دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

قد تسبق هذا الإدراك ، وتتجاوزه ، وكما يحدث في جميع الحالات الّتي نرتكب فيها خطأ نظريا ، لا يكون هذا الخطأ سوى حكم إرادي ، أصدرناه على الأشياء الّتي نعتقد أننا ندركها ، على حين أننا لا ندركها في الواقع (١). وحتّى عند ما نلجأ إلى البداهة فإننا نفعل ذلك بحرية أيضا ، لأننا كنّا نستطيع أن نقاومها ، ولا نقرها ، (بشرط وحيد هو أن نرى من الخير أن نؤكد بهذا حقيقة إختيارنا الكامل) (٢).

ولنقف عند المشكلة الأخلاقية. أنحن في سعينا إلى الخير ، والشّر مصدر أحكامنا ، أنحن علتها؟ .. أم أنّها الثّمرة المحتومة لطبيعتنا الثّابتة ، أو النّتيجة الضّرورية لحالات ضميرنا السّابقة : الأفكار ، أو العواطف؟

أولع الحتميون بأن يقدموا لنا الطّابع الفطري في إطار صارم إلى أقصى حدّ ، لا يحتوي أية ليونة ، أو مرونة. فالميول الطّيبة ، أو الخبيثة الّتي نجتلبها معنا عند الولادة ـ هي فطرتنا ، فكيف نكون مسئولين عن فطرة ليست صنعتنا ، وهي على كلّ حال ليست صنعتنا الشّعورية (٣)؟.

بيد أنّهم لم يبرهنوا أوّلا على هذا الطّابع الثّابت ، والمقرر لغرائزنا ، ويبدو أنّ علم النّفس المقارن يثبت على العكس أنّ الغرائز الإنسانية أقل صرامة ، وأكثر قابلية للتغيير ، والتّربية ، يؤثر بعضها في بعض أكثر من غريزة الحيوان بسبب عددها الكبير ، وتعقدها البالغ.

وإذا كان الإنسان قد باشر ـ منذ الأزل ـ سلطانه على الصّفات الطّبيعية

__________________

(١) انظر ، المرجع السّابق : ١ ـ Reponses aux ٥ es objections

(٢) انظر ، المرجع السّابق : ١ ـ lettres au Pere Mersenne.lettre ٧٤

(٣) انظر ، ليفي بريل ١ ـ La responsabilite,Chap.III II

٣٠١

للحيوانات غير المستأنسة ، الّتي أصبحت بالترويض طيعة مستأنسة ، بعد أن كانت متوحشة متمردة ، فكيف لا يكون لدينا سلطان مباشر ، أو غير مباشر على طباعنا الخاصة ، كيما نغيرها إلى خير ، أو شر؟ .. ألا تنطوي أعماق هذا الحكم المتشائم على مقدمة متسرعة ، ودليل بليد؟ .. فقد أعتقد العقلاء ، في كلّ زمان ـ على عكس ذلك ـ في فاعلية الجهد الّذي نستطيع أن نمارسه على ذواتنا ، ويبدو أيضا أنّ التّجربة تؤكد إمكان التّحويل ، المتفاوت في درجة عمقه.

ويبدو كذلك أنّ القرآن يعترف من جانبه بهذه القدرة المزدوجة ، الّتي أوتيها الإنسان ، على أن يطهر كيانه الجواني ، ويحسنه ، أو يعميه ويفسده ، يقول الحقّ سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١).

ولنكن أقل طموحا ، ولنقرر ـ في الحقيقة ـ أنّ بعض عناصر طبعنا الأخلاقي تعصي على كلّ تطور ، أو تقدم ، بيد أنّ هذا الجزء ، ما كان له بداهة أن يكون موضوع التّكليف ، أو المسئولية. فقد يكون المرء ـ بطبيعته ـ حزينا ، أو فرحا ، متشائما ، أو متفائلا ، بليدا ، أو حساسا ، دون أن يكون ـ لهذا ـ لا أخلاقيا. والإنسان ليس مسئولا عن شذوذه النّفساني ، أكثر من مسئولية العليل عن عيوبه الجسمية.

وأخيرا ، وفي نطاق الفرض القائل : بأنّ جزءا من طبيعتنا يظل ـ مطلقا ـ عصيا على كلّ تعديل ـ يجب أن نفرق بين المطالب الّتي توحي بها ميولنا الفطرية ،

__________________

(١) الشّمس : ٧ ـ ١٠.

٣٠٢

والّتي لا نملك شيئا لمقاومتها ، وبين علاقات هذه المطالب بإرادتنا.

ولسنا هنا نزعم أنّ الإرادة نظام منعزل ، يعمل مستقلا عن بقية كياننا ، فمع أنّها تجد في ذاتها القوة الكافية ، أو كما يقال في الفلسفة المدرسية (العلة الفاعلة) لأفعالها فإنّها بحاجة إلى أن تبحث خارجها عن دوافعها ، وعلتها الغائية ، الّتي لن تجد منبعها إلّا في الجانب الأدنى ، أو في الجانب الأعلى : الغريزة ، أو العقل. ولكلّ عمل شعوري ، وإرادي دائما علة ، وتتحدد ماهية هذه العلة تبعا لما إذا كان الإنسان يسعى إلى الخير الحقيقي ، أو المنفعة ، أو المتعة ، فيقول : لأنّ ذلك أفضل ، أو أنفع ، أو لأنّه يمتعني أكثر. فالمستبد الّذي يتخذ على وجه التّعسف قراراته ، دون أن يتردد ، أو يستشير ، ثمّ يقول : «أريد لأنّي أريد» ـ هذا المستبد يخضع في الواقع لنوع من السّبب الخفي ، لا يعدو أن يكون الحاجة إلى أن يظهر إستقلاله. وعند ما يتردد المرء في لحظة معينة بين أمرين يريد أن يعزم على أحدهما ، دون أن يجد مطلقا أدنى سبب يفرضه ، بل ولا أقل سمة من سمات التّفضيل ، ثمّ هو يعزم أخيرا على أحدهما ، لمجرد إلحاح ضرورة حسم الموقف ، ولأنّه كان لا بد أن ينتهي منه ـ فذلك لأنّه أفترض فيما وقع عليه إختياره أسبابا تتساوى على الأقل مع أسباب ما عدل عنه.

