من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

بمصير القرون التي كانت من قبلهم ـ كيف أهلكهم الله فلم يرجع منهم أحد أبدا ـ فإنّ ترسانات الأسلحة لا بد أن تثور يوما لتصب الحمم على رؤوس صانعها والساكتين عنهم من الناس ، أو يخسف الله بهم الأرض ، أو يسقط عليهم من السماء كسفا ، أو ينشر فيهم وباء كوباء الايدز فلا يستطيعون ردّه.

إذا علينا جميعا أن نعي رسالة ربنا العزيز الرحيم ، ونأخذ إنذاره مأخذ الجدّ ، والّا فساعة الجزاء رهيبة ، ولا ينفع يومئذ الندم ، كما لا تنفع التوبة شيئا.

١٢١

وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)

___________________

٣٩ [كالعرجون القديم] : العرجون هو العذق اليابس المقوس.

١٢٢

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)

١٢٣

ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ

هدى من الآيات :

بعد أن تهيّأت النفوس الطيبة ، لتلقّي آيات الله ، وذلك بذكر العاقبة السوءى التي تعرّض لها أصحاب القلوب المغلقة ، يشرع القرآن بالتذكير بالله عبر آياته ، وأوّلها آية الحياة التي يبثها الربّ في الأرض الميتة (كما يحيي بالرسالة القلوب) ويخرج منها الحب (الذي يشكل أعظم طعام البشر) كما يجعل فيها جنات ذات أشجار النخيل (المتنوعة الفوائد) وكروم العنب (الذي هو من الثمرات المفيدة كما التمر) وفجّر الله الأرض عيونا تجري بالبركات ، والأهداف الثلاثة منها هي : أن يستفيد منها البشر رزقا ، وليصنع فيها ما يشاء من حاجاته ، ولكي يشكر ربّه.

(وبعد آية الحياة) يذكّرنا الربّ بآياته ـ سبحانه ـ في الخليقة ، ومن أروعها آية الزوجية التي تشمل البشر والأحياء وغيرهما (مما تدلنا على أنّ ربنا منزّه عن الحاجة).

١٢٤

(ومن طعام البشر ونظام حياته القائم على أساس التزاوج ، الى بيان آيات ربنا في الآفاق) هذا الليل كيف يسلخ منه النهار (مما يدل على أنّ أوّل ما خلقه الله هو النهار ، ثم سلخه فكان الليل) فإذا هم مظلمون.

والشمس (التي هي محور منظومتنا) تجري بسهولة ويسر (ولكن ضمن خطة مرسومة ، والى نهاية معلومة تستقر عندها) ذلك تقدير العزيز العليم (الذي رسم للشمس مدارها بعلمه ، وسخّرها بعزته).

أمّا القمر فقد قدّره الله أيضا (كما قدّر الشمس) ضمن منازل يجري عبرها يوميا حتى عاد في نهاية الشهر كما العرجون القديم ، ذابلا مصفرّا.

وكلّما تعمّقنا في الخليقة ظهرت آثار التقدير والتدبير أكثر فأكثر ، فلا الشمس يجوز لها أن تسارع حتى تكون كالقمر في سرعة حركته (فإنّ مدار الشمس سنوي ومدار القمر شهري) ولا الليل (الذي يحتوي القمر عادة) يسبق النهار ، ويتجاوز حدوده ، بل كلّ جرم يسير بسرعة معينة في مداره المرسوم له.

(وهكذا يستطيع البشر أن يطمئنّ الى النظام المحيط به ، وأن ينظّم حياته وفقه بدقّة متناهية ، وأن يبني حضارته على هذا الأساس).

وهناك نعمة أخرى ضرورية لسعادة الإنسان وحضارته ، هي نعمة السفن التي هي آية إلهية. إنّها لآية تهدينا الى ربنا ، وتعرّفنا بعزّته ورحمته ، فهي تمخر في البحار ، وتحمل الناس والبضائع الكثيرة ، أمّا في البر فقد خلق الله لنا الأنعام التي تشبه السفن.

