من هدى القرآن - ج ١١

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-14-9
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٤٩

فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ

هدى من الآيات :

بين البشر وبين التحسّس بالآخرة حجاب الغرور ، إذ يمنع هذا الحجاب من أن يضحى الإيمان بالآخرة جزءا من معادلة البشر النفسية.

والإنسان يشعر في قرارة نفسه بضرورة التخلص من العذاب ، وإيجاد حالة من الأمن والسلام المستقبلي لنفسه.

ولكن قد يرفع هذا الخطر بالعمل والسعي الجاد ، وقد يرفع هذا الخطر بالتمني والأحلام فيصنع لنفسه تعويضا نفسيا عن الواقع ، ولكن يزيل القرآن هذه التمنيّات ، ويعطينا صورة حقيقية عن ذلك اليوم الرهيب حين نقف أمام ربّنا الجبّار ، ويصور مشاهد الآخرة حتى لكأننا نراها ، ثم يضع الإنسان أمام وجدانه.

وفي هذه الآيات تذكرة لعمر الإنسان في الحياة بأنّه كان كافيا لامتحانه.

٦١

بينات من الآيات :

[٣٣] ما هو جزاء المصطفين من عباد الله الذين أورثوا الكتاب؟

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ)

يحلون : اي يتحلّون بها ، فلقد حرّم الله عليهم الذهب والحرير في الدنيا ، وعوّضهم في الآخرة.

وقد جاء في الحديث عن الامام الباقر (ع) عن رسول الله (ص) :

إذا دخل المؤمن في منازله في الجنة ، وضع على رأسه تاج الملك والكرامة ، وألبس حلل الذهب والفضة ، والياقوت والدر منظوما في الإكليل تحت التاج ، وألبس سبعين حلة حرير بألوان مختلفة منسوجة بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت الأحمر ، وذلك قوله : «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» (١)

[٣٤] وبالاضافة الى هذه النعم المادية هناك نعم معنوية اخرى هي نعمة الأحساس بالرضى الذي يعبرون عنه بالحمد لله.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)

ما هو الحزن؟

الحزن يتعدّد بتعدّد الظروف ، فمن الحزن القلق والهم ، كقوله تعالى لام

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٣٦٦).

٦٢

موسى (ع) : «وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي» ، ومن الحزن الخوف من الفزع الأكبر ، كقوله تعالى : «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» ، ومن الحزن القلق من الهزيمة ، كقوله تعالى : «وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» ... والله يذهب كلّ ذلك عنهم ، لأنّهم قد حزنوا على ذنوبهم في الدنيا ، وقد ورد في الحديث : «إنّ المؤمن في الدنيا حزين» أي قلق من ذنبه.

(إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)

فالغفران يكون عند الذنب ، والشكر يكون للنعمة ، فربّنا سبحانه يغفر لهم ما أذنبوا ، ويشكر لهم ما عملوا.

[٣٥] (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ)

أي الدار التي يستقر فيها الإنسان ، وربما تفيد هذه الآية معنى الخلود ، لأنّ الدنيا ليست دار مقامة بل هي دار انتقال.

(لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ)

جاء في تفسير علي بن إبراهيم : إنّ النصب هو العناء ، واللغوب هو الكسل والضجر.

وفي نهج البلاغة :

«... وأكرم أسماعهم من أن تسمع حسيس نار أبدا ، وصان أجسادهم أن تلقى لغوبا ونصبا» (٢)

__________________

(٢) نهج / ط (١٨٣) / ص (٢٦٨).

٦٣

وقد شوّقتنا النصوص الى دار ضيافة ربّنا ببيان جانب من نعمها ، فقد جاء في حديث مفصّل عن رسول الله (ص) :

«فتخرج عليه زوجته الحوراء من خيمتها تمشي مقبلة وحولها وصفاؤها يحجبنها ، عليها سبعون حلة منسوجة بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد صبغن بمسك وعنبر ، وعلى رأسها تاج الكرامة ، وفي رجلها نعلان من ذهب مكللان بالياقوت واللؤلؤ شراكهما ياقوت أحمر ، فإذا دنت من وليّ الله ، وهمّ (ان) يقوم لها شوقا تقول له : يا ولي الله ليس هذا يوم تعب ولا نصب ولا تقم ، أنا لك وأنت لي» (٣)

هكذا يسقط التعب والنصب من الإنسان المؤمن حتى بمقدار القيام لاستقبال زوجته من الحور العين.