إنّ مشكلة تحديد الإرادة بوساطة دوافع ، أو علل أية كانت ـ قد أثارت في الفلسفة الإسلامية ثلاثة تيارات مختلفة ، هي الّتي نجدها لدى الأخلاقيين الأوربيين ، وهي الّتي تستنفد كلّ الحلول الممكنة.

ففي المقام الأوّل توجد نظرية جمهور أهل السّنّة ، ومعهم قليل من المعتزلة ،

٣٠٣

ويرى هؤلاء المفكرون أنّه لكي يمكن إختيار أحد النّقيضين إختيارا نهائيا ، وتحقيقه ، يجب مطلقا أن تتوفر فيه بعض الشّروط الخاصة ، وأن تكون له علة تقتضيه اقتضائا تاما ، يجعل من المستحيل أن يختار النّقيض ، وإذا عدم هذا ظل الجانب المختار في حالة الإمكان ، دون أن يبلغ مطلقا درجة الفعل (١).

وتأتي بعد ذلك نظرية الخوارزمي ، والزّمخشري ، وقد أكتفيا ببعض الأسباب المرجحة ، بدلا من أشتراط ضرورة علة موجبة (٢).

ثمّ تأتي أخيرا نظرية أكثرية المعتزلة ، وهم يرون أنّ الإختيار الإرادي لا يتطلب وجود شيء سوى ذاته ، وفي رأيهم أنّ الفاعل المختار لا يمكن تحديده أو تمييزه عن الموجب بالذات إلّا بقدرته المزدوجة على الفعل ، أو التّرك ، بحسب إرادته وحدها ، وبنفس الإمكان ، دون أن يخضع ، أو يستمال ببعض الأمور الخارجة عن الدّفاعه الخاص. ومن المألوف في هذا الصّدد مثال الإنسان الّذي يواجه عدوه ، فيأخذ في الهرب ، ويجد نفسه في مفترق طرق ، فيختار أي الطّريقين المفتوحين أمامه ، ولقد تردد الرّازي ، وبعض الأشاعرة بين النّظريتين المتطرفتين (٣).

__________________

(١) انظر ، منهاج السّنة ، لابن تيمية : ١ / ١١٠.

(٢) انظر ، المرجع السّابق : ٢ / ٥ ، قال ابن تيمية : «وهو باطل ، فإنّه إذا لم ينته إلى حدّ الوجوب كان ممكنا ، فيحتاج إلى مرجح ، فما ثمّ إلّا واجب أو ممكن ، والممكن يقبل الوجود والعدم». (المعرب).

(٣) انظر ، منهاج السّنة : ١ / ١١١ ، وقد صور ابن تيمية تردد هولاء على هذا النّحو ، قال : كانوا «إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر أبطلوا هذا الأصل ، وبينوا أنّ الفعل يجب وجوده عند وجود المرجح التّام ، وأنّه يمتنع فعله بدون المرجح التّام ، وينصرون أنّ القادر المختار لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلّا ـ

٣٠٤

ولقد سبق أن قررنا أننا لا نميل إلى الفكرة الشّائعة لدى المعتزلة ، فهذا النّوع من الإختيار المعتسف يجب في كلّ حال أن يستبعد من موضوعنا ، لا لأنّه أدنى درجات الحرية فحسب ، على ما قال ديكارت ، ولكن لأننا نرى أنّ الإرادة اللامبالية هي إرادة ناقصة ، فهي ليست سوى نصف إرادة ، والنّصف الآخر آلية وصدفة. فأنا عند ما أقف في الصّباح أمام أزياء كثيرة ، كلّها لائق ، ومناسب للموسم ـ أجدني لحظة في إختيار محير ، ولكني تحت ضغط ساعة الرّحيل أعزم على إختيار واحدة ، أية كانت ، إنّ إرادتي لم تتصور هذا الزّي إلّا مع غض النّظر عن خصائصه ، ناظرة إليه على أنّه نموذج لفكرة عامة لم تحرم منها الّنماذج الأخرى. إنّ كلّ ما أحرص عليه هو أن آخذ زينتي بإحتشام قبل الخروج ، وهذا الجانب من عملي هو بكلّ تأكيد إرادي ، وله علته. ولكني من النّاحية التّفصيلية عند ما أقول : (سواء على هذا أو ذاك) أرفع يدي تلقائيا ، ولا يكون موضوع الإختيار هو ما أضعه أمامي.

ويختلف الأمر عن ذلك في مجال الأخلاق ، ففي هذا المجال تكون الإرادة دائما مانعة. فهي سلبية ، وإيجابية في آن واحد. إذ أنني حين أرغب في هذا لا أرغب في ذاك ، وهو ما يقطع أساسا بأفتراض باعث ، أيّا كان : «منفعة» أو «واجب». والأمر كذلك في كلّ إختيار إرادي بالمعنى الصّحيح. ولقد فطرت

__________________

ـ بالمرجح التّام ، وإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم ، وإثبات الفاعل المختار ، وإبطال قولهم بالموجب بالذات سلكوا مسلك المعتزلة والجهمية في القول بأنّ القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ، وعامة الذين سلكوا مسلك أبي عبد الله بن الخطيب ، وأمثاله تجدهم يتناقضون هذا التّناقض». (المعرب).

٣٠٥

النّفس على ألا تتم أي إختيار دون أن تجد فيه تناسبا معينا بين الإجراء الّذي تتخذه ، والهدف الّذي تبلغه ، «فالإرادة» بحسب تعريفها ، «هي السّعي وراء الغاية».

