من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

منه حي أبدا ، وقد قال ربنا سبحانه : «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ».

إنّ هذا الإحساس الفطري العميق بالخلود لا يتحقّق في الدنيا ، فهو إذا يتحقّق بالبقاء في الآخرة ، فما الموت إلّا قنطرة ، وما الدنيا إلّا مزرعة ، وإنّ الآخرة لهي الحيوان.

ولكن تبقى العقبة الرئيسية أمام البشر جهله بقدرة الله واحتجابه بما يراه عما لا يراه ، بالشهود عن الغيب.

لذلك نرى آيات القرآن تذكّرنا بآيات قدرة الله ، فهذه السموات التي لا تحصى أقمارها وشموسها ، وهذه الأفلاك التي لا تحدّ اتساعا ، ولا تنحرف عن مسيرها قيد شعرة ، طوعا لربها وتسليما ، وهذه الأرض التي لا تنقضي عجائبها ، وهذه الأحياء المتنوّعة التي تتجلّى في كلّ واحد منها عظائم قدرة ربنا الجبّار. أو ليست جميعا دليل قدرة الله؟!

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)

بلى. إنّه القادر ، وكيف يخلق إن كان عاجزا سبحانه؟!

بلى. إنّه القادر ، ودليل ذلك تنوّع الخلق ، فمن البعوضة المتناهية في الصغر ، الى الفيل الذي يشبه البعوضة ولكن بحجم أكبر ، الى الحوت الذي قد تكون عين واحدة منه أثقل من فيل ثم يجوب البحار بسرعة هائلة ، الى عجائب البحار ورواسي الجبال ونباتات السهول ، حتى أنّك لو قضيت عمرك في معرفة آيات الله في أصغر نبتة : كيف تستقي الأرض وتمتص أملاحها ، وكيف تمثّل من الشمس ضوءها ، وكيف تحافظ على نفسها ضد الآفات والعواصف ، وكيف تحقّق هدفها في هذا

١٨١

الكون الأرحب ...؟ نعم. لو فعلت ذلك وعشرات الباقين لما انقضت عجائب تلك النبتة الصغيرة ، وهكذا الحيوان الصغير كالنملة ، فإذا زرت مكتبة كبيرة فلعلك تجد عشرات الكتب في نبتة متواضعة! وربما فوجئت بأنّ النملة التي تسحقها برجلك قد حظيت باحترام العلماء فألّفوا فيها عشرات الألوف من الكتب والدراسات حتى الآن.

هذا التنوّع الكبير الذي لا يحصى أفراده دليل خلّاقية الرب ، وأنّه لا يعجزه شيء في السموات والأرض ، وأنّه عليم كيف يصنع ما يصنع؟

(وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)

ولعل التعبير ب «مثلهم» هنا للدلالة على أنّ القدرة تتعلق بجنسهم عموما ، وليس بأشخاصهم فقط ، فالذي يستطيع على مثل الشيء يستطيع عليه ، دون العكس ، ولسنا بحاجة الى بعض التكلّفات البعيدة التي ذهب إليها المفسرون لزعمهم أنّ «مثلهم» تدل على عودة الناس ليست بأبدانهم بل بأرواحهم فقط.

[٨٢] من أصغر خلية الى أعظم مجرة ، كلّ مخلوق يؤدي دورا ويحقّق هدفا ، بينما يستوي الإنسان على عرش السلطة ، فقد أوتي ما يسخّر به ما في الأرض جميعا ، وتوفّر فرصة العيش الرغد لهذا المليك المكرّم. أو لم يقل ربنا سبحانه : «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» وعند ما نتفكّر في وجود الإنسان نرى كلّ شيء فيه يحقّق هدفا ، من أعظم جارحة كالمخ والقلب الى أصغر نسيج.

تعالوا إذا نفكّر : أليس لوجود الإنسان في الأرض بذاته هدف؟ وهل خلقه الله عبثا؟ فأين إذا حكمة الله ، التي تتجلّى في كلّ شيء؟! وأين عدالته التي نرى

١٨٢

آياتها في السموات والأرض؟!

كلّا ... إنّما خلق الإنسان لهدف أيضا ، وهو أن يتكامل الى الله ، وقد جاء في الحديث القدسي المعروف :

«خلقت الأشياء لأجلك ، وخلقتك لأجلي»

وقال ربنا سبحانه :

«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ».

