٤٢.

٦٥٢

الأثير.

وليس يعوزنا أن نقدم في الجانب المضاد أمثلة أخرى من بين صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنظير حالة أبي هريرة ، يمكن أن نضع حالة رجل من أغنياء الصّحابة كابن عوف.

والحقّ أنّ الزّهادة يمكن أن ينظر إليها على أنّها كانت استثناء في العالم الإسلامي ، ولم تكن القاعدة العامّة. فإذا اعتبرناها من وجهة نظر مجردة فلسوف نعترف بأنّ تعميمها من أضر الأمور بحسن سير الحياة الإنسانية ، لا من الوجهة المادية فحسب ، بل من الوجهة الأخلاقية أيضا.

والواقع أنّه يجب أن يوجد في المجتمع أناس يكسبون فائضا ، ليجد آخرون قوتهم الضّروري ، ويجب أن يكون لكلّ إنسان حدّ أدنى من الفائض ، لا لكي ينتج بصورة أفضل ، ومستمرة فحسب ، بل لكي يضمن لنفسه أيضا ما هو ضروري ، بما أنّه ليس بين المفهومين خط فاصل ، يفرق بينهما تفرقة واضحة في الواقع الملموس.

بل إنّ من الممكن أيضا أن يقال : إنّ هؤلاء الّذين يبقون عمدا على هامش النّشاط الإجتماعي يختارون ، طبقا لإعتبار معين ، أقل المهمات الأخلاقية مشقة ، متحاشين بذلك كثيرا من الصّدمات ، وصنوف البلبلة ، والإغراء. ولا ريب أنّ عليهم أوّلا أن يبذلوا بعض الجهد حتّى يحملوا انفسهم على ارتضاء هذا الإنزواء ، ولكن متى ما تمت الخطوة الأولى ، فإنّ كلّ شيء سيسير تلقائيا.

ومما لا شك فيه أنّ قوة ملكاتنا العليا لا تمتحن إلّا في تشابك الإهتمامات ، وتعقدها. وتمكين الفضل في معرفة كيف نتوقى الإحتراق ، ونحن وسط النّار؟

٦٥٣

وكيف نكسب السّماء ، ونحن مهتمون بشئون الأرض؟

إنّ حل مشكلات من هذا القبيل هو الّذي يكشف عن نور روحنا ، وصلابة إرادتنا ، وطهارة قلبنا. بيد أنّ هذه الإعتبارات الأخيرة لا تطعن ، في صورته المجردة ، في أهمية سلّم القيم الّذي أشرنا إليه ، والّذي نلخصه في الجدول الآتي :

الموقف

القيمة الأخلاقية

الرّمز المكاني

الرّمز الرّياضي

غير مطابق ـ للأخلاق ولا للقانون

غير شرعي

الدّرك الأسفل

ـ ٢

مطابق بالاكراه

غير أخلاقي

الدّرك السّفلي

ـ ١

مطابق بالاستعداد الفطري

محايد بالنسبة للأخلاق

سطح الأرض

صفر

مطابق إرايا :

تتفاوت قيمته الأخلاقية :

مطابق لما تبيحه الأخلاق

مقبول

الدّور الأرضي

صفر

مطابق لما تحبذه الأخلاق

حسن

الدّور الأول

+ ١

مطابق لما تلزم به الأخلاق

أحسن

الدّور الأعلى

+ ٢

وفي هاتين الدّرجتين الأخيرتين تتجلى النّيّة الأخلاقية بالمعنى الدّقيق للكلمة ، أعني : الإرادة الجديرة بالثناء ، وبالأجر. فهي الّتي لا تكب على عمل

٦٥٤

مباح فقط ، دون أن تلمس فيه خيرا أخلاقيا ، جديرا بأن يلتمس ، وهي تتابع ، وتستهدف دائما تنفيذ الأمر ، سواء أكان أمر واجب جوهري ، أم أمر كمال.

هذا على حين أنّ الطّيبة بالمعنى الأخلاقي الأعم تنحصر في حرصنا على ألا نخالف الشّرع ، وأن نطيع أوامره بعامة ، سواء بإرادة تنفيذ ما يأمر به ، بأن نبيح لأنفسنا ما يبيحه.

بيد أنّ هذه المطابقة الباطنية ، حتّى تلك الّتي توجد في أعلى درجات السّلم ، فيما يتعلق بالهدف المباشر ـ هذه المطابقة تشتمل أيضا على نماذج كثيرة من الوجهة الغائية ؛ فقد كان لدى أخلاقيينا اهتمام بالتفرقة هنا بين الدّوافع الممكنة المختلفة ، وحاول بعضهم أن يرتبها في سلّم تدرجي.

