من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

لأنهم يعرفون أن هناك الجزاء الأوفى لحسناتهم ، بينما الكافرون تشمئز قلوبهم ، إذا ذكر الله وحده ، لأنهم يفتشون عن إله آخر يخلصهم من رب السموات والأرض ، ويخلصهم من ذنوبهم وسيئاتهم.

(وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)

فإذا كانوا يتحدثون عن الآباء ، والقيم الفاسدة ، والشفعاء الموهومين ، فإنهم يرتاحون نفسيا.

وتجد هذه الآية تطبيقها في كل إنسان ، خصوصا في العالم المتخلف ، حيث لا نحب نحن البشر الاستماع إلى من يحدثنا عن مسئولياتنا ، أما إذا تحدثوا إلينا عن تبرير وضعنا الفاسد وإلقاء المسؤولية على الدول أو على الخطوط ، أو على القضاء والقدر ، فاننا نستمع مرتاحين ، والسبب هو أن مثل هذا الكلام لا يحملنا المسؤولية.

[٤٦] وفي مواجهة هذا الانحراف الكبير والضلال البعيد يتوكل المؤمن على الله ويدعوه ضارعا ليثبت فؤاده حتى لا يتأثر باشمئزازهم من ذكر الله ، وفي ذات الوقت يتحداهم بالمزيد من ذكر ربّه.

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ)

حين ينشق شيء يقال انفطر ، والله شق العدم بالخلق فإذا بالسموات والأرض تخرجان من ضميره.

ومن معاني الانفطار ان السموات والأرض لم تكونا فكانتا مرة واحدة ، فابدعهما من غير مثال يحتذي به ، ومن معانيه انهما كانتا رتقا ففتقهما بقدرته.

(أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ)

٥٠١

ان تعميق الإحساس برقابة الله في نفس الإنسان ، وانه هو الحاكم بين عباده ، يجعله لا يعصيه ، لأنه لا يمكن له الكتمان عليه أو الكذب عليه يوم القيامة.

وإذا كان هو الحاكم بين عباده فما هو دور الشركاء الذين يتخذ منهم الكافر شفعاء ، ويتشبث بهم هربا من المسؤولية؟!

علما بأن محكمة الله آنئذ تحكم بين الناس بالحق.

(فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

فهنالك الكلمة الفصل ، التي لا ريب فيها ، ولا تلبيس ، ولا تحيط بها ضلالات الهوى ، وتبريرات الشهوات ، وكلما تفكر الإنسان في ذلك اليوم ، وفي ميزان الحق الذي ينصب فيه ، كلما تباعد عن محورية ذاته ، وتحصن ضد قسوة القلب وانغلاقه دون فهم الحقائق.

[٤٧] فمن كفر بالله وظلم نفسه أو الناس هلك ولا تنفعه ثرواته شيئا.

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

وفي آية أخرى يقول الله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (١)

بلى قد يبيع المرء نفسه بثمن بخس فيشتري جهنم بغيبة أو بكذبة ، وما ابخس هذا الثمن إذا كانت النار عاقبته!

__________________

(١) آل عمران / (٩١).

٥٠٢

وهكذا يهون علينا القرآن شأن الدنيا حتى لا تخدعنا زخارفها ولو كانت الأرض كلها بأيدينا فهي تعف عنها أنفس المؤمنين بالآخرة ، لأنّ عذابها لا يزول بافتداء كل الأرض ومثلها معها ، فما شأن بيت معمور فيها أو زوجة حسناء أو منصب بسيط؟!

(وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)

لان كتابهم آنذاك لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها مما لم يكونوا يتوقعونه ولم يحتسبوا أن الأمر بهذه الدقة وبهذه الجدية ، وفي الحديث عن الإمام الباقر (ع) قال :

«اتقوا المحقرات من الذنوب فان لها طالبا ، يقول أحدكم : أذنب واستغفر الله ، ان الله عز وجل يقول : (نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) وقال عز وجل : (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (١)

ويبدو من خلال الآية أن الإنسان قد يتصور أن مجرد ذنوبه البسيطة قد لا تسبب له دخول النار ، ولكن الحقيقة شيء آخر ، إذ تجتمع الذنوب إلى بعضها حتى تكون كالجبل على قلبه.

