من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

وكلمة المخلصين «سبحان الله» التي تلهج بها ألسنتهم هي اعتراف بالعجز عن معرفة كنه الله ، الا المعرفة التي تخرجه عن حد التعطيل والتشبيه والتي دعا إليها أئمة الهدى ، وهذا يبعدهم عن العقائد الضالة.

قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ :

«ان الله تبارك وتعالى خلق اسما بالحروف غير منعوت ، وباللفظ غير منطق ، وبالشخص غير مجسّد ، وبالتّشبيه غير موصوف ، وباللّون غير مصبوغ ، منفي عنه الأقطار ، مبعّد عنه الحدود ، محجوب عنه حس كلّ متوهّم ، مستتر غير مستور ، فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ، ليس منها واحد قبل الآخر ، فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها ، وحجب واحدا منها وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي أظهرت ، فالظاهر هو (الله ، وتبارك ، وسبحان) لكل اسم من هذه أربعة أركان فذلك اثنى عشر ركنا» (١)

وسئل الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ما تفسير سبحان الله؟ قال :

«هو تعظيم جلال الله عز وجل ، وتنزيهه عما قال فيه كلّ مشرك ، فاذا قال العبد صلى عليه كل ملك» (٢)

[١٨١] وكما للمؤمن علاقة بالله شعارها التسبيح ، ومحتواها العبودية والطاعة ، فإن له برسله علاقة أيضا ولكن شعارها السلام ، وواقعها الحب والاقتداء ضمن المسيرة الواحدة.

__________________

(١) بح / ج (٤) / ص (١٦٦).

(٢) المصدر / ج (٩٣) / ص (١٧٧).

٣٠١

(وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)

ووجود علاقة السلام بينك وبين المرسلين دليل على المسيرة الواحدة ، والتوافق في الحياة ، وقبل أن يسلم الإنسان على الرسل يجب أن ينظّف قلبه ليرتفع إيمانه إلى هذا المقام العظيم ، والذي لا يطهر نفسه وعقله وسلوكه ، وبالتالي يسير على خطى الأنبياء ، فإنهم بريؤون منه ، لأنه حينئذ يحارب فكرهم بفكره المنحرف ، وقيادتهم بطاعته للطاغوت ، وخطّهم بالانتماء إلى الخطوط المضادة لرسالات الله.

[١٨٢] وإذا كانت انطلاقه الإنسان بالتسبيح الحقيقي لله ، ومسيرته وحركته مستوحاة من رسالات الأنبياء ، والتأسي بهم ، فان العاقبة ستكون حسنة ، تدفع الإنسان نحو الشكر والحمد على ما سيلقاه من هدى وبركة وجنان نتيجة ذلك ، ذلك أن نهاية المسيرة في سبيل الله هي الطمأنينة والرضى ، وقد أشار لها تعالى إذ قال : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (١) وقال أيضا : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (ولا تطمئن النفس الا بذكر الله) (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) (٢) وعموما فان المؤمن بطبيعته الرسالية يكون راضيا بقدر الله وقضائه ، ايمانا منه بأن ما يختاره له الله بحكمته أصلح مما يتطلع إليه ، فهو يحمده في الشدة والرخاء.

(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

وفي هذه الآية إشارة إلى أساس علاقة الإنسان بالآخرين من البشر ، فهي لا تشبه علاقته مع الله ولا مع الأنبياء ، ولكنها علاقة الإحساس الواحد بالعبودية لله.

وقد وردت الروايات مؤكدة على استحباب قراءة هذه الآيات الثلاث في نهاية

__________________

(١) الضحى / (٥).

(٢) الفجر / (٢٧ ـ ٢٨).

٣٠٢

كل مجلس يجلسه العبد أو يتحدث فيه.

عن الأصبغ بن نباته ، عن أمير المؤمنين (ع) عن رسول الله (ص) انه قال :

«من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه في مجلسه : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)» (١)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٤ / ص (٤٤١).

