و «علّام» مثال مبالغة ، فهو ناصب لما بعده تقديرا ، وبهذا أيضا يردّ على الزمخشريّ على تقدير تسليم صحّة وصف الضمير من حيث إنه نكرة ؛ لأن إضافته غير محضة وموصوفه معرفة. والجمهور على ضمّ العين من «الغيوب» وهو الأصل ، وقرأ (١) حمزة وأبو بكر بكسرها ، والخلاف جار في ألفاظ أخر نحو : «البيوت والجيوب والعيون والشّيوخ» وقد تقدّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر (الْبُيُوتَ) [البقرة : ١٨٩] ، وستأتي كلّ لفظة من هذه الألفاظ معزوّة لقارئها في سورها ـ إن شاء الله تعالى ـ وجمع الغيب هنا ، وإن كان مصدرا لاختلاف أنواعه ، وإن أريد به الشيء الغائب ، أو قلنا : إنه مخفّف من فيعل ؛ كما تقدم تحقيقه في البقرة [الآية ٣] ، فواضح.
فصل في معنى الآية
معنى الآية الكريمة : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ، وهو يوم القيامة (فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) أممكم ، وما الذي ردّ عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي؟ فيقولون : (لا عِلْمَ لَنا) بوجه من الحكمة عن سؤالك إيّانا عن أمر أنت أعلم به منّا.
قال ابن جريج (٢) ـ رحمهالله ـ : «لا علم لنا بعاقبة أمرهم ، وبما أحدثوا من بعد يدلّ عليه قولهم : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي : أنت الذي تعلم ما غاب ، ونحن لا نعلم ما غاب إلّا ما نشاهد.
فإن قيل : ظاهر قولهم : (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يدلّ على أنّ الأنبياء لا يشهدون لأممهم ، والجمع بين هذا وبين قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] مشكل ، وأيضا قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] ، فإذا كانت أمّتنا تشهد لسائر الأمم ، فالأنبياء أولى بأن يشهدوا لأممهم.
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والسدّيّ : إنّ القيامة زلازل وأهوال ، بحيث تزول القلوب عن مواضعها عند مشاهدتها ، والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ عند مشاهدة تلك الأهوال ينسون أكثر الأمور ، فهنالك يقولون : لا علم لنا ، فإن عادت قلوبهم إليهم ، فعند ذلك يشهدون للأمم (٣).
قال ابن الخطيب (٤) : وهذا الجواب وإن ذهب إليه جمع عظيم من الأكابر فهو
__________________
(١) ينظر : السبعة ١٧٨. ١٧٩ ، والحجة ٢ / ٢٨٠. ٢٨٢ ، والعنوان ٧٣ ، وحجة القراءات ١٢٧ ، وشرح شعلة ٢٨٦ ، ٣٥٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ٩٣ ، وإتحاف ١ / ٥٣٢.
(٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٧٦.
(٣) ينظر : تفسير الرازي ٢ / ١٠٧.
(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٠٢.