إنّ إعتبار الإستقلال خاصة مميزة للإرادة الإنسانية ليس إذن تخصيصا لها بالقدرة على أن تمارس ذاتها دون دافع ، أو غاية ، وعلى أن تقطع صلاتها بجميع قوى الطّبيعة الأخرى ؛ بل إنّ هذا الإستقلال لا يصح أن يتخذ ذريعة لقطع منابع هذه القوى ، أو إسكات الأصوات الّتي تحفز الإرادة. وإنّما يعنينا فقط أن نثبت أنّ الصّلة بين إرادتنا الخاصة ومزاجنا ، أو الطّريقة الّتي تعودناها في التّفكير ، أو الشّعور ـ لا تنبثق مطلقا من ضرورة حقيقية ، مهما يكن ما نقصد بكلمة (ضروري).

فأنا لست أميل إلى هذا الفريق ، أو ذاك بفعل الضّرورة المنطقية ، على طريقة سبينوزا (علاقة إتحاد أو إلتحام) ما دام الحل العكسي لا يستلزم تناقضا.

ولست أفعل ذلك أيضا خضوعا لضرورة تجريبية (علاقة سببية ، أو تسلسل أو علاقة تضامن وثيق ، لا ينفصم).

فليس حقا ، على الرّغم مما يقوله سقراط ، وأفلاطون ، أنّ العلم بالخير الحقيقي يحتم إرادة فعل الخير ، لأنّ من الممكن فعل الشّر ، بسبب الضّعف ، مثلما يمكن تماما فعله بسبب الجهل. وليس حقا كذلك ، مهما يقل ليبنز ، أنّ الخير الّذي أدركه بذاتي يمنعني مطلقا من أن أفضل خيرا أتخيله فحسب ، فقد أفعل ما أكره ، وأحرم نفسي مما أحبّ ، وذلك مثلما أقبل مشروبا مرا على أمل بعيد في

٣٠٦

صحة أفضل.

ويصف لنا «ستيوات ميل [S.Mill] ، على أساس من العنصر المشترك بين رأيي أفلاطون ، وليبنز ، يصف لنا حدث الإرادة ، كسائر أحداث الضّمير الرّاهنة ، على أنّها محتومة بوساطه الحالات السّابقة ، وعلى طريقة كرة البليارد ، الّتي تتحرك عند ما تتلقي صدمة الكرة الأخرى ، في الإتجاه الّذي تدفعها إليه. فذاتنا قد تشهد هذا المنظر بطريقة سلبية ، أو بالأحرى : هذه الذات لا توجد من وجود خاص ، إذ ليس في هذا العالم سوى مجموعة من الظّواهر يسود بينها قانون الأقوى.

ولكن إذا لم يكن حدث الإرادة سوى نتيجة طبيعية للأحداث السّابقة ، فيجب أن يكون ممكنا تحسبه ، والتّنبؤ به ، لا أقول : بالنسبة إلى المشاهد اليقظ ، بل بالنسبة إلى الشّخص ذاته ، بنفس اليقين الّذي نتنبؤ به بظاهرة طبيعية.

غير أنّ هذا التّنبؤ لا يكذبه لدينا فقط واقع تقديرنا للقرار الواجب إتخاذه ، وهو ما يبدو عديم الجدوى إذا ظهر أمامنا اتجاه متوقف الحدوث ، بل إنّ القرآن يعلن إلينا أنّ هذا التّنبؤ مستحيل على الفكر الإنساني : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) (١).

ولا ريب أنّ من الممكن أن نخاطر بفرض حول إحتمال حدوث حدث ما ، وأن نصوغ حكما بالإحتمال على أساس سلوكنا السّابق ، غير أنّ هذا الحكم سوف يكون حظ إثباته بوساطة الأحداث بقدر ما تستهوينا عاداتنا ، ولا يكون قط بقدر ما نلجأ إلى الإستخدام المتنوع لحريتنا.

هذا الإدراك الميكانيكي للحالات النّفسية ، تعارضه معارضة قوية نظرية

__________________

(١) لقمان : ٣٤.

٣٠٧

الحرية عند برجسون. فأفعال الضّمير ـ كما يقول برجسون ـ لا توجد متفاصلة ، ولا تبقى برانية ، بعضها بالنسبة إلى بعض. فمتى ما بلغت عمقا معينا تتداخل ، وتمتزج ، وكلّ منها يعكس النّفس بأكملها. فمن المستحيل إذن أن نطبق عليها مبدأ السّببية ، الّذي يفترض وجود حدين متميزين ، هما السّبب ، والنّتيجة.

ومن ناحية أخرى : هذه الأفعال الجوانية لا تظل مماثلة لذواتها ، فمجرد بقائها وحده يعني ، أنّها تتغير ، وتتطور كأي كائن حيّ ، ولا ترجع بعد إلى وضعها الأوّل. وعلى هذا النّحو فإنّ نفس السّبب ، إن وجد سبب ، لا يمكن أن يظهر مرات عديدة ، وإذا كان يعطي نتيجته مرة واحدة ، فلن يعيدها بعد ذلك أبدا.

بيد أنّ لنا ملاحظة ، هي أنّ هذه النّظرية لم تستطع تخليص إرادتنا من ربقة السّببية الميكانيكية إلّا بشرط إخضاعها لسببية ديناميكية. والحقّ أنّها تقر التّفسيرين معا ، وترسم لكلّ منهما مجاله الخاص ، محتفظة للأوّل بنصيب الأسد.

ويقول برجسون : إننا طالما بقينا على أتصال بالعالم الخارجي ، وطالما إلتزمنا أوامر المجتمع ، فإنّ حالات ضميرنا تظل متقاربة على سطح ذاتنا ، ولا تندمج في كتلة الذات. ومن هنا كان إمكان أن تتداعى هذه الحالات ، بحيث يدعو حضور إحداها الأخرى. ولذلك ، فنحن نؤدي في أغلب الأوقات أعمالنا في حالة من الوعي الآلي ، وهي الأعمال الّتي تنطبق عليها النّظرية الميكانيكية.