فعند ما يكون المرء في طريقه لأداء واجبه ، فيتساءل : لما ذا أفعل هذا؟ ـ يكتفي أحيانا بأن يقول لنفسه : لأنّ هذا هو واجبي. وإذا لم تكن هذه الإجابة منطوقة ، وإذا كانت دقيقة ، وصادقة ، فإنّها كذلك غامضة بحيث يمكن أن تستحيل إلى مجموعة من الأسباب ، متعاقبة ، أو متصاحبة. وإذن ، فإنّ علينا أن نغوص في ثنايا ضميرنا ، وطواياه ، وأن نلح في تساؤلنا : ولكن لما ذا نؤدي هذا الواجب؟ ... فربما تعرفنا بهذه الطّريقة على الدّافع الخاص الّذي يدفعنا إلى طاعته ، والخضوع له. ولنسلّم بأنّ تحركنا لم يكن إكراها ، ولا ميلا غريزيا ، أو عادة مكتسبة ، وإنّما هو الشّرع المقدس الّذي يفرض علينا هذه الطّريقة ، أو تلك من طرق العمل.

ويبقى إذن أن نعرف على وجه التّحديد كيف تأثرنا بهذا الشّرع؟ .. أهو إجلال الله ، أم حبّ له؟ .. أخوفا من عقابه أم طمعا في ثوابه؟ .. أحرصا على تحقيق

٦٥٥

الخير الّذي يستهدفه الشّرع ، أم مجرد خضوع للأمر الصّريح ، دون نظر حتّى إلى علّة هذا الأمر؟ ..

لقد عدد أبو طالب المكي هذه الحالات المختلفة للنفس ، وهي الحالات الّتي يمكن أن تؤثر على المؤمن ، وتدفعه إلى أداء واجبه. ومع أنّه أدرجها جميعا تحت عنوان واحد هو : (من أجل الله) فإنّه يعترف بسلّم معين فيما بينها ، ولكنه لم يقل : كيف ينتوي أن يرتب درجاته؟ (١) ، ولا شك أنّه يفترض أن هذا التّدرج معروف من قبل بملامحه البارزة على الأقل.

والواقع أننا ـ فضلا عن النّصوص القرآنية المذكورة في بداية هذه الفقرة ـ نجد المبدأ الأساسي للواجب واردا في هذا التّعبير الجميل من تعبيرات الكتاب الكريم.

(هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) (٢) ، ونجد تعبيرا آخر أكثر دلالة في الحديث الشّريف الّذي يمتدح فيه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلق «سالم» مولى «أبي حذيفة» ، حين قال : «إنّ سالما شديد الحبّ لله ، لو كان لا يخاف الله ما عصاه» (٣).

هذا الثّناء الموجز ذو معنى كبير ، لأنّه قد أرسى المعالم الأولى في سلّم التّدرج الّذي سوف ينمو بعد ذلك ، وينمو ، بفضل الأخلاقيين المسلمين.

فالحكيم التّرمذي يلح بخاصة في كتابه (مسائل وأجوبتها) على إحساس

__________________

(١) انظر ، قوت القلوب : ٤ / ٤٠ ، المطبعة المصرية ، القاهرة.

(٢) المدثر : ٥٦.

(٣) انظر ، الأحاد والمثاني : ١ / ٢٣٩ ح ٣١١ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ٢٣٤ ح ٨٩٦ ، حلية الأولياء : ١ / ١٧٧ ، صفوة الصّفوة : ١ / ٣٨٣ ، كشف الخفاء : ٢ / ٤٢٨ ح ٢٨٣١.

٦٥٦

الإجلال ، والتّوقير أمام العظمة الإلهية ، وهو يعظم دور هذا الإحساس الفعال ، لا ضد النّزعات الشّريرة ، باطنة ، وظاهرة ، فحسب ، وإنّما كذلك ضد الغفلة ، وذهول النّفس. ولكي يبلغ النّاس هذا الهدف يقول التّرمذي : «والعباد محتاجون في انقطاع الوسوسة إلى الخوف ، لا خوف العقاب ، ولكن خوف العظمة ، حتّى تذهل النّفس ، وتنقطع وسوستها» (١).

