من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

١ ـ في كتاب ثواب الأعمال باسناده الى أبي عبد الله (ع) قال :

«إنّ لكلّ شيء قلبا ، وإنّ قلب القرآن يس ، ومن قرأها قبل أن ينام أو في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي ، ومن قرأها في ليلة قبل أن ينام وكّل الله به ألف ملك يحفظونه من شرّ كلّ شيطان رجيم ومن كل آفة ، وإن مات في يومه أدخله الله الجنة ، وحضر غسله ثلاثون ألف ملك كلهم يستغفرون له ويشيعونه إلى قبره بالاستغفار ، فإذا دخل في لحده كانوا في جوف قبره يعبدون الله وثواب عبادتهم له ، وفسح له في قبره مدّ بصره ، وأومن من ضغطة القبر ، ولم يزل في قبره نور ساطع الى عنان السماء إلى أن يخرجه الله من قبره ، فإذا أخرجه لم يزل ملائكة الله يشيّعونه ويحدّثونه ويضحكون في وجهه

٨١

ويبشرونه بكل خير حتى يجوزونه على الصراط والميزان ويوقفونه من الله موقفا لا يكون عند الله خلق أقرب منه إلّا ملائكة الله المقربون وأنبياؤه المرسلون ، وهو مع النبيين واقف بين يدي الله ، لا يحزن مع من يحزن ولا يهتم مع من يهتم ولا يجزع مع من يجزع ، ثم يقول له الربّ تبارك وتعالى : اشفع عبدي أشفّعك في جميع ما تشفع ، وسلني أعطك عبدي جميع ما تسأل ، فيسأل فيعطى ، ويشفع فيشفّع ولا يحاسب ولا يوقف مع من يوقف ، ولا يزلّ مع من يزل ، ولا يكتب بخطيئة ولا بشيء من سوء عمله ، ويعطى كتابه منشورا حتى يهبط من عند الله ، فيقول الناس بأجمعهم : سبحان الله ما كان لهذا العبد من خطيئة واحدة! ويكون من رفقاء محمد (ص) (١)»

عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله (ص) :

«من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفّف الله عنهم يومئذ ، وكان له بعدد من فيها حسنات» (٢)

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج (٤) / ص (٣٧٢).

(٢) المصدر.

٨٢

الإطار العام

الاسم :

اتخذ اسم السورة من الكلمة الأولى فيها التي قالوا إنّها اسم لنبينا الأكرم محمد (ص) ، ولعلها ترمز اليه كما ترمز اليه كلمة (طه) والله العالم.

الإطار العام :

بعد القسم بالشأن العظيم الذي هو للقرآن الحكيم ، يخاطب ربنا سيد الخلائق (يس) محمد (ص) بأنّه من المرسلين ، وأنّه على صراط مستقيم ، وأنّ الكتاب تنزيل من ربّ غفور رحيم ، ويهدف إنذار قوم جاهلين بما أنذر آباؤهم من قبل ، ثم أضحت قلوب أكثرهم كالصخر لا تقبل الإيمان. أرأيت الذي وضعت على عنقه الأغلال ، حتى أصبح مقمحا ، مرفوع الرأس الى الأعلى حتى لا يرى شيئا؟ هل يقدر على النظر؟! أم الذي وضع سد منيع أمامه وخلفه ، وحجبت بصره غشاوة فهل يبصر؟! كلّا ... كذلك لا ينتفع هؤلاء بالإنذار ، فسواء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا

٨٣

يؤمنون.

فلمن القرآن إذا؟

إنّما هو ينذر من يتبع الذكر ، ويهتدي ويطيع آيات القرآن ، ويخشى الرحمن بالغيب ، وهذا يتجنب المهالك التي تنذر بها ، ويبشره الله بمغفرة لذنوبه السابقة وهفواته ، وبأجر فيه الرزق والكرامة ، ويأتي كمال الجزاء في الآخرة ، حيث يحي الله الموتى ، وقد كتب من قبل ما قدموه لحياتهم هناك وما خلّفوه وراءهم من آثار ، وكلّ شيء قد أحصي في إمام مبين.