[٣٦] هذا عن الذين آمنوا فما هو جزاء الذين كفروا؟

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا)

جاء في النصوص انه في يوم القيامة يذبح الموت بين الجنة والنار في صورة شاة ، فلا أهل الجنة يموتون ، ولا أهل النار ، بل كلّهم مخلّدون ، وأعظم بعقاب يبقى أبدا. إنّ قليله كثير ، وضعيفة شديد ، فكيف بعذاب النار المتناهي شدة وسعيرا؟!

وقد جرت سنة الله في عالمنا اليوم أنّ الجسم يتكيّف مع الصعوبات ، وأنّ لكلّ شيء أجل وحده ، وكلّما اقترب من نهايته خفّ ، بيد أنّ عذاب الله لا أجل له ، فلا يخفف أبدا ، ولا يتكيّف الجسم معه ، بل يبقى يتألّم معه أبدا (نعوذ بالله العظيم منه).

__________________

(٣) نور الثقلين / ج (٤) ص (٣٦٧).

٦٤

(وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)

وهنا يذكر السياق صفتين لجهنم ، ويقابلهما بمثلهما للجنة :

الاولى : الخلود «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا» والثانية : الشدة «لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ» وقد ذكر صفتان مقابلتان للجنة : الراحة ، والخلود.

[٣٧] ولأنّ العذاب شديد ومستمر فإنهم لا ينفكّون يحاولون التخلص منه للنجاة ، فتراهم يرفعون أصواتهم يطلبون العودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا.

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)

كلّ إنسان في الدنيا يدّعي أنّه يعمل صالحا ، ولكن حينما يواجه العذاب الشديد هناك يعرف بل ويعترف بأنّ أعماله كانت غير صالحة.

إنّ هؤلاء يصطرخون ، والاصطراخ أعظم الصراخ : أن أخرجنا ربّنا نعمل صالحا غير الذي كنّا نعمل ، فيجيبهم الله :

(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)

أي عمّرناكم في الدنيا بقدر يكفي للتذكّر ، فلم تتذكروا ، وجاءكم النذير فلم تتذكروا.

قد اختلفت أقوال المفسرين في النذير : هل هو الرسول والقرآن أم هو الشيب وموت الأقارب وتقادم السنّ أم هو كمال العقل والبلوغ.

ويبدو أنّ الكلمة مطلقة ، وتوحي بأنّ الإنسان ينذر بالتالي بطريقة أو بأخرى ،

٦٥

وأنّ الله لا يتوفّاه حتى يكتمل امتحانه.

(فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)

لماذا الاختلاف في الآجال؟ فبعض يعيش عشرين عاما ، وبعضهم أربعين ، وبعضهم ستين ...؟

الشاعر إقبال اللاهوري أجاب على ذلك وقال : إنّ اختلاف آجال الناس مرتبط بحكمة وجودهم في الدنيا ، وهو تهيئة الإنسان للجنة ، وكأنّ الدنيا مدرسة ، يدخلها الناس تمهيدا لدخول الجنة.

فبعض الناس ينجحون من أوّل امتحان ، وبعضهم لا ينجحون في الامتحان الأوّل فيدخلون الامتحان الثاني ، وهكذا فان اختلاف الناس في آجالهم هو بسبب مدى استعدادهم ، وتقبلهم ونجاحهم وهذه النظرية جميلة الا انها لا توافق القرآن الكريم ، لان الدنيا كما هي مدرسة تهيؤ المؤمنين لدخول الجنة ، فهي في نفس الوقت مهوى يسقط الكفار منه الى النار.

وفي بصائر القرآن الدنيا دار ابتلاء فيه فقط قاعة امتحان وليست مدرسة.