فأما إذا حدث أن أنتزعنا أنفسنا من العالم الخارجي لكي نصبح وقد استرددنا ذاتنا ، وأن عدنا من المكان إلى الزّمان ، ومن اللغة إلى الفكر المحض ، ومن المشاعر المتلقاة إلى اقتناعنا الشّخصي ـ إذا حدث هذا ـ وهو أمر نادر جدا ـ فإننا نعود للأرتباط في الوقت نفسه بذاتنا الأساسية ، ولسوف تكون أعمالنا

٣٠٨

الحرة هي تلك الّتي تصدر عن هذه الذات ، والّتي تلخصها ، «وتنتزع منها كما تنتزع ثمرة ناضجة».

فمن الممكن إذن أن نتساءل : أليست الحرية ، في تعريفها على هذا النّحو ، هي في جوهرها حتمية الطّبع؟

أمّا برجسون فلا يخفي هذا ، وهو يقول : (عبثا ما ندعيه : إننا نخضع حينئذ لتأثير طبعنا ، فطبعنا هو أيضا ذاتنا) (١). وإذا كان الأمر كذلك فإنّ مشكلة الحرية لا يبدو أنّها تتقدم كثيرا ، فإنّ العبد إذا ما غير سيده لم يخرج عن كونه عبدا.

لقد كانت نظريات تداعي المعاني تقدم لنا تفاعل أفكارنا بشكل ما ـ على أنّه مباراة لكرة القدم ، تشتجر فيها قوى متضادة ، موجودة في داخلنا على هيئة ذات معزولة ، لا ينتصر منها إلّا أقواها. أمّا ديناميكية برجسون ـ فعلى الرّغم من التّنازلات الكبيرة ، الّتي منحتها لخصومها ـ فهي تعتقد أنّها تكشف عن عدد من الحالات ، ينبثق قرارنا فيها عن قوة واحدة ، بالغة العمق ، وهي تنمو وتزدهر ، بلا توقف ، كأنّها نار مستمرة.

ولكن مهما يكن ما نذهب إليه بشأن هذه القوة : واحدة أو متعددة ، عميقة أو سطحية ، فإنّ الميكانيكية ، والدّيناميكية تتفقان في الرّجوع إلى طبيعة يستحيل علينا أن نغير إتجاهها ، أو أن نوقف حركتها ، ومهما تكلمت الدّيناميكية عن «الحرية» وعن «الإحتمال» فإنّها تقرر أيضا «الضّرورة» ، و«الحتمية» ، أو إذا كان هناك إحتمال فأنّه إحتمال تقول به «ذات لا شعورية» ، تختار من بين إمكانات منطقية كثيرة ـ طريقة نموها ، إختيارا أعمى ، وعلى غير هدى.

__________________

(١) انظر ، ١ ـ Bergson. Essai sur les donnees Immediates de la conscience. ch. III p. ٩٢١

٣٠٩

وهكذا يلتقي من طريق أخرى «برجسون» مع «كانت» ، فكلاهما يقرر عجز ذاتنا التّجريبية ، والشّعورية عن أن تفعل شيئا سوى تلقي عملها جاهزا من ذات أخرى ، أطلق عليها أحدهما : الذات الأساسية ، وأطلق عليها الآخر : الذات الماهية المعقولة [Moi noumenal] ، وكلّ ما يفرق بينهما في هذا المجال أنّ برجسون يضع هذه القدرة في واقع محسوس ، وقد كان بحكم إخلاصه لنزعته البيولوجية يدافع عن تلقائية «الدّفعة الحيوية» في نموها الطّبيعي ، الّذي تتحدى به جميع التّدبيرات المحسوبة.

غير أنّ هذه ليست أيضا الحرية بالمعنى الّذي يشغلنا ، فهي بدلا من أن تدعم مسئوليتنا الأخلاقية ، لا تفعل ـ على العكس ـ سوى أن نقوضها. فإذا كانت إرادتنا تنبثق من طبعنا ، وكان طبعنا مفروضا علينا قدرا مقدورا ، فإننا نظل في حلقة مقفلة : لا أحد يقدر أن يكون سوى ذاته.

إنّ الحرية الّتي تقوم كشرط لمسئوليتنا يجب أن نبحث عنها في مجال آخر غير الطّبيعة الواقعية ، أو المحتملة «الكائنة» ، أو الّتي في طريقها إلى التّكوين.

يجب أن تكون هذه الحرية ذات طابع يسيطر على الطّبيعة ولا يخضع لسيطرتها ، أو تكون ـ كما قال سبينوزا ـ «طبيعة فاعلة» لا «طبيعة منفعلة» (١).

والواقع أننا عند ما نجيب بالإيجاب على هذا السّؤال : «هل ما نزال «أحرارا» في قراراتنا ، مع وجود أمزجتنا ، وعاداتنا ، وأفكارنا ، وعواطفنا الرّاهنة؟» ـ فإننا نعلن بذلك أننا شيء مختلف ، أكثر من مجموع هذه المعطيات ، وأننا ما زلنا نملك فوق كلّ هذه الأنشطة الخاصة نشاطا آخر أسمى ، هو نشاط ذات محسوسة

__________________

(١) تعبيره بالفرنسية هو : une nature naturante, et non pas une nature naturee.

٣١٠

وكلية ، قادرة على أن تنظم نفسها بألف طريقة مختلفة. ونزيد الأمر تأكيدا فنقول : إنّ إعلان هذا النّشاط ليس مع ذلك أدعاه لقدرة خيالية ووهمية ، وليس الأمر مطلقا أمر نقض كامل لعالم جواني ، ثمّ إعادة صنعه على حالة أخرى لم يكن عليها. وليس الأمر بالنسبة إلينا أنّ لدينا قدرة مطلقة على إختلاس عنصر ، أو مجموعة عناصر من كياننا ، أو منع حركتها ، أو عزل إرادتنا عن هذا المجموع ، لكي نمارسها في فراغ ، بلا دافع ، وبلا غاية. وليس المراد هو مواجهة الطّبيعة ، من حيث ما فيها من عنصر جوهري ، وحتمي ، بل مواجهتها من حيث ما فيها من عنصر مرن. قابل للتشكيل.