(وهذه الرسالة جاءت على سنّة رسالات الله السابقة) ويضرب القرآن مثلا من أصحاب القرية حين جاءها المرسلون ، ثم يمضي في بيان شبهاتهم الواهية ، ويردّها أولا : على لسان الأنبياء ، وثانيا : على لسان واحد ممن هداهم الله للإيمان ، وأدخله جنته فقال : يا ليت قومي يعلمون ، وأهلك الله قومه من بعده بصيحة ، وتحسّر على العباد الذين لا يبعث إليهم رسول إلا كانوا به يستهزءون ، دون أن يعتبروا بمصير السابقين الذين سوف يحضرهم الله وإياهم لديه.

ويذكّرنا القرآن بآيات الله لعلنا نهتدي إليه ونتبع رسله : فمن الأرض الميتة التي يحيها (بالغيث) ويخرج منها حبا فمنه يأكلون ، إلى الجنات ذات الثمرات المختلفة ، الى الليل والنهار والشمس التي تجري لمستقر لها ، الى القمر الذي يجري في منازله حتى يعود كالعرجون القديم ، الى التدبير اللطيف للشمس والقمر ، الى وسائل النقل من سفن وأنعام البر.

ويذكّرنا بأنّه يحفظهم من غضب الأمواج برحمته وحتى يقضوا آجالهم ، وترى أنّ الرب الرحيم يريد لهم الخيرات أيضا حين يأمرهم بالتقوى (ليحفظهم من عواقب

٨٤

الذنب) ولكنهم يعرضون بالرغم من تواتر الآيات ، وتراهم يبررون بخلهم بأنّه كيف ننفق على من لو شاء الله أطعمه (مما عكس فكرهم وقيمهم المادية) ويتساءلون باستهزاء : متى هذا الوعد بالجزاء (لماذا يتأخر) ان كنتم صادقين؟! (بلى. إنّه آت وماذا ينتظرون وماذا يستعجلون) ما ينتظرون إلّا صيحة واحدة تأخذهم وهم سادرون في بحر الجدل العقيم ، وهنالك لا يسمح لهم الوقت بالتوصية ، ولا هم يعودون الى أهلهم مرّة ثانية (ويبقون في عالم البرزخ حتى يوم النشور) فإذا نفخ في الصور فإذا هم يخرجون من القبور ، ويتوجهون الى ربهم (وبدل التساؤل المشوب بالسخرية تراهم) يقولون : يا ويلتنا من بعثنا من مرقدنا؟ (إنّه الله المقتدر فيعترفون ويقولون :) هذ ما وعد الرحمن (من النشور) وصدق المرسلون (حين أنذروا بذلك اليوم الرهيب) وهنالك الحكم العدل الذي يشمل كل الحاضرين (ويصوّر السياق بعض مشاهد الجزاء) فأصحاب الجنة في شغل فاكهون ، بينما يمتاز المجرمون الى النار ، ويحاكم الرب عبيده قائلا : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ)؟! هو عدوّكم ، وصراطه منحرف عن الصراط الإلهي المستقيم ، وإنّه قد أضلّ كثيرا منهم وأوردهم النار ، أفلا اعتبرتم بمصيرهم؟! واليوم أدخلوا جهنم تلك التي وعدتم إياها ، (وبعد أن يصوّر لنا جانبا من عذاب جهنم يقول :) ولو كنّا نريد لجزيناهم في الدنيا ، فطمسنا على أعينهم ومسخناهم (وفعلا يفعل الله ببعضهم فلا يقدرون منعه) فمن يطوّل عمره ينكّسه في الخلق. أفلا تعقلون (إنّه قادر على أن يصيبهم بمثل ذلك).

ويعطف القرآن الحديث عن الآخرة ـ بعد أن خشعت النفوس الطيبة بتصوير مشاهد منها ـ يعطفه الى ردّ شبهاتهم حول الرسول فيقول : وما علّمناه الشعر (ولا يتناسب حديثه والشعر أبدا) (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) ، ويهدف إنذار من يملك قلبا حيّا ، أمّا بالنسبة إلى غيرهم فلكي يتم الحجة عليهم (ويذكّرنا السياق بالتوحيد

٨٥

الذي هو أساس كل عقيدة صالحة ، فمن آمن بالله حقا لم يطع الشركاء الموهومين ، بل أطاع الرسول الذي أمر الله بطاعته فقط) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) (ثم خولناهم التصرف فيها ، وجعلناها ذلولا يسخرونها) (فَهُمْ لَها مالِكُونَ)؟! (وبعد ذكر نعم الله يوجههم إلى الشكر الذي من أبرز معانيه الإيمان بالله وطاعة رسوله ولكنهم أشركوا) (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) (وهم يريدون جبر نقصهم بها) (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) (والواقع أنّ العكس هو الصحيح) والآلهة لا يستطيعون نصرهم بل إنّ المشركين لهم جند محضرون.

