من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

الصفات السلبية ، كالحسد والطمع ، وحب الدنيا. و.. و.. أما المؤمنون فإنهم يتغلبون على كلّ ذلك بالإيمان الذي يحصنهم ، وبالعمل الصالح الذي يثبت الإيمان ويعودهم على فعل الخير. ولكن القليل هم المؤمنون الذين يصرعون شهواتهم.

معنى الفتنة :

وبهذا الاستطراد أنهى داود (ع) القضية لصالح صاحب النعجة الواحدة ، أما بقية الآية فهو اضافة من عند الله عزّ وجلّ تتضمن نقدا لتصرفه عليه السلام وبيانا للخطأ الذي بدر منه وأخيرا موقفه من موعظة الله له.

(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ)

ماذا كانت فتنة الله لداود التي انتبه إليها وتصورها فورا ، إذ انها جاءت في صورة نزاع بين اثنين كانا في الواقع ملكين أراد الله أن يعلم من خلال قضيتهما طريقة القضاء لداود؟

في هذه الآية قولان :

الاول : أن الذين تسوروا هم الملائكة وكان الهدف امتحان داود (ع) فهو لم يعرف بأنهم ملائكة ، ثم إنهم لم يريدوا من سوالاتهم هذه أن يحكم لهم داود في النعاج بالمعنى الظاهر والمتعارف لأنهم أساسا لا يملكون نعاجا ، ولم تحدث لهم قضية من هذا النوع ، انما أرادوا صرفه الى قضية اجتماعية ولكنه لم يتوجه الى مقصدهم في البداية ، ثم أدرك ذلك فتاب الى ربّه توبة نصوحا.

والقضية الاجتماعية هي أنه كانت لديه (٩٩) امرأة بين حرّة وأمة ، فعشق

٣٤١

زوجة جميلة لرجل من بني إسرائيل يقال له (أوريا) فأراد أن يتزوجها لتتم له مائة زوجة ، فقدمه في أحد الحرب ليقتل ويتم له الأمر فقتل ، وتزوجها داود. فأرادت الملائكة أن تبين له خطأه هذا. في الرواية : فكتب داود عليه السلام الى صاحبه الذي بعثه أن ضع التابوت بينك وبين عدوك ، وقدم أوريا بن حيان بين يدي التابوت فقدمه وقتل ، فلما قتل أوريا دخل عليه الملكان وقعدا ولم يكن تزوج امرأة أوريا وكانت في عدتها ، وداود في محرابه يوم عبادته ، فدخل الملكان من سقف البيت وقعدا بين يديه ، ففزع داود منهما فقالا : «لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» ولداود حينئذ تسعة وتسعون امرأة ما بين مهيرة الى جارية ، فقال أحدهما لداود : «إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» أي ظلمني وقهرني فقال داود كما حكى الله عزّ وجل : «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» الى قوله : «وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ» قال : فضحك المستعدى عليه من الملائكة وقال : حكم الرجل على نفسه ؛ فقال داود : أتضحك وقد عصيت؟ لقد هممت أن أهشم فاك قال : فعرجا وقال الملك المستعدى عليه : لو علم داود انه أحق أن يهشم فاه منى ؛ ففهم داود الأمر وذكر الخطيئة فبقي أربعين يوما ساجدا يبكي ليله ونهاره ولا يقوم إلّا وقت الصلاة حتى انخرق جبينه وسال الدم من عينيه (١)

وهكذا نجد الملوك يفتشون عن هذه الثقافة عند ادعياء الدين لينشروها ، ويبرءوا أنفسهم من الظلامات التي يرتكبونها.

وقد نقل الفخر الرازي في تفسيره الكبير انه حضر في بعض المجالس ، وحضر فيه بعض أكابر الملوك ، وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيثة لسبب اقتضى ذلك ، ويمضي الفخر الرازي في بيان فساد هذا الرأي وإسكات

__________________

(١) نور الثقلين ج ٤ ص ٤٤٩.

٣٤٢

ذلك الملك.