ولعل الآية هذه تشير الى أنّ اختلاف الآجال يرتبط بهذه الكلمة (الابتلاء) فالدنيا فرصة للتذكرة ، وكلّ شخص يعمّ بقدر التذكر (حسب ظروفه ، وبنية شخصيته) فإذا انتهت الفرصة فإنّ الحكمة الرئيسية من بقائه تنتهي ، بلى. هناك حكم أخرى : كاستدراج الكفّار ليزدادوا كفرا ، وإطالة عمر المؤمنين ليزدادوا ثوابا ، وكأن يكون وجود شخص مفيدا لابتلاء الآخرين ، والله العالم.

واختلفت الروايات في تحديد العمر في قوله : «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ» فقالت بعض

٦٦

الروايات : إنّها لذوي الثمانية عشر سنة ، وفي رواية أخرى : إنّها لذوي الأربعين سنة ، وفي رواية ثالثة : انها لذوي الستين.

ولعل ما قلناه آنفا في اختلاف الناس في التذكّر يجمع بين النصوص.

[٣٨] (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

إنّ الله عالم غيبك ، ويعلم سرّك وما يكنّ صدرك ، كما هو عالم بغيب السموات والأرض ، فهو ليس بحاجة الى امتحانك ، ولكن إنّما هي فرصة يعطيها الله لكي تجرّب نفسك ، وتمتحن إرادتك.

[٣٩] (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ)

أي جعل بعضكم يخلف بعضا ، ولعل هذه الآية تدلّ على أنّ الأمم تنتهي ، وأنّ لها آجالا كما للناس آجال محددة.

وأما مقياس آجال الأمم والمجتمعات فهو كما قال ربّنا سبحانه :

(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)

نتيجة الكفر على صاحبها.

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً)

يبغضهم الله ويمقتهم.

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً)

خسارة في الدنيا والآخرة.

٦٧

[٤٠] يظلّ الشرك بالله الحجاب الكبير الذي يفصلنا عن ربّنا ، ويمنع عنّا خيرات عبادة الله وحده ، ويذكّر السياق بأنّ الشركاء لا يملكون حقّ العبادة لأنّهم لم يخلقوا شيئا من الأرض ، ولا ساهموا في تدبير السموات ، ولا أذن لهم ربّ الأرض والسماء بقيادة الناس ... فبأيّ حقّ يتسلطون على رقاب الناس ، ولماذا يخضع لهم الناس؟!

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)

حتى يتسلطوا باسمه على الناس.

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ)

لا نجد قدرتهم تتجلّى في السماء ، كأن يديروا الشمس والقمر.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ)

أمرناكم بأن تتبعوهم بأن أنزلنا عليكم كتابا يأمركم بأن تتبعوهم.

(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً)

فإنّ مشكلة الإنسان التي تمنعه من الوصول الى الحقيقة هي حجاب الغرور والتمنيات ، وعلى الإنسان أن يخرقه حتى يتقرّب الى ربّه.

وربما توحي خاتمة الآية بأنّ الظالمين ـ الشركاء والتابعين ـ كلّ واحد منهم يضلّ الآخر ، فالمضل يعد متّبعيه بأنّه سوف يحمل خطاياهم ، وما هو بحامل من خطاياهم من شيء ، والمضلّلون يعدون مضليهم بالولاء والانتصار لهم ، فكلّ واحد

٦٨

منهم يمنّي الآخر ، وما هذه الأمنيات سوى الغرور بذاته ، لأنّه لا أحد ينفع أحدا يوم القيامة ، ويتبرأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا.

[٤١] يحيط بأولئك الشركاء والمشركون بهم الغرور ، إذ لم يخلقوا شيئا من الأرض ، ولم يكن لهم شرك في تدبير السموات ، بينما الله الواحد استوى على عرش العلم والملك ، وهو يمسك السموات والأرض لكي لا تزولا ، ولا شيء قادر على المحافظة عليها لو تركها الرب.

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا)

والسؤال : ما هو معنى الزوال؟

١ ـ لا ريب أنّ النظام الذي يحافظ على الوجود بحاجة الى منظّم ، والتدبير بحاجة الى مدبّر ، والله هو المدبّر الذي لو تركها فسد النظام ، وزالت السموات والأرض بفساده.