(ويخاطب السياق الرسول ليثبّت فؤاده ولينذر الكفّار) ويقول : لا يحزنك ما يقولون لك. إنّ الله يعلم سرهم وعلنهم.

(ويعود السياق الى الإيمان بالآخرة ، وكيف يكفر بها هذا الإنسان الذي أسبغ الربّ عليه النعم ، ويخاصم فيها بكل صلافة) أفلا يرى الإنسان أنّه مخلوق من نطفة (مهينة) فإذا به يصبح خصيما لله؟! (يتقلّب في نعم الله ويجادل في آياته!) ويضرب مثلا (فيأخذ عظما يفتته ويقول :) (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟! قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (فيعلم أين ذهبت ذرأت جسد هذا الشخص أو ذاك) وهو الذي جعل من الشجر الأخضر نارا لكم توقدون عليها (مع أنّ النار باطنة فيها) وهو الذي خلق السموات والأرض فهل يعجزه إرجاع البشر؟! كلّا ...) (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (وتعالى عما يصفه الجاهلون بالنقص والعجز ، كلّا ... هو العليّ المقتدر على بعث الإنسان) وإليه ترجعون.

وكلمة أخيرة :

لقد ذكرت النصوص : أنّ (يس) قلب القرآن ، وهي ـ بحق ـ غرّة السور

٨٦

المكية التي جاءت فيها حقائق الرسالة بصورة مركزة ، مما يجعلها ركيزة الحياة للإنسان المسلم ، لأنّها حوت خلاصة دروس الحياة ، وحكمة المرسلين ، ومتطلبات الحضارة.

٨٧

سورة يس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ

___________________

٨ (مُقْمَحُونَ) : من قمح بمعنى رفع رأسه إلى فوق ، فإنّ الأغلال لمّا امتدت إلى تحت أذقانهم رفعت رؤوسهم إلى السماء حتى لا يتمكّنون من النظر أمامهم.

[فأغشيناهم] : جعلنا على أبصارهم غشاوة تمنعهم عن الإبصار.

٨٨

عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)

٨٩

إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ

هدى من الآيات :

يقسم السياق ـ في البدء ـ بما يستدل به على صدق رسالة النبي (ص) وأنّه من لدن ربّ عزيز رحيم ، يقسم بالقرآن الحكيم الذي هو الدليل الأظهر على رسالات الله ، ثم بعدئذ يبين ملامح المجتمع الجاهلي الذي جاء الكتاب لإصلاحه. إنّه الاعرق في الكفر حيث أنّ أكثرهم محكوم عليهم بعدم الإيمان (لعنادهم) وقد جعلت الأغلال في أعناقهم فهي الى الأذقان ، وجعلوا بين السدّين من أمامهم ومن خلفهم ، وحجبت أعينهم بالغشاوة ، فهم لا يؤمنون بك سواء أنذرتهم أم لم تنذرهم. أوليس شرط الاستجابة حالة الخشوع في القلب؟ ولكن دعهم فسوف يحيي الله الموتى ، وقد سجلت عليهم أعمالهم ، وكلّ شيء أحصاه ربّنا في إمام مبين.

(ولعل ذكر هذه الحقيقة يهدف بيان دور البشر في الهداية ، وأنّها ليست كرها عليه ، بل الله يضل أقواما عاندوا وجحدوا أو غفلوا عن الذكر).

٩٠

بينات من الآيات :

باسم الله ، بذلك النور القدسي ، الذي خلقه الله خلقا ، ثم خلق الأشياء به ، برحمته التي وسعت كل شيء ، وبرحمته التي لم تزل ولا تزال نزدلف الى سورة يس المباركة.

[١] إنّ القرآن معجزة البلاغة ، فهذا الكتاب الحكيم تركيب من هذه الأحرف التي لعلها تشير اليه ، وهي في ذات الوقت رموز بين الله وأوليائه المقربين.