وفي الحديث عن الإمام أبي الحسن (ع) :

«لا تستكثروا كثير الخير ، ولا تستقلوا قليل الذنوب ، فان قليل الذنوب يجتمع حتى يكون كثيرا ، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف» (٢)

[٤٨] (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا)

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (٧٣) ص (٣٢١).

(٢) بحار الأنوار / ج (٧٣) ص (٣٤٦).

٥٠٣

فالسيئات التي مكروها في الحياة الدنيا بدت لهم على حقيقتها. إذ ان النفس الامارة والشياطين من الجن والانس كل أولئك يزينون للبشر سيئات أعماله ، حتى تختفي ظاهر سوءاتها وتبدو لهم انها حسنات ، وذلك بإظهار حسناتها ، بيد انها في القيامة حيث تبلو السرائر تظهر سيئات أعمالهم التي اكتسبوها.

وقد تكون الآية تشير الى تجسد الأعمال ، حيث تصبح السيئات عقارب وحيات ونيران ملتهبة ، والدليل على ذلك قوله تعالى :

(وَحاقَ بِهِمْ)

أي أحاط بهم.

(ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

فذات الرسالة التي استهزءوا بها أهلكتهم ، فالقرآن في يوم البعث يقود من اتبعه هنا الى الجنة هناك ، ويسوق من تولى عنه هنا الى النار هناك. وهكذا كل رسالات الله.

[٤٩] ويمضي السياق قدما في بيان ان الثروة ليست قيمة مطلقة لأنها ليس فقط لا تغني شيئا عن عذاب الله في الآخرة ، بل ولا عن بلائه في الدنيا حينما تحيط بالإنسان الضراء فتراه يدعو به ، ولكنه لا يلبث ان ينسب النعم الى ذاته ، ويزعم بأنه انما حصل عليها بعلمه. كلا انها من عند الله ولكنها ليست دليلا على كرامته عنده ، بل هي مجرد فتنة يمتحن الله بها خلقه.

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ)

٥٠٤

وهذه الآية تكمل الآية الثامنة من هذه السورة ، حيث ان الإنسان هناك نسب النجاة الى الأنداد بينما هنا نسبها الى نفسه ، والفرق واضح ، ففي المرة الاولى إلّه غيره ، وفي المرة الثانية ألّه نفسه ، واعتقد ان ما خوّله الله به من نعمة انما هو من ذاته.

ولان السياق هناك كان في مقام نفي الأنداد فقد عالج حالة الشرك بهم ، بينما السياق هنا ـ فيما يبدو ـ ينفي قيمة الثروة فانه عالج عبادة الذات والزعم بأن ما حصل عليه من النعم كانت بعلمه.

وتذكرنا الآية بما قاله قارون (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ* لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ* قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي)(١)

(بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

لماذا قال ربنا أولا «نعمة» وهي صيغة مؤنث حيث استخدم ضمير المذكر ثم عاد إلى صيغة المؤنث؟

لعل الجواب ان الأصل في السياق استخدام صيغة المؤنث وانما انصرف عنه في قوله : «أوتيته» ، لبيان ان الله انما خوله شيئا من النعمة ذلك ان الإنسان يتصور انه حاز على النعمة جميعا بينما لم يخوله الله الا شيئا بسيطا منها ، فإذا هو بهذا القليل يطغى فكيف بكل النعم.

ويشير السياق إلى انّه ينبغي الا يرى الإنسان ان النعمة خير له ... بل قد تكون فتنة وابتلاء ، بل قد تكون استدراجا من الله له ، ففي الرواية عن أمير المؤمنين ـ

__________________

(١) القصص / (٧٦ ـ ٧٨).