وهذا القول مردود عليه في أكثر الروايات نظرا لمتنه الذي يمس بكرامة الأنبياء وتقواهم فعن الشيخ الصدوق رحمه الله ، باسناده الى أبي عبد الله (ع) ، أنه قال لعلقمة

«إن رضا الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ألم ينسبوا داود (ع) الى أنه تبع الطير حتى نظر الى امرأة (أوريا) فهواها ، وأنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها» (١)

وقال الامام أمير المؤمنين (ع) :

«لا أوتى برجل يزعم أن داود تزوج امرأة أوريا إلّا جلدته حدين ، حدا للنبوّة وحدا للإسلام» (٢)

ونجد هذا الرأي مكتوبا في التوراة الموجودة في أيدي الناس ، وهذا دليل على أنها محرفة ، وإلّا كيف تنسب الى حاكم بل نبي من أنبياء الله هذه التهمة الرخيصة ، وهو يؤتمن على رسالة الله وعباده؟

والأشكل في الأمر أن هذا الرأي تسرب الى كثير من تفاسيرنا ، وحينما نقتبس افكارنا في تفسير القرآن من التوراة المحرفة ، وننسب للأنبياء هذا الظلم والانحراف ، بل هذا الشذوذ ، عندها لا نرى ضيرا إذا حكمنا رجل كالمتوكل العباسي ، أو معاوية ابن أبي سفيان وولده يزيد ، لأنه إذا كانت ثقافتنا مشوبة بهذه الأفكار الباطلة ، فانها سوف تدعونا لاتباع السلاطين والملوك الظلمة على أنهم خلفاء لله

__________________

(١) نور الثقلين ج ٤ ص ٤٤٦.

(٢) نور الثقلين ج ٤ ص ٤٤٦ نقلا عن المجمع.

٣٤٣

وأمناء على الرسالة.

الثاني : الفتنة التي تعرض لها داود ، هو مبادرته لاصدار الحكم من دون سؤال صاحب النعجة الواحدة عن البينة ، ولا الاستماع الى رأي المدعى عليه ، إذ لا يجوز للقاضي ـ من الناحية الشرعية والمنطقية ـ أن يصدر حكما في قضية ما قبل التحقيق فيها ، والنظر في سائر الحيثيات التي تتصل بها.

يقول الامام الرضا (ع) بعد أن ضرب يده على جبهته ، وهو يرد على الرأي الأول ويبين الرأي الثاني : «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله عليهم السلام الى التهاون بصلوته ، حتى خرج في أثر الطير ، ثم بالفاحشة ثم بالقتل؟ فقال : يا ابن رسول الله فما كانت خطيئته؟ فقال : ويحك ان داود عليه السلام انما ظن انه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه ، فبعث الله عز وجل اليه الملكين فسورا المحراب فقال : «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» فعجل داود عليه السلام على المدعي عليه ، فقال : «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» ولم يسئل المدعي البينة على ذلك ولم يقبل على المدعى عليه ، فيقول له : ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم اليه ألا تسمع الله عز وجل يقول : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) إلى آخر الآية فقال (أي الراوي) : يا ابن رسول الله فما قصته مع أوريا؟ قال الرضا (ع) : إنّ المرءة في أيّام داود (ع) كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعده أبدا ، فأوّل من أباح الله عزّ وجلّ له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داود (ع) ، فتزوّج بامرأة أوريا لمّا قتل وانقضت عدتها فذلك الذي شقّ على الناس من قبل أوريا (١)

__________________

(١) المصدر ص ٤٤٦.

٣٤٤

(فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ)

إنّه لم يترك فرصة لوساوس الشيطان وتسويفاته ، إنّما بادر مباشرة ، إلى الاستغفار والتوبة ، وأيّ باب للتوبة أوسع من الصلاة والدعاء. ألم يقل الله تبارك وتعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (١) وقال في الصلاة : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (٢)

[٢٥] وحينما وفّر (ع) شروط التوبة في نفسه ، من صدق الندم ، وإصلاح ما فسد ، والضراعة إلى الربّ بقلب منكسر ، استجاب الله له.

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ)

التوبة تزيل خطأ الإنسان ، وتمحو آثاره الرجعية ، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع ، بل وتقدّمه خطوات إلى التوبة تزيد الإنسان حصانة ، وتقيه خطر الهلاك بالذنوب والأخطاء. وليس أضرّ على الإنسان من ذنب يعتز به ، وخطأ يصرّ عليه مستكبرا.

وأهمّ معطيات التوبة أنها ترفع الإنسان درجات عند ربّه ، وتورثه المنازل الرفيعة في الجنّة.

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)

وهذا خلاف لتصورات الإنسان السلبية من أن التوبة تسبّب له الذّلة ، وأن العزّة بالإثم هي الأفضل ، لأنها في نظره السبيل للرفعة.