(يس)

وقد ذكرت النصوص أنّها اسم من أسماء النبي (ص) فقد روي عن الإمام أبو الحسن الرضا (ع) في حوار بينه وبين الخليفة العبّاسي المأمون أنّه قال :

أخبروني عن قول الله تعالى : «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» فمن عنى بقوله (يس)؟ قالت العلماء : يس محمد (ص) لم يشك فيه أحد.

قال أبو الحسن : فإنّ الله تعالى أعطى محمدا وآل محمد من ذلك فضلا لا يبلغ أحد كنه وصفه إلّا من عقله ، وذلك أنّ الله عزّ وجلّ لم يسلّم على أحد إلّا على الأنبياء (صلوات الله عليهم) فقال تبارك وتعالى : «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ» وقال : «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ» وقال : «سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ» ولم يقل : سلام على آل نوح ، ولم يقل سلام على آل إبراهيم ، ولم يقل سلام على آل موسى وهارون ، وقال : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) يعني آل محمد (ص).

فقال المأمون : قد علمت أنّ في معدن النبوة شرح هذا وبيانه (١)

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٣٧٥).

٩١

ولعل معرفة الأحرف المتقطعة في فواتح السور تعتبر مفاتيح لفهم أسرار كتاب الله.

[٢] القسم يربط ـ اعتباريا ـ بين حقيقة يرد التأكيد عليها ، وحقيقة مؤكدة فعلا ، فإذا حلفت بالله سبحانه على أنّك تفي بوعدك ، فقد ربطت بين إيمانك بالله كحقيقة ثابتة ، وبين الوفاء بالوعد تريد التأكيد عليه.

وإذا كانت هنالك صلة حقيقية بين أمرين ، وكان أحدهما شاهد صدق على الثاني ، فإنّ القسم يكون أبلغ وآكد ، ولعل كلّ ما في القرآن من حلف هو من هذا النوع.  أليس القرآن كتاب حقّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ وهكذا ينبغي البحث دائما عمّا يوصل بين طرفي القسم ، وهو في الأكثر صلة الحجة والشهادة.

وهنا يحلف الذكر بالقرآن الحكيم على رسالة النبي. أو ليس القرآن أكبر شاهد على رسالته؟ أو ليس المعجزة التي لا تفنى ولا تنتهي غرائبه ، الجديد أبدا الذي يسبق الحياة دائما.

(وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ)

ترى أيّ صفة في القرآن تجعله أكبر شاهد على الرسالة؟ هل هي بلاغته التي أخرست العرب الذين زهوا ببلاغتهم وسمّوا أنفسهم عربا لأنّهم أعربوا عمّا يختلج في ضمائرهم؟

أم لأنّه جاء على يد نبيّ أميّ ما عهد القراءة والكتابة؟

أم لأنّه تنبّأ بالمستقبل فلما تحققت أنباؤه عرف الناس صدقه؟

٩٢

أم لأنّه أنبت حضارة ربانيّة في أرض الجاهلية العريقة؟

كل تلك الصفات شواهد صدق الرسالة إلّا أنّ الصفة الأسمى للقرآن حكمته. ما هي هذه الحكمة التي يحلف بها الربّ هنا ليستدل على أنّ محمدا (ص) من المرسلين؟

لا يزال «العلم» الشاهد العظيم عند كل الناس على صدق أو كذب أصحاب الدعوات الجديدة ، والقرآن فتح أمام البشرية ولا يزال آفاق المعرفة :

عرّفهم بربهم حتى وجده العارفون ، وجالسه الذاكرون ، واستأنس به المريدون.

عرّفهم بأنفسهم حتى بصروا عيوبها ، وميّزوا بين فجورها وتقواها ، واجتهدوا في تزكيتها وتنمية المواهب فيها.

عرّفهم بالسنن الإلهية في الأمم الغابرة حتى أخذوا بأسباب التقدم ، وتمسّكوا بأهداب التكامل والفلاح.

عرّفهم بمناهج المعرفة ، وسبل السلام ، ومفاتيح النجاح ، ووسائل القرب الى الله.