(وليس تسخير السفن أو الانعام من صنع البشر ، لأنّه إذا لم يهيء الله الأمور للاستفادة منها فلن يقدر البشر على ذلك) ودليل ذلك أنّه : لو أراد الله إغراقهم

١٢٥

فهل يغيثهم أحد أو يقدر على إنقاذهم؟ كلّا ...

بينات من الآيات :

[٣٣] لأنّ القلب الغافل كالصخرة الصماء لا ينتفع بالآيات شيئا ، فإنّ المنهج السليم هو إنذاره بتنبيهه ، وذلك أوّلا : ببيان عاقبة الغفلة ، وثانيا : بتخويفه بمصير الغابرين الرهيب ، وثالثا : بتصوير مشهد من العذاب الأليم الذي ينتظره ... كذلك ابتدأت سورة يس بإنذار مبين ، مما خشعت به القلوب الطيبة وتهيّأت لاستقبال نور الإيمان الذي تحمله آيات الله في النفس وفي الخليقة.

وأولى الآيات هي هذه الحياة التي يبعثها الرب في الأرض الميتة ، وهي شبيهة بحياة الإيمان التي ينفخها القرآن بالتذكرة بآيات الله.

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها)

موت الأرض منها ، ولكنّ حياتها من الله ، كذلك الغفلة من الإنسان بيد أنّ إيمانه بالله.

والحياة أروع ما نشاهده في الطبيعة ، إنّنا نحبها لأنّنا أحياء بها ولا نرضى بمفارقة الحياة ، وإنّنا نكرمها ونعظمها لما فيها من آيات القدرة والجمال.

ويذكرنا الربّ بالحياة التي يبعثها في الأرض الميتة لعلنا نزداد معرفة بقدرة ربنا على إحيائنا مرة أخرى للحساب والجزاء.

(وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ)

أو ليس الحبّ أكثر طعام أهل العالم ، وزراعة القمح تعتمد على المطر أكثر من

١٢٦

أيّ زراعة أخرى؟

[٣٤] ومن آيات الله الأشجار التي تظلّل الأرض ، ومن الأشجار التي يستفيد منها البشر ـ وبالذات في المحيط العربي ـ النخيل ، التي تدخل في صناعة الأدوات المنزلية ، كما ويبنى بها البيوت ، ويتخذ من ثمرتها طعاما وإداما وسكرا ، ويحتفظ بها من أيام ينعها إلى سائر أيّام السنة ، وتهدى من بلد الى بلد ، وهي في ذات الوقت أفضل طعام للإنسان ، لأنّ فيها أكثر ما يحتاجه الجسد من مواد ، حتى روي انها بمثابة عمّة الإنسان ، فعن الرسول الأعظم (ص) قال :

«أكرموا عمتكم النخلة»

(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ)

إنّ الأشجار يحتاج بعضها الى بعضها ، ولعله لذلك تذكر بصورة مجموعة «جنات» وقد وفّر الله لتنمية الأشجار مئات السنن الطبيعية ، من خصوبة الأرض الى حرارة الجو الى وجود الماء واعتدال الرياح والأمطار و. و. ، وهكذا نسب الله جعل البساتين الى نفسه.

(مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ)

والعنب ـ كما التمر ـ يحفظ لغير موسمه في صورة زبيب ، وهو ذو فوائد غذائية كبيرة ، ولعل عدم ذكر الكرم لقلة فائدته بالقياس الى النحيل ، والتقارن بين النخيل ذات الارتفاع الكبير ، والكرم الذي هو زرع يثير الإعجاب. كيف أنّ الله يصنع من هذه ثمرا ومن ذاك عنبا ، وهما متشابهان بالرغم من اختلاف أصلهما ، فهذه شجرة باسقة وذاك زرع مفروش على الأرض أو على ما يعرشون.

