من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

والاهتداء) ثم قالوا أنهم مجانين ، كما أنهم اتهموا الرسل بحب الرئاسة ، وأنّ دعوتهم الى الله ليست سوى وسيلة للتأمر عليهم.

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ)

وهكذا يجب ان يعرف الرساليون صعوبة الإصلاح الحقيقي المتمثّل في التوحيد ، ويتفهّموا العقبات التي تعترضهم في الوصول اليه ، حتى لا يصيبهم الإحباط أو اليأس حينما يصطدمون بالرفض في بادئ الأمر ، فالأنظمة الطاغوتية وحتى بعض الناس سوف لا يكتفون برفض دعوتهم ، بل سوف يثيرون الشبهات حول أشخاصهم.

[٣٧] ويجب على الرساليين أن يقيّموا مسيرتهم على مقياس الحق ، وهو القرآن وسنة الرسول وأهل بيته ـ صلوات الله عليهم ـ ، ليزدادوا ثقة برسالتهم ، وليعرفوا أخطاءهم حتى لا يعتبروا موقف الناس والأنظمة مقياسا لمعرفة الحق ، لأنّ الناس بجهلهم وسلبيتهم النفسية ، والأنظمة بعدائها ، سوف يثيرون زوابعا من الشتائم والدعايات المغرضة ضدهم.

(بَلْ جاءَ بِالْحَقِ)

والحقّ يدل بذاته على ذاته ، فإنّ لكلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا.

وفرق واضح بين الحق الذي يدعو اليه النبي والشعر الذي لا يدعو الى شيء ، وليس سوى إثارة الخيال ، وترديد الأفكار الشائعة ، وتمجيد العادات الجاهلية.

ولأنّ مقياس الجاهليين لم يكن الحقّ إنّما التراث والواقع القديم لم يجدوا التقاء ولا انطباقا بين ما عندهم وبين الرسالة الالهية.

٢٢١

(وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ)

وعادة يدّعي أصحاب الباطل أنّهم ينتمون الى الرسالات الأولى ، وإنّما ينتمون الى أهوائهم ، والقرآن يردّهم بأنّ النبي يصدّق المرسلين ، فرسالته ليست سوى تجديد لتلك الرسالات ، ولو صدقوا في انتمائهم إليها لآمنوا بهذه أيضا.

وبالتدبر في الآيتين (٣٥ ـ ٣٦) يمكننا القول بأنّ هناك سببين رئيسين وراء كفر هؤلاء بالرسالة ، هما الاستكبار على الحق ، والمقاييس الخاطئة لمعرفته.

[٣٨] وفي نهاية الدرس يؤكّد الله للكفّار والمشركين (المجرمين) أنّهم سوف يذوقون العذاب.

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ)

والآية تشير الى أنّ الله يحشر المجرمين في تمام وعيهم وإحساسهم المادي والمعنوي ، من أجل تذوّق العذاب بأعمق ما يمكن للإنسان.

[٣٩] والى جانب هذا التأكيد على العذاب ، نجد تأكيدا آخر على العدالة الإلهية ، وأنّ الجزاء بقدر أعمال البشر بل هو ذات أعمالهم.

(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

والآية تعمّق وتؤكّد في نفس الإنسان مسئوليته التامة عن كل ما يصدر عنه ، من قول وعمل وسلوك. قال الرسول (ص) :

لمّا أسري بي الى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها الملائكة يبنون لبنة من ذهب ، ولبنة من فضة ، وربما أمسكوا ، فقلت لهم : ما لكم ربما بنيتم وربما

٢٢٢

أمسكتم؟ فقالوا : حتى تجيئنا النفقة ، فقلت : وما نفقتكم؟ فقالوا : قول المؤمن في الدنيا : «سبحان الله ، والحمد لله ، ولا اله الا الله ، والله أكبر». فإذا قال بنينا ، وإذا أمسك أمسكنا (٨)

والذي يشعر بهذه الحقيقة ـ أنّ مستقبله رهين عمله ـ سوف يسعى جهده لتصحيحه وإتقانه وبنائه وفق ما يريده الله سبحانه.

__________________

(٨) بح / ج (٩٣) ص (١٦٩).

٢٢٣

إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ

___________________

٤٥ [معين] : المعين الماء الجاري النابع من العين.