ومما نعترف بضرورته إطلاقا أنّ كلّ نشاط إرادي يفترض وجود دافع يحركه ، وأنّ كلّ حركة تستهدف غاية تبلغها. بيد أنّ هذا الدّافع ، وهذه الغاية ليسا وحيدين في الطّبيعة ، ولا سيما عند إتخاذ قرار فيه قدر من التّدبر وإعمال العقل.

إنّ ضلال الحتمية (ميكانيكية ، وديناميكية) لا يكمن في أنّها تستدعي صورة توازن في الدّوافع ، أو صورة دفعة من المزاج ، فأي إنسان يرقب أحواله بإنتباه يفطن إلى هذا التّناوب في الأهداف الّتي تتبدي له مع الأسباب الّتي تؤيدها ، بصورة تتفاوت في درجة إختلاطها كما يحس في نفسه نوعا من التّردد الّذي لا يتوقف إلّا بعد إتخاذ القرار. ولكن خطأ كلّ نظرية طبيعية يكمن في أنّها تغفل «حدثا وسيطا ، يعتبر هو اللحظة الحاسمة في تخلق القرار» ، وذلك حين تصور لنا الإرادة على أنّها نتيجة مباشرة لهذه الحالات الخاصة ، أو على أنّها أزدهار تلقائي لجذورها العميقة. فالمرء لا يحمل على أتخاذ القرار بنفس الطّريقة الّتي تجعله يرفع يده «ليهرش» في المكان الّذي يحتاج فيه إلى «الهرش» ، حتّى لو

٣١١

كان نائما.

إنّ الإرادة ليست نتيجة مباشرة لتكوّن الأفكار إلّا في حالة وحيدة ، هي على وجه التّحديد حين لا توجد «مسئولية» ، ولا «حرية» ، وتلك هي حالة الأضطراب العقلي ، الّتي ما تكاد تظهر فيها فكرة وحيدة ، تسبق غيرها ، حتّى تقتحم الطّريق على الملكات الأخرى ، وهو ما يكفيي لتحريك نشاطها الضّروري لتحقيق هذه الفكرة ، بطريقة الفعل المنعكس ، دون أن تترك لها وقتا تكبح فيه جماحها.

أمّا في الحالات العادة السّوية الّتي تزعم النّظريات الحتمية أنّها تقوم عليها ـ فإنّ هناك دائما مسافة بين فعل الطّبيعة ، ورد فعلنا الإرادي عليه ، وتبدو هذه الفترة ضرورية ـ أوّلا ـ لأنّ الموجود ليس فكرة وحيدة ، بل فكرتان متضادتان ، تعرضان لإختيارنا ، وتطلبان حقهما في أن تتحولا إلى واقع.

ولقد يحدث تارة أن تكون الأهمية الّتي نعلقها على عرضهما متساوية تقريبا ، بما أننا نجد بعد التّدقيق أنّ النّقص في جانب تعوضه الزّيادة في الجانب الآخر ، وهكذا يتضح توازنهما على مسرح الضّمير ، وغالبا ما تتجدد عودتنا إلى نفس نقطة التّفكير ، ومعاودة النّفس. وعلى هذا النّحو نظل مترددين للحظة في إختيارنا بين مشروع جميل جدا ، قليل التّكاليف ، ولكنه هش ، ومشروع آخر أقل جمالا ، وفادح التّكاليف ، ولكنه متين. وهذا الموقف المتحير القلق يصيبنا ، عند ما يطلب منا أن نختار بين عمل أكثر فائدة ، ولياقة ، وآخر أكثر فضلا ، وأعظم ثوابا.

ولقد يحدث تارة أخرى أن يبدو أحد الحلين في صورة أفضل ، وأعظم تقبلا

٣١٢

بالنسبة لما ألفنا من عادات ، واستعدادات ، ويبدو الحل الآخر مردودا بنفس الوسائل ، ولكنه ليس بأقل منه في نظر العقل ، وهو بذلك يعتبر عائقا بالنسبة إلى الأوّل ، يحول بينه وبين أن يتحول تلقائيا إلى حيز الفعل.

بيد أنّ المسافة الّتي تفصل حدث الإرادة عن أحداث الضّمير الأخرى ، تتميز بإختلاف طبيعتها بخاصة ، فبين هذه الأحداث وحدث الإرادة تنافر أساسي ، وإنقطاع للإستمرار ، فالمرء لا ينتقل من هذه الحالات إلى هذا الفعل ، على سواء. فمن فكرة معينة تولد طبيعيا نتيجة ، ومن اتجاه رغبة ، ومن عاطفة حالة للنفس مناسبة ، ومن خليط هذه كلّها ، أو من إندماجها يولد حدث مركب ، ليس هو الإرادة ـ بعد ، وإنّ أقرب الحالات إلى الإرادة هي الرّغبة ، ولكن ، «من الرّغبة إلى الإرادة توجد كلّ المسافة الّتي تفصل الدّعوة عن الإستجابة».

إنّ الإرادة ليس معناها أن نصوغ «طلبا» بل أن نصدر «مرسوما» ، إنّها لا تعني أن نمد يد سائل ، بل هي التّقدم بخطوة فاتح ، والإرادة ليست «إمتدادا» لسلسلة في سلسلة معطاة ، بل هي «بدء» سلسلة أخرى ينبغي أن تعطى. والواقع أنّ للسببية الإنسانية طابعها الخاص الّذي لا يؤول إلى غيره. فقبل أن ترتضي الإرادة دافعا معينا ، أو حافزا ، تخلع عليهما أوّلا نوعا من التّلوين ، وتحولهما إلى صيغة عقلية ، حين تلصق عليهما هذا العنوان : «إنّي أعتنق هذا المبدأ كقاعدة سلوك».