٥٠٥

عليه السلام :

«يا ابن آدم! إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره» (١)

وقال عليه السلام :

«كم من مستدرج بالإحسان اليه ، ومغرور بالستر عليه ، ومفتون بحسن القول فيه ، وما ابتلى الله أحدا بمثل الاملاء له» (٢)

وأمرنا الإسلام بان نكون على حذر شديد من النعم لكي لا تغرنا ، قال أمير المؤمنين عليه السلام :

«أيها الناس! ليراكم الله من النعمة وجلين كما يراكم من النقمة فرقين ، انه من وسّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجا فقد أمن مخوفا ، ومن ضيّق عليه في ذات يده فلم ير ذلك اختبارا فقد ضيّع مأمولا» (٣)

بل يجب ان يكون خوف الإنسان من الغنى أشد من خوفه من الفقر ، ومن الصحة أشد من خوفه من المرض ، فقد وضع الله سبحانه الحرج عن المريض ، ولم يكلف الله نفسا الا بما أتاها بينما صاحب العافية والثروة تلزمه مجموعة كبيرة من الحقوق لو قصر فيها استحق العذاب ، وفي الحديث :

«لا يؤمن أحدكم حتى يكون الفقر أحب اليه من الغنى ، والمرض أحب اليه من الصحة (العافية

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (٧٣) ص (٣٨٣).

(٢) بحار الأنوار / ج (٧٣) ص (٣٨٣).

(٣) بحار الأنوار / ج (٧٣) ص (٣٨٣).

٥٠٦

[٥٠] وفي التاريخ عبرة فلقد أهلك الله من القرون من كان يملك الثروات الطائلة ، ويزعم أنها تمنحه الحرية في التصرف حيث يشاء ، والتهرب من مسئولية أعماله السيئة ، وقد قال مثل قول هؤلاء انه حصل على الثروة بعلمه فهو قادر على دفع الضرر عن نفسه.

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

فأوغلوا في المعاصي اغترارا بالنعم.

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)

[٥١] لقد اعتمدوا على مكاسبهم المادية ، وزعموا انها تحلل لهم السيئات ، أو لا أقل يقدرون على دفع العقاب عن أنفسهم ولكن هيهات.

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا)

ولزمهم عقاب ما اجترحوا من الذنوب وتلك سنة الله تجري فيمن يأتي كما جرت فيمن مضى.

(وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا)

جزاء للسيئات التي اكتسبوها.

(وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ)

اي لا يعجزون الله إهلاكهم ، أو إحضارهم إلى جهنم.

[٥٢] لقد زعموا ان علمهم كان سبب مكاسبهم ، فرد عليهم القرآن اولا ماذا

٥٠٧

تغني مكاسبكم عن العذاب ، وثانيا بأن الرزق من عند الله. ويبدو ان الرزق يختلف عن الكسب ، فالرزق هو ما يعطيه الله سواء بسعيّ أو بدون سعي ، والكسب هو الذي يحتاج إلى سعي ، فكل كسب رزق ، وليس كل رزق كسبا ، والنعم الاولية الفطرية هي رزق من الله مثل السمع ، والبصر والفؤاد ، والقوة ، والشباب.

ولو لم يكن رزق الله هل كان يقدر الإنسان على الكسب؟

لو لم يعطك الله السمع والبصر والفؤاد هل كنت قادرا على السعي وراء رزقك؟

ولا تحصى نعم الله التي توفر للإنسان فرصة لكسب ومن دون واحدة منها لا يقدر عليه فهل بعد ذلك يصح الادعاء بان علم الإنسان هو سبب غناه؟! كلا ...

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

أما غير المؤمنين فتراهم ينسبون الرزق لكل شيء سوى الله. فترى الواحد منهم يربط رزق الله بنفسه ، حتى يعتقد انه هو الذي رزق نفسه ، أو يربط رزق الله بالنجوم ، فالنجوم هي التي رزقته ، ولكنه ليس مستعدا ان يقول : بأن الله هو الذي رزقني ، لأنه لو قال لكان عليه ان يؤدي حقوقه ويلتزم بالمسؤوليات.