«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ».

وحين تفكر أولو الألباب في خلق السموات والأرض عرفوا أنّ الخلق ليس باطلا فقالوا : «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ».

ولكن هناك من يعرف هذه الحكمة ولكنّه ينكر المعاد أيضا ، كالفلاسفة المتأثّرين بآراء اليونانيين القدماء. لماذا؟ لأنّهم جهلوا كيف خلق الله الخلق ، فقال بعضهم : الخلق صادر عن الله ـ سبحانه وتعالى ـ كما يتدفّق الماء من العين. فكيف يعود الماء الى العين تارة أخرى؟!

وقال آخرون : بلى يعود ، ولكن لا ليعذّب أو يجازى على أفعاله ، بل ليلتحق بالمصدر ، كما تعود المياه الى البحار بعد تطواف كبير!

وقد أنكر هؤلاء البعث بالصورة التي جاءت بها كتب الله لجهلهم بكيفية

١٨٣

الخلق ، يقول ربنا وهو يوضح قدرته في أمر الخلق :

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

فليس فيضا أو صدورا ، وليست دورة وجودية كما تقول الدهرية والذين تأثروا بهم من الفلاسفة ، إنّما هو فعل محدث لربّ القدرة ، فحيث أراد خلق المشيئة بعظيم قدرته فخلق الأشياء بالمشيئة ، حسب حديث مأثور.

والتعبير ب «يقول» لبيان حدوث الإرادة ، وإلّا فربنا غني عن احداث تحول لفعل الأشياء وهكذا جاء في كلام أمير المؤمنين (ع) :

«يقول لما أراد كونه (كن) فيكون ، لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله ، لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا» (٧)

إنّ الكلمات تقف دون تبيان الغيب الإلهي عاجزة كليلة ، وإنّما تقرّب إلينا ـ قدر المستطاع ـ حقائق الغيب بما هي قريبة منها في عالم الشهود ، فإنّنا ـ مثلا ـ حين نريد شيئا نأمر به والأمر عادة يكون بالتعبير عنه قولا ، لذلك نجد القرآن يعبر أن أمر الله بالكلمة أو بالقول.

وقد وهب الله هذه القدرة لأهل الجنة ، فقال في آية مضت : «وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» وقال في قصة سليمان : «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ».

هكذا بمجرد أن يشتهي أهل الجنة شيئا يجدونه عندهم بإذن الله ، كذلك بمجرد

__________________

(٧) نهج البلاغة / خ (١٨٦) / ص (٢٧٤).

١٨٤

إرادة خليفة سليمان عرش بلقيس وجده عنده.

[٨٣] وفي ختام السورة وبعد أن يصف القرآن ربنا بما ينبغي من القدرة والعلم يقدّسه من كل نقص أو عجز أو فقر فيقول :

(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)

أولا ترى آثار الفقر والحاجة والضعف في كلّ شيء؟ إنّ ذلك شاهد مملوكية لمالك غنيّ مقتدر قوي ، هكذا ينطق كلّ شيء بأنّ ربنا سبحانه القدّوس المبارك المتعالي.

وإذا عرفنا قدسية الرب وقدرته وحكمته آمنّا بالنشور ، وكلّما ازداد المرء معرفة بربّه ازداد إيمانا باليوم الآخر.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

١٨٥
١٨٦

سورة الصافّات

١٨٧
١٨٨

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

١ ـ في كتاب ثواب الأعمال بإسناده إلى عبد الله (ع) قال : «من قرأ سورة الصافات في كل يوم جمعة لم يزل محفوظا من كل آفة ، مدفوعا عنه كل بلية في الحياة الدنيا ، مرزوقا في الدنيا في أوسع ما يكون من الرزق ، ولم يصبه الله في ماله وولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم ، ولا جبار عنيد ، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه الله شهيدا وأماته شهيدا وأدخله الجنة مع الشهداء في درجة من الجنة»

تفسير نور الثقلين / ج ٤ / ص ٣٩٩.

١٨٩
١٩٠

الإطار العام

تهدينا سورة الصافات بآياتها السامية الى ذات الأفكار والحقائق التي كانت الآيات السابقة في سورة (يس) تؤكد عليها بإضافات أخرى ، وأسلوب أدبي نفسي جديد.