١٢٧

(وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ)

أو لا ينظرون الى شبكة القنوات المنتظمة تحت الأرض ، والأحواض التي تجتمع إليها مياه القنوات؟! ثم اختلاف المستويات على الأرض ، مما يساعد على تفجّر العيون من الأرض لترويها ، ويبعث منظرها الخلّاب الى معرفة الرب وشكره.

[٣٥] إنّ التناسق بين حاجات البشر وصنع الله في الطبيعة دليل دقّة التقدير ، وحسن التدبير ، فالبشر بحاجة الى رزق يأتيه رغدا ، والى هامش من الحرية يستفيد منها في تنويع مصادر غذائه وإظهار إبداعه وفنّه ، كما يحتاج الى تنمية وعيه ومعرفته ، والسكينة النفسية ... وكل تلك الحاجات متكاملة في الجنات والعيون.

(لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ)

فيقضوا حاجاتهم المادية الى الطعام.

(وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ)

من تنويع في الطعام ، والاستفادة من الماء والأشجار في بناء البيوت وأدوات المنزل.

(أَفَلا يَشْكُرُونَ)

فتطمئن نفوسهم بمعرفة الرب وحبّه والثقة به ، مما يعتبر غذاء أساسيا لروحهم وعقولهم وإرادتهم ، وهي أعظم من أجسامهم.

[٣٦] ومن الطعام والحاجات الأقرب الى حياة البشر ينساب السياق الى أبرز

١٢٨

وجوه الحاجة في الخليقة ، فالناس والحيوانات وسائر الأشياء خلقت أزواجا بحيث يحتاج بعضها الى بعض ، لنعرف أنّها مخلوقة مدبّر أمرها ، ونعلم ـ بالتالي ـ أنّ خالقها مقدّس عن الحاجة ، فهو الربّ السبحان الذي خلق الأزواج كلّها لتكون آية تعاليه عن العجز.

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها)

وهكذا كلّما في الطبيعة من عناصر ونقاط ضعف شاهدة على حاجتها الى خالق مدبّر ، أو ليس الضعيف لا يخلق نفسه ، ولا يدبّر أمره؟! ولو خلق نفسه لأكملها ، ولو دبّرها لأغناها ، ولكنّ الله ـ سبحانه ـ أركز الخلائق في الضعف ، وأحوجها الى بعضها ، لتشهد بأنّ خالقها غني مقتدر ، ولو افترضنا في خالقها ضعفا لرجع الخالق مخلوقا ، ولصدق فيه ما صدق في سائر المخلوقات من الحاجة الى مدبّر أعلى منه.

وهكذا افتتحت الآية بتسبيح الله ، لأنها تذكّرنا بعجز المخلوقات ، بينما الآيات السابقة كانت تذكّرنا بآيات القوة فيها.

وسبحان ـ كما قالوا ـ علم دال على التسبيح ، وتقديره سبّح تسبيح الذي خلق الأزواج.

(مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ)

فقد خلق النباتات أزواجا ، منها ما كانت معروفة لدى نزول القرآن ، ومنها ما كشفه تقدّم العلم اليوم من أنّ في كل النباتات ذكرا وأنثى ، وأنّه قد يتم تلاقحهما بفعل البشر ـ كما يتم تلقيح النخيل مثلا ـ وقد تلقّحهما الرياح أو النحل أو ما أشبه.

١٢٩

(وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ)

حيث الحاجة الى الزوج عميقة الجذور في النفس وفي الجسم ، وهي تعكس ضعف البشر حيث لا يكتمل الواحد إلّا بكفئه ، حتى ولو طغى في الأرض فإنه يعيش محتاجا الى زوجه ، وقد تجمح به الرغبة حتى تفقد صوابه ، وقد قال نابليون ـ الذي طغى في الأرض ـ مرة لولده : أنت تحكم العالم ، قال : وكيف؟ قال : لأنّك تحكم أمّك وأمّك تحكمني.