٥٠٨

قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)

٥٠٩

إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً

هدى من الآيات :

يذكّرنا ربنا في آيات هذا الدرس برحمته الواسعة ، وإلى أيّ مدى يمكننا الاستفادة منها. أو ليس الله أنعم علينا برزقه الواسع ، وأسبغ علينا نعمه ظاهره وباطنه؟!

أو ليس الله دعانا للاستفادة من رحمته ، وأن لا نقنط منها حين نسرف على أنفسنا بالذنوب؟!

بلى. ولكن طالما تحول بيننا وبين رحمة ربنا العقبات النفسية كإسرافنا على أنفسنا بالذنوب ، وقنوطنا من رحمته تعالى بسببها ، وهكذا بعض العقبات الاجتماعية التي تنتهي إلى ذات المشكلة.

وقد جاء هذا الدرس ليعالج جانبا من المشاكل النفسية والاجتماعية عند الإنسان.

٥١٠

بينات من الآيات :

[٥٣] كانت آيات الدروس الماضية شديدة على من اتخذ من دون الله ندّا أو شفيعا ، أو احتسب الرزق من علمه ، حتى تكاد تتفجّر لهبا ، والذين يتلون الكتاب حقّ تلاوته توشك قلوبهم أن تتصدع من وقع آيات الزمر عليها ، ليس فقط لنفاذ بلاغتها ، وقوة صعقاتها المتتالية ، وإنّما أيضا لبيان جدية الحساب ومدى دقته مما يضيق الأمر على البشر بحيث لا تتخلص نفس منها ، فحتى الصالحون من عباد الله قد يقعون في خطإ نسبة الرزق إلى علمهم أو الزعم بأنّ هناك من يشفع لهم من دون الله أو يشوب قلوبهم ما يتنافى ونقاء نياتهم.

ولعل خطر اليأس من روح الله كان قريبا من قلوبهم عند تلاوتهم لهذه الآيات أكثر من أيّ وقت آخر ، فجاءت هذه الآية التي هي الأرجى بين آيات الرحمة في الكتاب لإعادة التوازن إلى نفوسهم. أو ليس قلب المؤمن يعيش بين شدة الخوف وشدة الرجاء؟

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ)

إنّها قمة في الرحمة ، أن يدعو الربّ المسرفين من خلقه بهذه الكلمة «عبادي» التي تختلف عن كلمة (عبد) حيث يختص الخطاب بها بالعباد الصالحين عادة ، لكنها هنا تشمل ـ كما رحمة الله ـ حتى الذين تجاوزوا الحدود ، فلم يلتزموا بالشرائع الإلهية ، بل وأسرفوا في المعاصي والذنوب ، إلّا أنّ الله لم يطردهم عن باب رحمته التي وسعت كلّ شيء ، إنّما فتحه لهم على مصراعيه ، ودعاهم إلى التوبة ، كما نهرهم عن القنوط واليأس.

(لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ)

٥١١

قالوا : القنوط بذاته هو اليأس من الرحمة ، فلما أضيف إلى الكلمة : «من رحمة الله» كان تأكيدا للأمر.

(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)

كل الذنوب بلا استثناء ، وإذا كان في آيات الرجاء في القرآن بعض الاستثناء فإنّ كلمة «جميعا» هنا بعد كلمة «الذنوب» التي هي أصلا للعموم ، تزيد الجملة سعة ، مما يشمل الكبائر كالزنا ، والغيبة ، أو القتل وخدمة الظالمين ، وأظن الآية تعني بالخصوص الذنوب القلبية ، التي تقترب من الشرك بالله ، وانعدام الخلوص في الدين ، مما سيقت في آيات هذه السورة.

