من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

٤٠١

فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ

هدى من الآيات :

في الدرس الأخير من السورة وكعادة القرآن يؤكد السياق على الموضوع الاساسي فيها ، وذلك ضمن بيان ما جرى بين رب العالمين والملائكة ثمّ بينه وبين إبليس ، ومغزاه الكشف عن طبيعة الإنسان ، والأسباب الحقيقية التي ترديه ، فاذا به وقد كرّمه الله على كثير من الخلق ينتهي إلى أسوأ مصير.

في بداية السورة أكد ربنا على دور العزة والشقاق في ضلال الكفار ، حيث يغترون بما لديهم من قوة ظاهرية ، فيستكبرون على الحق ويشقون عصا الطاعة لله ـ عز وجل ـ بينما نجد في مقابلهم أنبياء الله (عليهم السلام) فهم بالرغم من الدرجة المعنوية التي أعطيت لهم (النبوة) وما أوتي بعضهم من القوة والملك ، إلّا انهم في أعلى درجات التوبة والانابة إلى ربهم.

وفي نهاية هذه السورة المباركة يبيّن الله لنا صورة أخرى لهذه المقابلة جرت في

٤٠٢

الملأ الأعلى ، فالعزة بالباطل عند إبليس عليه اللعنة ، الذي اعتز بعنصره ، ورفض الخضوع لله في قضية ، آدم من بين كلّ الملائكة ، وبرّر ذلك بأنه وهو المخلوق من نار السموم أفضل من آدم الطيني فكيف يسجد له؟ ولكن من قال : ان الافضلية للطين؟ ثم لو افترضنا ذلك فهل هذا مبرر لمعصية رب العالمين واختيار العاقبة السوأى؟ بالطبع كلا ... ولكن إبليس اختار العزة بالباطل متمثلة في العنصرية ، ثم راح يغوي الإنسان ويضله ليكون معه في غضب الله وناره.

وفي المشهد الآخر من الصورة نجد ملائكة الله على جلالة قدرهم يخرّون ساجدين لآدم تعبدا لله وطاعة وتسليما ، ويوصل القرآن بينهم وبين عباد الله المخلصين الذين لم يسمحوا لإبليس أن يغويهم.

ولأن سورة «ص» تتشابه وسورة «الصافات» في نفي الوهية الملائكة والأنبياء ، فانها تنتهي ببيان سجود الملائكة لآدم (ع) الذي خلق من طين والذي يتعرض لإغواء إبليس ، وكيف يكون إلها من يسجد لغيره أو يتعرض لإغواء الشيطان؟!

بينات من الآيات :

[٧١] لما بدا لله تعالى خلق آدم أطلع الملائكة على هذه الإرادة.

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ)

والخطاب هنا يشمل حتى إبليس ، لأنه قد رفع جزاء لعبادته لله إلى مقام الملائكة ، فملائكته التي يشمله (إبليس) بموجبها الأمر بالسجود ـ اعتبارية لا ذاتية ـ ويبدو ان متعلق قوله : (إِذْ قالَ رَبُّكَ) هو قوله في آية سابقة (... إِذْ يَخْتَصِمُونَ).

٤٠٣

وبما أن أصل خلق البشر طين فلا يجوز أن يتفاخر الناس على بعضهم ، كما لا ينبغي أن يفتخر أحد بنفسه وهل لمن أصله الطين فخر؟! والطين عندنا نحن البشر من أرذل العناصر وأقلها قيمة واعتبارا ، والناس جميعا خلقوا من طين فلا يجوز أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله كالسلاطين ، ولا أن يصبغ البعض صبغة الألوهية على بعض كما فعل النصارى بابن مريم (عليهما السلام).

[٧٢] ولم يطلع ربنا الملائكة على ما بدا له لمجرد اضافة معلومة جديدة إليهم بل ليأمرهم بالسجود له (ع).