وكم يروي التاريخ لنا قصصا عن الجبابرة الذين كانوا يركعون أمام نسائهم. أو ليس ذلك دليل ضعفهم ، وأنّهم ليسوا آلهة كما يزعمون؟! وهذا فرعون يربّي عدوّه في بيته ـ بالرغم من تخوّفه منه ـ لأن زوجته طلبت منه ذلك فانقاد لها ، وثبت للعالم أنّ من يزعم أنّه الرب الأعلى تحكمه زوجته.

(وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)

فحتى الموجودات الأخرى يكمّل بعضها بعضا ، ابتداء من الذرة المتناهية في الصغر ـ التي تتركب من بروتون وإلكترون ـ وحتى المجرات المتناهية في الاتساع.

ولا يزال علم البشر دون مستوى معرفة كلّ خصائص الزوجية.

وكلما تعمّقنا في معرفة حاجة الأزواج الى بعضهم كلما عرفنا دقة التدبير ، وسلامة النظم ، وقوة الهيمنة على الخليقة ، وبالتالي كانت لدينا فرصة معرفة ربنا أكثر فأكثر.

[٣٧] دعونا ننظر الى هذا الأفق العريض الذي يتسع أمامنا بلا حدود نعرفها ،

١٣٠

لا لكي نخشى من آياته ، ولا لكي نتمتّع بجمال ما فيه ، ولكن لنزداد وعيا به ومن خلاله بأنفسنا ، فهذا الليل يلبسه ربنا الحكيم ثياب النهار بما يسبغ عليه من ضوء الشمس ودفئها وحركتها ، ثم يسلخه منه فيعود كما كان ، مظلما هادئا إلّا من رواسب النهار. إنّ في ذلك لآية ، دعونا نبصرها.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ)

تعالوا ننظر هذه المرة الى الليل حين الغروب كما ننظر الى الذبيحة حين يسلخ جلدها ، لنبصر يد القدرة الإلهية كيف تفعل ذلك بلطف وبإتقان وبنظام دقيق.

[٣٨] وآية النهار هي هذه الكرة النارية الملتهبة التي نسمّيها بالشمس ، والتي هي أكبر من بنتها الأرض ، مليون ومائتي ألف مرة. كيف تجري في السماء بيسر وبدقة ، في حركة مستقيمة نحو مستقرّها النهائي ، عند نجمة (وغا) البعيدة وتستقرّ في يوم حيث تكوّر ، ثم يلقى بها في جهنم فتصرخ من حرّها.

(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها)

من الذي سخّرها وسيّرها في سبيلها المحدّد لا تتخطّى بوصة واحدة؟! إنّه الله المهيمن بعزّته على الخليقة ، والمدبّر بعلمه أمورها بدقة.

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)

[٣٩] أمّا القمر الذي يدور في فلكه من منزل لمنزل ، بدقة متناهية تجعل علماء الهيئة يعرفون مسيرته حتى بعد مأة ألف عام ، فهو آية الليل التي تجعلنا نزداد إيمانا بسلطان ربنا.

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ)

١٣١

لعل هذه المنازل هي المحطات اليومية التي يكبر ثم يصغر القمر عندها في كل ليلة ، منذ ولادته هلالا حتى تغيّبه في المحاق.

(حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)

هل اثار انتباهك يوما بقية عرجون على النخل ، بعد أن قطف ثمره ، وبقي أصله في أعلى النخل مصفرّا ذابلا؟ كذلك منظر القمر في أخريات الليل عند نهاية الشهر.

إنّ حركة الشمس والقمر المتناهية في وقتها حتى أنّها لو حسبت بجزء من مليون جزء من الثانية لما وجدت فيها اختلافا ، إنّها لآية النظام العجيب الذي يجري عليه هذا الكون ، والقدرة الإلهية التي تضبطها ، وهو في ذات الوقت دليلنا الى ضبط الوقت وتحديد الزمن.

