نعمته عليه وعلى والدته ، وإن كان لهما ذاكرا لأمرين :
أحدهما : ليتلو على الأمم بما خصّصها به من الكرامة ، وميّزها به من علوّ المنزلة.
والثاني : ليؤكّد به حجّته ، ويردّ به جاحده ، وفسّر نعمته عليه بأمور :
أوّلها : قوله تعالى : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) في «إذ» أربعة أوجه :
أحدها : أنه منصوب ب «نعمتي» ؛ كأنه قيل : اذكر إذ أنعمت عليك وعلى أمّك في وقت تأييدي لك.
والثاني : أنه بدل من «نعمتي» بدل اشتمال ، وكأنه في المعنى يفسّر النعمة.
والثالث : أنه حال من «نعمتي» ، قاله أبو البقاء (١).
والرابع : أن يكون مفعولا به على السّعة ، قاله أبو البقاء (٢) ـ رحمهالله تعالى ـ أيضا قال شهاب الدين (٣) : هذا هو الوجه الثاني ـ أعني البدلية ـ ، وقرأ الجمهور «أيّدتّك» بتشديد الياء ، وغيرهم «آيدتّك» وقد تقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة مشبعا ، ومعنى الآية الكريمة أي : قومك بما يجوز من الأيد ، وهو القوّة.
فصل
المراد بروح القدس : جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، والقدس : هو الله تعالى ، كأنّه أضافه إلى نفسه تعظيما ، وقيل : إنّ الأرواح مختلفة بالماهيّة : فمنها طاهرة نورانيّة ، ومنها خبيثة ظلمانيّة ، ومنها : مشرقة ومنها كدرة ، ومنها خيّرة ومنها نذلة ؛ ولهذا قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «الأرواح جنود مجنّدة» (٤) ، فالله تعالى خصّ عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالرّوح الطّاهرة النّورانيّة المشرقة العلويّة الخيّرة ، ولقائل أن يقول : لما دلّت هذه الآية على أنّ تأييد عيسى إنّما حصل من جبريل ، أو بسبب روحه المختصّة ، وهذا يقدح في دلالة المعجزات على صدق الرّسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، ولم تعرف عصمة الرّسل ـ عليهمالسلام ـ قبل العلم بعصمة جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيلزم الدّور.
فالجواب : قال ابن الخطيب (٥) : ثبت من أصلنا أنّ الخالق ليس إلّا الله ، وبه يندفع السّؤال.
__________________
(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣١.
(٢) ينظر : المصدر السابق.
(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٤٦.
(٤) أخرجه البخاري ٦ / ٤٢٦ كتاب الأنبياء : باب الأرواح جنود مجندة (٣٣٣٦) ومسلم ٤ / ٢٠٣١ كتاب البر والصلة : باب الأرواح جنود مجندة (١٥٩ ـ ٢٦٣٨).
(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٠٤.