٤٧ [ينزفون] : أي يسكرون فليس في خمر الجنة سكر ، من نزف إذا ذهب عقله ، أو بمعنى يطردون من نزف بمعنى طرد فالشرب لهم دائم لا ينقطع مهما أرادوا.

٥٣ [لمدينون] : أي مجزيّون بأعمالنا ، من دانه بمعنى حاسبه وجازاه.

٢٢٤

الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)

___________________

٦٢ [شجرة الزقوم] : هي شجرة صغيرة الورق مرّة تكون بتهامة ، شبهت بها الشجرة التي تنبت في النار لتكون ثمرتها قوتا لأهل النار.

٦٧ [لشوبا] : الشوب هو خلط الشيء بما ليس منه وهو شرّ منه ، والمعنى شرابا مشوبا ليس بصاف.

٧٠ [يهرعون] : أي يسرعون في تقليدهم.

٢٢٥

إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ

هدى من الآيات :

بعد تكريس المسؤولية المتجلية في الجزاء يوم القيامة ، وقطع الأعذار الواهية التي يتشبّث بها المستضعفون ، يبيّن القرآن حال عباد الله المخلصين ، الذين أخلصوا ولاءهم لقيادتهم الشرعية ، وأخلصهم الله من شوائب الشرك وآثار الضغوط التي تنقسم الى نوعين : الأوّل : ضغط المجتمع المتجلّي في قرين السوء ، الثاني : الضغط التاريخي المتمثّل في الآباء.

لهؤلاء عباد الله المخلصين رزق معلوم (غير منقطع وهو جزاء أعمالهم المعلومة عند ربهم) فواكه (كرزق مادي) وهم مكرمون (كرزق معنوي) وهم في جنات النعيم يجلسون على سرر متقابلين (يتجاذبون أطراف الحديث لفراغ بالهم ومشغولون بالتالي بلذة المؤانسة) يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها هلاك ومرض ، والى جنبهم الحور كأنهم بيض مكنون (تتلألأ بشرتهن إشراقا).

٢٢٦

وتكتمل النعم عندهم حين يطلعون على قرناء السوء الذين حاولوا عبثا إغواءهم ، وبعد ان يبين السياق هلاك أولئك من كفرهم بالجنة ، ينقل خطاب المخلصين لهم بأنه لو لا نعمة الله لكانوا من المهلكين ، ثم يسدل الستار على هذا المشهد بعد أن يقرّروهم أفما نحن بمعذبين؟ ويذكرنا القرآن بان ذلك هو الفوز العظيم الذي لمثله فليعمل العاملون.

ويكشف عن مشهد آخر حيث شجرة الزقوم ، التي هي حسب الظاهر ذنوب أهل النار تصبح طعاما لهم هناك وهي فتنة (في الدنيا) للظالمين وهي تنبت في أصل الجحيم ، ولكن فروعها في بيوتهم ، اما طلعها فكأنه رؤوس الشياطين (الذين خدعوهم بها في الدنيا). انهم يأكلون منها حتى يملأوا بطونهم (كما أكلوا المال الحرام) ، ثم يشربون عليها ماء حميما يقطع أمعاءهم (كما شربوا الشراب الحرام في الدنيا) ، ثم يعودون جميعا الى الجحيم (كل ذلك) لأنهم اتبعوا آباءهم وهرعوا الى آثارهم يقلدونهم فيها على غير هدى.

بينات من الآيات :

[٤٠] بعد حديثه عن مصير المجرمين ، يذكرنا القرآن بمشهد مشرق من الآخرة حيث عباد الله المخلصون ، في جنة ملؤوها النعيم والرحمة والتي لا تعطى عبثا انما بثمن ، وأول وأهم ثمن يشتري به العبد الجنة هو الإخلاص ، وإذا كان العمل بذاته صعب ، فالاخلاص فيه أصعب ، لأنه يعني الانقطاع نفسيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا و... و... عما سوى الله ، حفاظا على حقيقة التوحيد.