__________________

(١) الفرقان ٧٧

(٢) البقرة ٤٥.

٣٤٥

والقرآن انما يضرب لنا مثال الاعتراف بالخطإ والتوبة منه ، من واقع النبي داود العالم الذي بلغ وولده سليمان ذروة السلطة ، لان التوبة تصعب على الإنسان حينما يكون في موقع متقدم من المجتمع ، كما لو كان والدا بالنسبة لاسرته ، أو كان عالما أمام تابعيه ، وتصل الصعوبة ذروتها إذا كان حاكما وعالما في مستوى داود ولعل هذا من حكم تعرض الأنبياء للفتنة. وان الله يكلهم إلى أنفسهم ، ويرفع عنهم عصمته لحظات معدودة فيرتكبون الهفوات ، ثم يتوبون إلى الله ليكونوا قدوات صالحة للبشرية في حقل التوبة ـ وهو أعظم حقل ـ كما هم قدوات في سائر الحقول. ولا بد لنا ونحن نخوض الصراع أن نتذكر هؤلاء العظماء كما أمرنا الله حتى لا يتكبر أحدنا على النقد والاستماع إلى آراء الناس في تصرفاته وبالتالي لكي لا يتعالى أحدنا على المجتمع باسم انه يمثل طليعته المتقدمة.

[٢٦] أهم شروط الحاكم الذي يتصرف في دماء الناس وأموالهم ، تمحوره حول الحقّ ، ولكن كيف يعرف صدق الحاكم الذي يدعي انه يحكم بالحقّ؟ إنما عند ما يخالف هواه ويتراجع عن قرار اتخذه إذا عرف انه كان خاطئا ، ويعترف أمام الناس بذلك ويتوب إلى الله ، ويصلح منهجه.

من هنا نجد السياق القرآني يذكرنا بان الرب استخلف عبده داود في الأرض بعد أن ابتلاه وعرف انه يخالف هواه ويتراجع عن الخطأ إذا عرفه.

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)

ان الأرض وما فيها من بشر وأحياء وتراب أمانة الله في عنقك ، وعنق كلّ حاكم ولا تصان هذه الامانة إلّا بتحكيم الحقّ ، أما لو تحكم الباطل فسوف تفسد الأرض ومن عليها من الأحياء والناس قال تعالى يصف الذي يتبع الباطل في حكمه : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا

٣٤٦

يُحِبُّ الْفَسادَ) (١). ولهذا عقّب القرآن مبينا أهم وظائف الحاكم وما يتصل به من مؤسسات تشريعية وقضائية وتنفيذية قائلا :

(فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ)

ولكي يلتزم الحاكم بالحق يجب أن يتجاوز أهواءه وشهواته ، حتى لا تنعكس علاقاته الاجتماعية ، ولا ضغوط الناس واغراءاتهم على آرائه في الحكم.

(وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)

ومن أجل أن نعرف معنى من معاني هذه الآية الكريمة تكفينا نظرة واحدة لواقع المسلمين ، الذين صاروا ضحية لأهواء الحاكمين في الأمة ، أو ليس أبعدوا الإسلام عن الحكم لأنه يتناقض مع أهوائهم ، ولأنهم لا يجدون فيه مبررا لنزواتهم وتصرفاتهم المنحرفة؟ وهذا هو الضلال.

ومن هذه الآية الكريمة استوحى الحديث الشريف ولاية الفقيه فقال الامام الصادق (ع) :

«فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فعلى العوام أن يقلدوه»

ويضيف الامام (ع):

«فأما من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة» الى أن يقول : «وهم أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد عليه اللعنة على الحسين بن علي (ع) وأصحابه ، فإنهم يسلبونهم

__________________

(١) البقرة ٢٠٥

٣٤٧

الأرواح والأموال» (١)

ثم يهدد ربّنا أولئك الذين يبتعدون عن الحقّ والسبيل المستقيم بسبب أهوائهم فيقول :

(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)

وقال يوم الحساب ولم يقل القيامة ، لان الذي ينسى أنه محاسب أمام الله على كلّ حركاته وسكناته ، وعلى أهوائه بالخصوص ، يفقد اتزانه وضوابطه في الحياة فيخالف الحقّ ويتبع الهوى من دون حساب.

