الكلام ، يدلّ على أنّ نعمة الله كانت في حقّه عظيمة ، فحسن ذكره عند تعديد النّعم من هذا الوجه.
قوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنامُسْلِمُونَ)(١١١)
من قال : إنهم كانوا أنبياء ، قال : المراد هذا الوحي الذي يوحى إلى الأنبياء ، ومن قال : إنّهم ما كانوا أنبياء ، قال : المراد بذلك : الوحي والإلهام ، كقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) وقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] ، وإنما ذكر هذا في معرض تعديد النّعم ؛ لأنّ صيرورة الإنسان مقبول القول عند النّاس ، محبوبا في قلوبهم من أعظم نعم الله ـ تبارك وتعالى ـ على الإنسان ، وذكر ـ تبارك وتعالى ـ إنّما ألقى ذلك الوحي في قلوبهم فآمنوا وأسلموا ، وإنّما قدّم ذكر الإيمان على الإسلام ؛ لأنّ الإيمان صفة القلب والإسلام عبارة عن الانقياد والخضوع في الظّاهر ، يعني : آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم.
فإن قيل : إنّه تعالى ذكر في الآية : (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) أنّ جميع ما ذكر الله ـ تعالى ـ من النّعم مختصّ بعيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ، وليس لأمّه بشيء منها تعلّق.
فالجواب : كلّ ما حصل للولد من النّعم الجليلة ، والدّرجات العالية ، فهو حاصل للأمّ على سبيل التضمّن والتّبع ، قال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠] ، فجعلهما معا آية واحدة ؛ لشدّة اتّصال كلّ واحد منهما بالآخر.
روي أنّه ـ تعالى ـ لمّا قال لعيسى : (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) من لبس الشّعر وأكل الشّجر ، لم يدّخر شيئا لغد ، ويقول مع كل يوم رزقه ، ولم يكن له بيت فيخرّب ، ولا ولد فيموت ، أينما أمسى بات.
قوله تعالى : (أَنْ آمِنُوا بِي) : في «أن» وجهان :
أظهرهما : أنها تفسيرية ؛ لأنها وردت بعد ما هو بمعنى القول ، لا حروفه.
والثاني : أنها مصدريّة بتأويل متكلّف ، أي : أوجبت إليهم الأمر بالإيمان ، وهنا قالوا «آمنّا» ولم يذكر المؤمن به ، وهناك (آمَنَّا بِاللهِ) [آل عمران : ٥٢] فذكره ، والفرق أنّ هناك تقدّم ذكر الله تعالى فقط ، فأعيد المؤمن به ، فقيل : «بالله» وهنا ذكر شيئان قبل ذلك ، وهما : (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) ، فلم يذكر ؛ ليشمل المذكورين ، وفيه نظر ، وهنا قال «بأنّنا» وهناك قال «بأنّا» بحذف «نا» ، وقد تقدّم غيره مرة : أنّ هذا هو الأصل ، وإنما جيء هنا بالأصل ؛ لأنّ المؤمن به متعدّد ، فناسبه التأكيد.
قوله تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