والزمن هو أعظم مقياس لحضارة الإنسان ، فكلّما زاد ضبطه واحترامه كلّما تقدّم البشر في حقول المدنيّة.

[٤٠] وثبات نظم الموجودات دليل هيمنة الربّ العزيز ، فهذه الشمس تجري في بروجها الإثني عشر كلّ عام مرة (على أنّ الذي يجري هو كوكب الأرض في الحقيقة ، إلا أنّ ذلك هو ما يتراءى لنا ، ونعبّر عنه بالتالي حسب ما نرى فنقول : طلعت الشمس وغربت وزالت ، وإنّما أرضنا هي التي تدور عليها).

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ)

فالقمر يدور في منازله كل شهر مرة ، بينما الشمس كلّ سنة مرة ، ولا ينبغي للشمس أن تتسارع سرعة القمر فتترى علينا الفصول الأربعة في شهر واحد.

١٣٢

(وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ)

فلا تدخل ساعات الليل في النهار ، حتى يتقلّص النهار ، إلّا بقدر وحسب نظام ثابت منذ ملايين السنين ، وهكذا تكون حركة الشمس من المشرق الى المغرب ثابتة.

ولعل الآية أشارت أوّلا الى ثبات نظام الدورة السنوية للشمس ، ثم أشارت الى ثبات نظام الليل والنهار.

(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

كل من الشمس والقمر والكواكب والنجوم تتحرك بسرعة في أفلاكها ، ولكن دون أن تحيد عن النظام القائم قيد شعرة. أو ليس في ذلك دليلا على عزة الرب ، ودقة صنعه ، وحسن تدبيره ، ولطف إجرائه للسنن التي قدّرها؟!

والفلك هو الجسم الدائري ، وهكذا تكون في الآية إشارة الى الحركة الدائرية للأجرام السماوية.

وإذا أخذنا الشمس مثلا لهذه الأجرام نجدها تتحرك في أفلاك مختلفة ، فهي تدور حول نفسها كلّ خمسة وعشرين يوما دورة واحدة ، وتدور مع سائر كواكب المجرة التي هي فيها بسرعة مليون ومائة وثلاثين ألف كيلومترا تقريبا في الساعة الواحدة ، وهي تجري في ذات الوقت نحو مستقرها بسرعة اثنين وسبعين ألف واربعمائة كيلومترا في الساعة الواحدة ، وفي ذات الوقت تدور اقمارها حولها بنظام ثابت ودقيق ، وتتحرّك سائر الأجرام في هذا الفضاء الرحيب ، كلّ في فلك دون أن يصطدم الواحد بالآخر. أفلا يهدينا ذلك كلّه الى ربنا العزيز الرحيم؟!

١٣٣

وهكذا دبّر الله شؤون مملكته العظيمة ، أحيا الأرض بالغيث ورزق الإنسان منها ، ونظم شؤونه بثبات نظام الأرض والشمس والقمر ، وأعطى للإنسان فرصة التكامل عبر النظام الذي هو ركيزة أساسية من ركائز الحضارة.

[٤١] ويذكّرنا السياق بالركيزة الثانية ، وهي وسائل النقل ، فلو لا قدرة البشر على الانتقال بنفسه وببضاعته لما استطاع أن يبني حضارة ، وأعظم وسائل النقل هي السفن ، فمن أقدم العصور وحتى اليوم كان متن الماء صهوة السفن المختلفة التي حملت الإنسان والمواد أكثر من جميع الوسائل الأخرى ، ولا تزال السفن أفضل الوسائل وأرخصها وأكثرها شيوعا ، ولذلك لا بد أن تكون للدولة المستقلة منافذ على البحر ، والدول المهددة التي لا تملك مثل ذلك تعاني الكثير من الصعاب.