وفي الحديث عن رسول الله (ص) أنّه قال :

«ما أحبّ أنّ لي الدنيا وما فيها بهذه الآية» (١)

وقال أمير المؤمنين (ع) وهو يؤكد التفسير المتقدم للآية :

«ما في القرآن آية أوسع من (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) ... الآية» (٢)

وفي نهاية الآية نفسها نجد تأكيدا على رحمة الله ، ودليل على سعتها وشمولها إذ يقول تعالى :

(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

وقد تأكدت رحمة الله في هذه الآية ثلاث مرات :

__________________

(١) مجمع البيان / ج (١) ص (٥٠٣).

(٢) المصدر.

٥١٢

الأولى : عند قوله تعالى ناهيا عن اليأس من الرحمة (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ).

الثانية : عند تعميمه للغفران بأنه لا ينحصر في نوع من الذنوب (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً).

الثالثة : عند ما وصف نفسه في نهاية الآية بأنّه «الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».

وهنا دعنا نقرأ هذه الرواية عن رحمة الله لنزداد ثقة ورجاء في غفرانه تعالى :

في كتاب نور الثقلين : دخل معاذ بن جبل على رسول الله (ص) باكيا فسلّم فردّ عليه السلام ثم قال ، ما يبكيك يا معاذ؟ فقال : يا رسول الله إنّ بالباب شابّا طري الجسد ، نقيّ اللون ، حسن الصورة ، يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك ، فقال النبي (ص) : أدخل عليّ الشاب يا معاذ ، فأدخله عليه فسلّم فردّ عليه السلام ثم قال : ما يبكيك يا شاب؟ قال : كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا إن أخذني الله عزّ وجل ببعضها أدخلني نار جهنم ، ولا أراني إلّا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبدا فقال رسول الله (ص) : هل أشركت بالله شيئا؟ قال : أعوذ بالله أن أشرك بربي شيئا ، قال : أقتلت النفس التي حرم الله؟ قال لا ، فقال النبي (ص) : يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي ، قال الشاب : فإنّها أعظم من الجبال الرواسي ، فقال النبي (ص) : يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق قال : فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق ، فقال النبي (ص) : يغفر الله ذنوبك وإن كانت مثل السموات ونجومها ومثل العرش والكرسي ، قال : فإنّها أعظم من ذلك ، قال : فنظر النبي (ص) إليه كهيئة الغضبان ثم قال : ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربّك فخرّ الشاب لوجهه وهو يقول : سبحان ربي ما شيء أعظم من ربي ، ربي أعظم يا نبيّ الله من كلّ عظيم ،

٥١٣

فقال النبي (ص) : فهل يغفر لك الذنب العظيم إلّا الربّ العظيم؟ فقال الشاب : لا والله يا رسول الله ، ثم سكت الشاب فقال له النبي (ص) : ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك ، قال : بلى أخبرك إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين ، أخرج الأموات وأنزع الأكفان ، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجن عليهم الليل ، أتيت قبرها فنبشتها ، ثم استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها مجردة على شفير قبرها ، ومضيت منصرفا ، فأتاني الشيطان فأقبل يزينها لي ويقول : أما ترى بطنها وبياضها؟ أما ترى وركيها؟ فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها ، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول : يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدين يوم يقفني وإيّاك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى ، ونزعتني من حفرتي ، وسلبتني أكفاني ، وتركتني أقوم جنبة إلى حسابي ، فويل لشبابك من النار ، فما أظنّ أنّي أشمّ ريح الجنة أبدا فما ترى لي يا رسول الله؟ فقال النبي (ص) : تنحّ عني يا فاسق إنّي أخاف احترق بنارك ، فما أقربك من النار ، ثم لم يزل (ع) يقول ويشير إليه حتى أمعن من بين يديه ، فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ثم أتى بعض جبالها فتعبّد فيها ولبس مسحا وغلّ يديه جميعا إلى عنقه ، ونادى : يا ربّ هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول ، يا ربّ أنت الذي تعرفني وزلّ مني ما تعلم ، يا سيدي يا ربّ إنّي أصبحت من النادمين وأتيت نبيّك تائبا فطردني وزادني خوفا ، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيّب رجائي سيدي ، ولا تبطل دعائي ولا تقنطني من رحمتك ، فلم يزل يقول ذلك أربعين يوما وليلة ، فلما تمّت له أربعون يوما ، رفع يديه إلى السماء وقال : اللهمّ ما فعلت في حاجتي إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوح إلى نبيك ، وإن لم تستجب لي دعائي ولم تغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي فعجّل بنار تحرقني أو عقوبة في الدنيا تهلكني وخلّصني من فضيحة يوم القيامة ، فأنزل الله تبارك وتعالى على