٣٠٣
٣٠٤

سورة ص

٣٠٥
٣٠٦

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

عن أبي جعفر الباقر (ع) قال :

«من قرأ سورة «ص» في ليلة الجمعة اعطي من خير الدنيا والآخرة ما لم يعط أحد من الناس إلا نبيّ مرسل أو ملك مقرب ، وادخله الله الجنة وكل من أحب من أهل بيته ، حتى خادمه الذي يخدمه ، وإن لم يكن له في حدّ عياله ولا في حد من يشفع فيه تفسير»

نور الثقلين ج ٤ ص ٤٤١

٣٠٧
٣٠٨

الإطار العام

الشرك بالله إطار لكلّ الضلالات والجرائم ، وكافّة الذنوب والاخطاء ، وتكاد سور القرآن جميعا تعالج هذا الداء الذي هو جذر كلّ داء ، إلّا أن عوامل الشرك عديدة ، والمعالجات القرآنية مختلفة بحسبها.

وأننا نستلهم من خلال التدبر في دروس هذه السورة الكريمة (سورة ص) انها تعالج الحالة الشركيّة الّتي تخلقها السلطة ، والثروة ، والشهرة في نفس الإنسان فاذا به تأخذه العزّة بالإثم ، وينطلق في سبيل الشقاق عن الحقّ ، وعبادة آلهة القوّة والغنى.

في افتتاحية هذه السورة نقرأ : أن الذين تفرقوا في عزة وشقاق ، وسرعان ما ينذرهم الرب بمصير الذين أهلكهم من قبل ، ويذكّرنا بمحور ضلالتهم ، حيث إنهم تعجّبوا من حذف الآلهة ، والأمر بعبادة إله واحد ، كما أنّهم استهانوا بالرسول

٣٠٩

انطلاقا من مقاييسهم المادية.

ويعالج القرآن هذه الحالة ببيان حقارة ما يملكون (من قوّة ومن غنى) إذا قيس بملك السموات والأرض ، وبخزائن رحمة الرب العزيز.

أما خاتمة السورة فتذكرنا بقصّة إبليس الذي رفض السجود لأبينا آدم (ع) اعتزازا بعنصره الناري ، وكيف أن هذه العزّة الآثمة كانت وراء هلاكه وهلاك تابعيه إلى يوم القيامة ، حيث يحشرون في نار جهنّم حشرا.

وبين تلك الفاتحة وهذه الخاتمة يسرد السياق نمطين من القصص :

الأول : قصص المكذّبين الهالكين يشير إليها مجرد اشارة ، بينما يفصّل القول في النمط الثاني الذي وهب الله لهم الرب ملكا واسعا ، وثروة عريضة ، ولكنهم لم يغتروا ولم يشاققوا الله بها كداود وسليمان ، ثم إبراهيم واسحق ويعقوب ، ويبيّن انهم فازوا بنعيم الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، بالإضافة إلى الذكر الحسن عبر التاريخ ، وفي مقابل هؤلاء يذكرنا السياق بمصير المكذبين الذين اقحموا في نار جهنم ليتخاصموا مع بعضهم ، وبالذات يتخاصم التابعون مع المتبوعين.

ومن خلال قصص الأنبياء وتقديرهم ، وبيان الحكومات العادلة التي أقاموها في الأرض ، وبالذات قوله ـ عز وجل ـ لداود (ع) : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ).

ومن خلال بيان هلاك إبليس بسبب رفضه السجود لآدم (ع) ، وبيان هلاك المستضعفين بسبب تسليمهم للمستكبرين نستطيع ـ من خلال كلّ ذلك ـ أن نعرف أن مراد السورة بيان زيف السلطات القائمة على أساس القوة والثروة ، وسائر القيم المادّية الأخرى ، وضرورة إقامة حكومة العدل الإلهية القائمة على أساس أمر

٣١٠

الله وخلافته ، وأنّ أساس الولايات الباطلة العزّة والشقاق ، بينما أساس الولاية الربانيّة الحق.

٣١١

سورة ص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦)

___________________

(٢) [شقاق] مخالفة ، مشتق من شق كأنّه في شق وطرف والخصم في شق وطرف آخر.

٣ [ولات حين مناص] : أصل لات لا ، وإنّما زيدت عليه التاء ، بمعنى ليس ، ومناص من النوص وهو التأخر ، يقال ناص ينوص إذا تأخر ، والمعنى ليس وقت ندائهم واستغاثتهم وقت التأخر العذاب والنجاة منه.

٣١٢

ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥)

___________________

٧ [اختلاف] : الكذب والافتراء الذي لا أساس له ، فهو يخلقه ويصنعه بغير دليل.