تبدأ آياتها بذكر الملائكة التي تصطف انتظارا لأمر الله ، وبذلك سميت بسورة «الصافات» كما يحدثنا الدرس الأخير منها عن الجن والملائكة ، وشبهات الجاهليين حول علاقتهما بربهما ، فقد زعموا بأن لهما علاقة نسبيّة بالله ، وذهب بعضهم بعيدا إذ قالوا بأن الجنّ نتيجة مباشرة لعلاقة زوجية بين الملائكة وربهم ـ تعالى عما يشركون ـ.

بينما تحدثنا الدروس الوسطى عن الأنبياء (ع) والعلاقة بين السياقين أن القرآن حينما بيّن خطأ الجاهلين الفظيع في تصورهم حول علاقة الملائكة والجن بالله كان لا بدّ من الإشارة لنفس الخطأ الذي وقع فيه الآخرون عند ما تصوروا بأن هناك

١٩١

علاقة مشابهة بين الله والرسل ، انطلاقا من تقييمهم للمعجز الذي طالما تكرر على يد الأنبياء من دون الآخرين ، فاتخذوا ذلك دليلا على انهم أبناء الله ، ولهذا نجد الآيات تطيل الحديث حول هذا الموضوع مؤكدة بأن نبوّة هؤلاء لم تكن بأسباب ذاتية تكوينية فيهم ، انما أعطاهم الرب هذه المنزلة الرفيعة لما وجده فيهم من عمق الإيمان ، وصدق العمل ، وشجاعة الإقدام ، والإحسان إلى الناس ، ولعل الحديث عنهم (ع) في هذه السورة المباركة يتصل بهذا الجانب من حياتهم ، نفيا للبدع الجاهلية.

من هنا نستطيع القول بأن الخط العام لسورة الصافات هو بيان العلاقة السليمة بين الله ـ عزّ وجل ـ وسائر خلقه ، التي تتجسد من جهته في الإنشاء ، والخلق ، والإبداع ، والرزق ، و... و... ، اما ما دون هذه العلاقة ، فإن هناك معراجا واحدا يتقرب من خلاله الخلق لربهم ، وهو الايمان والعمل الصالح.

وحين نتدبر في جمل بصائر السورة تتجلى لنا المسؤولية بأظهر صورها ، والتي تصعقنا عند قول الرب : «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ».

ومحور المسؤولية هو الذي يوصل محاور السورة ببعضها ، وأبرزها ثلاثة محاور :

الأول : نفي الأنداد الذين يتخذهم الجاهلون آلهة لعلهم ينصرون. ان غايتهم من عبادة الآلهة التنصل من جزاء أفعالهم ، ولكن هيهات! ان الملائكة صافون لربهم صفا ، والشياطين محجوبون عن السماء ، وتترصدهم الشهب ، والمستكبرون محضرون لحساب عسير.

الثاني : الأنبياء والأولياء عباد الله المكرمون ، فلا يشفعون إلا لمن ارتضى ، ولا يمكن التعويل عليهم لمواجهة سنن الرب ، كيف وإنما بلغوا درجاتهم هذه بأنهم

١٩٢

عباد الله المخلصون.

الثالث : نسف قواعد التبرير التي يعتمد عليها المجرمون في اقتراف المآثم ، حيث يزعمون أنهم كانوا مجبورين.

وتتصل الصور التي ينقلها القرآن إلينا من يوم المسؤولية والجزاء بهذا المحور.

والنسق القرآني يجعل المحور الأول والأخير متدرجين ، ثم يذكّر بالمحور الثاني الذي يأتي كشاهد مبين لهما ، ذلك أنّ القرآن يضرب للحقائق الأمثال ، ومن أروع أمثلته حياة الأنبياء ، الذين أمرنا بأن نسلّم عليهم بكرة وعشيّا ، ليتّخذهم المؤمنون قدوة ومنارا.

١٩٣

سورة صافات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً

___________________

١ [والصافات صفا] : كلّ شيء بين السماء والأرض لم يضمّ قطريه فهو صاف ، ومنه الطير صافات إذا نشرت أجنحتها ، وقيل جمع صافة وهي الملائكة التي تصف أقدامها للصلاة والإطاعة أو أجنحتها حال الصعود والهبوط. وصفّا تأكيد له.

٢ [فالزاجرات] : الزجر الصرف عن الشيء ، وهنا يقصد بها الملائكة التي تزجر الكفار حين قبض أرواحهم أو تزجر من أمر الله.