فأيّ شهادة أكبر على صدق الرسالة من ذات الرسالات ، وعلى صدق الرسول من أنّه يحملها ويطبقها؟

والقرآن ليس فقط كتاب علم بل هو أيضا كتاب حكمة ، والحكمة ـ كما يبدو لي ـ العلم النافع الذي بلغ في تكامله ونضجه مبلغا يجعله مؤثرا في سلوك البشر ، ومغيرا الحياة ، وصانعا للحضارة.

٩٣

دعنا نضرب مثلا : علم قيادة السيارة قد يكون نظريا ، فهو مجرد علم ، وقد يتحول الى مهارة عملية. ألا يختلفان؟ (٢) ولكن أين الاختلاف؟ إنّما في أنّ دراسة قيادة السيارة في معهد مرحلة أوّلية في علم القيادة ، أمّا إذا تدرّب الإنسان عليها بلغ العلم مرحلته النهائية ، والقرآن ذلك الكتاب الحكيم الذي يشفي الصدور ، ويبعث الهمم ، ويعطي البصائر ، ويكمل العقل ، ويضع الشرائع السليمة ، ... فهو ليس علم الحياة بل هو الحياة.

[٣] الرسالة حقيقة لا ينكرها إلّا المعاندون ، وقد أرسل الله أنبياءه ـ عليهم السلام ـ حتى لم يكن إنكار الرسالة أصلا يجدي أحدا نفعا ، ولعل التعبير القرآني هنا يوحي بهذه الحقيقة إذ قال :

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)

فلست بدعا من الرسل ، وإنّما أنت واحد من أولئك الكرام الذين بلّغوا عن الله ، وأنت تصدقهم ، وهم بشّروا بك ... وهذا بدوره شهادة على صدق الرسول.

[٤] وشهادة أخرى على ذلك أنّ الرسول على الصراط المستقيم ، استقامة النفس بالعقل ، واستقامة السلوك بالشرع ، واستقامة القول بالصدق ، واستقامة العمل بالصلاح.

فإذا ضلّت المذاهب في ربهم فإنّ الرسول يهدي الإنسان إلى الله بما يتفق مع الفطرة والعقل ، وحين يبلغ العبد معرفة الرب لا يبقى لديه ريب في صدق الرسالة.

وإذا تطرّفت المذاهب فأهمل بعضها العقل وأهمل البعض البدن ، فإنّ الرسول

__________________

(٢) اننا نستخدم كلمة العلم عادة في الجانب النظري بينما نستخدم للجانب العملي كلمات مثل الفن والمهارة والتدريب والتقنية.

٩٤

على طريق مستقيم وسط ، لم يهمل جانبا على حساب جانب.

وإذا كانت الأهواء تسيّر الناس ذات اليمين وذات الشمال فإنّ ضغوط المجتمع والإقتصاد والسياسة تتكسّر على صمود الرسول ثم تتلاشى أمام استقامته التي تحدّت إغراء الشمس والقمر.

إنّ استقامة رسالة النبي وسلوكه تشهد على أنّه ينطق عن الوحي ، وأنّه مؤيد بالغيب.

(عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

[٥] بماذا أنزل الله الرسالة؟ وأيّ اسم يعكسه كتابه؟ أو ليس الكتاب دليل صاحبه؟

القرآن تجلّ لاسم العزّة التي تعني فيما تعني المقدرة والهيمنة ، كما لاسم الرحمة ، لأنّ رحمة ربّنا اقتضت إنقاذ البشر من براثن الضلالة والشرك.

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)

ونستوحي من الآية أنّ القرآن سيهزم المبادئ الباطلة عاجلا أم آجلا ، لأنّه تنزيل العزيز الذي يؤيد بعزته رسالاته ، ويعكس هذا استمرار انتشار نور الإسلام في الأرض بالرغم من كل العقبات التي يجعلها أمامه الطغاة.

[٦] أمّا هدف الرسالة فهو إنذار قوم غافلين ، ما أتاهم من قبل الرسول من نذير.

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ)

٩٥

وقد فسّر أغلب المفسرين هذه الآية بأنّ أولئك القوم لم ينذر آباؤهم من قبل ، مما يخالف قوله سبحانه : «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» (٣) وهناك تفسير آخر يجعل حرف (ما) موصولة فيكون معناه تقريبا : «لتنذر قوما بما أنذر آباؤهم من العذاب».