وحين جاءه أحد تلاميذه يشكو إليه عجزه عن تركيز فكره أثناء الصّلاة أجابه الحكيم بطريقة الرّمز فقال ـ على سبيل الإيجاز : «ما تقول لو أنّ دارا فيها غرف ، وقصور ، وألوان الأغاني ، والسّرور ، فبينا هم في فرح ذلك السّرور ، والطّرب إذ دخل داخل ، فقال : جاء الأمير ـ أليس تخمد تلك الأصوات ، ويذهل أولئك القوم عن جميع ما هم فيه لهول مجيئه ، وهيبته؟ .. قال : نعم ، قلت : فكذلك هذا الصّدر الّذي فيه ألوان السّرور ، بما يتعاطى من أحوال الدّنيا ، ويتقلب فيه من درك المنى ، فيفرح القلب به ، وينتشر في الصّدر دخانه ، وتشره فيه نفسه ، فتلك الأحاديث كائنة فيه ، فإذا ولج القلب باب الملكوت فعاين من عظمة الله تعالى وجلاله ، وكبريائه ذهلت نفسه عن كلّ شهوة ، وذبلت ، وانخشع القلب ...» (٢).

وفي رسالة أخرى أضاف بعد أن عرف الطّريقة الّتي ينبغي على المؤمن أن يلتزمها حين يقرض الله قرضا حسنا ، بإعطاء ماله للمحتاجين ، وأنّه لا يصح أن ينتظر بهذا الإعطاء أجرا من صاحب المنّة ، إن كان قد أخرج الإعطاء من قلبه ، «ولم تبغ نفسه ثوابها ، فكأنّه من القبيح أن يقول : يا ربّ ، أي شيء تعطينا

__________________

(١) انظر ، مسائل وأجوبتها : ٢٦٨ من المجموع ، (المعرب).

(٢) انظر ، مسائل وأجوبتها : ٢٧٦ من مجموع التّرمذي ، (المعرب).

٦٥٧

بهذا؟» (١).

أمّا الغزالي فسيكون أشدّ وضوحا ، ومباشرة ، وهو يقول : «وأمّا الطّاعة على نيّة إجلال الله تعالى ، لإستحقاقه الطّاعة ، والعبودية فلا تتيسر للراغب في الدّنيا ، وهذه أعزّ النّيّات ، وأعلاها ، ويعز على بسيط الأرض من يفهمها ، فضلا عمن يتعاطاها» (٢). وهو حين يتحدث عن شعور الحبّ يبدو أنّه يجعله في سمو شعور الإجلال ، لأنّه يعتبره من صفات ذوي الألباب ، من كبّار الأتقياء. ويقول : إنّ هؤلاء الأتقياء لا يطمعون إلّا في التّقرب إلى الله ، ورؤيته ، والإستماع إليه ، ومعرفته بحقّ ، وهم بهذه المعرفة سوف يعرفون حقيقة كلّ شيء ، أمّا هم فإنّ «عبادتهم لا تجاوز ذكر الله تعالى ، والفكر فيه ، حبّا لجماله وجلاله» (٣).

أمّا فيما يتعلق برأيه في مشاعر المؤمنين : بالخوف من العقاب ، أو الطّمع في الثّواب ، فلسوف نراه فيما بعد.

بيد أنّ أحدا ـ فيما نعلم ـ لم يتوج هذا التّدرج قبل الشّاطبي (المتوفّي عام ٧٩٠ ه‍) ، فلقد تولاه بالبحث الدّقيق للمقارنة الأخيرة ، وهي المقارنة الّتي تحاول معرفة ما إذا كان من حقنا ، ونحن نؤدي واجبنا ، أن ننظر إلى المسببات الّتي يفترض أن تنتج عنه ، والّتي نعلم من جانب آخر أنّ الشّرع يستهدف تحقيقها ، أو أنّ الأمر على عكس ذلك ، فيجب أن تقتصر أنظارنا على العمل ذاته ، دون أن نشغل أنفسنا بأي شيء يسفر عنه ، وبعبارة أخرى ، على ما عبر به المؤلف نفسه :

__________________

(١) انظر ، جواب المسائل : ٢١٠ من المجموع.

(٢) انظر ، إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٣٦٣.

(٣) انظر ، إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٣٦٣ ، طبعة الحلبي.