١٩٤

مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨)

___________________

[مارد] : المارد الخارج إلى الفساد العظيم ، وهو من وصف الشياطين وهم المردة ، وأصله الانجراد ، ومنه الأمرد الذي لا شعر له ، فالمارد المنجرد من الخير.

٩ [دحورا] : الدحور الدفع بالعنف يقال دحر يدحر دحرا ودحورا.

[واصب] : الدائم الثابت.

١٠ [الخطفة] : الخطف هو سلب الشيء خلسة بسرعة.

١١ [لازب] : اللازب واللازم بمعنى واحد ، أي طين يلصق باليد وهو الطين الصافي.

١٨ [داخرون] : صاغرون أذلّاء ، من دخر بمعنى صغر وذلّ.

١٩٥

قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ

هدى من الآيات :

ينصبّ الحديث في هذا الدرس حول الملائكة ويوم البعث ، ويربط الموضوعين ببعضهما أنّ الإنسان قد يكفر بالجزاء رأسا حين لا يؤمن بيوم الجزاء ، وقد يكفر به بصورة غير مباشرة ، وذلك حين يزعم أنّ الملائكة يشفعون له عند الله لأنّهم أبناؤه سبحانه.

وما دام السياق يكرّس روح المسؤولية فلا بد من معالجة هذين الموقفين معا ، لأنّهما يشتركان في المحصّلة النهائية ، وهي التنصّل من المسؤولية.

فالشرك بالله من خلال الاعتقاد بربوبية الملائكة أو الجن أو الآلهة المزيفة الأخرى ، له مبرّر نفسي هو محاولة التملّص من المسؤولية. إنّ من الصعوبة على الناس تحمّلها ، مع علمهم بها ، فلكي يتخلّصوا ـ بزعمهم ـ من حدّية أوامر الله ، ويتهرّبوا من الالتزام بالدين ، تراهم يبحثون عن مبرّر نفسي لأنفسهم مما يدفعهم للتصوّر بأنّ الملائكة أو الجن أو الصالحين كعيسى (ع) سوف يدفعون سخط الرب

١٩٦

وعذابه عنهم بالشفاعة أو الفداء.

ويوم القيامة هو يوم تتجلّى فيه المسؤولية بشكل واضح وأكيد ، وتأليه هؤلاء للملائكة والجن والأنبياء ، يأتي لحل إشكالية ذلك اليوم ، ولكن هيهات ، لهذا أكّد ربنا في نهاية هذا الدرس مسئولية الإنسان الحتميّة بقوله : «قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ».

بينات من الآيات :

[١ ـ ٣] يصوّر لنا السياق في مطلع هذه السورة الكريمة مشهدا من الغيب حيث تصطّف الملائكة في السماوات العلى ، بما لا يعلم عددها إلّا الله عزّ وجل ، انتظارا لتلقّي الوحي من ربها ، ثم تنزل به الى حيث يأمرها زاجرة ما يعترضها من العقبات ، تتنزل به وتتلوه على النبي ، ومن هنا يمكننا القول بأنّ تنزيل الوحي ليس مخصّصا بجبرئيل إنّما يوجد معه ملائكة آخرون يؤدّون نفس الدور ، وفي القرآن نجد تعبير رسل الله ، يعني تارة الملائكة التي تهبط بالوحي ويعني تارة أخرى الملائكة الذين يتوفّون الأنفس ، بينما يقول الله تعالى : «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» (١) يعني بذلك عزرائيل ، وبجمع الآيات الى بعضها نستوحي بأنّ ملك الموت الأعظم زعيم لنزعة الروح ، أمّا بقية الملائكة فهم أعوانه على ذلك ، كما أنّ جبرئيل الملك الأعظم ـ الذي يتنزل بالوحي على الأنبياء والرسل ـ زعيم لطائفة من الملائكة الذين يؤدّون نفس المهمة.

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا)

يقسم الله بالملائكة التي تصطّف انتظارا لأمره ووحيه ، ثم تهبط لإنفاذ أمر

__________________

(١) السجدة / (١١).

١٩٧

الرب ، زاجرة العقبات في طريقها ، كالطبقات الموجودة بين الأرض والسماء ، والشياطين التي تحاول استراق السمع ، أو حجب الله عن أنبيائه ورسله.