فقد يصلي الإنسان لان الصلاة تدر عليه الربح ، وترفعه درجة في الناس ، وتعطيه قوة في الجسم وما أشبه ، فهو يصلي نتيجة لتفاعل عدة عوامل دفعته بهذا الاتجاه ، فاذا انعدمت هذه العوامل ، أو وجدت اخرى تعاكس مسيرة الصلاة كما

٢٢٧

لو وجد نفسه في بلد اجنبي لا يصلي أهلها ، أو صعبت عليه الصلاة لنعاس شديد أو برد أو حر فانه يتركها وربما يحاربها ، لان الذي يصلي لارضاء الناس ، سوف يشرب الخمر حين يكون فيه رضا الناس ، ومن هذا المنطلق صار الإخلاص أهم من العمل وكميته.

قال الامام علي (ع) :

«تصفية العمل خير من العمل» (١)

وقال (ع) :

«تصفية العمل أشد من العمل ، وتخليص النية عن الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد» (٢)

والإخلاص هو ان تعمل في كل الظروف وبنية صافية بعيدا عن التأثر بالعوامل المضادة للعمل ، وهذا ما لا يدركه أحد الا حينما تكون شخصيته (ثقافة وسلوكا) مصاغة بالقيم الرسالية الصحيحة ، وليس بالظروف والضغوط أو ردود الفعل والمصلحة.

وربما لذلك قال القرآن «المخلصين» بفتح اللام ، وليس المخلصين بكسرها ، والقرآن لم يستخدم الصيغة الثانية أبدا ، والمخلص هو الذي أخلصه الله وصفي نفسه وحياته من الشوائب والمؤثرات ، حتى أصبحت أعماله كلها لوجه الله وحده لا شريك له ، ولعل الآية الكريمة : «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (٣) تهدينا الى ذات

__________________

(١) بح ج / (٧١) ص (٩٠).

(٢) بح ج / (٧٧) ص (٢٨٨).

(٣) المائدة / (٢٧).

٢٢٨

المفهوم.

والشيء الذي يبني عليه الإسلام أساس الإخلاص هو الاستمرار فيه ، والا فأن الإنسان كل إنسان قد يعيش لحظة يخلص فيها لله عمله ودعاءه ، فالعمل الواحد لا يقبل منفردا ، انما يضم الى عموم مسيرة الإنسان ، والذي لا شك فيه ان الواحد لا ينعت بخلق ما الا إذا صار عادة له وسلوكا.

فالذي يصوم شهر رمضان المبارك ، وفي الأثناء ، أو بعده وقبله يغتاب الناس ويأكل المال الحرام ، أو يترك جانبا من الدين كالجهاد لا يكون متقيا ، فصومه لا يقبل ولا يكون مخلصا من هذه صفته ، لان تأثره بدوافع الغيبة يشير الى أن شخصيته لم تزل مزيجا من الايمان والكفر ، فبينما ينطلق صومه من قاعدة الايمان في نفسه ، تنطلق الغيبة من دوافع الكفر.

وانما يدخل الله الجنة الذين أخلصوا ايمانهم وعملهم بالمعنى المتقدم بغير حساب ، ومن سواهم يدخلهم بعد الحساب والتطهير ، وعلى هذا جاء في الاخبار : ان من المؤمنين من يلبث في النار مئات ، وبعضهم عشرات السنين ، كل بنسبة انحرافه ، ورواسب الكفر التي يجب ان تطهر قبل الدخول في الجنة. وفي الرواية قيل للإمام موسى بن جعفر (ع) : مررنا برجل في السوق وهو ينادي : انا من شيعة محمد وآل محمد الخلص ، وهو ينادي على ثياب يبيعها : من يزيد؟ فقال موسى (ع):

«ما جهل ولا ضاع امرء عرف قدر نفسه ، أتدرون ما مثل هذا؟ هذا شخص قال : انا مثل سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار ، وهو مع ذلك يباخس الناس في

٢٢٩

بيعه ، ويدلس عيوب المبيع على مشتريه ويشتري الشيء بثمن فيزايد الغريب يطلبه فيوجب له ، ثم إذا غاب المشتري قال لا أريده الا بكذا ، بدون ما كان طلبه منه ، أيكون هذا كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار؟ حاشا لله ان يكون هذا كهم» (٤)

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)

[٤١] والقرآن يحدثنا عن جانب من الرزق ، الذي يصير اليه المخلصون لا حصرا انما اشارة ، والا ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر.

(أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ)

والمعلوم هو الشيء المعروف المحدد بالمعرفة ، ويبدو ان رزق المخلصين يكون معلوما بالجنة فلا ينقطع حينا ويتصل حينا ، ويكون معلوما لأنه جزاء أفعالهم وهي معلومة عند ربهم ، وقالوا ان معنى ذلك ان رزق المخلصين يأتيهم كاملا كما يريدون ويتصورون بعلمهم ، وهذه الارادة والميول تنتقل بإرادة الله الى أذهان الخدم ، فيأتونهم بما يريدون قبل ان يطلبوه ، قال رسول الله (ص) : «أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ» :

«يعلمه الخدام فيأتون به أولياء الله ، قبل ان يسألوهم إياه» (٥)

[٤٢] ويفصّل القرآن في ذكر الرزق ، تشويقا لنا للإخلاص ، وللمخلصين على الاستقامة.

__________________

(٤) بح ج / (٦٨) ص (١٥٧).

(٥) نور الثقلين / ج (٤) ص (٤٠٣).

٢٣٠

(فَواكِهُ)

يشبعون بها حاجاتهم الكمالية ، أما حاجاتهم الضرورية فقد قال البعض ان أجسامهم خلقت للبقاء فلا تحتاج الى طعام حاجة ضرورية ، ويحتمل ان يكون توفر الفواكه لديهم يغنيهم عن الطعام الضروري ، أو ليس أكل الجنة دائما وظلها؟

وتنضم الى هذه اللّذات أعظم نعمة يشعر بها المؤمنون المخلصون ، وهي الكرامة من عند الله ، فهم يأكلون الفواكه وشعورهم عميق برضى الله عنهم.

(وَهُمْ مُكْرَمُونَ)

ولعلنا نستوحي من كلمة مكرمون ان المخلصين يفدون الى الجنة على رزق معلوم ومحدد ، لكن الله يكرمهم كل حين ليزدادوا فضلا من عنده. وفي الحديث :

«فإنهم لا يشتهون شيئا في الجنة الا أكرموا به» (٦)

[٤٣] (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)

والجنة هي البساتين الكثيرة الزرع والشجر ، بحيث تلتقي فيها الاغصان والأوراق فتختفي أرضها ، تحت ظلال الأوراق والكلمة تفيد التنوع ، لان الجنة لا تطلق على النوع الواحد من الزرع. أما كلمة النعيم فهي مبالغة في النعمة للكثرة والجودة.

[٤٤] ولان المؤنس من الحاجات النفسية للبشر ، فقد جعل الله المؤمنين يأنسون ببعضهم في الجنة فاذا بهم كما يصفهم القرآن :

__________________

(٦) المصدر.

٢٣١

(عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ)

[٤٥] وفي الأثناء حيث يدور الكلام بين عباد الله.

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ)

وهو الذّ الشراب ، خمرا كان أو ماء أو غيرهما ، كما ان المعين الذي لا ينضب ، فتارة يكون الشيء لذيذا لكنه ينتهي بسرعة ، وتارة يكون لذيذا ولا ينتهي.

[٤٦] ويجتمع الى لذّة الشراب جماله وجمال كأسه تأكيدا لها ، فالكأس من الفضة اللامعة.

(بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ)

وقد يكون البياض وصفا للمعين ، ففي الحديث عن الامام الحسن (ع) :

«خمر الجنة أشد بياضا من اللبن» (٧)

[٤٧] وهذا الشراب خال من العيوب فلا يملّه المؤمنون أو يرفضونه.

(لا فِيها غَوْلٌ)

وهو السكر أو الارهاق الذي يلحق بالشارب فيغتال عقله وقواه ، أو المرض الذي ينتهي به الى الموت ، ومنه الاغتيال وهو القتل سرا ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر لا يبعد المؤمنون عن شراب الجنة بنضوبه ، أو بإرادة اخرى تفرض عليهم.

__________________

(٧) المجمع / ج (٧ ـ ٨) / ص (٤٤٣).

٢٣٢

(وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ)

ويقال نزف الماء إذا أبعد وأزيح عن العين.

[٤٨] ومن نعيم المخلصين الأزواج المطهرة في القصور.