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)

إنّ الله ـ وليس الإنسان ـ سخّر الفلك لحمل البشر عبر المحيطات. ولعل كلمة «ذريتهم» تعني أمثالهم ونظائرهم ، ذلك لأنّه ليس كلّ الناس يركبون السفن ، وقال البعض : إنّ معناها أطفالهم ، لأنّ الطفل رمز الحنان ، وحمله في السفينة يعكس منتهى رحمة الله بالإنسان ، على أنّه كان من الصعب على الأطفال ركوب الأنعام.

وأكّد السياق على أنّ السفينة مملوءة بالبضائع ، لأنّ الفلك المشحون أقرب الى الغرق لثقله ، وأظهر دلالة على نعمة الله حيث حمل الإنسان وحاجاته مرة واحدة.

[٤٢] وخلق الله للإنسان ما يشبه السفينة من الدواب التي تحمله من بلد لبلد.

(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ)

١٣٤

من الذي خلق الأنعام ، وسخّرها لنا؟ أو ليس الله؟! فلما ذا الكفر به ، والتمرّد على سلطانه؟!

[٤٣] إنّ العوامل الغيبية التي تؤثّر في الظواهر المادية تفقد الإنسان قدرة الدفاع عن نفسه ، فلا تزال أمواج البحار تبتلع المزيد من ضحايا العواصف الهوج ، ولا تزال حوادث مثل انفجار تشيلنجر التي سماها صانعوها ب (التحدي) تذكّر الإنسان بأنّ قدرته محدودة وهي مستمدة من الله ، وانه إذا غضب الله عليه فلا أحد بقادر على أن ينقذه.

إنّك إذا ذهبت الى مكتب من مكاتب التأمين في كالفورنيا في أمريكا ، وطلبت منهم التأمين ضد كل الاخطار ، فإنّهم يقولون : بلى. ولكن إذا ابتلع البحر هذه الولاية ـ كما يتوقع بعض علماء الجيولوجيا ـ فإنّنا وإياكم سوف نكون معا ضحايا تلك الزلازل.

(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ)

ولعل قاع البحر الميت في أرض فلسطين ينطوي على بعض آثار قوم لوط الذين انقلبت قراهم بفعل حركة بسيطة لجناح جبرائيل ـ عليه السلام ـ فمن يقدر على أن يغيث مثل هؤلاء غير رحمة الله؟!

وقبل أيّام حينما احترقت مساحات شاسعة من غابات الصين ، لم تستطع إخمادها الوسائل البشرية ، وإنّما أطفأها هطول الأمطار الطبيعية.

لا أحد يغيث من غضب الله عليه ، وليس من الممكن إنقاذهم حتى ولو وجد من يهرع لإنقاذهم.

١٣٥

[٤٤] بلى. رحمة الله التي تتجلّى عند الكوارث ، وتنقذ البعض بصورة عجيبة ، هي الملجأ الوحيد عند غضب الجبار.

(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا)

وعادة ما نجد بقايا لكوارث طبيعية أنقذت بما نسميه (الصدفة) فسيارة كبيرة تنقلب ، ويموت جميع ركابها ، غير طفل رضيع ، أو سفينة ضخمة تغرق ، ولا ينقذ منها إلّا رجال معدودون ، يتعلّقون بخشبة ، أو يبتلع زلزال قرية ، ولكن عجوزة خاوية تستخرج من تحت الأنقاض بعد عشرة أيّام سالمة ، وحتى عند هلاك ثمود وعاد وقوم لوط وقوم نوح ، بقي الرجال الصالحون يروون لنا تلك المثلات ، وليكونوا شهودا على أنّ الأمور بيد الله.

(وَمَتاعاً إِلى حِينٍ)

الذين أنقذوا من هذه الحادثة ليسوا أنصاف آلهة ، بل إنّما تأخّرت آجالهم لحين ، فإذا جاء أجلهم فإن أبسط الأسباب كفيل بهلاكهم.

١٣٦

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ

___________________

٤٩ [يخصمون] : يختصمون في أمورهم ، من خصّم وأصله اختصم.

٥١ [الأجداث] : جمع جدث وهو القبر.