أخطاء الأنبياء :

وكلمة أخيرة : لماذا نجد في القرآن تشهيرا بالأنبياء وأخطائهم كقوله تعالى عن آدم (ع) (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٢) أو عن النبي يونس (ع) : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣) وعن داود (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (٤) وعن النبي الأكرم (ص) : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (٥)

الجواب : هناك حكم كثيرة ، من أبرزها معرفة الناس أن الأنبياء ليسوا بآلهة فلا يرفعونهم إلى مقام الرب. هكذا جاء في كتاب الاحتجاج للطبرسي رحمه الله في

__________________

(١) بح ج ٢ ص ٨٨.

(٢) طه ١٢١

(٣) الأنبياء ٨٧.

(٤) ص ٣٤.

(٥) الفتح ٢

٣٤٨

حديث طويل عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول فيه :

وأما هفوات الأنبياء عليهم السلام وما بينه الله في كتابه ، فان ذلك من أدلّ الدلائل على حكمة الله عز وجل الباهرة وقدرته القاهرة وعزته الظاهرة ، لأنه علم ان براهين الأنبياء عليهم السلام تكبر في صدور أممهم وأن بعضهم من يتخذ بعضهم إلها كالذي كان من النصارى في ابن مريم ، فذكرها دلالة على تخلفهم عن الكمال الذي انفرد به عز وجل ، ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى حيث قال فيه وفي أمه : «كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» يعني أن من أكل الطعام كان له ثقل ، وكل من كان له ثقل فهو بعيد مما ادعته النصارى لابن مريم.

٣٤٩

وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢)

___________________

٣١ [الصافنات] : جمع الصافنة من الخيل ، وهي التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع إحدى يديها حتى تكون على طرف الحافر وهي من علامة الجودة.

[الجياد] : جمع جيد وهي الفرس الأصلية النجيبة ، ونجابة الفرس بعرفانها صاحبها ، وسرعة سيرها ، والاهتمام بخلاص راكبها من المشكلة التي يقع فيها.

٣٥٠

رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)

___________________

٣٢ [توارت بالحجاب] : الشمس غابت واستترت تحت الأفق.

٣٣ [فطفق] : شرع.

[مسحا] : قطعا بالسيف ، وقيل معناه مسحا باليد وأن سليمان جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها بيده.

٣٦ [رخاء] : لينة بدون عنف.

٣٥١

أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ

هدى من الآيات :

عند ما طالب الكفار بتعجيل حسابهم والإسراع في إعطائهم نصيبهم (من الثواب أو العقاب) قال ربنا لرسوله الكريم : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) ومن خلال قصة داود (ع) ذكرنا كيف عجل الله له الجزاء في الدنيا متمثلا في الملك والذكر الحسن ، مما هدانا به إلى ان العمل الصالح جزاءه الأوفى (في الدنيا أو العقبى) وها هو السياق يبلغ بنا إلى الجواب الفصل لسؤال أولئك الذين أنكروا النشور ويقول : ان قصة داود تدل على انّ الحق هو محور الخليقة ، فداود بلغ ما بلغ لأنّ الله يحكم بالحق (ومن الحق جزاء المحسن بالحسن) وليس هذا سوى مثل لكل تقديرات الرب ، ومنهج تدبيره للخليقة (حيث انها قائمة جميعا على قاعدة الحق) وهذا بالتالي يهدينا إلى ان المتقين ليسوا كالفجار لأن تساويهما يتنافى والحق الذي قامت به السموات والأرض. وهكذا لا بد من الجزاء الأوفى في الآخرة.

هذا من جانب ومن جانب آخر يتنافى مبدأ الحق وخلافة الفجار في الأرض.

٣٥٢

لان هكذا خلافة لا تبلغ أهم اهداف الحياة وهو تطبيق الحق ، وبهذه الآيات ينفي ربّنا نفيا قاطعا كل الأكاذيب والأفكار الباطلة التي حاول محرفوا التوراة أو من اقتبس منهم الصاقها في نبيه داود (ع) حين اتهموه في تقواه ونزاهته. ثم يدعونا الله للتدبر في القرآن مما نجد مثيلا لهذا الأمر في سورة المائدة في موضوع الخلافة ، لاننا حينما نعرض تصوراتنا وافكارنا على كتاب الله ، فسوف تتبين لنا ان خلافة الظالمين لا تنسجم ومجمل بصائره وهداه.