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ)

وللقصر ثلاثة تفاسير :

الاول : ان القاصرات هن النساء اللاتي ينحصر نظرهن الى أزواجهن ، وبالتالي تحد شهوتهن في أزواجهن ، فانظارهن قاصرة عن غيرهم.

الثاني : القاصرة الطرف هي قليلة الشعر في حاجبيها ، وهذه من جمال المرأة.

الثالث : وقال المفسرون قاصرات الطرف اللواتي ارسلن نظرهن الى الأرض تواضعا وحياء ، وهذه من الصفات الحسنة في المرأة.

اما العين فهي جمع عيناء ، والعيناء واسعة العين شديدة وكبيرة السواد فيها ، وناصعة البياض ، وهذه هي الاخرى من الصفات الجمالية الحسنة في المرأة. ولعله لذلك كان شعراء العرب قديما ، يشبهون في غزلهم عيون النساء بعيون البقر الوحشي (المها) ، التي تشتمل على نسبة من هذه الصفات.

[٤٩] (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ)

والمكنون هو المحفوظ ، فهن محفوظات لم يمسهن أحد قبلهم ، ومن صفات البيض عند ما يجمع الى بعضه ، انه ينصع بالبياض ، حتى ليكاد يضيء ، وفي ذلك اشارة لجمال بشرتهن.

٢٣٣

والملاحظ ان الآيات الكريمة تعرضت بالذكر لمجموعة غرائز في الإنسان بينها غريزة الاكل والشرب والجنس ، التي يجد الإنسان حوافز ودوافع داخلية وخارجية على اشباعها ، وربما اشبعها بالحرام ، وذلك تطميعا لنا فيها عند الله ، حتى نترفع عن الاكل الحرام المشوب بالذلة بذكر رزق الجنة وكرامته ، وعن الشرب الحرام بالرغبة في شرابها ، وعن اللّذة المحرمة بذكر حورها الحسان.

جاء في بيان دعائم الايمان على لسان الامام علي (ع) ما يدل على ذلك إذ قال :

«فمن اشتاق الى الجنة سلا عن الشهوات»

[٥٠] ويعرّج القرآن من الجانب الآخر ليطلعنا على حال المكذبين بالرسالات ، العاصين لله ، ليشجعنا ذلك الرجاء على الطاعة ، وليمنعنا هذا الخوف عن المعصية ، ويدخل السياق الى هذا الموضوع ، من خلال عرضه لجانب من حديث المخلصين الذين جلسوا على سررهم يستريحون لبعضهم البعض ، بالحديث عن النعيم الحاضر وعن الحياة السابقة.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ)

والإقبال هنا دلالة على الاشتياق لبعضهم ، وللحديث الذي يدور بينهم.

[٥١] (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ)

يعني الرفيق.

[٥٢ ـ ٥٣] ولم يكن صالحا ، بل كان يدعو الى النار ، وليس شرطا ان الصديق الذي يعنيه القرآن بهذه الآيات هو الذي يصرح بكفره وضلاله فيدعو لنبذ الدين واقتراف المعصية ، بل يشمل المعنى كل قرين توحي رفقته وسلوكياته أو

٢٣٤

أقواله الى الكفر.

(يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ* أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)

اي مسئولون ومجازون ، وهذا الاعتقاد هو الذي يسوق البشر للظلم والانحراف ، لأنّه لا يعتقد بمسؤولية تجاه أقواله وأعماله.

[٥٤] ومن كمال النعم وتمام السرور معرفة الإنسان بأنه قد نجّي من شر عظيم ومهلكة لم ينج منها الآخرون ، فما أعظم لذة من تحطمت به السفينة في عرض البحر وابتلعت أمواجه الهادرة كل من فيها سواه حيث تعلق بخشبة وقاوم الأمواج ، واستبسل في السباحة حتى نجّاه الله في اللحظة الاخيرة. انه سوف يزداد إحساسا بالراحة كلما تذكر الحادثة ، ويكاد يطير فرحا عند ما يتصور الأمواج التي كانت تتلاحق على خشبته ، وكان ينادي أصحابه إليها فرحا عند ما يتصور الأمواج التي كانت تتلاحق على خشبته ، وكان ينادي أصحابه إليها فلم يستجيبوا له ، وشهد مهلكهم بغيّهم. أليس كذلك؟ هكذا يتم الله نعمته على المؤمن وهو يتذكر قرناء السوء الذين قاوم تضليلهم وضغوطهم فذهبوا الى النار ، ونجّي منها. وها هو يراهم يتقلبون فيها يائسين وهو في الجنة من المكرمين.