٢ ـ وإذا تعمّقنا قليلا وعرفنا شيئا من الفيزياء الحديثة ، وكيف أنّ نظام دوران الإلكترون حول محور البروتون ـ في مملكة الذرة العظيمة والمتناهية في صغر الحجم ـ قائم على الحركة ، حتى قالوا : إنّ الحركة لو توقّفت لتلاشى الوجود ، عرفنا أنّ (قيام) كلّ شيء إنّما هو بالله عبر أنوار قدسه التي يفيض بها كلّ خير على الخلائق.

(وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ)

ولكن لماذا لا يسمح الله للسموات والأرض بالزوال مع كثرة المعاصي التي يرتكبها العباد؟

٦٩

(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً)

لا يبادر بإنزال العقوبة على العصاة ، بل يؤخّرهم لأجل مسمّى ، وفي آخر آية من هذه السورة تبيان لذلك.

(غَفُوراً)

يعفو عن كثير من السيئات فلا يعاقب عليها أبدا.

٧٠

وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

٧١

وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ

هدى من الآيات :

بالرغم من أنّ كفّار قريش ومثلهم سائر الكفّار كانوا بفطرتهم يعرفون مدى حاجتهم الى الوحي ، ويمنّون أنفسهم بأن يكونوا أهدى من إحدى الأمم لو بعث فيهم نبي مرسل ، إلّا أنّهم حين منّ الله عليهم بنعمة الرسول كفروا به. لماذا؟

لأنّهم استكبروا في الأرض ، ومكروا مكرا سيّئا.

وبعد أن ينذرهم الربّ بأنّ المكر السيء لا يحيط بالتالي إلّا بصاحبه ، يذكّرهم بمصير الغابرين الذين جرت سنة الله فيهم بالدمار ، ولا تبديل في سنن الله ولا تحويل ، ويدعوهم للسير في الأرض لينظروا كيف فعل الله بالظالمين ، وأين انتهى بهم استكبارهم ومكرهم السيء مع أنّهم كانوا أشدّ منهم قوّة ، وينبّههم القرآن بأنّهم لا يستطيعون الفرار من حكومة الله ، وأنّه لا يعجزه شيء بل هو العليم القدير.

٧٢

ويختم سورة فاطر بأنّ الله يمهل الظالمين الى أجل مسمّى ثم يأخذهم ، ولولا ذلك لما ترك على ظهر الأرض من دابة بما فعل الظالمون!

بينات من الآيات :

[٤٢] ضمير البشر أكبر شاهد على الحقّ وصدق رسالات الله التي نزلت بالحق ، وكلّ إنسان يتمنّى أن يكون صالحا لولا أنّ دواعي الفساد تضلّه.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ)

لعل تأكيد القسم ب «جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» كان تعبيرا عن مدى رسوخ فطرة الإيمان في النفوس ، أو أنّه يعبّر عن مدى النفاق الذي كانوا يعيشونه ، وإنما أقسموا لتغطية ما أضمروه من المكر والاستكبار ، كما قال ربنا سبحانه عن المنافقين : «وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ». (١)

وهذه السنة جارية عند الناس اليوم أيضا ، فتراهم يقولون : إنّنا لا نمتلك قيادة وإمام حقّ نتبعه ، وعند ما يرسل الله إليهم الإمام الحق إذا هم يتملّصون من المسؤولية ، ولا يتبعونه ، كما الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ، إذ قالوا لنبيّ لهم : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله فلما بعث الله إليهم طالوت ملكا ، قالوا : أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه ، ولم يؤت سعة من المال.

والتعبير القرآني : «أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ» ربما يعني : سنكون أهدى من تلك الأمّة التي تعتبر أهدى أمّة ، ولم يقولوا : سنكون أهدى من سائر الأمم ، مبالغة

__________________

(١) النور / (٥٣).

٧٣

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)

الخطط الفاسدة سوف تكون لها انعكاسات على الواقع الاجتماعي ، بيد أنّ أثرها الأبلغ سيكون على صانعها.