٥١٤

نبيّه (ص): (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) يعني الزنا (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) يعني ارتكاب ذنب أعظم من الزنا وهو نبش القبور وأخذ الأكفان (ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) يقول : خافوا الله فعجّلوا التوبة (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) يقول عز وجل : أتاك عبدي يا محمد تائبا فطردته فأين يذهب ، وإلى من يقصد ، ومن يسأل أن يغفر له ذنبا غيري؟ ثم قال عز وجل : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يقول : لم يقيموا على الزنا ونبش القبور وأخذ الأكفان (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) فلما نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) خرج وهو يتلوها ويتبسم ، فقال لأصحابه : من يدلني على ذلك الشاب التائب؟ فقال معاذ : يا رسول الله بلغنا أنّه في موضع كذا وكذا ، فمضى رسول الله (ص) بأصحابه حتى انتهوا إلى ذلك الجبل فصعدوا إليه يطلبون الشاب ، فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين مغلولة يداه إلى عنقه ، قد أسودّ وجهه ، وتساقط أشفار عينيه من البكاء ، وهو يقول : سيدي قد أحسنت خلقي وأحسنت صورتي فليت شعري ماذا تريد بي ، أفي النار تحرقني أو في جوارك تسكنني؟ اللهم إنّك قد أكثرت الإحسان اليّ فأنعمت عليّ ، فليت شعري ماذا يكون آخر أمري؟ إلى الجنة تزفني أم إلى النار تسوقني؟ اللهم إنّ خطيئتي أعظم من السموات والأرض ومن كرسيّك الواسع وعرشك العظيم ، فليت شعري تغفر خطيئتي أم تفضحني بها يوم القيامة ، فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه ، فدنا رسول الله (ص) فأطلق يديه من عنقه ، ونفض التراب عن رأسه وقال يا بهلول : أبشر فإنّك عتيق الله من النار ، ثم قال (ص) لأصحابه : هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول ، ثم تلا (ص) ما أنزل الله عزّ وجل فيه ، وبشّره بالجنة. (١)

__________________

(١) البقرة / (١٠٦).

٥١٥

ونتساءل : بعد هذا هل يصح لنا أن نغلق باب رحمة الله عن أنفسنا باليأس؟!

وبعد ان فتح الله للمذنبين بابا من رحمته الواسعة ، وهو باب الرجاء ، يفتح لهم بابا آخر ، هو باب التوبة والعودة اليه.

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ)

بترك الشركاء المزعومين من دونه ، لأنّه وحده الربّ الحقيقي للخلق.

(وَأَسْلِمُوا لَهُ)

بالخضوع والطاعة ، لأنّ رضى الله وأمره ونهيه هو الذي ينبغي له أن يؤثر في شخصية الإنسان ، أمّا العوامل الأخرى كالمال والسلطة ، وما يسمى بالحتميات فيجب تجاوزها كلّها ، وتلك الإنابة وهذا التسليم يجب أن يكونا عن وعي تام بضرورتهما لا بسبب شخوص العذاب الإلهي لأنّهما حينئذ لا ينفعان.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)

حيث لا تقدر الآلهة المزيفة على ردّ عذاب الله عنكم.