١٣ [أصحاب الأيكة] : وهم قوم شعيب ، وقد كانت إلى جنبهم أيكة ، وهي الشجر المزدحم إلى بعضه والملتفّ على بعضه.

٣١٣

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ

هدى من الآيات :

من أهم العوامل التي تدعو الناس إلى الكفر بالرسالة ، ومحاربتها وبالتالي الانحراف عن الخط المستقيم ، هو تقديس الواقع القائم أو ما يسمى بالتقليد ، حيث يعتقد المجتمع بأن ما لم يكن لا ينبغي أن يكون ، فالواقع يجب أن يبقى. ويقوي هذا العامل أمران ؛ الاول أنه واقع قائم بينما الرسالة فكرة جديدة لمّا تتحول إلى واقع ، والثاني أن بعضا من أفراد المجتمع وخاصة الوجهاء وأصحاب المصالح ، يدافعون عن الواقع القائم ويحاربون الرسالة ، لأنهم يخشون على مصالحهم من أي تبدل أو تحول.

وقد يكون عامل البقاء على الحالة الراهنة ، نابعا من اعتزاز الإنسان المبالغ بواقعه والتمثل في الإصرار والعناد الأعمى على المحافظة عليه ، وهو ما يعبر عنه السياق القرآني مرة بكلمة عزّة ، ومرة أخرى بما قاله الكفار لبعضهم إذ تآمروا على العناد والصبر على الباطل.

٣١٤

ولعلاج هذه الحالة ينبغي بيان الضعف للإنسان ، وأن الذي يملكه الآن لا يعد شيئا إذا قورن بما يغنمه لو تقبل الرسالة وأصلح أوضاعه ، وبالتالي دعوته إلى التغير نحو حياة أفضل. وهذا من أهم أساليب الأنبياء في التغيير ، قال نوح (ع) وهو يشير الى أساليبه في الدعوة : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (١) ، وفي موقع آخر من القرآن نجد تجل صريح لهذا الأمر أيضا. يقول تعالى مشجعا الناس على الإيمان برسالته : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢)

بينات من الآيات :

[١] (ص)

حرف يفيد الابتداء به التنبيه ، وهو يشير إلى القرآن الكريم ، ومن أبعاده أنه رمز بين الله وأوليائه فهم يختصمون بفهمه ، وعن الصادق (ع) أنه من أسماء الله تعالى (٣) ، وفي خبر آخر (ص) اسم نهر ينبع من ركن العرش. قال الامام الكاظم (ع) : «إن أول صلاة صلاها رسول الله (ص) انما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك وتعالى قدّام عرشه جلّ جلاله ، وذلك أنه لمّا أسري به وصار عند عرشه تبارك وتعالى قال : يا محمد ادن من صاد فاغسل مساجدك وطهرها وصلّ لربك ، فدنى رسول الله (ص) الى حيث أمره الله تبارك وتعالى فتوضى وأسبغ وضوءه». قلت (يعني الراوي) : جعلت فداك وما صاد الذي أمر أن يغتسل منه؟ فقال : عين تنفجر من ركن من أركان العرش ، يقال له ماء الحيوان وهو ما قال

__________________

(١) نوح (١٠ ـ ١٢)

(٢) الأعراف ٩٦

(٣) رواه ابن عباس نور الثقلين ج ٤ ص ٤٤٢

٣١٥

الله عزّ وجل : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (١)

ثم يقسم ربّنا بالقرآن العظيم ، مشيرا إلى أهم ما تشتمل عليه آياته الكريمة وهو الذكر.

(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)

وقد سمى الله كتابه فيه بالذكر عشرات مرّات ، وهنا يسميه «ذي الذكر» فما هو معنى الذكر؟

لقد خلق الله الإنسان مستقيما بفطرته ، التي أودعها الإيمان بكلياته الكبرى ، بالله واليوم الآخر ، وبضرورة الصدق والوفاء والامانة و... و... ولكن عوامل مختلفة من بينها ضغط الشهوات والمجتمع تدعوه إلى الانحراف. ويأتي القرآن ليذكره بما ينساه أو يغفل عنه بسبب تلك العوامل ليعود إلى رشده المتمثل في (الطريق المستقيم) الذي هو الحالة الطبيعية للإنسان ، على خلاف الانحراف الذي يجسد الشذوذ في الحياة. فالقرآن يستثير العقل من خلال التفكير ، وفسّر البعض الآية بالذكر الطيب والسمعة الحسنة. ويبدو أن التفسير الأول أقرب.