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)

وقد اتصل الأمر بالسجود بحالة التسوية ونفخ الروح عند البشر ، وهي حسب الظاهر كمال الخلق مما يوحي بأن سجود الملائكة (الذي يدل ـ ضمنا ـ على تسخير الطبيعة الموكل بها ملائكة الله) (١) يتعلق بكمال الإنسان ، فكلما رقى البشر معارج العلم والإرادة والإيمان والتقوى كلما سخرت له الخليقة أكثر فأكثر. أرأيت كيف سخر الله لداود الجبال والطير ولسليمان الريح؟

ويوحي نفخ الروح من الله في الإنسان وقبل السجود له تخصص البشر بميزات لا توجد في سائر الأحياء ، ويبدو أن الروح هنا هي العقل الذي قال عنه ربنا سبحانه في آية أخرى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٢)

(فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)

وهكذا أسس ربنا في حياة البشر مبدأ السجود لله عبر الخضوع والتسليم لخلفائه

__________________

(١) راجع تفسير سورة البقرة آية (٣٤).

(٢) الإسراء / (٨٥).

٤٠٤

في الأرض ، وهؤلاء الملائكة وهم من أعز خلق الله أسجدهم لمن نفخ فيه من روحه وجعله خليفته في الأرض.

[٧٣] وحيث أمر الله بالسجود لآدم استجاب جميع الملائكة ايمانا منهم بوجوب التسليم المطلق له ـ عزّ وجل ـ وأن أيّ اجتهاد أو قياس مقابل أمره باطل ولا يرفع المسؤولية عن صاحبه.

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ)

وكان يكفي أن تنتهي الآية إلى هذا الحد لتبيّن المطلوب ، ولكن ربنا أضاف تأكيدا لذلك قائلا :

(أَجْمَعُونَ)

وانما كانت عظمة الملائكة بخضوعهم لله ولمن أمر الله بالخضوع له.

[٧٤] ثم استثنى ربنا من الساجدين إبليس الذي استكبر واستبدت به العزة والكبرياء ، فشق عصا الطاعة.

(إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)

لقد كان إبليس يسجد لله سجدات طويلة لعل بعضها يمتد أربعة آلاف عام ، وقد اقترح على الله بأن يسجد له سجدة مطولة بدل سجوده لحظات لآدم ، فرفض طلبه. لماذا هذا الاقتراح؟ ولماذا الرفض؟

أولا : السجود لآدم بأمر الله ـ ذلك الطين اللازب الذي يحتقره إبليس ـ هو معيار الخضوع لله وليس مجرد الوقوع على الأرض باسم السجود لله ، ولعل صاحبه

٤٠٥

يكرّس ذاتياته بذلك ، وانما يفعل ما يفعل رياء ، ولا يزيده الا عجبا.

وهكذا نحن البشر لا تنفعنا عامة الصلاة والصيام ان لم نسلم لمن أمر الله بالتسليم له من خلفائه في الأرض ، وهكذا كانت الولاية سنم الدّين ، وعمود الشريعة ، وأعظم ما في ميزان العبد يوم القيامة لأنها في الحقيقة هي التوحيد الخالص.

ثانيا : حين لم يسجد إبليس لآدم اعتبر مستكبرا ، والحق بالكفار بالرغم من انه كان يؤمن بالله ، ولكن ايمانه لم يبلغ درجة التوحيد إذ أنه كان يؤمن قبلئذ بذاته وبعنصره الناري ، فلم ينفعه الإيمان ولا سجداته الطويلة شيئا.

[٧٥] فسأله رب العالمين :

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ)

وللمفسرين في كلمة «بيدي» تفاسير عديدة اما التفسير الأقرب للسياق ـ في نظري ـ انها القدرة ، وإنما أضاف «بيدي» لأنه سبحانه لا يملك يمينا ولا شمالا أو كما

في الحديث : «وكلتا يديه يمين» وفي حديث عن الامام الرضا (ع) :

«يعني بقدرتي وقوتي» (١)

وتعبير اليدين كناية عن تمام القوة والقدرة التي تجلت من خلق آدم.

(أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ)

هل كان السبب انك تكبرت لمجرد الاستكبار ومن دون سبب واقعي ، أم أنك

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٤٧٢).

٤٠٦

فعلا تجد نفسك جديرا بعدم السجود ، وفوق أوامر الله.

وقال البعض أن معناه : هل استكبرت الآن أم كنت أبدا من العالين.