(فَالزَّاجِراتِ زَجْراً)

كما أنّ من صفاتها تلاوة الوحي على الأنبياء ، والتلاوة من التتالي أي التتابع مما يدل على أنّ وحي الله لهم لا ينزل مرة واحدة ، إنّما يتنزّل مفرّقا ، وذلك مما تستدعيه الحكمة في التغيير.

(فَالتَّالِياتِ ذِكْراً)

[٤] فالملائكة إذن ليسوا آلهة من دون الله ، إنّما هم مسلّمون لأمره ، وحملة وحيه الى الخلق ، فلا تصح عبادتهم ، وإنّما عرّفنا الله بجانب من دور الملائكة وهو شيء من الغيب ، لأنّ إشراك طائفة من الناس بالملائكة نابع من جهلهم لحقيقة هذا الخلق ، لهذا نجد القرآن بعد هذا التعريف المختصر والبليغ في نفس الوقت ، ينطلق لتأكيد حقيقة التوحيد قائلا :

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ)

ويلاحظ ورود ثلاثة تأكيدات على هذا الأمر ، هي القسم وهو أعظمها وإنّ التوكيديّة واللام في عبارة لواحد ، الواقعة في جواب القسم.

[٥] ولكي لا يشبع الإنسان ميوله الفطرية نحو العبودية للرب باعتقادات باطلة تجاه الكون وبعض المخلوقات يبيّن الله بأنّ كلّ ما في الكون هو مخلوق مفتقر اليه في وجوده ، وهذا البيان يعطي البشر شعورا بالانسجام مع الطبيعة من حوله وهو يعبد ربه ، وعلى العكس من ذلك لو أشرك بالله.

١٩٨

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ)

ولعل الحقائق العلمية القائلة بأنّ لكل نجم وكوكب مدارا خاصّا به ، فمشرقه ومغربه يختلف فيه عن غيره ، تكشف عن جانب من هذه الآية التي جاءت كلمة المشارق فيها جمعا.

وهناك احتمال آخر لمعنى الكلمة هو : إنّ رحلة الشمس من عام لعام (أو بالأحرى حركة الأرض السنوية حول الشمس) تستدعي وجود مشارق لها بعدد أيّام السنة.

ولعل تخصيص المشارق دون المغارب بالذكر إنّما هو بسبب أنّ عبّاد الشمس يسحرهم شروقها فيعبدونها فيها ، ولذلك استدعى التأكيد على أنّ الله هو ربّ المشارق.

[٦] أمّا عن الكواكب التي يتخذها فئام من الناس معبودا من دون الله ، إمّا لما يرون من اعتقادهم أنّ ظهورها وغيابها يؤثّر في حياة البشر ، أو لأنبارهم بروعتها ، فإنّ القرآن يوضح دورها في السماء فيقول :

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا)

القريبة من الأرض ...

(بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ)

هذه الكواكب قد تكون موجودة في السماوات الأخرى ، ولكنّها لا تكون زينة لها ، بسبب انعدام الأوكسجين والهواء من فضائها ، مما يمنع بقاء الضوء أو انعكاسه.

١٩٩

[٧] وبالإضافة الى هذا الجمال يشير السياق الى القوة والمتانة في خلق السماء ، حيث جعل فيها الرصد والحرس ، يمنعون نفوذ الشياطين الى الملأ الأعلى.

(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ)

[٨] وتهدم هذه الآية الكريمة العقيدة الباطلة ، التي تقول بمعرفة الجن لجميع الأقدار التي جرت في الماضي ، وما تجري الآن ، وما ستقع مستقبلا ، لأنهم يتصلون بالغيب ويطّلعون عليه ، وينفي القرآن ذلك نفيا مباشرا بقوله :

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى)

لا يستطيعون التجسّس أو استراق السمع من الله ، وهو يوحي للملائكة بما يقدّره ويقضيه ، لتباشر تنفيذها بإرادته تعالى.

(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ)

يقذفهم حرس السماء بأسلحتهم لو حاولوا النفوذ واختراق الحجب ، فهم في يقظة دائمة.

[٩] ويدحرون الشياطين.

(دُحُوراً)

عند تسلّلهم لاستراق السمع ، كما يكتب عليهم ذنبا يجمع الى جرائمهم الأخرى ، فينالون بذلك العذاب الشديد في النار بعد الحساب.

(وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ)

٢٠٠