٦٥٨

إذا قيل لك : لم تكتسب لمعاشك بالزراعة ، أو بالتجارة ، أو بغيرها؟ قلت : لأقيم صلبي ، وأقوم في حياة نفسي ، وأهلي ، أو لغير ذلك من المصالح الّتي توجد عن السّبب؟ .. أو قلت : لأنّ الشّارع ندبني إلى تلك الأعمال ، فأنا أعمل على مقتضى ما أمرت به ، كما أنّه أمرني أن أصلّي ، وأصوم ، وأزكي ، وأحجّ إلى غير ذلك من الأعمال الّتي كلفني بها ، فإن قيل لك : إنّ الشّارع أمر ، ونهى لأجل المصالح ، قلت : نعم ، وذلك إلى الله ، لا إليّ» (١) ولقد بحث المؤلف هذه القضية ، ونقيضها ، في صفحات جميلة ، وطويلة من موافقاته (٢) ، ذاكرا على التّوالي الأسباب الّتي تساق لتأييد كلّ منهما ، ثمّ يختم بحثه بقوله بأنّ الحل الأخير يتصل بعوامل كثيرة ، وينبغي أن يختلف بإختلاف الحالة ، «وهذان القسمان على ضربين : أحدهما : ما شأنه ذلك بإطلاق ، بمعنى أنّه يقوي السّبب ، أو يضعفه ، بالنسبة إلى كلّ مكلف ، وبالنسبة إلى كلّ زمان ، وبالنسبة إلى كلّ حال يكون عليها المكلف. والثّاني : ما شأنه ذلك ، لا بإطلاق ، بل بالنسبة إلى بعض المكلفين دون بعض ، أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض ، أو بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض» (٣).

وإنّ أهمية المشكلة ، وعمق تحليلها ، ليبيحان لنا أن نطيل الحديث قليلا في تلك الفكرة الجدلية ، حتّى نعطي للقارىء بيانا واضحا ، وكاملا بقدر الإمكان ، على أن نسمح لأنفسنا فيما بعد بتعديل الصّيغة ، أو إكمالها.

وحسبنا أن ننظر نظرة كمية إلى تحليله المزدوج لنستطيع القول ـ على الفور ـ

__________________

(١) انظر ، الموافقات : ١ / ١٩٦ ـ ١٩٨.

(٢) انظر ، الموافقات للشاطبي : ١٩٣ ـ ٢٣٧.

(٣) انظر الموافقات للشاطبي : ١ / ٢٣٥.

٦٥٩

بأنّ النّظرية الّتي تنتصر لها أكثر الأسباب الأخلاقية هي النّظرية الّتي تتطلب قصر النّيّة المطلق على العمل ، بحيث تمزج «ماهية» الإرادة «بعلتها» ، فتجعلهما شيئا واحدا لا غير.

ويستطرد الشّاطبي ليقول : بأنّ هذه الطّريقة في تصور الواجب تتفق اتفاقا تاما مع حالتنا البشرية ، كخاضعين للشرّع ، لا كأصحاب حقوق على الشّارع ، يطالبون بها. يقول : «ومن الأمور الّتي تنبني على ما تقدم : أنّ الفاعل للسبب ، عالما بأنّ المسبب ليس إليه إذا وكلّه إلى فاعله ، وصرف نظره عنه ـ كان أقرب إلى الإخلاص ، والتّفويض ، والتّوكلّ على الله تعالى ، والصّبر على الدّخول في الأسباب المأمور بها ، والخروج عن الأسباب المحظورة ، والشّكر ، وغير ذلك من المقامات السّنّية ، والأحوال المرضية ، ويتبين ذلك بذكر البعض على أنّه ظاهر».

أمّا الإخلاص ، فلأنّ المكلف إذا لبى الأمر ، والنّهي في السّبب ، من غير نظر إلى ما سوى الأمر ، والنّهي ـ خارج عن حظوظه ، قائم بحقوق ربّه ، واقف موقف العبودية ، بخلاف ما إذا إلتفت إلى المسبب ، وراعاه ، فإنّه عند الإلتفات إليه متوجه شطره ، فصار توجهه إلى ربّه بالسبب ، بواسطة التّوجه إلى المسبب ، ولا شك في تفاوت ما بين الرّتبتين في الإخلاص.

وأمّا التّفويض فلأنّه إذا علم أنّ المسبب ليس بداخل تحت ما كلّف به ، ولا هو من نمط مقدوراته كان راجعا بقلبه إلى من إليه ذلك ، وهو الله سبحانه ، فصار متوكلا ، ومفوضا. هذا في عموم التّكاليف العادية ، والعبادية ، ويزيد بالنسبة إلى العبادية أنّه لا يزال بعد التّسبب خائفا ، وراجيا ، فإن كان ممن يلتفت إلى المسبب

٦٦٠