[٧٦] ان عدم سجود إبليس كان لاستكباره ، والا فجوهره لا يتميز عن آدم فهو مخلوق مثله ، ولا يحق للمخلوق ان يرفض امر الخالق ، ولكن إبليس رأى نفسه متميّزا ، وسبب ذلك أنه اتبع المقاييس الشيئية لا المقاييس القيمية فانتهى إلى افضلية النار على الطين ، واعتز بعنصره وذاته ، فرفض السجود لآدم والطاعة لله سبحانه ، وهذا يدل على بطلان القياس عموما ، ذلك لأن قيمة أي شيء ليست بذاته بل بما يضفي عليه الرب من قيمة واعتبار ، فالصلاة معراج المؤمن لأن الله جعلها كذلك ، والحج جهاد الضعفاء لأن الله شرع ذلك ، والأنبياء خلفاء الله لأن الله حمّلهم رسالاته وجعلهم أئمة وهداة.

ولا يعرف تشريع الله الا من عنده اما البشر فإنه إذا أراد أن يتشبث بالقياس فسوف يهبط إلى مستوى مقاييسه الشيئية فهذا إبليس برغم علمه وعبادته هوى إلى أسفل السافلين حين ترك قيمة التوحيد إلى الشرك ، ومقياس امر الله إلى مقياس خلق الله ، ولم يعرف ان عظمة خلق الله انما هي بأمر الله ، فالنار كنار لا تعدو ان تكون خلقا خلقها الله بأمره ، وأركز فيها خصائص وميزات من الحرارة والاضاءة ، وان شاء الله أعدمها أو اعدم حرارتها ، كما فعل لإبراهيم (ع) ، أو أزال ضوءها كنار جهنم ، إذن الشيء كشيء لا قيمة له ، انما قيمته باعتبار أمر الله ، وهذا هو السبب الجوهري لبطلان القياس في الدين ، والحاجة إلى الرسل.

(قالَ) وهو يبرر موقفه المنحرف.

٤٠٧

(أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)

فهو أفضل من آدم (ع) لا بالعمل الصالح والطاعة والعبادة المخلصة بل بعنصره الناري.

(خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)

ان المهم في الخلقة ليس المخلوق بذاته ، بل ما يعطيه الخالق له من قيمة ومنزلة ، وما دام الرب واحد فان قيمة المخلوقين من الناحية الجوهرية واحدة ، وانما يتفاضلون بما يحدده الرب من مقاييس للتفاضل ، وليس ثمة قيمة عند الله لأحد بذاته ، انما تقواه وعمله الصالح.

جاء في نهج البلاغة :

«الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمى وحرما على غيره ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما في عباده ، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ، فقال سبحانه ـ وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب ـ : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) اعترضته الحميّة ، فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصب عليه لأصله ، فعدوّ الله امام المتعصبين وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية ، ونازع الله رداء الجبرية ، وادّرع لباس التعزز ، وخلع قناع التذلل. الا ترون كيف صغّره الله بتكبره ، ووضعه بترفعه ، فجعله في الدنيا مدحورا ، وأعد له في الآخرة سعيرا ، ولو أراد الله سبحانه أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه ، ويبهر العقول رواؤه ، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه ، لفعل. ولو فعل لظلتّ له الأعناق خاضعة ، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة ،

٤٠٨

ولكن الله سبحانه ابتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم ، ونفيا للاستكبار عنهم ، وابعادا للخيلاء منهم ، فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل ، وجهده الجهيد ، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة ، لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة ، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته. كلا ... ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا ، ان حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد ، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرّمه الله على العالمين» (١)