[٥٥] (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)

وقد اختلف المفسرون كثيرا في معنى الأحسن ، فقال بعضهم : إنّ الأحسن هو الناسخ لقوله تعالى في سورة البقرة : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) ، وقال ابن عباس : «أي من الحلال والحرام ، والأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، فمن أتى بالمأمور به ، وترك المنهي عنه ، فقد اتبع الأحسن» (١)

__________________

(١) المجمع / ج (٨) ص (٥٠٣).

٥١٦

وما يبدو لي هو أنّ الآية تحتمل ثلاثة معاني كلّها هامة :

المعنى الأول : هو معرفة الواجبات وتطبيقها على أفضل وجه ، لقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

ولتقريب الفكرة نقول : إنّ الإنسان الذي يمرض ولده أو شخص عزيز عليه مرضا خطيرا ، فإنّه لن يبحث عن أيّ طبيب لعلاجه ، إنّما سيبحث عن أفضل طبيب ممكن طمعا في حصول الشفاء بأسرع وقت وأفضل صورة ، والإنسان في حياته العامة يواجه خطرا مصيريا هو النار ، وينبغي له لكي يخلّص نفسه من شرّها أن يتعرّف على الواجبات والمستحبات ويؤديها على أفضل وجه ، وكيف لا وقد ورد في الحديث :

«هلك العالمون إلّا العاملون ، وهلك العاملون إلّا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم»

المعنى الثاني : وقد تقدّمت الإشارة اليه عند تفسير قوله تعالى في بدايات هذه السورة : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (١) وهو أنّ القرآن كلّه حسن ، ولكن بالنسبة إلى ظروف كل شخص وعصره قد يختلف الأحسن ، فعلى سبيل المثال : الصلاة والصيام والحج والجهاد و.. و.. كل ذلك مفروض على الناس ، ولكن يتأكّد على كلّ شخص أحد هذه الواجبات أكثر من الآخرين ، وأكثر من سائر الواجبات الأخرى ، فالتاجر ينبغي أن يكون أقرب الناس إلى آيات التجارة والمعاملة وأعرفهم بها ، بينما المقاتل يكون الأحسن له معرفته بآيات الجهاد والقتال ، أمّا القاضي فالأحسن له المعرفة بأحكام القضاء والحدود وما إلى ذلك ، وهكذا

__________________

(١) الزمر / (١٨).

٥١٧

بالنسبة للظروف التي تحيط بالشخص فإنها تحدد له الأحسن ، فمثلا للمجاهد في ظروف التقية ليس الإعلان عن نفسه بل الكتمان والسرية ، إذن فموقع الإنسان وظروفه المحيطة هما اللذان يحدّدان الأحسن.

المعنى الثالث : التوحيد المخلص وهو أفضل ما أنزله الله على خلقه ، وأعظم شيء يتجلّى فيه التوحيد هو اتباع القيادة الرسالية الحقّة ورفض القيادات المنحرفة ، وفي الخبر في تفسير الآية : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) قال :

«من القرآن وولاية أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام» (١)

ويبيّن القرآن بعد نهيه لنا عن اليأس ، ودعوته بالإنابة والتسليم لله ، وأخيرا تأكيده على اتباع الأحسن ، خلفيات هذه الموعظة وأهميتها بالنسبة للإنسان فيقول :

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)

فهذا الإنسان الذي يسدر في طريق الضلال ، ويسرف في اقتحام الذنوب والموبقات ، رافضا الإنابة والتسليم لله ، واتباع الأحسن ، سوف يجرّ على نفسه العذاب بألوانه ، وسيفاجأ به ، ليس لانعدام النذر والعلامات الدالة عليه ، بل لأنّ كثرة ممارسة الذنوب والإصرار عليها يسلب الإنسان أدنى أسباب المعرفة وهو الشعور ، إذ يعيش عمق الغفلة والضلال.