ثم يحدثنا القرآن عن جانب من حياة سليمان بن داود عليهما السلام ، والذي تجاوز هو الآخر فتنة السلطة ، فلم تخرجه زينتها من خط الطاعة والانابة ، بل كان يزداد خضوعا لربه تعالى ، لأنه يعتبر كل شيء نعمة الهية تستوجب الشكر. وبذلك ضرب مثلا للسلطان الصالح كما فعل والده من قبل.

بينات من الآيات :

[٢٧] في الآيات السابقة بيّن ربنا صفات الخليفة الذي يجعله في الأرض (حيث ذكرتنا الآيات بعشرين صفة حسنة في خليفة داود) ومن أبرزها حكمه بين الناس بالحق.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً)

كيف يتخذ الباطل الرب الذي لا يجعل خليفة في الأرض الا الصالحين والذين يمتحنهم أشد الامتحان حتى يحكموا بالحق.

ان آيات الحكمة البالغة تتجلى في أصغر شيء خلقه الله ، في النحلة والنملة ، في الشعر والوبر ، في الخلية الواحدة ، في الذرة الواحدة ، في البروتون والالكترون. فكيف لا تتجلى الحكمة في مجمل خلق السموات والأرض؟! أم كيف يخلقهما الله

٣٥٣

باطلا بلا حكمة بلا هدف بلا تقدير؟! سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

(ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)

لأنهم قيّموا الحياة بأفكار الكفر المسبقة لم يهتدوا إلى الحق. ومع ذلك لم يصلوا في نفيه إلى حد قطعي (العلم) لأنهم أينما نظروا وإلى أي شيء منها وجدوا فيه آثار القدرة والحكمة.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)

لأن الله خلق السموات والأرض بالحق ، فانه لن يدع الكفار سدى بل لا بد ان يجازيهم بأعمالهم التي تجاوزت كل حد معقول في مخالفة الحق بل لهم الويل والثبور.

[٢٨] وتبيانا لهذه الحقيقة يهدينا الرب إلى ان سنة الحق القائمة في كل شيء مخلوق تأبى تساوي المتقين الذين يتجنبون العذاب ، وأسبابه وعوامله. والفجّار الذين لا يبالون اي واد يقتحمون ، واي ضلالة يتيهون فيها ، واي جريمة يرتكبونها.

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)

وبذلك كسبوا الحسنات.

(كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ)

ويبدو ان تخصيص المفسدين بالذكر ينسجم وقصة داود (ع) المتمثلة في شروط خليفة الله في الأرض.

وان الخليفة الشرعي ليس كل من ملك الأمور بالقوة ، انما الذي يملكها بالحق.

٣٥٤

ولهذا لا بدّ من التفريق بين حاكم وحاكم ، خلافا لما ذكره البعض من أن الحاكم الشرعي هو الذي حكم بالسيف ، سواء كان مصلحا أم مفسدا ، والواقع انهم أرادوا تبرير مواقفهم من بعض أحداث التاريخ ورجاله ، فهم يؤمنون بأن عليا (ع) ومعاوية سواء بينما يرفض ذلك منطق القرآن.

هل الامام علي (ع) الذي يطوي نهاره صائما وليله قائما عابدا ، ويتقاسم قوته مع الفقراء ، بل ويؤثرهم على نفسه وعياله (مسكينا ويتيما وأسيرا) ويعدل في الرعية يستوي هو والذي يغتصب حقوق الآخرين ، ويسفك دماء الناس ، ويتلاعب بمقدرات الأمّة؟! كلّا ..

إن السلطة سلاح ذو حدين ، فهي إذا تسلمها المؤمنون تصبح وسيلة للإصلاح والاعمار ، أما لو كان العكس فانها ، تمسي معولا يهدم المنجزات ويحطم الطاقات. وربّنا في هذه الآية لم يقابل (الَّذِينَ آمَنُوا) بجماعة معينة (كَالْفُجَّارِ) مثلا ، انما قابلهم بالمفسدين في الأرض ، ليبين لنا بأن كل سلطة غير سلطة المؤمنين هي مفسدة في الأرض.

(أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)

إن ذلك لا يصح ولا يكون ما دام الحق هو أساس الحياة ومقياسها. إلّا أن تتبدل هذه المعادلة ، وهذا ليس الّا في ظن الكافرين.