[٢] ومع عظمة القرآن وقدرته الهائلة في التغيير والتأثير على الإنسان ، لكن الكفار لا يتأثرون به ، لان التذكرة وحدها لا تنفع إذا كان جهاز استقبالها وهو العقل قد احتجب بالأهواء والغباء الذي هو من أهم الحجب التي تمنع البشر من الانتفاع بالتذكرة ، وتدعوه إلى الإصرار على الانحراف.

__________________

(١) المصدر.

٣١٦

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ)

أما أنت أيها الرسول فعلى الحق ، من هنا قال بعض المفسرين أن المقسم به محذوف تقديره «والقرآن ذي الذكر» (إنك تحمل للناس ذكرا) ، ويدل على هذا الحذف التصريح به في مثيله من سورة يس إذ قال ربّنا : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١) وانما صار الحذف هنا لدلالة الآية الثانية على المحذوف المقسم به.

وهذه الآية تبيّن العامل في رفض الكافرين للتذكرة الا وهو العزة والشقاق ، والعزة هو تصور الإنسان نفسه أنه وصل من القوة والمنعة ما لا يحتاج معه إلى الحق ، أو الى ربّه ، فيبقى يصر على انحرافه بل ويعتز بالخطإ. يقول ربنا في آية كريمة : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٢) ، ورفض هؤلاء للحق ليس نابعا من قوة المنطق لأنهم يرفضونه بدون أي مبرر معقول ، ولكنه نابع من منطق القوة التي يخضع لها أكثر الناس وانما لم يستجب كفّار قريش للرسول اعتزازا بقوتهم. بلى. إنّ من أعقد مشاكل الإنسان أنه لا يعترف بخطئه حين يتبين له الحق غرورا وخشية بأن يجلب له ذلك المهانة فتراه يعتز بباطله الذي كان عليه.

أما الشقاق فهو الشذوذ فمع أن الكون كله قائم على الخضوع لله وحتى جسد الإنسان يخضع لآلاف القوانين التي تخضع هي بدورها لمشيئة الربّ. ترى الكفار ومن يلتقي معهم من المذنبين والعصاة يشقون عصا الطاعة ولا ينسجمون مع الحق الذي تقوم عليه الحياة.

[٣] والإنسان المؤمن يجب أن لا يضعف ولا يشكك في خطه حينما يرى

__________________

(١) يس (١ ، ٢)

(٢) البقرة ٢٠٦.

٣١٧

الاغلبية منشقة عنه ، لان المقياس هو الحق وليس الناس. ولو أنه درس الحياة لاطمأن إلى خطه ، لأنه حينئذ سيجد الكون بما فيه من خلق وسنن يسيران معه ، وكذلك لو قرأ التاريخ لاهتدى إلى نفس الحقيقة ، وحتى المجاميع التي يعاصرها سوف تخضع لله شاءت أم أبت ، وإذا لم تختر ذلك عن وعي وارادة حرة ، فسوف تجبر عليه بإرادة الله وبسننه التي أجراها على الخلق أجمعين.

ولكي نؤمن بهذه الحقيقة يدعونا ربنا إلى النظر في التاريخ ، فهو مليء بالشواهد الدامغة عليها ، فأولئك الذين رفضوا رسالات الله ، ولم يخضعوا لها ولرسله أهلكهم ولم تغن عنهم قوتهم شيئا.

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ)

القرن الناس الذي يعيشون مقارنين مع بعضهم زمانا ومكانا ، وكم أداة استفهام تدل هنا على الكثرة. والله إذ ادخل هذه الاداة في التعبير أراد أن يهدينا الى أن هذه السنة لم تتجل مرّة واحدة وحسب فالتاريخ كله شواهد عليها وكانت هذه السنة الالهية جديرة بأن تتعظ بها الأمم إلا أنها تكتشف خطأها متأخرا حين لا تنفع التوبة.

(فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ)

قالوا : لات كان في الأصل لا (لنفي الجنس أو المشبهة بليس) ثم أضيفت إليها التاء لتأكيد النفي كما تضاف إلى ثم ورب لذات الغاية.