ان انحراف إبليس لم يكن بجبر من الله انما باختياره هو نفسه ، ومن الحوار الذي جرى بين الله وبينه يتبين انه تعالى أراد هدايته فقد أكثر القول له ، وهذا أساس في القرآن والرسالات الإلهية الاخرى ، لأن الفلسفات الاخرى القديمة والحديثة كلها تعتقد بالجبر ، وان الشر من الله ـ تعالى عما يصفون ـ أو من اله معارض له في الرأي ، مساو له في القوة ، وهذه الثنائية موجودة بصورة أو بأخرى في كل الفلسفات كالفلسفة الشيوعية التي تؤمن بثنائية الحتمية التاريخية ، أو كفلسفة (فرويد) التي تعتقد بالثنائية الجنسية ... إلخ ، وقد تسربت هذه الفلسفة المنحرفة الى كثير من كتب الديانات ولكن هذه الآيات وأخرى كثيرة تلتقي معها في الموضوع تبيّن أن إبليس كان حرّا في اطار قضاء الله وقدره ، فهو غير قادر على مقاومة الإرادة الالهية إذا أراد الله ذلك ، لكنها من جانب آخر تؤكد بأنه تعالى لم يجبره على المعصية والانحراف ، بل أعطاه المهلة وحاوره في الأمر اقامة للحجة لعله يهتدي للحق سبيلا.

[٧٧ ـ ٧٨] فلما رفض وأصرّ على معصيته واعتزازه الباطل بعنصريه ، طرده الله من رحمته ، واسترد منه الاعتبار الذي وهبه له من قبل.

__________________

(١) نهج البلاغة / خ (١٩١) / ص (٢٨٥).

٤٠٩

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ)

والرجيم هو المطرود الذي لا أمل في رجعته ، وربما لو كان ثمة احتمال لعودة إبليس للحق لما أخرجه الله من رحمته ، وأمهله أكثر مما أمهله.

وفي القرآن آية تشير الى الحكمة الالهية التي مر ذكرها ، يقول تعالى في معرض حديثه عن عصيانه إبليس : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١)

والآية تشير الى انه كان جنّيا ولكنه استطاع الوصول الى مقام الملائكة ، وذلك بعبادته وسعيه ـ كما في الروايات ـ ثم تشير الى تردّيه ومسيرته التنازلية وان سببها المعصية لله ، وتأكد الآية على كونه من الجنّ يهدف تأكيد حريته واختياره ، وكيف أنه علا الى مقام الملائكة بعمله ثم أهبط بسوء اختياره.

وهذه الآية من سورة «ص» والتي تليها تبيّنان جانبا من العقوبات التي فرضها الله على إبليس وهي :

أولا : سحب المزايا والاعتبارات التي حصل عليه بعبادته كدخوله الجنة ، واعتباره من الملائكة ، وشمول رحمة الله الخاصة له.

ثانيا : رجمه من قبل الله ، والرجم هو الطرد الذي لا سبيل للعودة بعده ـ كما مرّ آنفا ـ فهو مبعد عن سائر الخلق ، ومعنى ذلك انهم لا يتفاعلون معه ، وهذه حقيقة علمية يشرحها القرآن بعبارات بسيطة جدا ، يفهمها حتى الطفل المميّز ، لأن هدف الآيات هو هداية الإنسان الى الحق التي لا تتحقق بالعبارات الغليظة المعقدة

__________________

(١) الكهف / (٥٠).

٤١٠

التي لو استخدمها في القرآن لكان لطبقة معينة ، وهذه الحقيقة العلمية تتمثل في ان عالم المخلوقات يتفاعل مع الحق ويتعاون معه ، أما الشر والباطل فهو شذوذ وشقاق عن مسيرته ، وحيث طرد إبليس ـ وهو رمز الشرك ـ بالرجم فانه لا يكون معه ما في السماء والأرض وما بينهما. إن الأصل في الخلائق الخير لا الشر ، والذي يطيع إبليس فانما يطيع عنصرا ضعيفا ، والقرآن يصرح بهذه الحقيقة عند ما يقول : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (١) ومن هذا المنطلق جاءت حتمية الانتصار للمؤمنين الصادقين على أعدائهم ، ولهذا أيضا قال ربنا في مطلع السورة : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) وقد فسرنا ذلك بأن الذي يخالف مسيرة الكون هم الكفار الذين ينحرفون عن فطرتهم فهم هالكون ، وقد حذرهم الله في هذه السورة من ذلك ، وقال : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ).

كما أكد مخالفة الطبيعة لمسيرتهم ، وهزيمتهم الحتمية بقوله : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ)

ثالثا : الحاق اللعنة به الى يوم الدين من قبل الله سبحانه ، واللعنة تعبير عن عدم الرضا بشخص الملعون وعمله.