[٢٩] والحق يتجلى في السماء والأرض وما بينهما. وآيات القرآن هي التجلي الآخر للحق ، ومن تدبر في القرآن وجد انه الكتاب الناطق بما يجد في آيات الخليقة ، فاذا ادى قلبا واعيا وتبصر انه كتاب أنزله خالق السماء والأرض ، لأنه ليس سوى صورة صافية للخليقة.

٣٥٥

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ)

وحدد الله لهذا الكتاب غايات سامية فقال :

١ ـ (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ)

فالقرآن انزل لكي يعطي للإنسان المؤمن البصيرة والرؤية السليمة في الحياة. وهذا لا يمكن بالمطالعة السطحية ، بل لا بد من تفكر عميق في الآيات.

٢ ـ والهدف الآخر بعد ادراك البصيرة أن تنعكس على حياة الإنسان فيتذكر بها ويصحح من خلالها في التفكير ، وفي العمل منهجه.

(وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)

لان العاقل هو الذي يعرف قيمة القرآن ، وأهميته ، وهو الذي يتعرف على بصائره. ولا شك أن الذي يحكم عقله في الحياة هو الذي يستفيد من القرآن ، أما الآخر الذي تحكمه شهواته فلن يتذكر به أبدا.

ونتسائل : ما هي صلة هذه الآية بالسياق؟ ونجيب اولا : بأنّ استنباط منهج الخلافة الاسلامية من القرآن صعب مستصعب لا يحتمله الا من امتحن الله قلبه بالايمان ، وعرف انه لا يمكن ان يعترف بالقرآن بسلطة تجانب قيمة الحق ، ومنهج التوحيد. أو ليست السلطة السياسية تجسّد قيم المجتمع. فكيف تستطيع سلطة فاسدة تطبيق قيم القرآن الاصلاحية؟!

وهكذا أشار السياق إلى ضرورة التدبر والتذكر لتبصر هذه الحقيقة التي تتراكم عليها حجب الشهوات والضغوط.

٣٥٦

ثانيا : بأن منهج القرآن في توعية الإنسان باليوم الآخر منهج فريد ، ولا يبلغ فهمه غير الذين يتدبرون في آيات الكتاب ويتذكرون بها.

[٣٠] وينقلنا السياق إلى قصة سليمان (ع) بعد ان استوحى عبر قصة داود (ع) وتلتقي القصتان في أنهما مثل لتجاوز الإنسان فتنة السلطة والقوة.

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)

فميزة سليمان وعظمته الحقيقية ليست في انتمائه إلى رجل عظيم كداود (ع) ولا في سلطانه انما في عبوديته لله سبحانه. ولو لم يكن من أهل الايمان لما امتدحه في كتابه. فبه استطاع أن يتجاوز أكبر فتن الحياة ، وهي فتنة لسلطة فقد ملك (ع) ما لم يملكه أحد من الناس ولن يملكه من بعده ، ولكنه لم يغتر بزينة الدنيا ، انما تجاوزها وتوجه لله ، يتعبد ويضع نفسه في موقع المذنب ثم يتوب وهو المعصوم من الذنوب وانما يعظم ربّه عزّ وجل. وكيف يتكبر هؤلاء على ربهم وهم يعلمون بأن ما عندهم من فضله ، وأن طريق الاستزادة هو المزيد من التذلل له والتضرع اليه؟!

[٣١] وتجسيدا لاوبة سليمان وتعبده لله ، يعرض لنا القرآن صورة من حياته (ع).

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ)

وهي الخيول المروضة من أجودها ، وكانت يستعرضها سليمان كلما أراد الجهاد.

[٣٢] وفي ذات يوم استعرضها وربما لكثرتها بقي معها طويلا حتى غابت الشمس (أو كادت) وفاتته فضيلة صلاة العصر ، ولم يكن حينها وهو يعد العدة

٣٥٧

للجهاد مشغولا بأمر من أمور الدنيا ، ومع ذلك استغفر ربه وعدّه تقصيرا يستوجب التوبة.

(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ)

وكونه سلطانا لم يمنعه من الاعتراف بالخطإ ، ولو كان بمقدار ترك الاولى بسبب عمل خير آخر يحبه الله.

فالمعنى شغلني الجهاد عن الصلاة ، والاثنان واجبان ، الا أن الصلاة أفضل ، وهل يجاهد المؤمنون إلّا لإقامتها؟

[٣٣] ولمّا توجّه سليمان (ع) الى فوات الوقت ، استراح عن الجهاد فقضى صلاته ، ثم عاد ثانية ، فقال :

(رُدُّوها عَلَيَ)

يعني جياد الخيل ، لكي يستمر في تفقدّ الجيش.

(فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ)

وكان المسح على أعناق الخيل وسيقانها عند أهل الخبرة طريقا لمعرفة الجيد منها ، وكان سليمان (ع) بعد إجراء هذه يقسمها على أفراد جيشه مما يدل على اهتمامه به.

قال ابن عباس سألت عليا (ع) عن هذه الآية ، فقال : ما بلغك فيها يا ابن عباس؟ قلت : سمعت كعبا يقول : اشتغل سليمان بعرض الافراس حتى فاتته

٣٥٨

الصلاة ، فقال ردوها علي يعني الافراس وكانت أربعة عشر فأمر بضرب سوقها : وأعناقها بالسيف فقتلها فسلبه الله ملكه اربع عشر يوما ، لأنه ظلم الخيل بقتلها. فقال علي (ع):

«كذب كعب لكن اشتغل سليمان بعرض الافراس ذات يوم لأنه أراد جهاد العدو حتى توارت الشمس بالحجاب (الى ان قال) وإن أنبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم لأنهم معصومون مطهرون» (١)

[٣٤] ثم إن القرآن يحدثنا عن الفتنة التي تعرض لها سليمان عليه السلام. فقد تمنى على الله ان يكون له ولد يرثه كما ورث هو داود (ع) لكن الله لم يستجب له إنّما أسقط على كرسيه جسدا ميتا اجهضته امرأته.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً)

كناية عن الابن الميت ، وكان يتمنى أن يجلس على كرسيه ولد يحكم بعده ، فتأثر بعض الشيء لذلك ، ولكنه فكر في نفسه ورجع إلى ربه.

(ثُمَّ أَنابَ)

[٣٥] وقد اعتبر موقفه هذا ـ وهو النبي ـ زللا ، وأن هذه فتنة عليه أن يتجاوزها بالدعاء والاستعانة بالله ، لأنه علم أن عدم تحقيق الله لامنياته يدل على أن ذلك ليس من المصلحة أبدا.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي)

أن تمنيت عليك ما لا يتفق مع حكمتك لان علمي قاصر عن ادراك ذلك ثم

__________________

(١) المجمع / ج (٧ ، ٨) / ص (٤٧٥).

٣٥٩

طلب من الله شيئا آخر غيّر من خلاله أمنيته ، قال :

(وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)

وفي هذه الآية الكريمة تتبين آداب الدّعاء عند الأنبياء عليهم السلام.

ففي البداية يجب أن يعرف العبد بأن ما سيطلبه من الله ليس حقا له على الله استوجبه بعمله أو عبادته ، انما هو هبة يعطيها له الربّ من عنده تفضلا إن شاء أو يمنعها ، وبالاضافة إلى تناسب هذا الأدب ومقام الربوبية ، فانّه يعطي المؤمن مناعة ضد ردود الفعل المحتملة لو لم يستجب له.

ثم إن الطلب يجب أن يكون عظيما وكبيرا ، وينبغي للإنسان ان يطلب من ربّه وهو القادر العزيز الكريم مطالب جسيمة ، فيخرج من نظرته البشرية المحدودة التي تفرض عليه آمالا محدودة ، ويدعو الله انطلاقا من معرفته بصفاته وأسمائه الحسنى. فهذا سليمان (ع) يدعو الله أن يهبه ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعده.

ويستوحى من السياق ان سليمان (ع) طلب من الله بديلا عن الأولاد الذين حرم منهم ، بان يختصّه برحمة الهية خاصة لتمضي الأجيال تذكره ، به أو ليس الإنسان يستمر بعقبه وبما اختص به. فسأل الله من الملك ما لم يعط أحدا ولا ينبغي لأحد ، وفعلا خصه الله بتسخير الجن والريح والطير له ، كما تقرّر الآيات التالية ، وبالاسم الأعظم حسبما نقرأ في آيات أخرى (١)

ولكن ليس الملك لذات الملك وللذة الحياة الدنيا ، انما أراد من خلال الملك والسلطان أن يقيم حكومة الله في الأرض ، ليقضي على واقع الشرك السياسي

__________________

(١) نجد تأييدا لهذه الفكرة في الحديث رقم (٥٦) من تفسير نور الثقلين ج (٤) ص (٤٥٩ ـ ٤٦٠).

٣٦٠