والمناص المنجا والغوث يقال ناصه ينوصه إذا أغاثه.

هكذا يصور القرآن وضعهم حين ينادون بالاستغاثة والتوبة والتألم ولقد أطلق

٣١٨

القرآن لكي يذهب بنا الخيال إلى كل تلك المفردات لندائهم الميأوس.

ولكن ذهب وقت الفوت. أو ليست الفرصة قد فاتته إلى الأبد؟! وتلك عاقبة الاعتماد على القوة ، والاعتزاز بغير الحق ، فهذه الأمم اعتمدت على منطق القوة في الحياة ، ورفضت الخضوع إلى المنطق والحق ، وغفلت أن للحق قوة لا تحد هي قوة الله عزّ وجلّ ، وقد أبى الله تشريعيا وتكوينيا أن ينتصر الباطل على الحق وأن تكون العاقبة إلّا في صالح الرسالات وحملتها.

[٤] وللتمثيل على عزّة الكافرين وشقاقهم ، وصدودهم عن الذكر والموعظة ، يحدثنا عن واقع المشركين وموقفهم من رسالة الإسلام.

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ)

لأنهم كانوا يتصورون الرسول يختلف عن الناس ، فكفروا به إذ لم يتفق مع مقاييسهم التي تريد الرسول قويا وذا مال كثير لا أن يكون من وسطهم الاجتماعي ، وطبقتهم المالية وهذا التصور ناتج عن اعتزازهم بالقوة والمال لا بالحق ، فهما عندهم القيمة الاساسية في الحياة. ولان منطقهم أضعف من أن ينال من قيم الرسالة استشكلوا على الرسول ، ليس في أخلاقه فهو باعترافهم جميعا كان في الذروة ، ولكن على وضعه المادي والاجتماعي. ولم يكن هذا التبرير كافيا لرفضهم قيادته وزعامته فقد جاءهم بالحق والآيات ، ولا بد لهم من تبرير آخر ليتهربوا من المنطق الحق المتمثل في رسالته ، فصاروا من العجب إلى الكفر.

(وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ)

واختاروا كلمة ساحر لان السحر أقرب الأشياء للحق ظاهرا ، وإن كان واقعا

٣١٩

أبعدها ، وكانت هذه التسمية للهروب من ضغط المعجزة.

والواقع : إن ذات اتهام المشركين للرسالة بأنها سحر شاهد على صدقها ، إذ انه دليل على أن الرسالة كانت ذات جاذبية تشبه في قوتها جاذبية السحر عندهم ، كما انها كانت خارقة ذات ايات عجزت قواهم البشرية عن الإتيان بمثلها ، مما دعاهم للافتراء عليها بأنها سحر.

فاذا عرفنا مدى الفرق بين السحر والرسالة في أن الساحر لا يفلح ، وانه لا يبني حضارة ، وأن كلامه لا يكون موافقا للعقل والفطرة ، بينما الرسول يعكس ذلك كله ، عرفنا كيف كان اتهامه بالسحر دليل صدقه.

[٥] ويهدينا القرآن مرّة أخرى إلى شذوذ الكافرين (شقاقهم) وعزتهم ، بالاشارة إلى اعتراضهم على دعوة النبي التوحيدية ، فمع أن الوحدة حق يهتدي إليه الإنسان بفطرته وتتطلع إليه الأمم المتحضرة ، ولكنهم يرفضونها اعتزازا بواقع التمزق القائم عندهم.

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ)

ومن الآية نستوحي بأن التوحيد ليس هداية للناس للحق وحسب ، بل هو العلاج الحقيقي للفرقة ، ذلك أن منشأ التفرقة في أيّة أمة هو الشرك الكلي أو الجزئي فهذا الفريق انما ينشق عن البقية لأنه يؤمن بفكرة وقيادة ما فالرايات القبلية ، والعصبيات العشائرية ، والحدود الجغرافية ، والمصالح القومية ، والاختلاف العنصري والطائفي ، وما أشبه كل أولئك عوامل اختلاف الناس وشقاقهم ، وإذا أمعنت النظر رأيت كل واحد منها ينتهي إلى تقديس شيء من دون الله ، وانما الآلهة رموز تلك المقدسات. أرأيت الناس حين يقدسون العلم الوطني يعبدون قطعة قماش

٣٢٠