وسواء أخذنا بهذا التفسير أو ذاك فانّ من المعلوم أنّ قوم الرسول لم ينذروا منذ فترة طويلة ، فهم لم ينذروا من قبله ، ونجد هذا المعنى في آية أخرى : «وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ» (٤) ولكن هل يعني ذلك أنّهم لم ينذروا أبدا؟ كلّا ...

[٧] ويذكر السياق بالتحديات التي يواجهها النبي ـ كسائر الرسل ـ في طريق الدعوة ، فسوف لا يؤمن هؤلاء الناس ، وسوف يقوم صراع مرير بينه وبينهم ، ويستمر الصراع حتى يبتلى المؤمنون وحتى يأذن الله بالنصر المبين!

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

وهكذا لا ينبغي الخضوع للتيار الاجتماعي إذ عدم إيمان الأكثرية ليس دليلا على نقص في حجج الرسالة بل في وعيهم.

وتعطينا الآية دفعة معنوية لنمضي قدما في حمل الدعوة دون أن نهن أمام رفض الأكثرية أو كفرهم بها.

[٨] ولكن لماذا لا يؤمن بها أكثرهم؟

لأنّ تراكم المعاصي على قلوبهم ، وعلاقاتهم الاجتماعية القائمة على الظلم والاستبعاد ، وتخلّفهم وانشدادهم الى عادات مجتمعهم وتقاليد آبائهم الضالين ، كلّ

__________________

(٣) فاطر / (٢٤).

(٤) سبأ / (٤٤).

٩٦

أولئك تشكّل أغلالا في أعناقهم.

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً)

الشهوات غل ، وعادات المجتمع أغلال ، والتكبّر والحسد والعصبيات أغلال.

(فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ)

لعل معناه : أنّ الأغلال عريضة بحيث تأخذ بمجامع أعناقهم وتبلغ الأذقان ، ونستوحي من ذلك أنّ عبوديتهم شاملة.

(فَهُمْ مُقْمَحُونَ)

أرأيت الفرس حينما يسحب لجامه كيف يرفع رأسه؟ قالوا : إنّ ذلك هو المقمح ، وهو لا يملك قدرة الرؤية ، كما لا يستطيع الحركة.

[٩] ويمضي السياق في بيان شقاء هؤلاء الغافلين الذين سدّت منافذ عقولهم (لعله بسبب الأغلال المكبلين بها) فأمامهم سد ومن خلفهم سد ، وعيونهم محجوبة ، فلا ينشطون للتحرك بسبب السدين ، ولا هم يبصرون بأعينهم شيئا.

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا)

فلا يقدرون على التقدم ، ولا يمكنهم التراجع عن الغي ، وهم قد أحيطوا بعقبات تصدهم عن السبيل بما اكتسبوا من آثام.

(فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)

لقد أحاطت بهم خطيئاتهم وغشيتهم فلا يبصرون أنّهم محاطون بالسدود ، ذلك

٩٧

أنّ الذنوب التي يرتكبها الإنسان تخلّف آثارها على الواقع الخارجي ، وتتحول إلى سدود أمام هداية البشر وسعادته. أرأيت الذي انتمى الى حزب كافر ، وعمل من أجل انتشار مبادئه الضالة ، وتربية جيل من الناس عليها. هل يقدر على الخلاص منه؟! كلا ... بل يضحى مثله مثل دودة القزّ التي تصنع الشرنقة ثم تموت فيها ، وهكذا الذي أعان ظالما حتى سيطر على البلاد. إنّه يصبح أسير عمله ، وكثيرا ما يسلّطه الله عليه ، ويقتل بسيف البغي الذي سلّه على الناس.

ولعل السدّين هنا إشارة الى آثار الجرائم الخارجية ، بينما الأغلال تشير الى الآثار النفسية لها ، حيث يزين الشيطان للنفس أعمالها حتى تغدو ملكات يصعب تجاوزها.

أمّا الغشاوة فهي الظلمات التي تحيط بالقلب ، فينطفئ فيه الضمير ، ويخبو نور العقل ، ولا يحسّ البشر أنّه واقع في المهلكة ، بل قد يزعم أنّه على صراط مستقيم.