والكلمة هذه ذروة ما نفهمه من البلاغة،إذ ذكّرنا الربّ بأنّ المكر السيء «يحيط» بصاحبه من جميع جوانبه ، وهذا أبلغ من القول أنّه يلحق به أو يصيبه ، لأنّ صاحب المكر يزعم أنّه قادر على الفرار من عاقبة عمله ، ولكنّه يحيق به فلا يقدر هروبا ، ثم أنّ القرآن عبّر «بأهله» ولعل السبب يكمن في أنّ كلّ العاملين مكرا ليسوا بأهله ، بل بعضهم ممّن تعمّده واتخذه سبيلا ، ثم إنّ الحصر يفيد أنّ الذي يمكر بهم ينجون عادة من المكر على حساب أهله ، وقد قالوا : «من حفر بئرا لأخيه وقع فيه».

وكيف يمكن أن نكتشف هذه الحقيقة؟

يقول ربّنا : انظروا إلى التاريخ ، فالتاريخ يحكي سنن الله التي لا تتبدّل ولا تتحوّل ، ويتساءل : هل هم ينتظرون عاقبة مثل عاقبتهم؟!

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ)

كيف أنّهم أهلكوا بما كسبوا ، وكيف حاق مكرهم بهم.

(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً)

على مرّ العصور ، السنّة هي السنّة في الغابر والحاضر ، لن تتبدل ، ولن تتحول ، بأن يستطيع أحد أن يدفعها عن نفسه إلى غيره.

٧٤

في تزكية أنفسهم.

وربما يكون قولهم هذا ردا على اليهود الذين كانوا يعيّرون المشركين ، ويهدّدونهم بنبيّ لهم يكسر أصنامهم ، فعرّضوا بهم وقالوا : لو جاءنا رسول سنكون أهدى منكم.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً)

أي كانوا نافرين من قبل ، فازدادوا نفورا على نفورهم. لماذا؟ لأنّ الإنسان قبل أن تأتيه الحجة يكون عنده عذر لكفره ، لأنّ الله قال : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» (٢) وعند ما تأتيه الحجة تراه يكفر بالحجة.

[٤٣] ومشكلة هؤلاء أنّهم استكبروا ، تكريسا لانانيّتهم ، وقالوا : أبعث الله بشرا رسولا؟! ما له يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق؟! إنّه ليس رجلا من القريتين عظيما في ماله ، وإنّه لو نؤمن به نتخطّف من أرضنا ، فاستكبروا في الأرض ، بحثا عن سلطة طاغية ، وثروة عريضة ، وشهرة واسعة.

ولقد قلنا مرارا : ان التكبّر ومظهره الاستكبار أخطر حاجب بين البشر وبين الإيمان بالحقائق.

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ)

قال الرازي عن المكر السيء : إنّه إضافة الجنس الى نوعه ، كما يقال علم الفقه وحرفة الحدادة ، وتحقيقه أن يقال : معناه ومكروا مكرا سيّئا ثم عرّف لظهور مكرهم ثم ترك التعريف باللام وأضيف الى السيء لكون السوء فيه أبين الأمور. (٣).

__________________

(٢) الإسراء / (١٥).

(٣) التفسير الكبير عند تفسير الآية.

٧٥

(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً)

[٤٤] والدليل على عدم تبديل سنّة الله أو تحويلا تجارب التاريخ.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً)

كقوم عاد الذين قال الله في حقّهم : «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ» (٤).

(وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً)

لا يحد قدرته المطلقة شيء ، إنه كان عليما بمن يعصي ، قادرا على أخذه أخذ عزيز مقتدر.

ولكن لماذا لا يؤاخذ الله أهل الأرض بألوان العذاب وهم يعصونه ليل نهار؟

الجواب :

أوّلا : لأنّ الله عفو غفور ، فيعفو عن كثير من الذنوب.

ثانيا : لأنّه حليم يعطيهم فرصة بعد فرصة حتى إذا انقضى أجلهم أخذهم بظلمهم.

__________________

(٤) الأحقاف / (٢٦).

٧٦

[٤٥] (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)

يؤخّر انتقامه إلى أجل مكتوب ، لا يستقدمون عنه ساعة ولا يستأخرون.

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً)

بصير بما يناسبهم من الجزاء : كيف وكم ومتى.

٧٧
٧٨

سورة يس

٧٩
٨٠