فصل في معنى الآية
معنى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي : باللّسان وقوله تعالى : (مَنْ آمَنَ) بالقلب ، وعلى هذا فالمراد بهم : المنافقون ، وقيل : إنّ الذين على حقيقة الإيمان (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي : ثبت على الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ولهذا التكرير فائدتان :
الأولى : أن المنافقين كانوا يزعمون أنّهم مؤمنون ، فأخرجهم بهذا التكرير عن [وعد] عدم الخوف ، وعدم الحزن.
والثاني : أنّه تعالى ذكر لفظ الإيمان ، والإيمان يدخل تحته أقسام : فأشرفها : الإيمان بالله واليوم الآخر ، فكرره تنبيها على أنّ هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان.
وقد تقدّم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كلام يناسب هذا الموضع.
واعلم أنّه لما بيّن أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بيّن أنّ هذا الحكم عامّ في الكلّ ، وأنّه لا يحصل لأحد فضيلة إلّا إذا آمن بالله واليوم الآخر ، وعمل صالحا.
قالت المعتزلة (١) : إنّه تعالى شرط عدم الخوف والحزن بالإيمان والعمل الصّالح ، والمشروط بالشّيء عدم عند عدم الشّرط ، فإن لم يأت مع الإيمان بالعمل الصّالح ، فإنّه يحصل له الخوف والحزن ، وذلك يمنع من العفو عن صاحب الكبيرة.
والجواب : أنّ صاحب الكبيرة لا يقطع بأنّ الله يعفو عنه لا محالة ، فكان الخوف والحزن حاصلا قبل إظهار العفو والله أعلم.
قوله تعالى : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) (٧٠)
والمقصود : بيان عيوب بني إسرائيل ، وشدّة تمرّدهم عن الوفاء بعهد الله ، وهذا متعلّق بأوّل السّورة ، وهو قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١].
قوله تعالى : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) : قد تقدّم الكلام [الآية ٢٠ من البقرة] على «كلّما» مشبعا ، فأغنى عن إعادته ، وقال الزمخشريّ : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) جملة شرطية وقعت صفة ل «رسلا» ، والراجع محذوف ، أي : «رسول منهم» ، ثم قال : «فإن قلت : أين جواب الشرط ، فإنّ قوله : «فريقا كذّبوا وفريقا يقتلون» ناب عن الجواب ؛ لأنّ الرسول الواحد لا يكون فريقين ؛ ولأنه لا يحسن أن تقول : «إن أكرمت أخي ، أخاك
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ٤٦.