(قالَ)

لرفاقه المخلصين.

(هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ)

اي هل أنتم تتكلفون الاستطلاع حتى نعرف مصيره؟

[٥٥] ولكنه لفرط شوقه أخذ يبحث عنه شخصيا دون انتظارهم.

٢٣٥

(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ)

يعني وسطها ، حيث يتركز العذاب والحريق وتحوطه النار من كل جانب كما كان في الدنيا محاطا بالذنوب والمعصية ، ولعل التطلع هناك هو تكلف الذهاب الى ناحية والا فأهل الجنة لا يسمعون حسيس النار.

[٥٦] وهناك يكتشف المؤمن مدى خطورة الصديق السيء.

(قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ)

والتردي هو السقوط من شاهق ، وفي هذا اشارة الى ان المخاطب في واد سحيق من النار.

[٥٧] (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)

في العذاب ، وتتمثل النعمة الالهية هذه في الأسباب التي تؤدي بالإنسان الى النجاة من الانحراف ، ومن ثم من عواقبه ، كالعقل والرسالة والمرشدين للحق ، ولا شك ان أعظم نعم الله على البشر هي نعمة الهداية.

[٥٨ ـ ٥٩] ويشير القرآن على لسان المؤمنين الى اخطر فكرة يحاول المنحرفون من خلالها إضلال الناس ، والتأثير على المؤمنين ، وهي فكرة الكفر بالآخرة حيث الجزاء الأوفى.

(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ* إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)

على الاخطاء والذنوب؟!

[٦٠] ولعل الله هو الذي يلقي في قلوب أوليائه من أهل الجنة ، ان يشرفوا على

٢٣٦

النار للاطلاع على أهلها ، لكي يشعروا عميقا بلذة الهداية والطاعة والنعيم ، ذلك ان من طبيعة الإنسان إحساسه بالحقائق عن طريق معرفة نقائصها ، لهذا نجد المؤمن وقد اطلع على قرين السوء في العذاب ، بينما يتعمق وعيه بعظمة نعم الله عليه يقول :

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

نعم ان طريق الحق مليء بالعقبات والمصاعب ، ولكنه الأفضل ما دام ينتهي الى الجنة ورضى الله.

[٦١] وكخلاصة لكل ما تقدم من ذكر الجنة والنار ، يؤكد القرآن بان الهدف الصحيح ، الذي يجب على الإنسان العمل له ، هو الوصول الى الجنة ، لأنها الهدف الأعظم الذي إذا حققه الفرد فقد فاز ، والا فهو لم يحقق شيئا. قال الامام علي (ع) :

«ما خير بخير بعده النار ، وما شر بشر بعده الجنة ، وكل نعيم دون الجنة فهو محقور ، وكل بلاء دون النار عافية» (٨)

ويقول تعالى :

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)

وقد نستوحي من التدبر في الآيات الكريمة : ان الإنسان يواجه في حياته نوعين من الضغوط :

الاول : الضغط القادم من المجتمع المعاصر ، والذي يتجلى بصورة واضحة في

__________________

(٨) نهج الحكمة / (٣٨٧).

٢٣٧

قرين السوء ، فمثلا إذا عاش المؤمن في مجتمع يستخف بالصلاة فلا بد ان يتعرض لضغط هذا المجتمع باتجاه ترك الصلاة ذلك ان للمجتمع ـ اي مجتمع ـ قوة هائلة باتجاه التجانس معه ، وفرض قيمه الخاصة على افراده بالتربية والتثقيف أو بالترغيب والترهيب ، ولكن ما هو رأس الحربة في ضغط المجتمع على الفرد؟ انه الصديق إذ يكون حلقة الوصل بينه وبين سائر أبناء المجتمع.