[ينسلون] : يخرجون سراعا إلى الموقف ، فإنّ النسول هو الإسراع في الخروج.

١٣٧

(٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)

___________________

٥٦ [الأرائك] : جمع أريكة وهي السرير الذي يصنع للعروس.

٥٩ [امتازوا] : انفصلوا عن جماعة المؤمنين.

١٣٨

هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ

هدى من الآيات :

بعد أن ذكّرتنا الآيات بربنا العزيز الرحيم ، جاءت تفنّد شبهات الكفّار (لنتحصن ضدّها) فإذا قيل لهم : اتقوا عذاب الدنيا وعقاب الآخرة ، وجيء إليهم بالآيات أعرضوا ، وإذا قيل لهم : أنفقوا برّروا بخلهم بأنّ الله لو شاء أطعم الفقراء (وإذا خوّفوا بالساعة) يقولون : متى هذا الوعد؟ (ولكي تخشع القلوب ، وتستعد لفهم الحقائق ، وتنقشع عنها سحب الغفلة ، يذكّر السياق بالساعة ، ويقول :) ماذا ينتظر هؤلاء (وماذا يستعجلون؟) إنّها ليست إلّا صيحة واحدة تأخذهم وهم في جدالهم الفارغ (حول حقائق الرسالة) فتأتيهم بغتة بحيث لا يستطيعون كتابة توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (وبعد أن يمكثوا ما شاء الله في القبور) ينفخ في الصور فإذا هم يخرجون من أجداثهم ، وبصيحة واحدة تراهم حاضرين أمام ربهم (وهم يزعمون أنّهم كانوا نياما) ويتساءلون : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)؟! فيأتيهم الجواب : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) ، ويكشف السياق عن مشهدين من

١٣٩

مشاهد القيامة ، بعد أن يثبت عدالة الجزاء : فهنا ترى أصحاب الجنة في شغل (يتلذذون وهم) فاكهون ، بينما ينفصل المجرمون عنهم.

بينات من الآيات :

[٤٥] بصائر القرآن تهدي الى أنّ حياة البشر هي نتيجة ثقافته وسلوكه ، عقيدته وعمله ، وهكذا تجعل ـ هذه البصائر ـ لكل ظاهرة أو حدث سببا متصلا بإرادة البشر واختياره ، وبعكسها تماما أفكار الجاهلية ـ قديمها وحديثها ـ فهي تفضل في ربط حياة البشر بسلوكه ، لأنّها لا تؤمن بالغيب ، ولا تعترف بإله يقدّر ويدبّر ، بربّ يهيمن ويسيّر ، فلا تقدر على ربط ما يجري على الإنسان بما يفعله ، فإذا أصيب المؤمن بمرض أو فقر أو ذلة ، فتّش عن سبب ذلك ، وعادة يجده في ذنب ارتكبه فعاقبه الله بذلك البلاء ليطهره ، بينما يبقى الكافر سادرا في غيّه ، إذ لا يعتقد بأنّ هناك مدبرا لشؤون العباد ، وبالتالي ينسب كلّ شيء للصدفة ، أو لأسباب ظاهرة لا تغنيه علما ، ولا تفيده حكمة ورشدا.

وهكذا كانت ثقافة المؤمنين عقلانية ، وثقافة غيرهم جاهلية ، أنّى زعموا العلميّة والعقلانيّة.

وهكذا نرى السياق القرآني هنا يذكّر بالتقوى بعد سرد آيات الرحمن ، لأنّ معرفة الرب وسلطانه هي صلة الربط بين عمل البشر وجزائه.

أمّا الكفّار فإنّهم يعرضون إذا أمروا بالتقوى ، لأنّهم لا يؤمنون بربّ يدبّر شؤونهم ، فلا يعلمون أن ما يصيبهم من ضرّاء وبأساء فإنّما بما كسبت أيديهم ، فكيف يتقونهما؟

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ)

١٤٠