[٥٦] هذا في الدنيا أمّا في الآخرة حيث تنكشف الحقائق للإنسان ، فإنّه يصل الى أعلى مراحل الوعي والشعور ، فإنّه يكاد يذوب حسرة حين يرى ما أعدّ الله للمؤمنين به الذين استغلوا فرصة الحياة الدنيا مثل الثواب ، بينما أغفل هو الاستفادة من هذه الفرصة الثمينة وحين يرى ما أعدّه الله من العذاب للكافرين

__________________

(١) البرهان / ج (٤) ص (٧٩).

٥١٨

والمشركين والظالمين.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ)

بالإسراف في الذنوب والتقصير في الواجبات وعمل الصالحات. إذن يجب أن نستفيد من فرصتنا في الحياة ، وإنما السعيد من اتعظ بتجارب غيره.

فإذا كان غيرنا قد مضى من الدنيا مقصّرا وبالتالي هلك وتحسّر ، فلنتعظ به حين يكون الاتعاظ نافعا ، لأنّه إذا جاء الموت فإنّنا لا نستطيع أن نغيّر من واقعنا شيئا بزيادة أو نقصان.

وحيث يصل الإنسان بعد الموت إلى أعلى مراحل العلم وهي عين اليقين فإنّه يكتشف مدى ضلالته وانحرافه عن الحق.

(وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)

أي أنّني كنت من الساخرين الذين استهزءوا بالحق وبأهله واتباعه.

[٥٧] ويحمّل الله الإنسان مسئولية هداية نفسه ، بالاستفادة من آياته تعالى ، سواء ما تجلّى منها في الكون ، أو الاخرى المتجلّية في رسالاته للناس.

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)

بلى. إنّ الله يوفّر أسباب الهداية للإنسان كالآيات وكالمصلحين ، أمّا إذا رفضهم فلن يجبره على اختيار الحق ، في الحياة الدنيا ، لأنّ الدنيا دار الامتحان والابتلاء ، ثم ليس صحيحا أن ينتظر الإنسان الهداية تأتيه إلى بيته إنّما يجب عليه هو البحث عنها وتحمّل مسئولياتها.

٥١٩

ونستوحي من الآية إشارة إلى أنّ بعضا من الناس سوف يتعذّرون بهذا التبرير ، والله يبيّن لهم أنّه مرفوض عنده ، إذا كنت تريد الهداية فهذا هو الطريق ، أن تتغلّب على القنوط ، وتنيب وتسلم لله قبل العذاب أو الموت ، وأن تتبع طريق الحق وأحسن ما أنزل ، وإذا فعلت ذلك فسوف تكون مهتديا ، أمّا الطرق الأخرى كالانتظار الساذج أو اتباع المناهج المنحرفة في الحياة ، أو الانصياع لقيادة الطاغوت ، أو الإصرار على الذنب تحديا أو قنوطا فإنّها كلّها لا تنتهي إلّا إلى الضلال.

[٥٨] ولا بد أن يعرف الإنسان قضيّة هامة وحاسمة بالنسبة للحياة الدنيا ، وهي أنّها الفرصة الوحيدة له والتي يستطيع فيها تجربة نفسه وإرادته ، فإن فشل فيها فسوف يفشل في الآخرة ، وإن أفلح فسوف يفوز هناك بنسبة فشله وفلاحه هنا.

(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ)

الذي لم تره ببصيرة الإيمان حيث كفرت بالحق.

(لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)

وهكذا يكرّر القرآن تأكيده كثيرا على أهمية الإحسان لأنّه أرفع درجة يصل إليها البشر ، باعتباره يمثل خروج الإنسان عن ذاتيّاته وأهوائه إلى خدمة الآخرين ، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (١)

[٥٩] ونعود للسياق القرآني في هذه السورة بعد هذا الاستطراد لنرى ردّ القرآن على تلك الأقوال التي تتكرّر على لسان أصحاب النار يوم القيامة ، يقول تعالى :

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي)

__________________

(١) التغابن / (١٦).

٥٢٠