وهي تعني أولا : عدم شرعية أعمال إبليس واتباعه مهما أخذت أحجاما كبيرة على الطبيعة مؤقتا ، وتعني ثانيا : ملاحقة الشيطان وأتباعه بالعذاب ، وبالخذلان ، وإحباط العمل.

__________________

(١) النساء / (٧٦).

٤١١

(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ)

وفي يوم الدين يكون الحكم خالصا للقيم ، وتنتهي فيه كل السلطات والحاكميات الأخرى بإرادة الله ، وهناك يعنى الحكم بعذاب إبليس وتتجلّى اللعنة عليه بأوسع معانيها.

[٧٩] وحيث حبطت أعمال إبليس ولاحقته اللّعنات عرض على الله طلبا.

(قالَ رَبِ) ما دمت خسرت الآخرة ، وحبط عملي.

(فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)

لعله طلب ذلك في مقابل أعماله وعباداته التي قام بها أن يطيل الله عمره ، ويمهله إلى يوم البعث.

[٨٠ ـ ٨١] فاستجاب الله طلبه ولكنه لم يحدد له موعدا معينا.

(قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)

وقد اختلفت آراء المفسرين حول المدة المعينة إلى قولين رئيسين :

الاول : أن إنظار إبليس يمتد إلى يوم القيامة.

الثانية : انه ينظر إلى يوم ظهور الحجة (عج).

وربما لم يعلم الله إبليس بساعة معينة للمهلة التي أعطاها إياه لكي يسلبه الاطمئنان ، ولعل هناك حكمة أخرى لعدم إعطاء الرب موعدا محددا لنهاية إبليس

٤١٢

تتجلي في إعطاء الرب قدرة محاربة الشر ، واقتلاع شأفته للبشر ، حيث وهب لهم امكانية القضاء على إبليس نهائيا في اليوم المعلوم ، وربما تلتقي هذه الحكمة مع ظهور الامام الحجة (ع) وظهور الحق على يديه ـ بإذن الله ـ حيث انه بدوره يعتمد في جانب منه على ارادة أهل الحق والله العالم.

[٨٢ ـ ٨٣] وعندها استشاط اللعين غضبا ، اقسم بعزة الله على إغواء أبناء آدم ، وإذ يقسم بعزة الرب فهذا دليل على ان معصيته لم تكن عن جهل بعظمته وقدرته تعالى ، انما مارسها عن وعي وعناد.

(قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)

والناس امام إغواء الشيطان على ثلاثة أصناف : فمنهم من يحيط به ، ويستجيب له في كل شيء وهم المشركون والكافرون ، ومنهم ممن تكون مسيرتهم العامة في الحياة سليمة ولكنهم يخضعون له ، ويضعفون أمامه بعض الأحيان وهم أصحاب الدرجات العادية من الايمان ، ومنهم من لا يقدر على تحريفهم أبدا وهم المخلصون الذين تمحّضوا في الإيمان كالأنبياء والأولياء ، والذي يحدد انتماء الإنسان لاي من هذه الفرق هو مدى إيمانه وعمله وإرادته ، وهذا الاستثناء من إبليس اعتراف واضح بإرادة الإنسان ، ونسف لجميع الحتميات المزعومة ، لأن ضغوط الشيطان واغراءاته مع ذلك يستطيع البشر مقاومتها وقهرها بإرادته.

وهذه هي الفكرة المركزية في سورتي «ص والصافات» إذ تؤكد السورتان : ان من بين عباد الله عباد خلصوا لله من كل العلاقات المادية والشركية ، فلا سبيل للشيطان عليهم.

[٨٤ ـ ٨٥] وفي مقابل قسم إبليس بإغواء العباد قطع الله على نفسه عهدا ان

٤١٣

يدخله ومن تبعه جهنم ، وان يملأها منهم.

(قالَ فَالْحَقُ)

ان الجزاء حق اولا لأنه يجري أساس سنة الجزاء العادل المنسجمة مع سنن الله في الحكمة في الخليقة ، وثانيا لأنه واقع لا ريب فيه.

ثم أكد هذا التعهد بجملة تأكيدية ، وقال :

(وَالْحَقَّ أَقُولُ)

بلى. كلام الرب تعبير دقيق عن حقائق الخليقة بلا أدنى اختلاف.