وهكذا ينبغي ان يصمد الإنسان امام ضغوط اصدقائه وقرنائه ولو كان على حساب صداقتهم ، فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول :

«ما ترك الحق لي من صديق»

[٦٢] الثاني : الضغط القادم من الأجيال السابقة ، ويتجلى هذا الضغط بصورة مركزة في الأب ، ذلك ان الإنسان لا يرى الأجيال السابقة ولا التاريخ الماضي ، ولكن ذلك يصله عبر أبيه.

ويبدو ان القرآن حتى الآية السابقة حدثنا عن الضغط الاول ، اما بقية الآيات من هذا الدرس فهي اشارة الى الضغط الآخر ، يقول تعالى :

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً)

اي الجنة التي هي عاقبة المؤمنين المخلصين.

(أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ)

التي هي عاقبة المكذبين؟!

وكأنّ القرآن بهذا التساؤل الذي جاء بعد عرض العاقبتين ، يخيّرنا بين الجنة

٢٣٨

والنار ، بأثارة تفكيرنا نحو الاجابة على هذا التساؤل ، اما عن معنى شجرة الزقوم ففيه تفسيران :

الاول : ان قريشا لما سمعت هذه الآية ، قالت : ما نعرف هذه الشجرة ، فقال أبو جهل لجاريته : يا جارية! زقمينا. فأتته الجارية بتمر وزبد ، فقال لأصحابه تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمد ، فيزعم ان النار تنبت الشجر ، والنار تحرق الشجر فانزل الله سبحانه : «إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ». (٩)

الثاني : وهو الأقرب ، ان الإنسان يأكل في الدنيا من هذه الشجرة ، ولكنه لا يشعر انه يأكل منها ، الا في الآخرة حيث يكشف الله عن بصره ، ويرى الحقائق بواقعها ، فالكذب ، وأكل اموال الناس ، وشرب الخمر ، ... كل ذلك ورق في شجرة الزقوم التي يطعم منها أهل النار.

وفي سورة الواقعة التي تعالج جانبا من موضوع هذه السورة اشارة واضحة لهذا المعنى إذ يقول تعالى : «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ، لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ* فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ* فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ* فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ» (١٠) ثم يؤكد هذا المعنى في آخر السورة إذ يقول عزّ وجلّ مخاطبا المكذبين بالقرآن والضالين : «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ». (١١)

[٦٣] ولا ريب ان الكذب وأكل اموال الناس وسائر الشهوات التي يواجهها الإنسان ، تجعله على مفترق الطريق ، بين الحق والباطل ، والجنة والنار ، وبالتالي فهو مبتلى وممتحن امامها ، ولا شك أيضا ان هذه الأمور بشعة كبشاعة شجرة الزقوم

__________________

(٩) المجمع / ج (٧ ـ ٨) / ص (٤٤٦).

(١٠) الواقعة / (٥١ ـ ٥٥).

(١١) الواقعة / (٨٢).

٢٣٩

التي هي التجلي الحقيقي لهذه المعاصي ، ولكن الإنسان يتجاهل ذلك ، أو يغفل عنه فينجرف مع شهواته ، ليزرع بذنوبه أشجار الزقوم فتكون طعامه في الآخرة.

(إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ)

اما المؤمن فهو لا يفتتن بها ، انما يرتفع بإيمانه عن حضيض المعصية ليزرع لنفسه بعمل الصالحات الجنان الواسعة.

[٦٤] وبعد الاشارة الى شجرة الزقوم وطبيعتها الفاتنة في الدنيا ، يصورها لنا القرآن بواقعها في الآخرة ، حيث الجزاء المتجانس وعمل الإنسان.

(إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ)

وقد روي :

«ان الله تعالى يجوعهم ـ يعني أهل النار ـ حتى ينسوا عذاب النار من شدة الجوع ، فيصرخون الى مالك ، فيحملهم الى تلك الشجرة وفيهم ابو جهل ، فيأكلون منها فتغلي بطونهم كغلي الحميم» (١٢)

وفي رواية انها شجرة عظيمة لأهل النار عامة ، ولها في كل منزلة من الجحيم غصن يأكل منه الذين يعذبون فيها.

[٦٥] (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ)

والطلع حمل النخلة في بدايته ، يخرج من بين الليف والخضر ، وهو يشبه غمد

__________________

(١٢) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٤٠٤).

٢٤٠