وحاشانا أن نقلل من أهمية نوازعنا العميقة ، وعواطفنا القوية ، وأفكارنا الواضحة ـ في صوغ أحكامنا ، فذهننا يقترح علينا حلا معينا ، وإحساسنا يستحثنا إلى آخر. وربما كان يكمن في الغضون الخفية لضميرنا سبب يوجهنا

٣١٣

إلى حلّ ثالث. ولكن هذه القوى مجتمعة ، بما فيها آخرها ، وأكثرها مباشرة ، لا تستطيع أن تفسر وحدها عمل الإرادة الحاسم ، فهي سببه الكامن ، ولكنها ليست السّبب الكامل ، ويتمثل عملها في كونها نوعا من الدّفع والتّحريض ، أكثر من كونها نوعا من التّسبيب. ولا ريب أنّها ببراهينها المقنعة ، أو نداءاتها العاطفية ، تتوق إلى أن تنتزع منا قرارا ، ولكنها لا تبلغ أن تكرهنا من أجل الحصول عليه ، فكأنّ دورها مقتصر بطبعه على إعداد السّجل ، والدّفاع عن القضية.

وقد يبلغ وزن تأثيرها علينا بهذه الوسيلة أن تميل بنا إلى هذا الحلّ ، أو ذاك ، ولكن المنحنى الّذي ترسمه لنا بهذا التّأثير لا يكون حلقة محكمة ، وعلينا نحن ، إما أن نقوم هذا المنحنى ، أو نستمر في حركته الّتي بدأت ، كيما ننهيه ، (أو بالأحرى نتقدمه لنقابله في منتصف الطّريق).

وعلى ذلك ، فبهذه العوامل وحدها يبقى عمل الإرادة ، وكذلك موضوعها ، في عالم الممكن ، فمن أجل أن نحقق وجود ممكن واحد من بين ممكنات كثيرة يلزم «عامل جديد» ، ضغطة إبهام تفتح له الطّريق إلى عالم الواقع.

هذا العامل الجديد هو تدخل «ذاتنا الكلية» بنشاطها «التّركيبي» ، لتحسم المناقشة ، وتصدر حكمها النّهائي ، الّذي لا قيمة لسواه ، وفي ثناياه كلّ النّتائج الأخلاقية. والواقع أنّ ذاتنا غير المنقسمة هي الّتي تتركز جملة في القرار ، في هذه اللحظة الحاسمة ، فهي الّتي تحكم نهائيا على قيمة هذا الهدف أو ذاك ، وهي الّتي ترجح دافعا على آخر. وليس من النّادر بالنسبة إلى الجانب الأضعف سلاحا خلال المداولة ـ أن يحرز قصب السّبق في القضية ، بفضل معروف يريد قاضينا أن يسديه إليه في النّهاية. وإذن فهذه الذات العليا ترقب دائما التّأثير

٣١٤

الطّبيعي لملكاتها ، وقواها ، وموضعها منها كموضع سائق القطار خلف ماكينته ، أوتي القدرة على أن يتدخل في كلّ لحظة لإيقافها ، أو تغيير سرعتها ، أو إتجاهها.

وهكذا نستطيع أن نوجه إختيارنا ، بأعظم ما نريد له من تنوع ، دون أن ننتهك قوانين الطّبيعة الظّاهرة ، أو الباطنة ، بل وبمساعدة هذه القوانين. نستطيع مثلا أن نحرك خيالنا ليمثل لنا بصورة أوضح ، وأدق ـ موضوع العمل الّذي أحالته العادة ، أو الغريزة إلى مخطط غامض مختلط ، ونستطيع أن نقرب من بؤرة شعورنا ما سبق أنّ رفضه في خلفيته ، وأن نركز فيه إنتباهنا ، وأن نقوم أسبابه ، وإذا لم نكشف لصالحه قيما داخلية أوردنا له قيما أخرى ، شخصية محضة ، وألححنا بكلّ ثقلنا ، بحيث نحول إرادتنا عن مجراها الحالي لتختار طريقا جديدة. وهي حتمية أيضا ، لو أردنا (١) ، ولكن بشرط أن تكون «محدّدة» ، لا «محدّدة» (محكومة لا حاكمة ، مقضية لا قاضية) ، إنّها ليست النيّر الّذي نتحمله بخضوع يشبه خضوع الرّهابنة ، ولكنها آلة ذات حدين ، نستطيع أن نمسك بها من كلا طرفيها ، كيما نضبطها بوساطة نوع من التّكليف المبدع ، الّذي يتوافق مع أي هدف من أهدافنا المتعارضة. وحيث قد أشتملت هذه الحتمية ، على تحديدات كثيرة ، فإنّها على هذا النّحو هي ذاتها غير محدّدة.

__________________

(١) وأقول : لو أردنا ... إذ الواقع أنّ الملكات الأخرى المسخرة لا تحدد بذاتها وحدها الإرادة مطلقا ، بل كلّ دورها أنّها تيسر لها الممارسة ، وتتيح لها فرصة أكبر كي تستعلن. وبالرغم من كلّ شيء ، أستطيع أن أقول : نعم ، ولكن لا أريد. ولكي أحافظ على وضعي ، وأبقى ممتنعا أمام جميع المثيرات ، سوف يكون أمامي دائما فرصة لأستعمل هذه الوسيلة الفعالة للمقاومة ، الّتي تتمثل في أن أحول عنها نظراتي ، وأفكر في أشياء أخرى.

٣١٥

وإذا كانت إرادة الإنسان الفاضل ، وإرادة المجرم لا تمارسان غالبا إلّا في اتجاه وحيد ، فمعنى ذلك أنّ كلا منهما بدأ بأن شدّ إرادته إلى محرك خاص ، مع إحتفاظه بحريته في أن يأخذ ، ويدع ، ويتفنن ، كيفما شاء.