(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)

ولا تعني هذه الآية ان الله يدخل العباد إلى النار جبرا ، إنما هم الذين يختارون طريق الباطل المنتهي إليها ، وانما أشار الله إلى كثرة من يدخلها لعلمه الذي أحاط بالمستقبل احاطة تامة ، وفي القرآن تتكرر الآيات التي تشبه هذه الآية ، ومع ذلك يبعد الكثير منا عن نفسه التهمة فيعتقد ان النار خلقت للآخرين ، بينما يؤكد الله على امتلاء جهنم بالعاصين حتى لا يصيبنا الغرور والعجب بإيماننا وأعمالنا فنتوقف أو نتوانى في عمل الصالحات ، وحتى نظلّ نسعى جهدنا لإنقاذ أنفسنا من جهنم بدافع الخوف من الخزي والعذاب يوم القيامة ، وقد ورد في تفسير الآية الكريمة : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (١)

عن أئمة الهدى (ع) ان كل العباد يمرون فوق الصراط الذي ينصبه الله على النار ، ولا يجوزه الا المخلصون ، اما من تمحض في الكفر والشرك فانه يخلد فيها أبدا

__________________

(١) مريم / (٧١).

٤١٤

ويبقى الذين عندهم بعض المعاصي والذنوب ، فيها فترة يطهرون منها بالعذاب وكل يلبث فيها بقدر انحرافه.

ولو بحثنا في الأسباب التي تؤدي بالإنسان إلى جهنم لوجدناها كثيرة جدّا ، وعلينا باليقظة الشديدة حتى نتّقيها ، ونتقي بذلك نار جهنم.

[٨٦] والملاحظ في هذه السورة المباركة وبالذات عند الحديث عن قصة إبليس ، وهكذا في كثير من موارد القرآن تكرار الابتداء بفعل الأمر «قل» ولعل ذلك للأسباب التالية :

الاول : لكي يتأكد لنا بأن القرآن ليس من عند الرسول ، وانما هو واسطة بين الله وعباده ، ودوره بالنسبة إلى الآيات ينحصر في قراءتها على الناس ، فهو ليس بمفتر ولا بإله ، انما هو مبلغ لرسالات ربه.

الثاني : يتركز هذا الأسلوب عند الحديث عن الأشياء الغيبية كقصة السجود لآدم (ع) والتي وردت في هذه السورة ، وذلك لكي لا يعتقد الناس بأنها ضرب من الوهم والخرافة ، أو أنها مجرد تصورات إنسان مثلهم محدود العلم فلا يصدقوها.

ولهذا أيضا قدم قول الرسول بأمر من الله ، حيث أراد الحديث عما جرى في الملأ الأعلى (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ثم أكّد أن ما سوف أقوله لكم عن الغيب هو من عند الله «إِنْ يُوحى إِلَيَ» ثم بدأ الحديث عن الغيب ، وضمّنه في مطلع كل آية ـ تقريبا ـ ما يدل على نزوله من الله وهو فعل «قل».

الثالث : ان الأمر بالإعلان عن شيء بصيغة (قل) آكد من بيانه للعلم. أفلا ترى ان قوله سبحانه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أشد تأكيدا من قول : (هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ذلك لأن من يعلم شيئا قد لا يكلف نفسه أمر الانصياع له أو إبلاغه للآخرين ،

٤١٥

بخلاف ما لو قيل له (قل) فانه يعني الالتزام بما يقوله ، بالاضافة إلى بيانه وتحدي الآخرين به.

وهكذا نجد القرآن هنا يأمر الرسول بالإعلان عن تجرد دعوته من المطامع المادية ، وانه لا يطالبهم بأجر.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)

وانما يدعوهم إلى الحق ، وهذا الإعلان يعكس شخصيته الرسول التي تشهد بصدقه ، كما انه يعتبر التزاما ادبيّا أمام الناس بعدم المطالبة بأجر ، ثم أمره ببيان أبرز صفاته الحسنى وقال :

(وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)