[١٠] وعند ما تتراكم الأغلال الغليظة حول القلب الغافل ، وتحيط بصاحبه سدود الجريمة ، وتغشاه ظلمات الجهل ، يصل إلى الدرك الأسفل فلا ينتفع بالإنذار ويكون مثل قلبه مثل جسم مريض لا يستجيب للدواء ، فلا يرجى شفاؤه.

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

إنّ هذه العاقبة السوء تنتظر كلّ أولئك الذين يغفلون عن ربهم فيختطفهم الشيطان ، ويسترسلون مع الأهواء والظروف حتى تحيط بهم أغلال العادة العصبية ، والعزة بالإثم ، وسدود النظام الفاسد اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ، وتغشاهم ظلمات الجهالة ، ولا ينفعهم آنئذ الإنذار. وعلى البشر أن يتجنّب الخطوة الأولى التي تقوده الى الهاوية ، لأنه كلما هبط أكثر كلما كانت جاذبية الهاوية

٩٨

أقوى.

[١١] والسبيل الى النجاة من الحلقات المتداخلة للشقاء يمرّ عبر محاربة الجبت وجهاد الطاغوت ، وبالتالي اتقاء الأغلال والسدود.

كيف؟

أوّلا : باتباع الذكر الذي هو القرآن الكريم ، وذلك بأن يكون قرار الإنسان مع نفسه إتباع الحق الذي يذكّر به الوحي ويعرفه العقل.

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)

ولعل استخدام لفظة الذكر هنا كان للإشارة الى مصدري المعرفة : الوحي والعقل ، اللذين ينتهيان ـ بالتالي ـ الى نور واحد ، فالوحي يثير العقل ، والعقل يصدّق الوحي ، والإنسان يتبع ذلك الذكر ، وأولئك الذين عوّدوا أنفسهم على اتباع الحق هم الذين ينتفعون بالإنذار ، لأنّ نظرتهم موضوعية ، ومنهجهم الفكري سليم ، ولا يملكون حجابا يمنعهم عن فهم الحقائق.

ثانيا : بخشية الله ورجاء رحمته ، حتى يحاربوا بذلك جبت أنفسهم ، ويفكّوا عن قلوبهم أغلال العصبية والعناد والكبر والعزة بالإثم.

إنّ خشية الله تضيء في القلب مصباحا يرى به الحقائق. أو ليست خشية الناس أو خوف الفقر أو الحذر من الطبيعة تنكّس القلب ، وتدع رؤيته مقلوبة؟ كذلك تضحى خشية الله وسيلة الهدى ، لأنّ من يخشى ربه بالغيب لا يخاف شيئا.

(وَخَشِيَ الرَّحْمنَ)

٩٩

لعل ذكر كلمة الرحمن هنا يهدف إيجاد حالة من التوازن بين الخشية والرجاء ، فهو الله أرحم الراحمين وخشيته لا تبلغ درجة القنوط من رحمته ، أنّى كثرت الخطايا وعظمت الذنوب.

(فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)

إنّ من أبعاد المغفرة تجاوز آثار الذنوب في الواقع الخارجي أو على النفس. إنّ السلطات الظالمة ، والنظام الاقتصادي الفاسد ، والأنظمة الاجتماعية المتخلفة كلّها من آثار الذنوب ، وحين نتبع نهج الله ، ونطيع أولياءه ، فإنّ الله سبحانه ينصرنا على الطغاة والمترفين ، ويسنّ لنا شرائع سمحاء قائمة على أسس العدل والإحسان ، كما ينزع من أفئدتنا حب الشهوات ، ويعيننا على العادات السيئة.

إنّ المغفرة بشرى عظيمة ، فطوبى لمن غفر الله له ذنوبه ، وهي تمهّد للأجر الكريم في الدنيا بحياة فاضلة تعمها السعادة والفلاح ، وبرضوان الله وجناته في الآخرة.

[١٢] إنّ أعظم إنذار يستجيب له المخبتون ولا ينتفع به الغافلون ، هو النشور حيث يحيي الله بقدرته التي لا تحد الموتى جميعا ، بعد أن سجّل عليهم للحساب أعمالهم التي فعلوها في حياتهم وقدموها لتستقبلهم عند الموت ، أو التي خلفوها وراءهم من سنة حسنة أو سنة سيئة.

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى)

إنّه وعد صادق.

(وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا)

١٠٠