إننا مهما صعدنا إلى أعلى الدّرجات في سلم الفضيلة ، أو هبطنا متردين في منحدر الرّذيلة ، فإنّ أحكم النّاس كأشدهم فسقا ، كلاهما يستشعر في نفسه القدرة على أن يتوقف ، أو ينكص على عقبيه ، أو يعاود الكر. وإذا كانا لا يفعلان ذلك فلأنهما لا يريدانه ، لا لأنّهما لا يقدران عليه. فهما يستطيعان أن يقدما دليلا مرئيا وملموسا على هذه القدرة العملية ، في مواجهة الخصم ، الّذي ربما كان ينكر قدرتهما على أن يفعلا ما لم يتعوداه. بل لقد سبق لكلّ منا أن قدم هذا الدّليل ، غاية ما هنالك أنا لما كنّا مزيجا من الميزات والعيوب فإنّ الفرق بين الأشخاص لم يعد أن يكون مسألة نسبية.

ولا ريب أنّ فوق هذه الحرية الطّبيعية ، الّتي هي «قدرة مزدوجة» ، حرية أخرى أخلاقية بنوع خاص ، هي «الواجب بالمعنى الدّقيق».

فالحرية الأولى : هي القدرة الّتي نختار بها أيّا من النّقيضين ، والثّانية : هي «حسن استعمال» الأولى. فهي التّخلي النّهائي عن الشّر ، والإختيار الفعلي للأفضل. بيد أنّ الحرية هنا ليست حرية الخلاص ، تلك الّتي تبريء مسئوليتنا ، ولكنها الحرية الّتي تشترط المسئولية وتقوم أساسا لها. والمهم هو معرفة ما إذا كنّا في جميع الأعمال الإرادية نملك فعلا هذه القدرة على النّقيضين ، أي إذا كنّا ، رغم ضغط طبيعتنا ، وضغط الطّبيعة الخارجية في جانب حلّ معين (وحينما لا يستهدف هذا الضّغط إلغاء إرادتنا كلية ، كما في حالة التّنويم ، أو الجنون) ـ

٣١٦

نستطيع أيضا ، وبكلّ حرية ، أن نختار ، دون إكراه ، أو إضطرار؟.

ولكي نزيد الأمر تحديدا : فإنّ الأمر يتصل بمعرفة ما إذا ما كنّا ، ونحن نختار الشّر في ظروف ترجح جانبه ـ نستطيع أن نختار الخير (والعكس).

وفي كلمة واحدة : هل نحن حقا ـ تبعا للخيار الّذي نقوم به ـ صناع لثوابنا ، أو شركاء في شقائنا الأخلاقي؟

إننا لا نمضي إلى حد الإدعاء بأنّ لدى جميع النّاس قوة متساوية على فعل الخير ، والشّر ، وبأنّ هذه القوة توجد عند الفرد الواحد في مختلف الظّروف. فالهبوط أيسر من الصّعود ، سواء بالمعنى المادي ، أو بالمعنى الأخلاقي. ومن الممكن أن نقول إنّ لدى الإرادة بعامة ميلا إلى متابعة الخير المحسوس ، العاجل ، أكثر من الخير الرّوحي ، أو الآجل ، ذلك أنّها قد تشعر بالكثير من الصّعوبة في أنّ تتبع أوامر العقل ، أكثر مما تجده في السّير وراء الميول الفطرية ، والعادات الموروثة ، أو المكتسبة. وربما كان أكثر دقة أن نقول : إنّ جميع الأشخاص لا يجدون نفس اللّذة بالنسبة إلى كلّ الرّذائل ، فلكلّ إنسان نقطة ضعفه الصّغيرة ، ومن هنا يقاوم بعض الغوايات بصورة أقل شدة مما يقاوم به بعضها الآخر. وكلّ ما في الأمر أننا ينبغي ألا نضخم هذه الصّعوبة ، إلى حد أن نجعل منها نوعا من الإستحالة.

ولعل ليبنز [Leibniz] يقول لنا :

«أليس قانونا شاملا أنّ كلّ قوة تعمل حيث تجد مزيدا من اليسر ، وقليلا من المقاومة؟ .. فلما ذا تريدون أن تجعلوا من القوة الأخلاقية إستثناء من القاعدة؟»

إنّ التّفكير على هذا النّحو هو سفسطائية صارخة ، حين نضع المصطلحين

٣١٧

للمقارنة في ظروف غير متساوية ، فإنّ ما يصدق على قوة عمياء ، مستسلمة لذاتها ، لا تملك غير معطاتها الرّاهنة ، لا يكون كذلك عند ما نجعل خلف جهازها صانعا ماهرا ، يكيفها تبعا لحاجاته ، مستخدما الإمكانات الّتي تنطوي عليها. ولسوف يبدع هذا الصّانع الماهر بحيلة مناسبة ضروبا أخرى من اليسر ، ومن المقاومة. ثمّ يعمل يحيث يجعل الجسم الّذي يسقط ، إمّا أن يتوقف عن السّقوط ، أو يحمل في الهواء ، وبحيث يجعل الماء الّذي يصب في الوادي يعاود الصّعود إلى السّفح.

ولنضع أنفسنا في نفس الظّروف ، وحينئذ لن تكون القوة الأخلاقية بحيث تقدم أي إستثناء. والواقع أنّه عند ما تجعل الذات إختيارها في الجانب الّذي ينطوي على مقاومة أكبر (ولنفترض أنّ ذلك حيث تأتمر بأمر الشّرع ، أو القانون) فإنّها تدعو من أجل هذا إحتياطاتها من الطّاقات القوية ، حتّى تعوض نقص القوى الموجودة. فتارة يكون هذا المدد ذا طابع «فكري» ، حيث يكون التّعليل العقلي من أجل معادلة ثقل الغريزة الهادئة ، أو العادة الجامدة. وتارة أخرى ذا طابع «مادي» ، سواء لتحاشي موقف مثير ، أو لتحويل تيار عرم ، لأنفعال يرفض المناقشة ، والتّفاهم. وهكذا لا يدرك القرار الأخلاقي في هذه الحالات إلّا بوساطة جهد من المقاومة جديد ، وهو جهد يتضاعف أثره حين لا يقتصر على إعادة إقرار التّوازن المتخلخل فحسب ، بل حين يهيىء قلب النّظام المبدئي للثقل ، ويرجح الميزان إلى النّاحية المقابلة.