ولماذا يتكلف صاحب الحق وهو يحمل للناس رسالة تتفق مع فطرتهم ، وتؤيدها عقولهم وجميع سنن الحياة وقوانينها لأنها رسالة رب العالمين ، بلى. ان الذي يحتاج الى التكلف هو صاحب الباطل ، لأن ما يأتي به ليس سوى شذوذ يرفضه كل ما في الحياة ، وتأباه النفوس بفطرتها ، فلكي يخدع الناس به لا بد أن يتكلف ، ويتوسل بأساليب ملتوية ، وكمثال على ذلك الكاذب ، فانه وهو يريد الحديث عن شيء غير واقعي لا يصدّقه الناس يضطر إلى زخرفة الكلام ، والحلف باليمين المتكررة ، اما الصادق فهو واضح في كلامه مطمئن في نفسه.

وحياة الرسول تشهد بانسيابه مع الحقائق بالفطرة النقية ، والصراحة البالغة ، والبصيرة النافذة ، فلا يستعجل أمر ربه ، ولا يتكلف حكما ما انزل الله به قرآنا ، ولا يجبر الله على شيء لم يبلغوا مستواه ، ولا ينازع أحدا حقّه أو سلطانه ، ولا يجزع ، ولا يهلع ، ولا يستأثر ، ولا يتصنع ، ولا يغلّ ، ولا يغش ، ولا يطلب سوى صراح

٤١٦

الحق ، وواضح الرأي.

وفي النصوص الاسلامية بيان لصفات المتكلفين ، فعن الامام الصادق (ع) انه قال

«المتكلف يخطئ وان أصاب (فهو إن أصاب في غايته ومحتوى كلامه إلّا أنه مخطئ في منهجه أو العكس) والمتكلف لا يستحلب في عاقبة أمره إلّا الهوان ، وفي الوقت الا التعب والعناء والشقاء (لأنه يتحرك خلاف سنة الحياة) والمتكلف ظاهره رياء وباطنه نفاق ، وهما جناحان بهما يطير المتكلف ، وليس في الجملة من أخلاق الصالحين ، ولا من شعار المتقين ، والمتكلف في اي باب كان قال الله تعالى لنبيه (وتلى الآية)» (١)

وقال الرسول الأكرم (ص) :

«للمتكلف ثلاث علامات ، ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم» (٢)

وعن أمير المؤمنين (ع) انه قال :

«ان المسلمين قالوا لرسول الله (ص) لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا ، فقال رسول الله (ص) : ما كنت لألقى الله ـ عزّ وجلّ ـ ببدعة لم يحدث إليّ فيها شيئا وما انا من المتكلفين» (٣)

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٤٧٣).

(٢) المصدر.

(٣) المصدر.

٤١٧

[٨٧] وتعرف الرسالة بالرسول الداعي إليها ، فهو الصادق الأمين ، الذي لا يطلب أجرا ولا يتكلّف أمرا ، وتعرف الرسالة أيضا بمحتواها ، كما يعرف الرسول بمثل تلك الرسالة.

ومن أبرز علامات الصدق في رسالة الإسلام عالميتها فهي تتجاوز الحدود والأطر لتكون لجميع الناس ، فلا عشائرية ، ولا عنصرية ، ولا قومية ، ولا طبقية ، ولا اقليمية ، ولا ... ، بلى. ان ما نزل من عند رب العالمين يكون لكل العالمين ، اما ما انبعث من فكر الإنسان المحدود فهو محدود بحدود ذلك الإنسان.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)

والإنسان في كل مكان وزمان فطرته واحدة ، والقرآن يشير إلى هذه الفطرة بما تنطوي عليه من تسليم واعتقاد بالحقائق التي تشتمل عليها ، وذلك عبر التذكير.

[٨٨] وإذا لم يتذكر البشر ويصدق بما جاء به القرآن فهر قد طمس فطرته ، وعطل عقله ، وانما يكتشف صدق الرسالة بعد الموت ، أو أثناء الحياة عند التجلي الأعظم له.

(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)

وهذا التحذير المبطن يكفي الإنسان خوفا من عواقب التكذيب بالحق ، وممارسة الانحراف والمعصية ، ويهدي إلى التصديق بالرسالة ، وعدم الاسترسال في الغفلة والضلال.

٤١٨

سورة الزمر

٤١٩
٤٢٠