ولكي تكون لدينا صورة تقريبية للصعوبات الّتي تلقاها إرادتنا في إستعداداتنا الموروثة ، أو المكتسبة ـ يكفي أن نتصور إنسانا غارقا في نوم عميق ، وهو

٣١٨

يسمع رنين ساعه منبهة ، إننا نخلط بين نظامين مختلفين تماما حين نقول : إنّ قانون الطّبيعة الّذي يضغط على البدن ، ويشل حركته ، يعوق بنفس القدر إرادة الإستيقاظ. فالحقيقة أنّه يكفي أن تمتد اليقظة لبضع لحظات كافية لتحريك الشّعور ، وتضمن عدم سعادة النّوم في الحال ـ فإنّ هذه الحالة الطّبيعية تترك أمام الإرادة ثلاثة مواقف ممكنة للإختيار على سواء : فقد يقول المرء لنفسه ، وجسمه لا يزال في حالة خمود : «يجب أن أواصل راحتي» ، أو «أرجو أن أستيقظ ، ولكني لا أستطيع أن أعزم» ، أو «يجب أن أنهض للعمل». ومن الواضح أنّ الموقف الأوّل المعادي للواجب في إصرار ، لا يمكن أن يكون مما تفرضه الطّبيعة ، إذ أنّ المرء يستطيع ، دون أي تغيير في الوضع المادي ـ أن يتخذ الموقف الأوسط الّذي ينطوي على إرادة ضعيفة ، وهذه الإرادة هي المعادل العمل للهروب. وعليه ، فمتى ما بلغ المرء مرحلة إختيار هذا الحلّ الوسط أصبح من اليسير أن يتحقق من صحة هذا الحكم الّذي نصدره مسبقا عن عجز إرادتنا. وبحسبنا أن نشرع في محاولة ، مجرد إنتفاضة مصطنعة ، حتّى نسقط كلّ وهم عن حقيقة حريتنا. نعم ، إنّه مع قليل من التّوتر ، ومع شيء من الحماس ، ينهض أكثر النّاس نعاسا ، ويمضي في عزمه (١).

__________________

(١) هذه الفكرة الّتي عالجناها هنا أشار إليها حديث معروف ، يتعلق على وجه التّحديد بمقاومة هذا الميل الضّعيف إلى الاستيقاظ ، وتتألف الطّريقة المأمور بها من مراحل متعددة ، تهدف إلى تحطيم هذه القيود المادية المفروضة على الإرادة ـ بعضها في إثر بعض : أنطق كلمة تذكرك بالواجب ، قم ، أغسل وجهك ، وأعضاءك بالماء ، إلخ .. فإذا كان الجسد قد أنتعش على هذا النّحو بقدر ضئيل من الجهد المؤلم في البداية ، فإنّه سوف يرد إلى النّفس بعد ذلك راحتها ومسرتها. (انظر ، صحيح البخاري : ١ / ٣٧٧ ـ باب ـ

٣١٩

ولقد أثبتت التّجربة في الواقع أنّ أكثر الإرادات إعتدالا تحس في غمار عملها ، وأمام التّحدي ، بأنّها قادرة على أن تقاوم مقاومة عنيفة تأثير الغرائز الأولية ، ونوازع التّسلط ، وتهديدات الظّروف الخطرة ، راضية أن تضحي بأغلى ما تملك ، وليس يصدق هذا بالنسبة إلى الشّهداء فحسب ، وهم الذين يضحون مختارين بحياتهم من أجل مثلهم الأعلى ، ولكنه يصدق أيضا على أكثر الجنود تواضعا ، وهم الذين يرسلون إلى الحرب ، فيخوضونها دون أن يعرفوا لما ذا؟ .. بل لمجرد أن يطيعوا رؤساءهم.

وربما تقول لي : إنني أبذل كلّ ما في وسعي ولا أصل. وليس هذا صحيحا بإطلاق ، فإذا كان قلبك ، تلك الطّبيعة الصّغيرة ـ لا يقدر على شيء يقاوم به الزّحف الكاسح للطبيعة الكبيرة ، وإذا كان لا بد لجاذبية بعض الشّر ، وكراهية بعض الخير ، أن تحدث أثرها على هذا الجزء المنفعل من كونك ، فلم لا ترثي لهذه الحال ، ولما ذا لا تحتقر هذه الطّبيعة في ذاتك ، بناء على نصيحة العقل؟ .. ولما ذا تضرب عن هذا كلّه ، وتضع نفسك من هذا الجزء بمثابة القاضي الأعلى ،

__________________

ـ التّهجد ـ باب ١٢ ح ١٠٦٩ ، فتح الباري : ٣ / ٣ ، مقدمة فتح الباري : ١ / ٤٦٦) اه. «المؤلف».

ونصّ الحديث كما ورد في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «يعقد الشّيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب كلّ عقدة عليك ليل طويل فارقد ، فإن إستيقظ فذكر الله إنحلت عقدة ، فان توضأ إنحلت عقدة ، فأصبح نشيطا طيب النّفس ، وإلّا أصبح خبيث النّفس كسلان» ، «المعرب». انظر ، تفسير القرطبي : ٢ / ٢٣ و : ١٩ / ٥٦ ، التّمهيد لابن عبد البر : ١٩ / ٤٥ ، صحيح مسلم : ١ / ٥٣٨ ح ٧٧٦ ، تنوير الحوالك : ١ / ١٤٦ ح ٤٢٤ ، ميزان الإعتدال : ٢ / ٨٩ ، صحيح البخاري : ١ / ٣٨٣ ح ١٠٩١ و : ٣ / ١١٩٣ ح ٣٠٩٦ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٣٤٠ ، صحيح ابن حبان : ٦ / ٢٩٣ ح ٢٥٥٣ ، مجمع الزّوائد : ٢ / ٢٦٢ ، موطأ مالك : ١ / ١٧٦ ح ٤٢٤ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٤٣ ح ٧٣٠٦.

٣٢٠